الحجاج بن يوسف الثقفي
[[ الحجاج بن يوسف الثقفي ]]
41هـ - 95 هـ / 660م - 714م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ
أبوه يوسف بن أبي عقيل الحاكم الثقفي ، من قبيلة ثقيف بالطائف ،،
وأمه فريعة بنت همام الثقفية ،
روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع امرأة ذات ليلة تقول :
ألا سبيـل إلى خمر فأشربهــا … أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ما جد الأعراق مقتبـل … سهل المحيا كريـم غير ملجاج
نمته أعراق صدق حين تنسبه … أخي حفـاظ عـن المكــروب فراج
فقالت لها امرأة معها : مَن نصر؟
قالت: رجل ، أود لو كان معي طول ليلة ليس معنا أحد .
فدعا بها عمر فخفقها بالدرة ، ودعا بنصر – وكان جميلا مليحا – فحلق شعره فعاد أحسن ما كان ، فقال له عمر :
لا تساكني في بلدة يتمناك النساء بها ، وأخرجه إلى البصرة .
وخافت المرأة ، فكتبت إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه تستعطفه :
قل للإمام الذي تخشى بوادره … مالي وللخمـر أو نصـر بن حجـاج
إني غنيــت أبا حفـص بغيـــره … شرب الحليب وطرف غيـره ساجي
إن الهـوى زمه التقوى فقيده … حتــى أقـــر بإلجـــام و إســراج
أمنيــة لم أطر فيهــا بطائــرة … والنـاس مــن هـالك فيهـا وناجـي
لا تجعـل الظن حقا أو تبي ... إن السبيل سبيـل الخائف الراجي
وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه قد سأل عنها ، فوصفت له بالعفاف ، فأرسل إليها : قد بلغني عنك خيرٌ فقرِّي .
وجاء في العقد الفريد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يعسّ ليلا ، فسمع امرأة – فريعة بنت همام أم الحجاج – تقول شعرا أوله :
هل من سبيل إلى خمر فأشربها … أم لا سبيل إلى نصر بن حجاج ،
فأمر بها فضربها بالدرة ضربات ، وأمر بنصر فحلق شعره ، ونفاه إلى البصرة .
وفي المصدر نفسه ، ورد أن المغيرة بن شعبة دخل يوما على زوجته فارعة الثقفية ، وهي تتخلل حين انفلتت من صلاة الغداة ، فقال لها :
لئن كنت تتخللين من طعامك اليوم ، إنك لجشعة ،،، وإن كنت تتخللين من طعام البارحة ، إنك لبشعة ،،، كنتِ ، فبنتِ .
فقالت : والله ، ما اغتبطنا إذ كنا ، ولا أسفنا إذ بنّا ، وما هو لشيء مما ذكرت ، ولكني استكت فتخللت بسواك .
(ولنتوقف هنا قليلا لنتأمل مستوي الفصاحة اللغوية في الخطاب بينهما ) .
ثم خرج المغيرة نادما على ما كان منه ، فلقيه يوسف بن أبي عقيل ،،
فقال له المغيرة : إني نزلت الآن عن سيدة نساء ثقيف ، فتزوجها ، فإنها ستنجب ، فتزوجها يوسف ، فولدت له الحجاج .
وقد ولد الحجاج لهذين الأبويين الثقفيين في قرية بني صخر ، إحدى القرى التي تتكون منها منطقة ( الهَدا ) بإقليم الطائف ، موطن قبيلة ثقيف .
كان ذلك فى عام 41هـ ،،،
وهو العام الذي مات فيه الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما ، من بعد أن تنازل بالخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، وأطلق على هذا العام ( عام الجماعة ) .
وقيل في ولادة الحجاج إنه ولد مشوها ، لا دبر له ، فثقب عن دبره ،
وقيل في رضاعته إنه أبى أن يلتقم ثدي أمه ، ورفض أثداء غيرها حتى أعياهم أمره ، فتصور لهم الشيطان في صورة الحارث بن كلدة ( طبيب العرب ) ، وكان زوج أمه الأول ، فقال لهم :
اذبحوا له جديا أسود ، وأولغوه دمه ، فإذا كان اليوم الثاني فاذبحوا له تيسا أسود ، وأولغوه دمه ، ثم ثعبانا أسود سالخا ، وأولغوه دمه ، واطلوا به وجهه ، فإنه يقبل الثدي في اليوم الرابع ،،،
ففعلوا به ذلك ،
فكان بعد لا يصبر على سفك الدماء ، وكان يخبر عن نفسه أن أعظم لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدم عليها غيره ، ولا سبقه إليها سواه .
هذه الروايات وأشباها – كما يقول الأستاذ جمال بدوي المؤرخ الكبير رحمة الله عليه – ينبغي أن نقرأها بحذر ، لأنها أقرب إلى التشنيعات التي يطلقها الناس على الطغاة ، تشفيا فيهم ، وتنفيساً عن الضيق الذي ألم بهم .
