وما ربك بظلَّام للعبيد
(وما ربك بظلَّام للعبيد)
يرى النحاة أنَّ صيغة (فعَّال) تستخدم للمبالغة،وهي من الصيغ القياسية وقد يفهم بعض الناس من العوام أنَّ الله تعالى في قول الله عزّ وجلّ: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [آل عمران:182]. وقوله تعالى:) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ][الأنفال:??]، وقوله تعالى:(ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ)[الحج:??،وقوله:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت:46]. {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق:39]. أنَّه سبحانه -والعياذ بالله- لا يظلم كثيرًا بل يظلم قليلاً، وهذا فهمٌ فاسدٌ، لأنَّ الله تعالى مُنزَّهٌ عن أي ظلم، فهو العدل المطلق سبحانه وتعالى، وللعلماء في تفسير ذلك أقوال، أهمها :
أولًا: صيغة (فعَّال) في مثل هذه الآيات ليست للمبالغة بل هي للنسب بدل ياء النسب ؛أي: نفي نسبة الظلم عن الله سبحانه وتعالى، وهذا مشهور عند العرب كما سنذكر بعد قليل.
ثانيًا: صيغة (فعَّال) بمعنى فاعل، وبذلك ننفي عن الله سبحانه وتعالى فعل الظلم نهائيًا كثيره وقليله. وهذا مشهور أيًضًا استخدام بعض الصيغ بمعنى صيغ أخرى، مثل (فاعل) بمعنى (مفعول) وغير ذلك.
ويرى بعض العلماء أنَّ ذلك من دقَّة الأداءِ البيانيّ لإِجراءِ التقابُل بين أفراد الظلم، وأفراد العبيد، فلو أنَّه تعالَى ظَلَمَ كُلَّ واحدٍ من عباده أقلَّ ظُلْمٍ لكان بالنسبة إليهم جميعاً ظلاَّماً، لكَّنهُ لا يفْعَلُ ذلك فهو ليْسَ بظلاّم.فإذا قيل: فهل يظلم الله عزّ وجلّ بعضَ عبيده أقَلَّ ظُلْمٍ ولو شخصاً واحداً؟
فالجواب: أنَّ الله عزّ وجلّ نفى ذلك عن نفسه في نصوصٍ أخرى، منها ما يلي:
قول الله تعالى في سورة (النساء: 40):{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }.وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يونس:44):{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }. وقول الله عزَّ وجلّ في سورة (الكهف:49):{...وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً }.وبهذا تَكَامَلَتِ النُّصُوصُ في بيان كُلِّ عَناصِر الموضوع، من كلّ جوانبه، وهذا من وجوه إعجاز القرآن، فمِنْ أُسْلُوبِ القرآن تجزئةُ مَوْضُوعاتِه إلى عناصر جزئيَّةٍ، وتناوُلُ كلِّ عنصر منها ببيانٍ خاصٍّ يحيط به، ولدى جَمْعِ كلِّ البيانات حول الموضوع الواحد يكونُ الموضوع قَدْ أُحِيطَ بِهِ من كُلِّ جوانبه، وأَوْضَحَ البيان كلَّ عناصِره.
ويقول صاحب الفلك الدائر على المثل السائر (ص: 268):"فعلى هذا القياس يكون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} يقتضي أن يكون دالا على نفي تكرر الظلم، ويكون مفهوم ذلك وفحواه أنه بظلم العباد ظلما قليلا، كما كان فحوى بيت الشاعر أن هذا المرثي يجبن نادرا، وأن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: "لأعطين الراية غدا لرجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار" أي لا يكثر الفر بل يفر أحيانا في النادر، مع أن عليا لم يفر قط على ما نقل عنه المخالف والمؤالف، وأن يكون قول سطيح في كهانته على رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بفظ ولا صخاب" يقتضي ألا يصخب كثيرا، بل يصخب في وقت بعيد.
