تأملات قرآنية
يُحاول بعض أعداء الإسلام إثباتَ وجود أخطاء علميَّة في القرآن الكريم، راغبين في تشكيك الناس في أنَّه كلام الله ووحي رب العالمين.
ومن تلك الافتراءات ما يزعُمه أولئك المفترون من وجود خطأ علمي في سورة الكهف عند قوله - تعالى -:
? وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ? [الكهف: 83 - 86].
فيقولون: كيف يقول القرآن: إنَّ الشمس تغرب في عين حمئة، وهذا مُخالف للحقائق العلمية؟
وهذا افتراء واهٍ ساقط يتلخص الجواب عليه فيما يلي:
?أولاً?: ما العين الحمئة[1]؟
العين هي نبع الماء، وقال الآلوسي: إنَّ المقصودَ أنَّها "عين في البحر أو البحر نفسه، وتسميته عينًا مما لا بأسَ به، خصوصًا وهو بالنسبة لعظمة الله - تعالى - كقطرة وإن عظم عندنا"[2].
أمَّا وصفُ العين بالحمئة، فيعني أنَّها ساخنة حارة[3]، أو يعني أنَّها كثيرة الحمأ وهو الطين الأسود[4].
فالعين الحمئة على ذلك هي: مجتمع مائي، ماؤه ساخن حار، أو مُختلط بالطين الأسود[5].
ويُمكن الجمعُ بين المعنيين بأنْ نقولَ: إنَّ ماءه حار ومُختلط بالطين في الوقت نفسه، ولا تعارُضَ بين الأمرين[6].
?ثانيًا?: هل جاء في القرآن أنَّ الشمس تغرب في عين حمئة، أو الذي جاء هو أنَّ ذا القرنين هو الذي وجدها تغرُب في عين حمئة؟
إنَّ نص الآية: ? حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ? [الكهف: 86]، ولم يأتِ في الآية أنَّ الشمسَ تغرب في عين حمئة.
ومعنى وجدها هنا؛ أي: رآها، فإنه يُعبر بالوجود عن رُؤية الشيء وإدراكه بالبصر، كما قال علماء اللغة، كالراغب الأصفهاني وغيره[7].
?ثالثًا?: إنَّ المعنى الواضح الصريح لهذه الآية أنَّ ذا القرنين هو الذي وجد الشمسَ تغرب في عين حمئة؛ أي: بدت له الشمسُ برُؤيته وعينيه كأنَّها تغرب في عين حمئة.
فالآية الكريمة لا تُقرِّر حقيقةً علمية، ولا تقول: إنَّ الشمسَ تغرب في العين الحمئة، ولكنَّها تتحدث عن رُؤية ذي القرنين للشمس، وهي تغرب في العين الحمئة فيما يظهر ويبدو له هو لا في الحقيقة والواقع.
قال ابن كثير: "وقوله: ? وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ?؛ أي: رأى الشمسَ في منظره تغرب في البحر المحيط، وهذا شأن كلِّ مَنِ انتهى إلى ساحله يراها كأنَّها تغرب فيه..."[8].
ونقل الإمام القرطبي عن القفال قوله: "المراد أنَّه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرُب في عين حَمِئة، كما أنَّا نشاهدها في الأرض الملساء كأنَّها تدخل في الأرض..."[9].
وقال البيضاوي: "ولعلَّه بلغ ساحلَ المحيط فرآها كذلك؛ إذ لم يكن في مطمح بَصرِه غير الماء؛ ولذلك قال: "وجدها تغرب"، ولم يقل: كانت تغرب"[10].
وقال الآلوسي: "المراد وجدها في نظر العين كذلك؛ إذ لم يرَ هناك إلاَّ الماء، لا أنَّها كذلك حقيقة، وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنَّها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشطَّ، والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضًا كأنَّها تطلع من الأرض وتغيب فيها.
ولا يَرد على هذا أنه عَبَّر بوجد، والوجدان يدُلُّ على الوجود؛ لِمَا أنَّ "وَجَد" يكون بمعنى "رأى"، كما ذكره الراغب، فليكن هنا بهذا المعنى"[11].
ولتقريب هذا المعنى نقول: إنْ كنت متجهًا غربًا في وقت الغروب، وأمامك جبلٌ، فإنَّك سوف تَجد الشمس - في نظرك - تغرُب خلفَ هذا الجبل، فلو قلت واصفًا هذا المنظر: إنَّ الشمس اختفت خلف الجبل، فلن يفهمَ أحد من قولك هذا أنَّ الشمس تختبئ خلف الجبل حقيقة، وإنَّما المفهوم أن ذلك وقع في رأي العين.
وإن كان الذي أمامك بُحيرة، فستجد الشمسَ تغرب في البُحيرة، فلو قلت في تصوير ما تراه عيناك: إنَّ الشمسَ تغرب في البحيرة، فإنَّك لا تقصد بذلك تقرير حقيقة علمية، وإنَّما تصف ما تراه عيناك رُؤية مُجردة.
وكثيرًا ما يرسم الفنانون مشهدَ الغروب، ويصورون الشمس وكأنها تسقط داخلَ البحر، وكذلك يصف الأدباء والشُّعراء منظر الغروب بعبارات مثل: تسقط الشمس في البحر، أو تختفي الشمس في البحر، أو تلتقي الشمس بالبحر، وهم يصورون فقط ما تراه أعينهم، ويصفون ما تشاهده أبصارهم، ولا يُقرِّرون بذلك واقعًا أو حقيقة علمية.
فإذا جاء أحدٌ فقال: إنَّ هؤلاء الأدباء والشعراء يُخالفون الحقائق العلمية، فلن يُحكَم عليه إلا بأنه سقيمُ الفهم سفيهُ الحلم.
?رابعًا?: قد جاء في القرآن ما يدُلُّ صراحةً على أنَّ الشمس تسبح في فلك لا تفارقه، وهذا مخالفٌ للفهم الذي يُحاول المفتري إلصاقه بآية سورة الكهف.
ومن الآيات الدالة على ذلك:
قوله - تعالى -: ? وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? [الأنبياء: 33].
وقوله - تعالى -: ? لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ? [يس: 40].
قال القرطبي: "(وكل) يعني من الشمس والقمر والنُّجوم "في فلك يسبحون"؛ أي: يَجرون، وقيل: يدورون... وقال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فلك بين السماء والأرض غير ملصقة، ولو كانت مُلصقة ما جرت، ذكره الثَّعلبي والماوردي"[12].
وقال الشيخ عبدالرحمن الميداني: "الفَلَك: هو خطُّ السير المحدد في الجو، الذي يَجري فيه النجم أو الكوكب، فلا يَحيد عنه بتقدير الله وقضائه، فهو يسبح في فراغه سبحًا
رابط الموضوع: