الإمام المجدد ابن دقيق العيد
( الإمام المجدد ابن دقيق العيد ) :
*****************************
كانت في صعيد مصر حواضر متعددة ، تموج بحلقات العلم والفقه حركة ونشاطًا ، مثلها في ذلك مثل القاهرة وحواضر الوجه البحري ، ومثال ذلك أسوان وإدفو وإسنا وقوص وجرجا وأخميم ومنفلوط وأسيوط وغيرها .
وفى هذا ذكر المؤرخ المصري ابن دقماق ( ت 809 هـ ) أنه كان بقوص وحدها ستة عشر مكانًا للتدريس،
وقد بلغ من ازدهار الحركة العلمية بصعيد مصر في الفترة المملوكية أن وضع العلامة أبو الفضل جعفر الإدفوي ( ت 748هـ ) كتابه الشهير ( الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد ) وخصصه فقط لتراجم هؤلاء الرجال من علماء الصعيد.
وعليه فيطيب لنا تسجيل سلسلة من التراجم لبعض الرجال ( أهرامات الصعيد ) ،،،،
ومن ذلك ترجمة موجزة للمجدد السابع في الإسلام ، الإمام ابن دقيق العيد ( ت702 هـ ) .
ورد في سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
« إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " .
و للمجدد التاسع الإمام السيوطي رحمه الله ( ت 911 هـ ) نظم رائق في ترتيب وذكر الأئمة المجددين حتّى عصره ،، جاء فيه :
والسابع الراقي إلى المراقي *** ابن دقيق العيد باتفاق
والإمام ابن دقيق العيد هو محمد بن علي ابن مطيع أبو الفتح تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري ،
ذكر المؤرخون أن ابن دقيق العيد ولد في عام ( 625 هـ ) لأبوين كريمين حسبا ونسبا ،،،
فأبوه العالم المالكي الجليل أبو الحسن علي بن وهب القشيرى ، شهد له بالتقدم في الحديث والفقه والأصول ،
وجده لأمه الإمام تقي الدين مظفر بن عبد الله بن علي المصري المعروف بالمقترح بن المفرج ، مقصد طلاب العلم والفقه في عصره .
و في قوص بصعيد مصر ، في هذه البيئة السامية حسبا ونسبا نشأ تقي الدين بن دقيق العيد .
وقيل في سبب شهرته بهذا اللقب ، إن جده الأعلى ( مطيعًا ) كان يلبس في يوم عيد طيلسانًا ناصع البياض، فقيل ( كأنه دقيق العيد )، فلقب به، وأطلق هذا اللقب أيضا على حفيده (علي بن وهب) من بعده ، ثم أطلق كذلك على تقي الدين فاشتهر به ، وأصبح لا يُعرف إلا به .
بدأ ابن دقيق العيد طريق العلم بحفظ القرآن الكريم، ثم تردد على حلقات العلماء في قوص ، فدرس الفقه المالكي على أبيه ، والفقه الشافعي على البهاء القفطي ، فجمع بذلك بين فقهي الإمامين مالك والشافعي رضي الله عنهما ،
ثم ارتحل إلى القاهرة ، واتصل بسلطان العلماء العز بن عبد السلام، فأخذ عنه الفقه الشافعي والأصول ، ولازمه حتى وفاته ،
وسمع الحديث من الحافظ عبد العظيم المنذري ، وقاضي القضاة أبي الفضل يحيى ين محمد القرشي، والحافظ أبي الحسين العطار، وعبد الرحمن البغدادي البقال ، وغيرهم ، ودرس علوم العربية على محمد أبي الفضل المرسي،
ثم تطلعت نفسه إلى الرحلة في طلب العلم ، وملاقاة العلماء ، فارتحل إلى دمشق وسمع من علمائها ، وتقلب في البلاد ،، يختلف إلى مجالس العلماء والفقهاء ، ينهل من العلم والفقه ،
ثم عاد إلى مصر ، فالتف حوله طلاب العلم والمريدون ، إذ عرف بغزارة علمه وسعة أفقه ،،
وعلا نجمه وذاع صيته بين الناس ، ومن ثم تقلد منصب التدريس بالمدرسة النجيبية ، ( إحدى المدارس الشهيرة في قوص آنذاك ) ، وهو دون الأربعين من عمره ،
ثم أسند إليه والي قوص منصب القضاء على مذهب الإمام مالك.