واعلم أن العرب إذا استعملت هذه اللفظة في النفي فإنهم لا يعنون بها إلا ما يعنون بلفظة فاعل فقط، ولو شئت أن أذكر من ذلك الأمثلة الكثيرة لذكرتها، فأما في الإثبات فإنهم قل أن يستعملوها إلا في الكثرة والتكرير كما ذكره هذا الرجل، وكان الواجب أن يتصفح كلامهم، ويفرق بين استعمالهم لها نفيا واستعمالهم لها إثباتا".ويقول أيضًا صاحب الفلك الدائر على المثل السائر (ص: 269):"قال المصنف: وينبغي أن يعلم أنه إذا وردت لفظة من الألفاظ، ويجوز حملها على التضعيف الذي هو طريق المبالغة، وحملها على غيره، أن ينظر فيها.
أمَّأ صاحب ضياء السالك إلى أوضح المسالك (4/ 276)فيقول:"وحمل عليه قوم: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} ، أو على "فاعل"، أو على "فَعِل"، بمعنى ذي كذا؛ فالأول، كتامر، ولابن، وطاعم، وكاس". ويقول صاحب شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو (2/ 611):"فاستعمال "فعال" في غير الحرف بمعنى ذي كذا، "وحمل عليه قوم من المحققين"، كما قال ابن مالك: " {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} " [فصلت: 46] أي: بذي ظلم.والذي حملهم على ذلك أن النفي منصب على المبالغة، فيثبت أصل الفعل، والله تعالى منزه عن ذلك.
ويرى ابن هشام ف مغني اللبيب عن كتب الأعاريب (ص: 150) أنَّ" فِي {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} إِن (فعَّالا) لَيْسَ للْمُبَالَغَة بل للنسب كَقَوْلِه:... وَلَيْسَ بِذِي سيف وَلَيْسَ بِنِبَالٍ)؛ أَي: وَمَا رَبك بِذِي ظلم لِأَن الله تَعَالَى لَا يظلم النَّاس شَيْئا وَلَا يُقَال لقِيت مِنْهُ أسدا أَو بحرا أَو نَحْو ذَلِك إِلَّا عِنْد قصد الْمُبَالغَة فِي الْوَصْف بالإقدام أَو الْكَرم".ويرى السيوطي في همع الهوامع في شرح جمع الجوامع (3/ 408) أنَّ" قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَبك بظلام للعبيد} [فصلت: 46]؛ أَي: بِذِي ظلم".
وفي جامع الدروس العربية (2/ 83)" وقد يكونُ (فاعِلٌ) للحِرَفِ "كحائك" في معنى حَوَّاك، كما يكونُ (فَعّالٌ) في غير الحرفِ. كقوله تعالى {وما رَبُّكَ بظلاّمٍ للعبيد} ، أي بذي ظُلمٍ".وفي شرح الكافية الشافية (4/ 1963):"على هذا حمل المحققون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيد}؛ أي: بذي ظلم".وفي النحو النحو الوافي (3/ 270):"وجعلوا من استعمالها في النسب قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} أي: بمنسوب إلى الظلم، وحجتهم أن صيغة "فعال" هنا لو كانت للمبالغة وليست للنسب لكان النفي منصبًّا على المبالغة وحدها؛ فيكون المعنى: وما ربك بكثير الظلم؛ فالمنفي هو الكثرة وحدها دون الظلم الذي ليس كثيرًا. وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يظلم مطلقًا، لا كثيرًا ولا قليلًا".ويقول صاحب النحو الوافي (4/ 743) أيًضا:"جعلوا منه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} ، أي: بمنسوب إلى الظلم. وحجتهم أن صيغة: "فعال" هنا لو كانت للمبالغة لكان النفي منصبا على المبالغة وحدها؛ فيكون المعنى: وما ربك بكثير الظلم، فالمنفي هو الكثرة وحدها دون الظلم الذي ليس كثيرا. وهذا معنى فاسد؛ لأن الله لا يظلم مطلقا، لا كثيرا ولا قليلا.