وقد قيل في تسمية الحجاج روايات كثيرة ،
منها أن أمه أسمته ( كليبا ) ، ولقبته بالحجاج ، تفاؤلا أن يكون تقياً كثير الحج .
وقيل عن صباه إنه عمل معلما للقرآن الكريم ( الكتّاب ) ، الذي أنشأه أبوه لتعليم الصبية في الطائف ، وذلك قبل أن يتأهب للتحول من حقل التعليم ودنيا الفقه و العلم إلى دنيا السياسة والحكم .
وبهذه البداية ، وهي الأقرب إلى الصحة ، يتماشى الدليل والبرهان مع ما عرف عن الحجاج من الفصاحة النادرة ، والبلاغة الظاهرة ، والعلم الغزير ، حتى قيل عنه في هذا الصدد إنه لم يلحن في جدّ ولا هزل ،
قال الأصمعي :
( أربعة لم يلحنوا في جد ولا هزل ،، الحجاج وعبد الملك بن مروان والشعبي وابن القرِّيَّة ) .
نعم ،، كانت فصاحة الحجاج بالغة ظاهرة ، لأنه نشأ في الطائف ، حيث كان علي اتصال بقبيلة هذيل ، أفصح قبائل العرب ، فشب خطيبا مصقعا مفوها فصيحا بليغا ،
وكذا قال الإمام أبو عمرو بن العلاء التميمي رحمه الله ( أحد شيوخ اللغة ، وتنسب إليه إحدي قراءات القرآن السبع ) :
ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج .
وهذا الأمر شيء بدهي منطقي ، فكلاهما تردد علي أئمة العلم والفقه من الصحابة والتابعين من مثل ابن عباس وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم أجمعين .
على أنه قد قال بعضهم : إن الحجاج كان دباغا ،
وبعضهم قال : إنه كان يبيع الزبيب .
ولكن ما يرجح أنه كان معلما للصبية ،ما جاء على لسان الشاعر حين قال :
أينسى كليب زمان الهزال … وتعليمه سورة الكوثـر
رغيـف لـه فلـك دائـر … وآخر كالقمر المزهـــر
أي أن أرغفة الخبز التي كانت تقدم له باعتباره معلما ، كانت مختلفة بين الصغر والكبر ، على قدر بيوت الصبيان ،
وهذا يؤكد علي أن اسمه كان كليبا أيضا .
والتحق الحجاج في بداية حياته بوظيفة في شرطة روح بن زنباع ، وكان هذا بمثابة الوزير لعبد الملك بن مروان ،
فشكا عبد الملك إلى روح تباطؤ الجند وتوانيهم عن طاعته ،
فقال له روح : ان في شرطتي رجلا ، لو قلده أمير المؤمنين أمر عسكره ، لم ير فيهم خلافا أو توانيا ، وهو الحجاج ،
فقال عبد الملك : قد قلدناه ،
وصدق روح فيما قال ،،،،
وإذن فإن مواهب الحجاج في شرطة روح بن زنباع هي التي رشحته لينال منصب أمير العسكر ، ثم الترقي من بعد ذلك إلى ولاية اليمن ،
ولكن يهمنا الإشارة إلى أمر مهم ،
ذلك أن تلك الترقيات ما كانت لترقي إلي المستوى الذي تصبو إليه نفس الرجل ، ولا تتناسب مع استعداداته ،
وإن شئت الدقة ، فقل إنها لاتتناسب مع طموحاته . .
وقبل أن نمضي مع تطورات الأحداث فيما بعد ذلك ، علينا أن نجيل النظر في تلك الظروف التي كانت سائدة آنذاك ، لأنها ستكشف لنا بجلاء عن إرهاصات كانت تتطلب رجالا ممن يطلق على وصفهم ( رجال الساعة ) ،،،
هؤلاء الذين أهَّلتهم الظروف المواتية ، ومكنتهم استعداداتهم الفطرية من الاضطلاع بدور ( رجل الساعة ) ،،،
فعبد الملك بن مروان ، وهو من عظماء الرجال الذين يصنفون من مؤسسي الدول ، هو من الآحاد في هذا الصدد ، إلا أنه يحتاج إلي رجل مثل الحجاج ، يقعّد له القواعد ، ويرسى له الأسس ، في إخلاص ودأب ،،،،
وبذا يصنف في رأي كثيرين من المؤرخين بأنه رجل الساعة آنئذ .
كانت الدولة الإسلامية في محنة من أشد المحن في بداية عهد عبد الملك بن مروان في عام 68هـ ،،،
إذ كانت الدولة الإسلامية تتجاذبها أطراف أربعة ، كل منها يشدها تجاهه وناحيته ، بكل ما أوتى من أسباب ،،
ولعل الصورة تتضح أكثر وأكثر ، إذا نظرنا إلى موسم الحج في هذه السنة ،
( أي 68 هـ )،،،
ففي هذا الموسم ، أدى المسلمون فريضة الحج تحت ألوية أربعة :
1 ـ لواء الدولة الأموية التي تحكم من دمشق نسبة إلى عبد الملك بن مروان .
