الأعشى والمحلَّق الكلابي
الأعشى والمحلَّق الكلابي
كان لأبي المحلق شرف ، فمات وقد أتلف ماله ، وبقي المحلق وثلاث أخوات له ، ولم يترك لهم أبوهم إلا ناقة واحدة ، وبردين كان يشهد فيهما الحقوق .
فأقبل الأعشى من بعض أسفاره يريد منزله باليمامة، فنزل الماء الذي به المحلق، فقراه أهل الماء وأحسنوا قراه . ثم أقبلت عمّة المحلق فقالت: يا ابن أخي هذا الأعشى قد نزل بمائنا، وقد قراه أهل الماء، والعرب تزعم أنه لم يمدح قوماً إلا رفعهم ، ولم يهج قوماً إلا وضعهم، فاحتل لنفسك في زق من خمر، وأرسل إليه بهذه الناقة والزق وبردي أبيك، فوالله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفه، ونظر إلى عطفيه في البردين، ليقولن فيك شعراً يرفعك به. قال: ما أملك غير هذه الناقة، وأنا أتوقع رسلها ( حليبها ) .
ثم أقبل يدخل ويخرج ويهم بقول عمته ولا يفعل، فكلما دخل على عمته حضته، حتى دخل عليها فقال: قد ارتحل الرجل ومضى ، قالت: الآن والله أحسن ما كان القرى، تتبعه ذلك مع غلام أبيك، فإذا لحقه أخبره عنك أنك كنت غائباً عن الماء عند نزوله إياه، وأنك لما وردت الماء فعلمت أنه كان به كرهت أن يفوتك قراه، فإن هذا أحسن لموقعه عنده . ولم تزل تحضه حتى أتى بعض التجار فكلمه أن يقرضه ثمن زق خمر، وأتاه بمن يضمن ذلك عنه فأعطاه . ثم وجه بالناقة والخمر والبردين مع مولى أبيه، فخرج يتبعه، فكلما مر بماء قيل: ارتحل أمس عنه، حتى صار إلى منزل الأعشى بمنفوحة اليمامة، فوجد عنده عدة فتيان قد غداهم بغير لحم، وصب لهم فضيخاً ( أردأ أنواع الخمر ) ، فهم يشربون منه. وقرع الباب فقال: انظروا من هذا؟ فخرجوا فإذا رسول المحلق يقول كذا وكذا، فدخلوا عليه وقالوا: هذا رسول المحلق الكلابي أتاك بكيت وكيت. فقال: ويحكم!! أعرابي والذي أرسل إلي لا قدر له!! والله لئن اعتلج الكبد والسنام والخمر في جوفي لأقولن فيه شعراً لم أقل قط مثله. فواثبه الفتيان وقالوا: غبت عنا فأطلت الغيبة، ثم أتيناك فلم تطعمنا لحماً وسقيتنا الفضيخ، واللحم والخمر ببابك، لا نرضى بذا منك. فقال: ائذنوا له، فدخل فأدى الرسالة، وقد أناخ الجزور بالباب، ووضع الزق والبردين بين يديه، فقال له الأعشى: أقره السلام ، وقل له: وصلتك رحم ، سيأتيك ثناؤنا .
وقام الفتيان إلى الجزور فنحروها وشقوا خاصرتها عن كبدها ، وجلدها عن سنامها ، ثم جاؤوا بهما، فأقبلوا يشوون، وصبوا الخمر فشربوا، وأكل معهم وشرب، ولبس البردين، ونظر إلى عطفيه فيهما ... فأنشأ يقول :
أَرِقتُ وَما هَذا السُهادُ المُؤَرِّقُ ** وَما بِيَ مِن سُقمٍ وَما بِيَ مَعشَقُ
وَلَكِن أَراني لا أَزالُ بِحادِثٍ ** أُغادى بِما لَم يُمسِ عِندي وَأُطرَقُ
فَإِن يُمسِ عِندي الشَيبُ ** وَالهَمُّ وَالعَشى فَقَد بِنَّ مِنّي وَالسِلامُ تُفَلَّقُ
بِأَشجَعَ أَخّاذٍ عَلى الدَهرِ حُكمَهُ * فَمِن أَيِّ ما تَجني الحَوادِثُ أَفرَقُ
فَما أَنتَ إِن دامَت عَلَيكَ بِخالِدٍ ** كَما لَم يُخَلَّد قَبلُ ساسا وَمورَقُ
وَكِسرى شَهِنشاهُ الَّذي سارَ مُلكُهُ ** لَهُ ما اِشتَهى راحٌ عَتيقٌ وَزَنبَقُ
وَلا عادِيا لَم يَمنَعِ المَوتَ مالُهُ ** وِردٌ بِتَيماءَ اليَهودِيِّ أَبلَقُ
بَناهُ سُلَيمانُ بنِ داوُودَ حِقبَةً ** لَهُ أَزَجٌ عالٍ وَطَيٌّ مُوَثَّقُ
لَعَمري لَقَد لاحَت عُيونٌ كَثيرَةٌ ** إِلى ضَوء نارٍ باليَفاعٍ تُحَرَّقُ
تُشَبُّ لِمَقرورَينِ يَصطَلِيانِها ** وَباتَ عَلى النارِ النَدى وَالمُحَلَّقُ
رَضيعَي لِبانٍ ثَديَ أُمٍّ تَحالَفا ** بِأَسحَمَ داجٍ عَوضُ لا نَتَفَرَّقُ
يَداكَ يَدا صِدقٍ فَكَفٌّ مُفيدَةٌ ** وَأُخرى إِذا ما ضُنَّ بِالزادِ تُنفِقُ
تَرى الجودَ يَجري ظاهِراً فَوقَ وَجهِهِ ** كَما زانَ مَتنَ الهِندُوانِيُّ رَونَقُ
نَفى الذَمَّ عَن آلِ المُحَلَّقِ جَفنَةٌ ** كَجابِيَةِ الشَيخِ العِراقِيِّ تَفهَقُ
يَروحُ فَتى صِدقٍ وَيَغدو عَلَيهِم **بِمِلءِ جِفانٍ مِن سَديفٍ يُدَفَّقُ
وَعادَ فَتى صِدقٍ عَلَيهِم بِجَفنَة * وَسَوداءَ لَأياً بِالمَزادَةِ تُمرَقُ
تَرى القَومَ فيها شارِعينَ وَدونَهُم **مِنَ القَومِ وِلدانٌ مِنَ النَسلِ دَردَقُ
طَويلُ اليَدَينِ رَهطُهُ غَيرُ ثِنيَة ** أَشَمُّ كَريمٌ جارُهُ لا يُرَهَّقُ
كَذَلِكَ فَاِفعَل ما حَيِيتَ إِلَيهِمُ **وَأَقدِم إِذا ما أَعيُنُ الناسِ تَبرَقُ
وسار الشعر وشاع بين العرب. فما أتت على المحلق سنة حتى زوّج أخواته الثلاث، كل واحدة على مائة ناقة، فأيسر وشرف وذاع صيته بسبب هذه القصيدة بل وأصبح من سادات قومه.