كلمة المولد النبوي الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ، وله الحمد أن ميزه على سائر المخلوقات بقدرة التعلم ليتطور ؛ فيبلغ مدارك الكمال ، فأرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وأصلي وأسلم على نبيه العربي ورسوله القرشي ، الذي حمل الرسالة وأدى الأمانة ، وكان للبشرية خير معين ، النبي الأمي الذي علم المتعلمين ، والفقير الذي بعث الأمل في قلوب اليائسين ، والمسكين الذي قاد سفينة العالم الحائرة إلى شاطئ الله رب العالمين ، والذي عندما أراد ربه الكريم أن يتوج جهوده فيما عاناه في سبيل تقويم البشرية مدحه بقوله " وإنك لعلى خلق عظيم " يا سيد العقلاء يا خير الورى * يا من أتيت إلى الحياة مبشرا وبعثت بالقرآن فينا هاديا * وطلعت في الأكوان بدرا نيرا والله ما خلق الإله ولا برى * بشرا يرى كمحمد بين الورى أما قبل : الإخوة المسلمون في كل مكان أحييكم بتحية من عند الله مباركة طيبة " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " وكل عام أنتم بخير ، وأعاد الله عليكم هذه الذكرى العطرة " ذكرى مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام " بالخير واليمن والبركات أما بعد : يقول عز من قائل وهو أصدق القائلين : " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " في أنوار هذه الآية الكريمة لنا وقفات ، لعلنا نتعلم منها حكمتها وغايتها ، ونحاول أن نستنير بنورها ، ونعمل بما جاء فيها ، لنكون من السعداء بإذن الله في الدنيا والآخرة " رحمة للعالمين " نعم حمل رسولنا - صلى الله عليه وسلم - رسالة الرحمة ورسالة السلام للعالمين أجمعين بلا تفرقة ولا تمييز لا بجنس ولا بلون ولا بمال ولا بسلطان ولا بدين وكيف لا وهو القائل " من غشنا فليس منا ، ومن حمل علينا السلاح فليس منا " ؟ ، وهو القائل : " المسلم من سلم الناس من يده ولسانه ، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم " ؟ وهو القائل : " سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر " نعم هو الذي قابل الذين أذوه ، وأهانوه وشتموه ، وكذبوه وعنفوه ، ومن بلده طردوه وأخرجوه ، قابلهم يوم أن أمكنه الله منهم ، قابلهم بقوله : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " كان صلى الله عليه وسلم رحمة للمجتمعات ؛ إذ أنها لا تستقيم بالقوانين والدساتير وحدها ، بل لا بد من أن تحاط بسياج من الأخلاق الكريمة ، والسلوكيات القويمة ، فقال- صلى الله عليه وسلم - : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " وقال " البر حسن الخلق " بل إنه وعد ذوي الأخلاق الكريمة وعدا لم يعده غيرهم من الناس فقال : " إن من أقربكم مني منزلا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا " وقال : " إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم " كان - صلى الله عليه وسلم - رحمة للكبار والصغار : فقال - صلى الله عليه وسلم - " من لا يرحم صغيرنا ، ولا يعرف حق كبيرنا ، فليس منا " ، وهو القال : " إن من إجلال الله توقير العالم ، وحامل القرآن ، وذي الشيبة الكبير " كان رحمة للضعاف في المجتمع : فقال - صلى الله عليه وسلم - " اتقوا الله في الضعيفين ، اليتيم والمرأة العجوز " كان رحمة لليتامى : فقال - صلى الله عليه وسلم - " أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بأصبعيه الوسطى والسبابة ، وفرج بينهما " وبشر كافل اليتيم بقوله " زاحمت كتفه كتفي " وقال أيضا " الساعي على الأرملة واليتيم كالمجاهد في سبيل الله ، وكالصائم لا يفطر ، والقائم لا يفتر " كان رحمة للمظلومين : فقال - صلى الله عليه وسلم - : " واتق دعوة المظلوم ؛ فليس بينها وبين الله حجاب " ، " وقال : " اتقوا الظلم ؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " ، في أبلغ حث ووعظ للمجتمع على إقامة العدل ، وتجنب الظلم ، والوقوف بجانب المظلوم حتى يأخذ حقه نعم " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " فكما أن نصر المظلوم بالوقوف معه وإعانته على إرجاع حقه ، فإن نصر الظالم بإبعاده عن الظلم ومنعه عنه ، ليكون ذلك خيرا له في دنياه وآخرته كان رحمة للعبيد والمأجورين : فقال - صلى الله عليه وسلم - " من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه ما يلبس ، ولا تكلفوهم من الأعمال ما لا يطيقون " وقال : " أعط الأجير حقه ، قبل أن يجف عرقه " كان رحمة للنساء : فقال - صلى الله عليه وسلم - " النساء شقائق الرجال ، لا تبخسوهن شيئا مما كتب لهن " ، وقال : " ما أكرمهن إلا كريم ، وما أهانهن إلا لئيم " وقال : " كان رحمة لغير المسلمين : فقال - صلى الله عليه وسلم - : " من ظلم معاهدا أو ذميا ، أو كلفه فوق طاقته ، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ، فأنا خصيمه يوم القيامة " وهو القائل : " استوصوا بالقبط خيرا ، فإن لهم نسبا وصهرا " كان رحمة للجيران فقال - صلى الله عليه وسلم - : " والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، قيل من يا رسول الله ؟ ، قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه " أي شروره ، وفي رواية " من بات شبعان وجاره جائع ، وهو يعلم " وذكرت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة بأنها كانت صوامة قوامة " أي تصوم النهار وتقوم الليل " ، ولكنها كانت تؤذي جيرانها فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا خير فيها ، هي في النار " كان رحمة للبهائم : فقال صلى الله عليه وسلم : " في كل كبد رطبة أجر " وهو القائل : " دخلت امرأة النار في هرة حبستها حتى ماتت ، لا هي أطعمتها ، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض " وهو القائل : : بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش ، فوجد بئرا ( فنزل فيها ) ، فشرب فخرج ، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش ، فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني ، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقى ، فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له . فقالوا : يا رسول الله ، وإن لنا في البهائم لأجرا ؟ قال : في كل كبد رطبة أجر . " وهو الذي مر يوما على حائط أي على بستان ، فرأى جملا ، فقال : لمن هذا البعير ؟ ، قالوا : يا رسول الله إنه لفتى من الأنصار ، فقال -صلى الله عليه وسلم - : " اتقوا الله في هذا البعير ؛ إنه يشكو إليّ أنك تجيع بطنه ، وتحمل على ظهره ما لا يطيق " وهو الذي كان جالسا يوما مع أصحابه ، فحلقت فوق مجلسه قبرة تصيح ( وهي طائر صغير دون الحمامة ) ، فعرف - صلى الله عليه وسلم - أنها تستغيث ، فقال " من فجع هذه في أولادها ؟ ، ردوا عليها فراخها " ، وكان بعض أصحابه قد اقتحم عشها ، وأخذ صغارها ، فردوهم إليها وقد أخذ الشاعر هذا المعنى فقال : جاءت إليك حمامة مشتاقة * تشكو إليك بقلب صب واجفِ من أخبر الورقاء أن مكانكم * حرم وأنك ملجأ للخائف هو الذي أشاع في الناس حب العطاء والبذل ، والجود والكرم فكان أجود الناس ، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة وهو الذي علم فقال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " هو الذي أشاع الألفة والمحبة والمودة فقال : الكلمة الطيبة صدقة " وقال : " تبسمك في وجه أخيك صدقة " هو الذي علمنا حب الأوطان وعلمنا كيف يكون الوفاء فوقف دامع العين على مشارف البلد الحرام ، وهو يومها طريد من مكة ، راحل عنها ، وقال : " والله إنك لأحب بلا د الله إليّ ، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت " فأية أخلاق ؟ .. وأية تعاليم ؟ أيها الإخوة الكرام ، أيها الأبناء الأعزاء هذا غيض من فيض ، وقطرة من بحر ولو تكلمنا عن رحمته - صلى الله عليه وسلم - وعن أخلاقه العظيمة لما وسعنا المقام ، ولكنها تذكرة لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين " إن من يزعم أنه مسلم ومحب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يتبع هديه ، ولا يتخلق بأخلاقه ، فعليه أن يراجع نفسه ، ويعود إلى ربه ، وإن محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تكن يوما بالاحتفال بذكرى مولده ، ولم تكن يوما بالحلوى والأناشيد والكلام مجرد الكلام ، بل بالعودة إلى تعاليمه ، وبمعرفة كيف نراقب الله في السر والعلن ، أن نكون صادقين مع أنفسنا ، ومع غيرنا ، أن نحمل للعالم أجمعه رسالة السلام والرحمة والمحبة ، فبذلك نرضي الله والناس ، ونشرف نبينا -صلى الله عليه وسلم - ، ونرفع ذكره بين الأمم ؛ فهو القائل " فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة " . بلغ العلا بجلاله كشف الدجى بجماله عظمت جميع خصاله صلوا عليه وآله هذا ومرة أخرى كل عام أنتم بخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته انتهى وكتبه الطيب سيد أحمد محمد شنهور – قوص الخميس الثاني عشر من ربيع الأول من عام تسعة وثلاثين وأربعمائة وألف بعد هجرة سيد المرسلين – صلى الله عليه وسلم - |