2 ـ لواء الدولة الزبيرية التي تحكم من مكة المكرمة نسبة إلى عبد الله بن الزبير
3 ـ لواء الشيعة بزعامة محمد ( بن الحنفية ) بن علي بن أبي طالب .
4 ـ لواء الخوارج بزعامة ( نجدة الحروري ) فيمن يسمون بالنجدات .
نعم ،، كانت لواءات أربعة ، في موسم الحج في تلك السنة ،
وهو أمر له دلالاته التي لاتخفي ،،
ومن ثم ، فالتنافس بين أصحاب تلك الألوية يأتي في مقدمة النتائج .
إلا أن التفاوت في قدراتها وتصنيفها معلوم واضح ،،
علي أن أقوى هؤلاء المتنافسين ، ذلك الذي شكل أكبر خطورة واجهها عبد الملك بن مروان ،، إنما هو عبد الله بن الزبير .
فقد كان ابن الزبير في هذا الأوان زعيما بايعه قوم ، فاعتبر نفسه أحق بالخلافة من عبد الملك بن مروان .
وإذن فهناك خليفتان أو زعيمان في وقت واحد ،،،،
أحدهما في مكة هو عبد الله بن الزبير بن العوام الأسدي ، وقد تجمعت حوله أطراف كثيرة ،،،
والآخر في دمشق هو عبد الملك بن مروان الأموي ،،،
تجمعت حول ابن الزبير مكة والمدينة أي ( الحجاز ) ، وأتته البيعة من البصرة والكوفة وكذا من اليمن ومن خراسان ، ومن بعض أهل مصر ، في مقابل ما تجمع حول عبد الملك من الشام وبعض أهل مصر فقط ،
فأين هذا من ذاك ؟
هذه واحدة .
أما الثانية ،، فكما أشرنا أنفا ،
هناك الخوارج النجدات في جزيرة العرب في نجد ،
وهناك أيضا الخوارج الأزارقة بقيادة نافع بن الأزرق في الأهواز ، وآخرون في اليمامة والبحرين وحضرموت .
وهناك الشيعة في الكوفة في العراق ، ملتفين حول إمامهم الذي يعتقدون أنه لا يوجد من ينازعه في حقه الأقدس .
وعلينا ألا نغفل عدوا متسترا لعبد الملك من نفس بني أمية في الشام ، أولئك الذين في نفوسهم من بني أبيهم ما فيها .
كل هؤلاء ضد عبد الملك بن مروان داخل البلاد الإسلامية .
أما في خارجها ، فهناك المتربصون :
الروم في شمال البلاد وغربها ، يتحينون الفرصة للوثوب والانتفاض على دولة الإسلام من الشمال ومن الغرب .
وهناك الهنود والترك والخزر ، وغيرهم في الشرق يتحينون الفرصة كذلك .
لذا ،،، فقد قرر عبد الملك أن يتمسك بما لديه من الشام وبعض مصر ، وأن يخطط سياسيا قبل أن يخطط حربيا .
كما قرر في الوقت نفسه أن يترك حلبة الصراع للمتنافسين الآخرين ، فيقضي بعضهم على بعض .
ترك التناوش والصراع يحتدم بين أتباع ابن الزبير وبين الشيعة .
وكذلك ترك الأمر بين الخوارج وبين أتباع ابن الزبير يضعف بعضهما بعضا ،،،
واستمر هذا الحال قرابة خمس سنوات ، يتقدم عبد الملك تقدما حثيثا نحو تثبيت ملكه ، فيكسب الجولة بعد الجولة ، من قنسرين إلى قرقيسيا ، حتي انتصر جيشه على مصعب بن الزبير ، فبايعه جند العراق في آخر الأمر .
وإذن فقد حاز عبد الملك العراق إلى جانب الشام ومصر ، ولم يتبق أمامه إلا الحجاز ( مكة والمدينة ) ،،،
وليس أمامه ساعتئذ إلا المنافس الوحيد العائذ بالحرم ، فمن يوجهه إليه ؟
ومن ذا الذي يثق فيه لهذه المهمة الجليلة ؟
إنه الحجاج ،،،،،
ولم الحجاج بالذات ؟
لنجاحه بتفوق فيما اجتازه من اختبارات أكدت على مواهبه ، وأبانت عن استعداداته الخارقة ،،،،،
البداية ،، أن عبد الملك أراد أن يخرج لقتال زفر بن الحارث الموالى لابن الزبير ، وقد تحصن زفر هذا بحصن قرقيسيا المنيع بأبراجه ،
وكانت خطوة أخيرة قبل دخول العراق مباشرة ، ولكن الجنود توانوا عن طاعته ، وتباطئوا ، فاستشار عبد الملك روح بن زنباع فى ترشيح رجل يناسب ذلك الظرف ،، ( رجل الساعة ) ،،
فأشار بالحجاج ،،،
وصدقت نبوءة الرجل أيما صدق .