ثم اتجه من بعد ذلك إلى القاهرة ، فدرّس الحديث النبوي في دار الحديث الكاملية ، ودرّس الفقه الشافعي في المدرسة الناصرية بجوار مرقد الإمام الشافعي رضي الله عنه ،
ولما كان ابن دقيق العيد قد تضلّع في الفقه وأحاط بمسائله في المذهبين المالكي والشافعي؛ فقد قام بتدريسهما في المدرسة الفاضلية.
وكان رحمه الله متواضعا ، اشتهر بالجود والسخاء، وكثرة العبادة والتلاوة ، خاشعا تقيا زاهدا، شجاعا صريحا في القول ، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يخشى في الحق لومة لائم .
وتتلمذ علي يديه خلق كثير، منهم :
قاضي القضاة شمس الدين ابن جميل التونسي، وقاضي القضاة شمس الدين بن حيدرة، والعلامة أثير الدين أبو حيان الغرناطي، وعلاء الدين القونوي، وشمس الدين ابن عدلان، وفتح الدين اليعمري، وشرف الدين الإخميمي وعماد الدين ابن الأثير،، وغيرهم كثير وكثير.
ولابن دقيق العيد مؤلّفات ومصنّفات كثيرة قيمة ،،، منها :
كتاب ( إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام للعلامة الحافظ عبد الغني النابلسي ) الذي يحتوي على مجموعة من الأحاديث النبوية مبوبة على أبواب الفقه ، اعتنى بنشره محمد منير الدمشقي ، وله ( شرح مقدمة المطرزي ) في أصول الفقه ، و ( شرح مختصر الزبيدي ) في فقه الشافعية ، و ( شرح مختصر ابن الحاجب ) في فقه المالكية ، و ( تحفة اللبيب في شرح التقريب ) ، و ( شرح التعجيز مختصر الوجيز للموصلي ) في الفروع ، و ( اقتناص السوانح ) ،
وقد علق الادفوي على كتابه ( اقتناص السوانح ) فقال : " أتى فيه بأشياء غريبة ومباحث عجيبة ومواد غزيرة " . آهـ .
وإلى جانب ذلك كانت لهذا العلامة الفقيه فتاوى وأحكام ومباحث فقهية وأصولية كثيرة متنوعة ،، أورد الإمام السبكي في ( طبقات الشافعية ) نماذج منها ، وقد صدرها بقوله : " فوائد الشيخ تقي الدين ومباحثه أكثر من أن تُحصى، ولكنها غالبًا متعلقة بالعلم من حيث هو؛ حديثًا وأصولاً وقواعد كلية " . آهـ .
على أن غالبية هذه الكتب والمصنّفات القيمة لم يصل إلينا منها إلا قليل .
وكما برع الإمام المجدد ابن دقيق العيد في العلم والفقه ، برع أيضا في الشعر ، إذ كان شاعرا مجيدا ،
وقد جمع له المؤرخ المصري صلاح الدين الصفدي ديوان شعر ، طبع ونشر في مصر ،،، ومن شعره :
قـد جـرحـتنـــا يـد أيامـنـــا *** وليـس غير الله من آســــي
فلا ترج الخلق في حاجـــة *** ليسـوا بأهـل لسـوى اليـاس
ولا تـزد شكوى إليهم فـمـا *** معـنى لشكــواك إلى قــاسي
ولم يقتصر أمر الإمام على ما ذكرنا آنفا ، بل إنه كان خطيبا مفوها ، واعظا بليغا ، مؤثرا في القلوب وفى العقول معا .
