طرائف شعريَّة
(طرائف شعريَّة)
ـ الشُّعراء والتعبير عن الألم ـ
عندما تجتاح الكوارث والمجاعات الأمم، ويعمُّ الغلاء والفقر والجوع
والحرمان الشُّعوب يقف الشُّعراء معبِّرين عن المعاناة والألم، فيرتدي
بعضهم ثوب النَّاصح للحاكم، كما فعل أبو العتاهية (إسماعيل بن القاسم)
عندما نصح الخليفة العبَّاسيَّ المهديَّ قائلًا:
مَـن مُـبـلِـغٌ عـنِّي الإمــا مَ نـصائـحًـا مُـتــوالـيــةْ
إنِّي أرى الأسـعـارَ أســـــــعــارَ الـرَّعِــيَّـةِ غـالــيـةْ
وأرى هـمـومَ الـدَّهـرِ را ئِـحــــةً تَــمُــرُّ وغـاديـة
وأرى المَكـاسِـبَ نـزْرَةً وأرى الـضَّرورة فـاشِيةْ
مَـن لِـلـبـطـونِ الـجـائعا تِ ولِـلْـجـسومِ الـعـاريـة؟...
بينما يصف بعضهم الآخر ما هو فيه من شقاءٍ وتعاسة. هذا أبو الشمقمق
يُصرِّح بأنَّه لا منزلَ لديْه يحويه، أوْ يغلق عليه بابه، فيقول:
بَرزتُ من المنازلِ والـقِـبابِ فـلـمْ يَعسُر عـلى أحـدٍ حـجابي
فمنزليَ الفضاءُ وسقفُ بيْتي سـمـاءُ اللهِ أوْ قِــطَعُ السَّحــابِ
فأنتَ إذا أردتَ دخلـتَ بيْتي عـليَّ مُسلِّـمًـا مـن غـيْـرِ بــابِ
لأنِّيَ لـمْ أجـد مِصراعَ بـابٍ يكون من السَّحابِ إلى التُّرابِ
وأمَّا الشاعر عاذر بن شاكر المعروف بأبي المخفف من شعراء بغداد في
العصر العباسيِّ فقد جعل همَّه رغيف الخبز، فرأى أنَّ وصف رغيف
الخبز هو أوْلى لديْه من الوقوف على الأطلال، ومن التَّشبيب بالمحبوبة
ووصف الخمرة أو الدِّيار، فيقول:
دَع عـنـكَ رسـمَ الـدِّيــارِ وَدَع صفــاتِ الـقِــفــارِ
وعَــدِّ عـن ذكـــر قــوْمٍ قـد أكـثـروا في العُـقارِ...
وصِفْ رغـيـفًـا سَـريًّـا حَـكَـتـه شـمسُ الـنَّهـارِ
وصـورة ُ البَدر لمَّا اســـــــــتـتــمَّ في الاســــتــدارِ
ونصل إلى الشَّاعر عمر بن محمد حسن المعروف بالسَّرَّاج الورَّاق، فنراه
يصف ما فعله الجوع بالمتخاصمين في بيته، فيقول:
قدْ أصلحَ الجوع بيْـن الـقِـطِّ والفارِ عـندي لإدبـارِ حظِّي أيَّ إدبارِ
ورَقَّ هـذا لِـذا مِـن سُـقـمِهِ فـهُـمـا كعـاشقٍ وخيالٍ نحوه سار(ي)
وفي الشَّدائد ما يُنسي الحَقودَ وما يُثـني الحَسودَ إلى حـبٍّ وإيثارِ
وهذا ابن نُباتة المصريُّ يصف رحلته إلى الشَّام في البحث عن الرِّزق، فلم
يظفر منها بغير الجوع، ولم تكن حاله فيها بأحسنَ من حاله في مصر،
فيقول:
يـا سائـلي بـدمـشقَ عن أحـوالي قِـفْ واستَـمِـع عن سيرة البَطَّالِ
ودَعِ اسـتـمـاعَ تـغـزُّلي وتعشُّقي مـا ذا زمـانُ العـشقِ والأغـزالِ
طولَ النَّهارِ لِبابِ ذا من باب ذا أسعى ـ لعَمْرُ أبيكَ ـ سَعيَ ظلال
لا حَــظَّ لــي فــي ذاكَ إلَّا إنَّــه قد خفَّ من طول المَسيرِ طُحالي...
زُحَلٌ يقارن حاجتي وقـد انحنى ظهـري مـن الـهـمِّ انحـنـاءَ الـدَّال
وهذا أبو الحسين الجزَّار الذي شكر مِهنة الجزارة في يومٍ ما لأنَّها عوَّضته
عن الشِّعر حيث صارت الكلابُ تُرجِّيه بها بعدما كان يرجو في شِعره
الكلاب يشكو سوء حاله للأمير؛ حيث لم يتذوَّق الكُنافة الرَّمضانيَّة
كما يتذوَّقها غيره من النَّاس، وذلك في قوله:
أيُّهـذا الأميـرُ قـد أشكلَ الـمعـــــنى وما زلـت عارفًا بالـمعاني...
ما رأتْ عـيْـنيَ الكُـنــافــةَ إلَّا عـنـد بـيَّـاعِـهـا عـلى الـدكَّـان
ولَعَمْري ما عايَنتْ مُقلتي قطــــرًا سِوى دمعِها من الحرمانِ
ولـكَـمْ لـيْـلةٍ شَبعـتُ من الجو عِ عِشاءً إذْ جُـزتُ بالحَـلَواني
حسراتٌ يَسوقها الطَّرفُ للقلْــــبِ فـوَيْـلٌ لـلـفِكْرِ عند العِـيان...
وختامًا نصل إلى العصر الحديث مع الشَّاعر محمد الأسمر الذي عبَّر عن
دهشته من الغلاء الضَّارب أطنابه، ومن فقدان الغذاء والدَّواء مع قلَّة
الرَّاتب الذي يتقاضاه هو وأمثاله من الموظَّفين، وذلك في قوله:
غــلاءٌ في الـكِـنـانـةِ أمْ بــلاءُ فـكـلُّ مُـرتَّـبٍ فـيـــهـا هــبــاءُ
إذا قـبَـضَتـه كـفُّـكَ لـمْ تـجـده بها ومضى كما يمضي الهواءُ
جُـنـيْـهـاتٌ أراها كــلَّ شـهـرٍ يُـبـخِّــرها الـغـلاءُ كـمـا يَـشاءُ
فـلـيْـست بـالَّـتي تـبـقى لحينٍ ولا فـيـهـا لـمُـنـفـقـهـا غَــنـاءُ
كأضغاثٍ من الأحلام سَرَّتْ أخــاها وهي زورٌ وافــتــراءُ
بني قـوْمي لـقـد عـزَّ الغِـذاءُ بـني قـوْمي لـقـد عـزَّ الكـساءُ
وقـد عـزَّ الـدَّواءُ فهَلْ لدَيْكم لِـمـا يـشـكــوه قـوْمُـكُــمُ دواءُ
عَـنـاءٌ لا يُـمــاثِـلُـه عَــنــاءٌ ألـيْـس لِــمـا نـكـابــده انـتـهـاءُ؟
قد نجد في هذا الشِّعر وأمثاله طرافةً او سخريةً سوداءَ تستفزُّ الضَّحك،
ولكنَّه ضحكٌ كالبُكا.