وفي توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (2/ 693):" ولهذا قيل في: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} : إن فعالا ليس للمبالغة بل للنسب"ويقول أيًضًا في توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك (3/ 1467):": وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}.أي: بذي ظلم.وفي حاشية الصبان (4/ 282):"وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]؛ أي: بذي ظلم."وفي شرح الأشمونى على ألفية ابن مالك (2/ 16):"وعلى هذا حمل المحققون قوله تعالى: {وما ربك بظلام للعبيد} (فصلت: 46)؛ أي بذي ظلم.
ويرى ابن هشام في مغني اللبيب (ص: 150)أنَّ" ( وما ربك بظلام للعبيد ) إن فعالا ليس للمبالغة بل للنسب"، وفي شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (4/ 168)أيضًا:"وقد يكون فعال بمعنى صاحب كذا وجعل منه قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} أي بذي ظلم.
وفي صفوة التفاسير (1/ 229):"صيغة فعّال في الآية {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب مثل عطّار ونجّار وتمّار كلها ليست للمبالغة وإِنما هي للنسب قال ابن مالك."وفي إعراب القرآن وبيانه (8/ 575) لمحي الدين درويش:" ويصح أن تكون ظلام صيغة نسب كتمّار وبقّال وخبّاز" وفي أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 33):"مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفْيِ فِي قَوْلِهِ: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ نَفْيُ نِسْبَةِ الظُّلْمِ إِلَيْهِ لِأَنَّ صِيغَةَ فَعَّالٍ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَتُغْنِي عَنْ يَاءِ النَّسَبِ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:وَمَعَ فَاعِلٍ وَفَعَّالٍ فَعِلَ ... فِي نَسَبٍ أَغْنَى عَنِ الْيَا فَقُبِلْ
وَمَعْنَى الْبَيْتِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الصِّيَغَ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهِ الَّتِي هِيَ فَاعِلٌ كَظَالِمٍ وَفَعَّالٌ كَظَلَّامٍ وَفَعِلٌ كَفَرِحٍ - كُلٌّ مِنْهَا قَدْ تُسْتَعْمَلُ مُرَادًا بِهَا النِّسْبَةُ، فَيُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ يَاءِ النَّسَبِ".
وفي أضواء البيان (7/ 33) أيضًا:" قوله: {وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} نفي نسبة الظلم إليه، لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة فتغني عن ياء النسب".وفي التفسير الوسيط لطنطاوي (12/ 361):" وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أى: وليس ربك- أيها الرسول الكريم- بذي ظلم لعباده الذين خلقهم بقدرته، ورباهم بنعمته.فقوله بِظَلَّامٍ صيغة نسب- كثمار وخباز- وليس صيغة مبالغة.
وقال بعض العلماء ما ملخصه: «وفي هذه الآية وأمثالها سؤال معروف، وهو أن لفظة «ظلام» فيها صيغة مبالغة. ومعلوم أن نفى المبالغة لا يستلزم نفى أصل الفعل. فقولك- مثلا-: زيد ليس بقتال للرجال لا ينفى إلا مبالغته في قتلهم، فلا ينافي أنه ربما قتل بعض الرجال.
ومعلوم أن المراد بنفي المبالغة- وهي لفظ ظلام- في هذه الآية وأمثالها المراد به نفى الظلم من أصله.وقد أجابوا عن هذا الإشكال بإجابات منها: أن نفى صيغة المبالغة هنا، قد جاء في آيات كثيرة ما دل على أن المراد به نفى الظلم من أصله، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً وقوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً ...
ومنها: أن المراد بالنفي في الآية، نفى نسبة الظلم إليه. لأن صيغة فعال تستعمل مرادا بها النسبة، فتغنى عن ياء النسب.. كقولهم «لبان» أى: ذو لبن، ونبال أى صاحب نبل..».
وتعدُّد الآراء حول القرآن وتنوعها فيه إثراء وسعة ولله الحمد، كما يرى كثيرٌ من العلماء، فالقرآن الكريم أياته تشبه الدرة أنَّى نظرت إليها ألقت إليك بنورها. المهم ألا يكون المعنى فاسدًا ويتعارض مع العقيدة الصحيحة والمعلوم من الدين بالضروة وأجمع عليه علماء الأمة .والله أعلى وأعلم
*****