فما أن تقلد الحجاج منصبه ، حتى خرج من عند عبد الملك ، مارا بالجند ، بعد رحيل العسكر ، فلم يجدهم ارتحلوا ــ بعضهم ممن استمسك بإظهار روح الخلاف ــ فما كان من الحجاج إلا أن هدم عليهم خيامهم ، بل وأحرقها بما فيها ، فصرخوا وأسرعوا إلى قائدهم روح ليشكوا إليه .
وبلغ الخبر عبد الملك ، فأتى بالحجاج ، وقال له :
من فعل هذا بغلمان روح ؟
فقال الحجاج ، في ثبات مفاجئ : أنت يا أمير المؤمنين ،
قال : كيف ؟
قال : أمرتنا بالاجتهاد فيما ولينا ، ففعلنا ما أمرت ، وبهذا يرتدع من بقى من العسكر ،،،،
فأعجب عبد الملك برأيه ، ورباطة جأشه ، وأقره على عمله .
فلما فتح عبد الملك العراق ، وولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة ، وولى خالد بن عبد الله الأموي على البصرة ، ليتولى حرب الخوارج ، قرر أن يرسل الحجاج إلى ابن الزبير في مكة .
ويخرج الحجاج بثلاثة آلاف جندي إلى مهمته التي وقف عندها التاريخ وقفة طويلة ،
ووصل الحجاج الطائف ، ثم بدأ حصاره عبد الله بن الزبير في مكة ، في أول ذي القعدة من سنة 72 هـ ،
وأمده عبد الملك بجيش احتل المدينة في طريقه إلى مكة، ثم انضم إلى جيش الحجاج .
وطال حصار الحجاج لمكة ، حتى بلغ سبعة شهور ، فنضب الزاد ، وملَّ الناس الحصار من بعد أن جهدهم جهدا كبيرا ، فعرض الحجاج الأمان على أهل مكة من جند ابن الزبير ، فخرج كثيرون ، بل خرج أكثرهم .
وفكر الحجاج في أن يضرب الكعبة بالمنجنيق ، ليقضي على ابن الزبير ، ونفذ فكرته آخر الأمر ، وقامت المعركة غير المتكافئة ، وقتل عبد الله بن الزبير فيها بعد أن أبلى بلاء حسنا ، أظهر فيها من الشجاعة والصبر ، ما يجعله بحق من الخالدين ، فضلا عما كان يتحلى به من النسك والزهد والعفاف .
كان هذا اليوم هو يوم الثلاثاء لسبع عشرة مضت من جمادى الأولى من سنة 73 هـ ،
ولم يكتف الحجاج بقتل ابن الزبير ، بل أمر به فصُلب ،
وظل هكذا حتى قالت أمه أسماء ( ذات النطاقين ) رضي الله عنها وأرضاها :
أما آن لهذا الفارس أن يترجّل ؟
ودعيت إلى الصبر عليه ، فقالت :
وماذا يمنعني من الصبر ، وقد أهدى رأسي يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل .
فقال الحجاج : المنافق ؟ [ يقصد ابن الزبير ]
فقالت في ثبات ورباطة جأش فريد ، وكانت عجوزا طوالة ، قد كف بصرها :
والله ما كان منافقا ، ولكنه كان صواما قواما وصولا ،
فقال الحجاج : انصرفي ، فإنك عجوز قد خرفت ،
فقالت : والله ما خرفت ، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج من ثقيف كذاب ومبير ،
أما الكذاب فقد رأيناه ، وأما المبير فأنت ،
( تعني بالكذاب المختار بن أبي عبيد الثقفي ) .
والأمر في ابن الزبير باعتباره منافسا قويا لعبد الملك بن مروان في أمر الخلافة وسياسة الناس لا يقلل من صلاحه وتقواه ،،،
بل إن عبد الملك نفسه قال عن عبد الله بن الزبير :
وإن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير القيام ، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائسا ،
وهكذا تمضي الأحداث الهائلة ، وتثبت المُلك لعبد الملك بن مروان ، بالقضاء على عبد الله بن الزبير ، فيضم الحجاز إلى الشام ومصر والعراق ، ويبايعه وجوه القوم في الحجاز وغيرها ، وعلى رأسهم عروة بن الزبير أخو عبد الله ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومحمد بن الحنفية ، والمهلب ابن أبي صفرة ، وتأتيه البيعة من أهل خراسان ، تجديدا لبيعة قد سبقت .
