قصة :بلاونه فاعوري محتسب
فاعوري ام بلاونه ام محتسب
***فاعوري أم محتسب أم بلاونة
عبد الرحمن البلاونة ( ابو معاذ ) 64 عاما مزارع من ابناء منطقة ضريح الصحابي الجليل أبو عبيدة عامر بن الجراح، جندي أردني متقاعد انتظم في صفوف الجيش وشارك في حرب 67، سار مع القافلة في رحلة العودة وعشرات العائلات الفلسطينية تنزح من القدس إلى المدن الأردنية، تلحق عائلة ابو نبيل المحتسب الفلسطينية بالقافلة العسكرية الأردنية و تقف سيارة البلاونة العسكرية لهم لتركب بها العائلة و تضع الأم طفلتها ذات الثلاثة شهور في حضن البلاونة لتتمكن من ركوب الجيب العسكري ، وليقع القدر وتتزامن محاولة الصعود هذه مع بدء القصف الصهيوني بالقنابل الحارقة على القافلة المحملة بالذخائر العسكرية، فيشرّد القصف الجموع ، وتتصاعد أدخنة اللهب فلا يرى أحد الآخر، ولم يعد بالإمكان رؤية شيئ من شدة النيران وكثافة الدخان المتصاعد ، ويقدر الله أن تكون العائلة كلها في جهة ونهيل الصغيرة مع الجندي لا أحد يعلم عنها شيئا، •• لقد سمعت صرختها ، تقول الأم وتتابع بلوعة: لا أدري إن كانت النيران قد التهمتها أو حولتها الشظايا إلى أشلاء أم بقيت حية ، ولا أدري ما مصير الجندي الذي كان يحملها ، ولا الجنود الذين كانوا في السيارة"، وبعد طول بحث بين هياكل السيارات المحترقة، يقول نبيل الشقيق الأكبر لنهيل : لم نعثر لها على أثر ،فوجدنا جنديا جريحا عملنا على إسعافه لمستشفى السلط، ومكثنا هناك فترة لم ندخر فيها جهدا للبحث عن الطفلة المفقودة ، حتى يئسنا من إمكانية العثور عليها، فعدنا إلى القدس بعد أن انتهت الحرب • وتابع نبيل : ومنذ ذلك الوقت لم نتوانى لحظة في البحث عنها ، وقد استخدمنا جميع الطرق لذلك ، وكانت أمي دائما تقول بأنها تشعر أن نهيل مازالت على قيد الحياة ، ثم قررنا السفرإلى الأردن والبحث من جديد فسألنا المخابرات العامة ، وقيادة الجيش ، و أرشيف مستفى السلط أملا في العثور على اسم الجندي الجريح الذي أوصلناه للمستشفى بعد نجاتنا ، وأملا في معرفة اسم الكتيبة التي كان فيها علنا نصل إلى طرف خيط ، ولكن للأسف كان ارشيف المستشفى مغلقا ، فطلبوا منا الحضور في اليوم التالي ، و في الطريق يقول نبيل : قررت البحث عن رجال كبار في السن لربما أسعفتهم الذاكرة في إرشادي لطرف خيط ،حيث وقعت عيني على رجل مسن يجلس في منجرة في منطقة السلط فسردت عليه القصة وسألته إن كان يعلم شيئا عن هذه الحادثة أو الجنود الذين كانوا في القافلة ، فأرشدني لمراجعة الشيخ أمين زيد الكيلاني حفظه الله؛ حيث كان مسؤولا عن الإغاثة في منطقة السلط إبان الحرب ، عنوانه ، وعلى الفور انطلقت للشيخ وبدأت في سرد القصة ، وفي منتصف الحديث قاطعني وأكمل القصة عني ، وهنا كانت المفاجأة وأدركت أن الشيخ يعلم مكان وجودها أو على الأقل معلومات عنها .
وتابع الشيخ يسرد لي القصة قائلا : "آتي جندي عاري القدمين إلى مقهى في وسط السلط وحاله صعبة يحمل طفلة بين يديه ، وسألني ماذا يفعل بها فأرشدته لتسليمها إلى رجل يدعى صبحي الفاعوري شاء الله ألا يرزق بالولد ، وطلب منه أن يتصرف بهذه الطفلة لأنه ليس لديه أهل في هذه البلد ولن يتمكن من رعايتها ، ولا يدري إن بقي أهلها أحياء أم قتلوا في الغارة ، فأخذها الفاعوري وحصل لها على حليب من الاغاثة ، واحتفظ بالطفلة ورعاها وعلماها حتى حصلت على درجة البكالوريوس في التمريض ، وزوجها من طبيب يدعى ابراهيم الشوبكي •
مع كبر سن الجندي البلاونة وتردده على المركز الصحي القريب منه في بلدة الكريمة لم يكن يدري أن الطبيب الذي يعالجه منذ فترة هو د.ابراهيم الشوبكي زوج الطفلة التي أنقذها !
