يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ
( يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ . قَالَ : قُلْنَا : وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ )
حديثٌ رُويَ بعدةِ طرقٍ من حديث ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصححه الألباني.
معاني الكلمات:
(يوشك الأمم): أي يقرب فرق الكفر وأمم الضلالة .
(التداعي): الاجتماع ودعاء البعض بعضا ،وهي بحذف إحدى التاءين ،أي تتداعي بأن يدعو بعضهم بعضا لمقاتلتكم وكسر شوكتكم وسلب ما ملكتموه من الديار والأموال والمراد من الأمم فرق الكفر والضلالة.
(الأكلة): بفتحتين على وزن (طلبة) وهو جمع آكل ، والمعنى كما يدعو أكلة الطعام بعضهم بعضا (إلى قصعتها) الضمير للأكلة أي التي يتناولون منها بلا مانع ولا منازع فيأكلونها عفوا صفوا كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم! ،حين يدعو بعضهم بعضا إلى الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم ليغلبوا على ما ملكتموها من الديار.
(يومئذ كثير): أي عددا وقليل مددا ولكنكم غثاء كغثاء غثاء كغثاء السيل.
(غثاء): بالضم والمد وبالتشديد أيضا، وهو ما يحمله السيل من زبد ووسخ، شبههم به لقلة شجاعتهم ودناءة قدرهم.
(تنزعُ المهابة من قلوب عدوكم): أي يزول خوفهم ورعبهم منكم.
(الوهن): أي الضعف، وكأنه أراد بالوهن ما يوجبه، ولذلك فسره بحب الدنيا وكراهية الموت.
شرح الحديث:
يضعنا النبي صلى الله عليه وسلم أمام صورة حركية مدهشة، يمثلها بقوم جياع شرهين يبحثون عن وليمة باردة سهلة يأكلونها، وعندما يجدون هذه الفريسة؛ يقف كل واحد منهم على مشارف الطرق ويذهب إلى النوادي والمحافل يدعو الأمم والفرق والأفراد، بينما هنا الداعي إلى الطعام لئيم حاقد تأصل فيه الشر حتى صار معدناً للشر، أي كما يدعو صاحب الطعام ضيوفه إلى الوليمة كذلك الأمم والفرق الضالة تدعوا بعضها عليكم إذ أنتم الوليمة يومئذ.
وتأمل هذا التشبيه الأول للمسلمين بالقصعة، الغنيمة الباردة التي يهيئها صاحبها بالنسق الذي يسيل لعابه ويتحكم بشكلها وطعمها، والقصعة بين يديه مستسلمة تنتظر موعد وصولها إلى فم آكلها.
إن تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم تداعي الأمم بتداعي الأكلة ليوحي بنفسية عفنة انطوت على شراهة واندفاع شديد نحو القصعة يغذيه جوع دموي دفين.
وليست القلة هي السبب، ألم تر إلى المسلمين في بدر لقد كانوا قلة، ولم يستطع عليهم عدوهم، وكذلك في الأحزاب تداعى الجمع عليهم ولم يحقق الله آمال الكافرين في المسلمين مع أن المسلمين قلة، فالمسلمون عندما تتداعى الأمم عليهم يومئذ كثير، ولكن هم غثاء كغثاء السيل! وهو ما ارتفع على وجه الماء وحمله السيل من الوسخ والجيف والأعواد مما لا ينفع الناس ولا يقوم به شيء! ومعلوم أن الغثاء تبع للسيل الجارف لا يقوى على المصادمة ولا خيار له في الطريق الذي يسلكه مع السيل، بل شأن هذا الغثاء السمع والطاعة من السيل الذي يحصد كل ما أتى أمامه!!!
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا الاستسلام والانقياد الأعمى مع معرفة المنقاد أنه ذاهب إلى الهاوية، وكأنه صلى الله عليه وسلم قرأ ما في نفس كل سامع للحديث السؤال الذي يتداعى إلى النفس : وممّ هذا؟
فيجيب الرسول الرحيم: (تـنـتـزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن).
ثم فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الوهن بإنه : (حب الدنيا وكراهية) ،إنه وهن قلبي ، وهن نفسي ، وهن فكري ، وهن عقائدي تسرب إليكم لتشرب قلوبكم حب الدنيا ، فتعلقت بها كتعلق الغريق بقشة يظن فيها النجاة.
فالعدو يمتلك الدنيا ورفاهيتها، وأخذ يتحكم بها فينا كما يريد، ويلوح بها أمام أعينا كما يلوح الرجل لكلبه بقطعة لحم، يزينها له ليستعبده، فيلهث الكلب ويسيل لعابه، ويرضى لنفسه أن يكون منقاداً لسيده مقبل أن يعطيه الطعام.
كذلك الذي أشرب قلبه حب الدنيا واستمسكت نفسه بها وظن أن السعادة فيها، أخذ يخاف من زوالها من يديه فأتقن سبب تحصيلها، بأن يكون ذليلاً منقاداً في السيل الجارف، وأن يكون إمعة لا رأي له، وأن يكون ريشة في مهب الريح تتقاذفه الأفكار وتتلاعب فيه العواطف!.
ولا يظنن ظان أن المقصود بكراهية الدنيا تركها والإعراض عنها بل ترك حبها والتعلق فيها، و أن تكون بأيدينا لا في قلوبنا.
شرح د. مرهف سقا - بتصرف