وبقى الحجاج واليا لعبد الملك بن مروان على الحجاز ( مكة والمدينة ) حتى 75هـ ،،
ولكنه في هذه الفترة ــ علي قصرها ــ ملّ المكوث ، واشتاق إلى الدماء ، واستصغر ولاية الحجاز ،
هذا بالإضافة إلى عاملين آخرين هامين :
أولهما ، أن بشر بن مروان قد توفى ، وكان أميرا على الكوفة من قبل أخيه الخليفة عبد الملك ،،
أما العامل الثاني ، فيتمثل في أن العراق كان حينذاك مجمعا للأحزاب والفرق والعصبيات المختلفة ، ومهدا للفتن والإضرابات .
فالخوارج على أبواب البصرة يهددونها ، والكوفة تتأجج بالثورة والإضطراب وهما المصران العراقيان الكبيران .
وإذن فليس للعراق إلا رجل الساعة ،،،، الحجاج .
كتب الحجاج إلى عبد الملك :
لقد حزتُ الحجاز بشمالي ، وبقيت يميني فارغة ،،،،
وفهم عبد الملك مراد الحجاج ، الذي جاءت ساعتُه ، وحان أوان دوره ، فأصدر على الفور أمرا بتعيين الحجاج واليا على العراق .
وهنا بدأت صفحة جديدة من حياة الحجاج الدموية ، سعيدا بها ، متطلعا إليها ، وهو يعلم أن بالعراق كثيرا من الخوارج ، و أيضا فيها شيعة الإمام علي كرم الله وجهه ، وفيها أيضا الموالون للفرس منذ القدم ،
وكلها أمور تدعو إلى أن يكون والي العراق قويا شديدا صارما حازما .
ولا شك فى أن الحجاج في مواجهة أمور العراق ، كان يحدث نفسه قائلا وبصدق : أنا لها ، أنا لها ،،
ولم لا ؟ ،،،،
وهو الذي أقدم فيما سبق على رمي الكعبة بالمنجنيق ؟؟؟
وإذن فإن الحجاج لم يكن بين جنبيه قلب انسان من ذرية آدم ، وإنما كان جلمود صخر حقيقي ، مثله الأعلى في أهل العراق ، واليها فيما سبق [ زياد بن أبيه ] ،،،،
ذلك الذي قال في خطبة شهيرة مشهورة :
وإني أقسم بالله ، لأخذن الولي بالمولى ، والمقيم بالظاعن ، والمقبل بالمدبر ، والمطيع بالعاصي ، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم ، حتى يلقى الرجل منكم أخاه ، فيقول : انج سعد ، فقد هلك سعيد ، أو تستقيم لي قناتكم .
ويذهب الحجاج إلى الكوفة في غير موكب ، ويدخل المسجد ، ويصعد المنبر ، وهو معتم بعمامة ، غطى بها وجهه ، وكان اليوم يوم جمعة ، وجلس صامتا لا يتكلم ، حتى كثر اللغط بين الناس في المسجد ، وقيل :
قبح الله بني أمية ، تستعمل مثل هذا على العراق .
لقد كانوا يجهلون الرجل ،،،،،،،،،
ويقف الحجاج وقد حسر اللثام عن وجهه قائلا :
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا *** متى أضع العمامة تعرفوني
( تمثل الحجاج في هذا الموقف بهذا البيت من الشعر الذي ينسب إلى سحيم بن وثيل الرياحي )
وكانت هذه هي بدايته معهم ،
ثم قال :
والله يا أهل العراق ، إني لأرى رؤوسا قد أينعت ، وحان وقت قطافها ، وإني لصاحبها ، وكأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحي .
إن أمير المؤمنين – أطال الله بقاءه – نثر كنانته بين يديه ، فعجم عيدانها ، فوجدني أمرها عودا ، وأصلبها مكسرا ، فرماكم بي ، لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة ، واضطجعتم في مراقد الضلال ،،
والله لأحزمنكم حزم السلمة ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل .
ثم خرج من الكوفة وذهب إلى البصرة ، وهناك خطب فيهم قائلا :
أيها الناس ،، من أعياه داؤه ، فعندي دواؤه ، ومن استطال ماضي عمره ، قصّرت عليه باقيه ، إن الحزم والعزم سلباني سوطي ، وأبدلاني به سيفي ، فقائمه في يدي ، ونجاده في عنقي ، وذبابه قلادة لمن عصاني ،
والله لا آمرُ أحدَكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد ، فيخرج من الباب الذي يليه ، إلا ضربتُ عنقه .
[ ولنتوقف هنا قليلا ، لنتأمل بلاغة الحجاج الواضحة ، وفصاحته الظاهرة ] .