حدثني البلاونة البطل عن رحلته مع نهيل، يومان من المعاناة في حالة حرب مع طفلة صغيرة جدا غطّاها لساعات خوفا عليها وسار بها حافي القدمين، عندما تجوع وتبكي يأخذ الطعام اليابس للجيش فيلوكه بفمه ثم يطعمها أياه، وعندما تبكي أكثر يبلل أصبعه بريقه ثم يضعه في فيها لإلهائها، لا فوط صحية ولا أدوات تنظيف أو تعقيم البنت الصغيرة جعلت ملابس الجندي بل الجندي نفسه في حالة يرثى لها، حتى وصلت خيمة بدوية أخبر نساءها بالقصة فبكوا وبكى ثم طلب منهم إرضاع الطفلة والعناية بها حتى يرتب أمره ثم يعود وبصعوبة ابقاها ثم أخذها في اليوم التالي و ذهب بها للشيخ الكيلاني فالفاعوري الذي أخذها ورباها ورعاها.
يتابع نبيل قصة العثور على نهيل: انطلقنا إلى أقارب الفاعوري واصطحبنا بعضهم لبيته وواجهناه بالقصة ، ولم تكن الصدمة سهلة بالنسبة لهم ، فحاولت زوجته إنكار الأمر بداية ، وأخرج الفاعوري صورة نهيل من جيبه وقال لنا : "هذه ابنتي تغريد •• أنا ربيتها وعلمتها وزوجتها" ، وقدرا كان معي زوج شقيتي الصغرى فقال : "هذه صورة زوجتي •• لقد تزوجتها منذ اثنى عشرة عاما" وحاول إخراج صورة من جيبه فلم يجد ، فانطلقنا إلى بيت الشيخ الكيلاني حيث أبقينا شقيقتي الصغرى هناك ، فناديناها ، ولما رآها أحد الحاضرون أقسم أنها شقيقتها لشدة الشبه بينهما ، وهنا شعرنا براحة نفسية وتيقنا أن تغريد هي نهيل ، وبعد نقاش مع الفاعوري حذره خلاله أهل الخير من خطورة اختلاط النسب إذا لم تعرف أهلها ، وطمأنوه أنها ستبقى ابنته كما هي ابنتهم ، وستبقى مع زوجها وأولادها حيث يقيموا وافق أن يوصل عائلتي إليها بشرط أن نجري فحص للبصمة الجينية للتأكد من أنها شقيقتي •
وتابع نبيل يقول : عند استضافتها لنا بداية قابلتنا كضيوف رسميين، وبعد طول مكوث أيقنت أننا أشقاؤها ، فتعانقنا وسط جو امتزج بالدموع ، والفرح ، ثم نادت على أطفالها الخمسة وقالت لهم : "سلّموا على أخوالكم" ، وكانت قد أبعدتهم طوال مكوثنا عندها .
عائشة المحتسب والدة نهيل "تغريد" التي استغرقت ثلاثة أيام من لحظة تلقي الخبر حتى تمكنت من السفر للقاء ابنتها ، لم تستطع أن تتمالك نفسها لحظة اللقاء الأول بعد أربعة وثلاثون عاما من الفراق تقول: "شعرت بالثلاثة أيام أنها ثلاثون سنة وأنا أترقب لحظة لقائي بها ، اتخيلها كيف أصبحت ، وخلال أربعة وثلاثون عاما لم تغب عني لحظة ، وكان إحساسي مؤكدا بأنها مازالت علي قيد الحياة".
أما نهيل رأفت المحتسب "تغريد صبحي الفاعوري" ، فمشاعرها مختلطة ، لا يمكنك التمييز بينها أو وصفها •• دموع ، وفرح ، وحزن علي آلام أهلي الذين فقدوني خلال هذه المدة •• أنها مشاعر فوق الوصف" • وأضافت : "أكن لعائلتي كل الحب فوالدي الذان ربياني أكن لهما كل الحب ، ووالدي الذان فقداني كذلك ، ولا أشعر أني منجرفة لأحد التيارين •• ولا مجال للمفاضلة لأنني في النهاية سأبقى ابنته للعائلتين ، وزوجة وأما في بيتي الخاص".
نعم ...لا مجال للمفاضلة شرقي النهر أم غربيه أسرة واحدة شاء من شاء وأبى من أبى، من يخبرني إلى أي عشيرة تتبع زوجة الشوبكي : فاعوري أم محتسب أم بلاونة ؟؟