وقد مدحه الشاعر المصري أبو الحسين يحيى بن عبد العظيم الجزار ( ت 679 هـ ) بقصيدة جاء فيها :
يا سيِّــدَ العلمـــاءِ والشعــــراءِ *** والأدبـاءِ والخطبـاءِ والحفّـاظِ
شنفْــتَ أسمـاعَ الأنـامِ بخطبــةٍ *** كَسَــتِ المعانِي رونقَ الألفاظِ
أبكَتْ عُيونَ السامعينَ فُصُولُها *** فزكَتْ على الخطباءِ والوُعَّاظِ
وعجبتُ منها كيفَ حازتْ رِقَّةً *** مع أنَّهَــا في غايــــةِ الإغلاظِ
ستَقُولُ مصرُ إذا رأتْكَ لغيرِهَـا *** ما الدَّهــــرُ إلا قِسْمَـةٌ وَأَحَاظِ
ويقُولُ قومٌ إذ رَأوك خَطيبَهـــم *** أنسيتـنَـــا قسّاً بسـُــــوقِ عُكَاظِ
وتولى ابن دقيق العيد منصب قاضي القضاة في أخريات حياته ، خلفا للقاضي عبد الرحمن ابن بنت الأعز ( ت 695 هـ ) ، فاعتنى بشئون القضاة في الأقاليم ، إذ كان يرسل إليهم الرسائل المتتابعة ، يبين فيها كيفية معالجة قضايا الناس ، ويوصيهم بالتزام العدل وتطبيق أحكام شرع الله تعالى .
وكان له مع أموال اليتامى القصّر شأن كبير ، إذ أنشأ ( المودع الحكمي ) ، يشبه في زماننا ( المجلس الحسبي ) ، تُحفظ فيه أموال اليتامى الصغار،
وفى هذا قال ابن حجر العسقلاني :
" وهو أول من عمل المودع الحكمي، وقرر أن من مات وله وارث إن كان كبيرًا أقبض حصته، وإن كان صغيرًا أحمل المال في المودع ، وإن كان للميت وصي خاص ومعه عدول يندبهم القاضي لينضبط أصل المال على كل تقدير " . آهـ .
وكما شهد لابن دقيق العيد معاصروه بالسبق والتقدم في العلم والفقه ، شهد له العلماء والفقهاء والأئمة شهادات عالية ،
من ذلك ما قاله الإمام السبكي : " ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة، المشار إليه في الحديث النبوي، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا " . آهـ .
ووصفه الإسنوي بأنه ( حافظ الوقت خاتمة المجتهد ) .
و فيه قال الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري : " لم أرَ مثله فيمن رأيت، ولا حملت عن أجلّ منه فيما رأيتُ ورويتُ ، وكان للعلوم جامعاً ، وفي فنونها بارعاً ، مقدماً في معرفة علل الحديث على أقرانه ، منفرداً بهذا الفن النفيس في زمانه ، بصيراً بذلك شديد النظر في تلك المسالك ، وكان حســن الاستنباط للأحكام والمعاني من الســنة والكتاب ، مبرزاً في العلوم النقليــة والعقلية " . آهـ
وقال عنه الإدفوي:
" التقي ذاتاً ونعتا ، والسالك الطريق التي لا عوج فيها ولا أمتا ، والمحرز من صفات الفضل فنوناً مختلفة وأنواعاً شتى، والمتحلي بالحالتين الحسنيين صمتا وسمتا ، إن عرضت الشبهات أذهب جوهر ذهنه ما عرض ، أو اعترضت المشكلات أصاب شاكلتها بسهم فهمه فأصاب الغرض " . آهـ
وقال أيضا : " ولا شك أنه من أهل الاجتهاد ولا ينازع في ذلك إلا من هو من أهل العناد ، ومن تأمل كلامه علم أنه أكثر تحقيقًا وأمتن وأعلم من بعض المجتهدين فيما تقدم وأتقن " . آهـ
ونسب إلى الإمام ابن دقيق العيد أنه قال : " ما تعلمت كلمة ولا فعلت فعلاً إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل " . آهـ
وتوفي هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى عن 77 عاما ، في شهر صفر سنة 702 هـ = أكتوبر سنة 1302م ، ودفن في القرافة الصغرى بسفح جبل المقطم شرق القاهرة على ما ذكر في ( البداية والنهاية ) .
وهكذا كانت عجالتنا الموجزة في ترجمة المجدد السابع الإمام ابن دقيق العيد ، أحد أهرامات مصر العظام ،
فرضي الله عنه وأرضاه ،،، وسلام عليه في الخالدين .
. صلاح جاد سلام
_________________