ولم يكن الحجاج بالرجل الذي يهدّد فقط ، إنما كان ينفّذ تهديده بكل حسم وحزم وصرامة وقسوة ، لا تأخذه شفقة على مضطر ، ولا رحمة بمعتذر ، ولانظرة إلي إرجاء ،،
وكأنه كما قيل عنه كان يتلذّذ بسفك الدماء ، وتجاوز الحدّ في البطش والتنكيل ، حتى بلغ الأمر بالناس في واسط ،
( وهي القرية التي بناها ومات فيها في عام 95 هـ ) ،،
صاروا إذا تلاقوا في المجالس أو المساجد أو الأسواق يتساءلون فيما بينهم :
من قُتل البارحة ؟ ،، ومن صُلب ؟ ،، ومن قُطع ؟
ويا لها من أسئلة تشير من قريب إلي ما آل إليه حال البلاد والعباد في زمن الحجاج الثقفي ،،
وظل الحجاج مستوليا على العراق عشرين سنة ، ( 75 هـ ــ 95 هــ ) ، متفانيا في ولائه للدولة المروانية ، مدونا على صفحات التاريخ أسطرا من نار ، خلدت اسمه في كتاب الجبارين في الأرض .
روي في مروج الذهب ما يأتى :
وفد الحجاج على الوليد بن عبد الملك ، و كانت عليه درع وكنانة وقوس عربية ، وقد تفضل الخليفة الوليد – آنذاك – في غلالة ، فجاءت جارية وسارّت الوليد ومضت ،
ثم عادت فسارّت الوليد مرة أخرى ، ثم انصرفت .
فقال الوليد للحجاج : أتدري ما قالت هذه يا أبا محمد ؟
قال : لا والله ،
قال : بعثتها إلىّ ابنة عمي أم البنين ، تقول :
ما مجالستك لهذا الأعرابي المتسلح في السلاح ، وأنت في غلالة ؟
فأرسلت إليها : إنه الحجاج ،
فراعها ذلك ، وقالت : والله ما أحبّ أن يخلو بك ، وقد قتل الخلق .
وأشار صاحب أسد الغابة رحمه الله تعالى إلى أن الحجاج ختم أنس بن مالك رضي الله عنه في عنقه ، وجابر بن عبد الله رضي الله عنه في يده ، وسهل بن سعد رضي الله عنه في عنقه ، يريد إذلالهم .
ولعل رضا عبد الملك بن مروان عن كل ما كان يصنعه الحجاج ، كان بلا شك هو الأساس الذي بنيت عليه ، وتجلّت من خلاله صورة شخصية الحجاج ،،،
مع ملاحظة أن عبد الملك كان يكتب إلي الحجاج :
جنبني دماء بني عبد المطلب ، فإني رأيت بني حرب أصابوها ، فلم يمهل لهم
( عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ،،،، وحرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ) .
بل إن عبد الملك أقرّ حين حضرته الوفاة بفضل الحجاج على دولة بني مروان ،
إذ تخبرنا الروايات التاريخية عن عبد الملك حين مرض ، وأحسّ بدنوّ أجله ، أنه جمع بنيه حوله ليوصيهم ،، وقال لهم :
[ أوصيكم بتقوى الله ، فإنها أزين حلة ، وأحصن كهف ، ليعطف الكبير منكم على الصغير ، وليعرف الصغير حق الكبير ، وانظروا مسلمة ( يقصد مسلمة ابنه رحمة الله عليه ) ، فأصدروا عن رأيه ، فإنه نابكم الذي عنه تفترون ، ومجنكم الذي عنه ترمون .
وأكرموا الحجاج ، فإنه الذي وطّأ لكم المنابر ، ودوّخ لكم البلاد ، وأذلّ الأعداء وكونوا بني أم بررة ، لا تدبّ بينكم العقارب ، وكونوا في الحرب أحرارا ، وكونوا للمعروف منارا ، فإن المعروف يبقى أجره وذكره ، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب ، فإنهم أصون له ، وأشكر لما يؤتى إليهم منه ، وتعهدوا ذنوب أهل الذنوب ، فإن استقالوا فأقلوهم ، وإن عادوا فانتقموا ] . آهـ
(ذكر المؤرخون أنه لم يكن لعبد الملك بن مروان ولد ، أسدّ رأيا ، ولا أذكي عقلا ، ولا أشجع قلبا ، ولا أسخي كفّا من مسلمة بن عبد الملك ، ولكنهم تركوه ، ولم يولّوه الخلافة ، لأنه ابن أمة ، ولأن بني أمية كانت لا تستخلف بني الإماء ) ،
ولعل عبد الملك بن مروان – بسيرته وعلمه وفقهه ومنصبه ، وهو واحد من مؤسسي الدول وعظمائهم – كان راضيا عن أعمال الحجاج تجاه أعدائه ،
أو لعله لم يكن على بصيرة كاملة ، بما وصل إليه الحجاج من بطش وقهر ،
أو لعله كان يعلم ،، ولكنه ضعف عن التغيير في مرحلة من المراحل ،
أو لعله كان كل ذلك ،،
أما أقاربه وبنو عمومته ، فقد كان لهم وصولا ، يعرف ما لهم من حقوق ، وما لكل منهم من فضل ، بل وكان يوصى الحجاج بوصلهم ، وحسن جوارهم وإكرامهم ،
وأقر ذلك لمحمد بن الحنفية رضي الله عنه في رسالة ، حينما جاءته بيعة ابن الحنفية ، إذ ردّ عليها قائلا :
فلك العهد والميثاق ، وذمّة الله وذمّة رسوله ، أن لا تُهاج ، ولا أحد من أصحابك بشيء تكرهه ، ارجع إلى بلدك ، واذهب حيث شئت ، ولست أدع صلتك وعونك ما حييت .
وهكذا كان الأمر مع بني العباس ،،، فقد أرسل إليه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما ابنه عليا ليبايعه ،
وقد ظل هذا مع عبد الملك إلى جواره ، وخرج معه لقتال مصعب بن الزبير ، فكانت صلته ببني العباس أكرم صلة .
هذا وقد شهد لعبد الملك بالعلم والفقه من أكثر من جهة ذات شأن وقدر ،
إذ قال أبو الزناد :
كان فقهاء المدينة أربعة : سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وقبيضة بن ذؤيب وعبد الملك بن مروان ،
وشهد لعلمه وفقهه عالم العراق الكبير الإمام الشعبي ،،،
قال :
ما ذاكرتُ أحدا إلا وجدتُ لي الفضل عليه ، إلا عبد الملك بن مروان ، فإني ما ذاكرتُه حديثا إلا زادني فيه ، ولا شعرا إلا زادني فيه .
وشهد ابن خلدون أن الإمام مالك احتج في " الموطأ " بعمل عبد الملك بن مروان ، وبأنه أعظم الناس عدالة ، حتى إن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر بايعاه من دون عبد الله بن الزبير ، الذي يساكنهم في الحجاز .
فإذا رجعنا إلى الحجاج قطب رحانا ، وبيت قصيدنا ،،،
نجد أن صاحب كتاب ( حضارة الإسلام في دار السلام) ، يخبرنا عن وصفه جسمانيا بقوله :
كان الحجاج قوي البنية ، مائلا إلى السِّمَن ، ولا يزال العرق متصببا على جبينه وصدغيه من تحت القلنسوة التي حوطها بعمامة خضراء ،
ويقول :
وكانت له مهابة تقصم الوافدَ عليه ، وكان شديد التهويل في خطبه ، وإذا صعد المنبر ، تلفع بمطرفة ، ثم تكلم رويدا رويدا ، فلا يكاد يسمع ، حتى يتزايد في الكلام ، فيخرج يده من مطرفته ، ثم يزجر الزجرة ، فيفزع بها من في أقصى المسجد .
روي الإمام الشعبي رحمه الله تعالى ،، قال :
كنت بواسط ، و كان يوم أضحى ، فحضرت صلاة العيد مع الحجاج ، فخطب خطبةً بليغة ، فلما انصرف جاءني رسوله فأتيته ، فوجدته جالساً مستوفزاً ،
قال :
يا شعبي ،، هذا يوم أضحى ، و قد أردت أن أضحِّي برجل من أهل العراق ،
و أحببتُ أن تسمع قوله ، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به .
فقلت : أيها الأمير ، لو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و تضحي بما أمر أن يضحي به ، وتفعل فعله ، و تدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره .
فقال : يا شعبي ، إنك إذا سمعتَ ما يقول صوّبتَ رأيي فيه ، لكذبه على الله وعلى رسوله ، وإدخاله الشبهة في الإسلام .
قلت : أفيرى الأمير أن يعفيني من ذلك ؟
قال : لا بدّ منه .
ثم أمر بنطع فبُسط ، و بالسيّاف فأُحضر ، وقال : أحضروا الشيخ ، فأتوه به ،
فإذا هو يحيى بن يعمر ، فأغممت غماً شديداً ، وقلت في نفسي : وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله ؟
فقال له الحجاج : أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟
قال يحيى : أنا فقيه من فقهاء أهل العراق .
قال : فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين رضي الله عنهما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال : ما أنا زاعم ذلك ، بل قائل بحق .
قال : وبأي حق قلت ؟
قال : بكتاب الله عز وجل .
فنظر إليَّ الحجاج ، وقال : اسمع ما يقول ، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه ، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فجعلت أفكر في ذلك ، فلم أجد في القرآن شيئاً يدلّ على ذلك .
و فكر الحجاج ملياً ، ثم قال ليحيى : لعلك تريد قول الله عز وجل :
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدعُ أَبْناءَنا وَ أَبْنَاءَ كم وَ نِساءَنا و نِساءَ كُم وأنفُسَنا وأنفُسَكم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنةَ اللهِ عَلَى الكاذبينَ } ،،،
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم .
قال الإمام الشعبي :
فكأنما أهدى لقلبي سروراً ، وقلت في نفسي : قد خلص يحيى ، وكان الحجاج حافظاً للقرآن .
فقال له يحيى : والله ، إنها لحجة في ذلك بليغة ، ولكن ليس منها أحتج لما قلت .
فاصفرَّ وجه الحجاج ، وأطرق ملياً ، ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال :
إن جئتَ من كتاب الله بغيرها في ذلك ، فلك عشرة آلاف درهم ، وإن لم تأتِ بها فأنا في حلٍ من دمك .
قال : نعم .
قال الإمام الشعبي :
فغمَّني قوله ، وقلت : أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتجّ به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه ، ويتخلص منه حتى ردّ عليه وأفحمه ، فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته ، لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو .
فقال يحيى للحجاج :
قول الله عزّ وجلّ { وَ مِن ذُرِّيتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ } ،،، من عنى بذلك ؟
قال الحجاج : إبراهيم ( عليه السَّلام ) .
قال : فداود وسليمان من ذريته ؟
قال : نعم .
قال يحيى : و من نصّ الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟
فقرأ يحيى : { وَ أَيّوبَ وَ يوسُفَ وَ موسى وَ هارونَ وَ كذلِكَ نَجْزي المُحسنينَ } .
قال يحيى : ومن ؟
قال : { وَزَكَريا وَ يَحيى وَ عِيسى } .
قال يحيى : ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم ( عليه السَّلام ) ، ولا أب له ؟
قال : مِن قِبَل أُمّه مريم ( عليهما السلام ) .
قال يحيى : فمن أقرب : مريم من إبراهيم ( عليه السَّلام ) ، أم فاطمة ( عليها السلام ) من محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) ؟
قال الإمام الشعبي : فكأنّما ألقمه حجراً .
فقال : أطلقوه قبَّحَه الله ، وادفعوا إليه عشرة آلاف درهم ، لا بارك الله فيها .
ثمّ أقبل عليَّ فقال : قد كان رأيك صواباً ولكنّا أبيناه ، و دعا بجزور فنحره ، و قام فدعا بالطعام ، فأكل و أكلنا معه ، وما تكلّم بكلمة حتى افترقنا ، ولم يزل ممّا احتجّ به يحيى بن يعمر واجماً .
وتوفي الحجاج في شهر رمضان في سنة 95 هـ في مدينة واسط ، ودفن فيها .
فإذا جاز لنا أن نتوقف عن المضي في الحديث عن الحجاج بن يوسف الثقفي ، فلا يجوز مطلقا أن نغفل عن الإشارة إلي ما كان له من أعمال اخري خالدة ، جديرة بأن تملأ الكفة الأخري من الميزان ، تثري سيرته الحافلة بجلائل الأعمال ، وروائع الفعال .
فقد جاء في ( تاريخ الإسلام ) للإمام الذهبي رحمه الله تعالي :
[ وقال إبراهيم بن هشام الغساني، عن أبيه، عن جده، أن عمر بن عبد العزيز قال:
ما حسدت الحجاج عدو الله على شيءٍ حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقولِه حين احتضر: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
وقال الأصمعي: قال الحجاج لما احتضر:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا *** بأنني رجلٌ من ساكني الـنـار
أيحلفون على عمـياءَ ويحـهـمُ *** ما علمهمْ بكثيرِ العفو سـتـار؟
فأخبر الحسن فقال: إن نجا فبهما.
وقال عثمان بن عمرو المخزومي: ثنا علي بن زيد قال: كنت عند الحسن، فأخبر بموت الحجاج، فسجد.
وقال حماد بن أبي سليمان: قلت لإبراهيم النخعي: مات الحجاج، فبكى من الفرح.
وقال ابن شوذب، عن أشعث الحداني قال: رأيت الحجاج في منامي بحالٍ سيئة، قلت: ما فعل بك ربُّك ؟
قال: ما قتلتُ أحداً قتلةً، إلا قتلني بها،
قلت: ثم مه.
قال: ثم أمر بي إلى النار،
قلت: ثم مه.
قال: ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله،
فكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له،
فبلغ ذلك الحسن ، فقال: أما والله ليخلفن الله رجاءه فيه ] . آهـ
ومع أن هذا الأثر عن الحسن فيه نظر ،، إلا أن المحصلة تشهد بأن شخصية الحجاج ( خارج التعسف وسفك الدماء ) كانت محل جدل واضح بين العلماء والمحققين والمؤرخين .
وانظر إلي ما صنع بأمره الشخصي ( في بعض الروايات ) من تشكيل القرآن الكريم ،،،
وأيضا إنفاذه جيش الفاتحين إلى بلاد الهند ....
(( مسلمون يخلدهم التاريخ ))
صلاح جاد سلام