فضاءات قوص

قوص

فضاء أعلام ورجالات وعوائل

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدة
الطيب الشنهوري
مسجــل منــــذ: 2013-10-27
مجموع النقط: 1188.8
إعلانات


مسلمة بن عبد الملك

المجاهد على الدوام ?? مسلمة بن عبد الملك ..

صيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط , وهذا واحد من أبناء الإسلام، يظل أكثر منخمسين عاما يحمل سلاحه، ويسدد رماحه، ويذود عن حمى الدين، ويصون حرمات المسلمين،إنه البطل القائد، الأمير الفاتح مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي
مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم روى الإمام البخاري معلقاً في باب الرماح عن ابن عمر: (3/1066) أن رسول الله قال: "جعل رزقي تحت ظل رمحي"[مسند أحمد بن حنبل (2/92)]. والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنىً -ترجو أن يكون صوابا من الله، وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان-، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل، والعامة تقول: "المال السايب يعلم السرقة" وكذلك قيل: "من لم يتذأب أكلته الذئاب".
فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره، وسكنه ووطنه، وزرعه وضرعه، وكل ما يحوزه ويملكه يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده، مستظلا بسلاحه ورماحه، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [سورة الأنفال :60]
وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها، ولكنها خطة يدفع بها بغي الباغين وظلم الظالمين، ولذلك قال الله - تعالى -في التنزيل المجيد: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة البقرة : 190]
وقال أيضا: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواعَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّاللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة الآية: 194].
وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط، أو على أرض الميدان، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجَّد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال، فقال: "خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها". [سنن الترمذي فضائل الجهاد (1652)، سنن النسائي الزكاة (2569)، موطأ مالك الجهاد (976)، سنن الدارمي الجهاد (2395)].
وهذاواحد من أبناء الإسلام، وأتباع محمد -عليه الصلاة والسلام- يظل أكثر من خمسين عامًا يحمل سلاحه، ويسدد رماحه، ويذود عن حمى الدين، ويصون حرمات المسلمين، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين، إنه البطل القائد، الأمير الفاتح أبو سعيد[1] مسلمة بن عبدالملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهرالنيل.
وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره، بل من أبطال الإسلام المعدودين، حتى كانوايقولون عنه أنه خالد بن الوليد الثاني؛ لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري: روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة: كان شجاعا صاحب همة وعزيمة، وله غزوات كثيرة[2].ويقول عنه ابن كثير: وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعٍ مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، وفي كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشدة بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه، وهذا مع الكرم والفصاحة.[3]، ويقول عنه صاحب العقد الفريد: ولم يكن لعبد الملك ابن أسد رأيا، ولا أزكي عقلا، ولا أشجع قلبا، ولا أسمع نفسا، ولا أسخى كفا من مسلمة[4].
ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده، وفيهم مسلمة، فكان مما قاله لهم عنه: يا بني،أخوكم مسلمة، نابكم الذي تفترون عنه، ومجنكم الذي تستجنون به، أصدروا عن رأيه[5].
ومع أن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي: كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته، وليست العبرة بالمناصب والمراتب، ولكنها بالإرادة والعزيمة، والإقدام، وعمق التفكير،وحسن الخلق.
وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء؛ لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام، مع الرأي والدهاء، ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين[6]، ظل يواصل الجهاد، ويتابع المعارك، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين, تولى عبد المَلك بن مُرْوان الخِلافة في رمضان سنة خَمْس وستين وتوفِّي سنة سِتِّ وثمانين[7] وظل مسلمةعلى هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة.
وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها:
في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم، وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم، ومعه يزيد بن جبير، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة، فقتل منهم بشرا كثيرا، وفتح الله على يديه حصونا.
وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم يسمى طوانة، في شهر جمادى الآخرة،وشتوا بها، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك، وهزم المسلمونأعداءهم، ويروى أن العباس قال لبعض من معه: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة،فقال له: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعا، فهزم الله أعداءهم.
وفي سنة ثمان وثمانين -أيضاً- غزا مسلمة الروم مرة أخرى، ففتح ثلاثة حصون، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة، وحصن الأخرم[8].
وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى، حيث فتح حصن سورية، وقصد عمورية،فوافق بها للروم جمعا كثيرا، فهزمهم الله، وافتتح هرقلة وقمودية.
وفي سنة تسع وثمانين -أيضاً- غزا مسلمة الترك، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان، ففتح حصونا ومدائن هناك.
وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة -ومعه عمر بن الوليد- أرض الروم، ففتح الله على يديمسلمة ثلاثة حصون، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم.
وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، فافتتح ماسة، وحصن الحديد، وغزالة، وبرجمة من ناحية ملطية[9].
*وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا، وفتح حصنا يقال له: حصن عوف.
وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية.
وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية، وطال الحصار، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة.[10]
وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها.
وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقين ثمأرمينية.
وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله[11].
وفي سنة عشر ومائة –أيضاً- قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوًا من شهر، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء، ورجع مسلمة سالماً غانماً، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة، وتوحل فيها خلق كثير، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالاً صعابًا وشدائد عظامًا[12].
وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان، وبث فيها الجيوش، وفتح مدائن وحصونا، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر[13].
وفي سنة ثلاث عشرة –أيضًا- توغل مسلمة في بلاد الترك، فقتل منهم خلقًا كثيراً، ودانتله تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها.[14]
وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم، ففتح حصن مطامير[15].
رواية الحديث عن الخليفة الخامس:
?????????????????????????
أرأيت ! إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات ،وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال، ومع ذلك كان عالما محدثا، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم: عبد الملك بن أبي عثمان، وعبد الله بن قرعة، وعيينة والد سفيان بن عيينة، وابن أبي عمران، ومعاوية بن خديج، ويحيي بن يحيي الغساني [16].
ويظهرأن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل، المخلص الأمين خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة، تكوينًا باهرًا رائعًا؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبرو التوفيق، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله، ووهبهم توفيقا ورشاداً.
ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ: جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيراً، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا[17].
وهذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين -رضوان الله تبارك وتعالى عليه-.
على فراش الموت بين مسلمة وعمر بن عبد العزيز:
ومن المواقف الخالدة الباقية بين مسلمة وعمر ما رواه ابن عبد ربه، وهو أن مسلمة بن عبدالملك، دخل على عمر بن عبد العزيز في المرض الذي مات فيه، فقال له: يا أميرالمؤمنين، إنك فطمت أفواه ولدك عن هذا المال، وتركتهم عالة، ولا بد لهم من شيءيصلحهم، فلو أوصيت بهم إلي أو إلى نظرائك من أهل بيتك لكفيتك مئونتهم إن شاء الله.
فقال عمر: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: الحمد لله، أبالله تخوفني يا مسلمة؟ أما ما ذكرت أني فطمت أفواه ولدي عن هذا المال وتركتهم عالة، فإني لم أمنعهم حقا هو لهم، ولم أعطهم حقا هو لغيرهم، وأما ما سألت من الوصاة إليك أو إلى نظرائك من أهل بيتي، فإن وصيتيبهم إلى الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجلا تقى الله، فجعل الله له من أمره يسرا، ورزقه من حيث لا يحتسب، ورجل غيَّر وفجر فلا يكون عمر أول من أعانه على ارتكابه، ادعوا لي بني. فدعوهم، وهم يومئذ اثنا عشر غلاما، فجعل يصعد بصره فيهم ويصوبه، حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم قال: بنفسي فتيةتركتهم ولا مال لهم، يا بَني، إني قد تركتكم من الله بخير، إنكم لا تمرون على مسلم ولا معاهد إلا ولكم عليه حق واجب إن شاء الله، يا بَني، ميلت رأيي بين أن تفتقروا في الدنيا، وبين أن يدخل أبوكم النار، فكان أن تفتقروا إلى آخر الأبد خيرا من دخول أبيكم يوما واحدا النار. قوموا يا بني عصمكم الله ورزقكم.
فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر[18].
وكان مسلمة يظهر نعمة الله - تعالى -، ومن شواهد ذلك أنه دخل على عمر بن عبد العزيزوعليه ريطة من رياط مصر (أي ثوب رقيق ناعم). فقال له عمر: بكم أخذت هذا يا أباسعيد؟
أجاب مسلمة: بكذا وكذا.
قالعمر: فلو نقصت من ثمنها ما كان ناقصا من شرفك.
فأجاب مسلمة: إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجِدة، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة، وأفضل اليد ما كان بعد الولاية[19].
ولقدكان مسلمة رجلا معطاء، ولقد قال يوما لنصيب الشاعر: سلني. قال: لا، قال: ولم؟ قالنصيب:
لأنَّكفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان.
وكان مسلمة مع تقواه وحرصه على الصلاة رجلا يحب العفو ويحبب فيه، ولقد حدث بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين ابن هبيرة ما دعا إلى إهدار دمه، ولكن خادما لمسلمة يحدثنافيقول: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم الليل فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح، فيدخل على أميرالمؤمنين، فإني لأصب الماء على يديه من آخر الليل وهو يتوضأ، إذ صاح صائح من وراءالرواق: أنا بالله وبالأمير: فقال مسلمة -في دهشة-: صوت ابن هبيرة، اخرج إليه.
فخرجت إليه ورجعت فأخبرته، فقال: أدخله، فدخل فإذا رجل يميد نعاسا، فقال: أنا بالله وبالأمير.
قال:أنا بالله، وأنت بالله.
ثم قال: أنا بالله، وأنا بالأمير.
قال مسلمة: أنا بالله، وأنت بالله.
حتى قالها ثلاثا، ثم قال: أنا بالله. فسكت عنه، ثم قال لي: انطلق به فوضئه وليصلِّ، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به، وافرش له في تلك الصفة - لصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام.
فانطلقت به فتوضأ وصلى، وعرضت عليه الطعام فقال: شربة سويق، فشرب، وفرشت له فنام، وجئت إلى مسلمة فأعلمته، فغدا إلى هشام فجلس عنده، حتى إذا حان قيامه قال: يا أميرالمؤمنين، لي حاجة.
قال هشام: قُضيتْ، إلا أن تكون في ابن هبيرة.
قالمسلمة: رضيت يا أمير المؤمنين.
ثم قام مسلمة منصرفا، حتى إذا كاد أن يخرج من الديوان رجع فقال: يا أمير المؤمنين، ماعودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك أحدثت علي الاستثناء.
قال هشام: لا أستثني عليك.
قالمسلمة: فهو ابن هبيرة.
فعفا عنه هشام[20].
ومن ملامح شخصية مسلمة أنه كان يعرف للفصحى مكانتها، وللبيان السليم منزلته، وكانيقول: اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه[21].
وكان يقول أيضا: مروءتان ظاهرتان: الرياسة والفصاحة[22].
ومن كلماته قوله: ما أخذت أمرا قط بحزم فلمت نفسي فيه، وإن كانت العاقبة عليَّ، ولا أخذت أمرا قط، وضيعت الحزم فيه، فحمدت نفسي وإن كانت لي العاقبة[23].
وكان مسلمة يحب أهل الأدب، وأوصى لهم بثلث ماله، وقال: إنها صنعة جُحف أهلها[24]. أي سلبهم الناس حقهم.
وكذلك كان يعرف للشعراء مكانتهم وحقهم، ولقد تحدث كثير عزة فقال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن عبد العزيز وكل واحد منا يَدِلُّ عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك أن سيشركنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام "خناصرة" [بلدة من أعمال حلب]لقينا مسلمة بن عبد الملك، وهو يومئذ فتى العرب، فسلمنا فرد، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟ قلنا: ما توضح إلينا خبرا حتى انتهينا إليك!، ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا.
قال:إن يكن ذو دين بني مروان قد ولي وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنيانا قد بقي، ولكم عندي ما تحبون، وما ألبث حتى أرجع إليكم، وأمنحكم ما أنتم أهله.
فلماقدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل عليه[25].
وكان مسلمة يعرف للعلماء كذلك أقدارهم، ويهدي إليهم، وكان يهدي إلى الحسن البصري، وأهدىإليه ذات مرة خميصة لها أعلام، فكان الحسن يصلي فيها[26].
وكان يتقدم بالنصيحة في موطنها، ولقد لاحظ على أخيه يزيد بن عبد الملك نوعا من اللهو و هو في الخلافة، فنصحه وذكره بسيرة عمر بن عبد العزيز وقال له فيما قال: إنما ماتعمر أمس، وقد كان من عدله ما قد علمت، فينبغي أن تظهر للناس العدل، وترفض هذا اللهو، فقد اقتدى بك عمالك في سائر أفعالك وسيرتك[27].
ومن أروع المشاهد المأثورة المذكورة في سيرة البطل الفاتح مسلمة بن عبد الملك التي يجب أن نطيل فيها التأمل والاعتبار، إن كنا من أصحاب القلوب والأبصار، أن مسلمة كان يحاصر ذات يوم حصنا، وما أكثر الحصون التي حاصرها، وما أكثر الحصون التي اقتحمها باسم الإسلام والمسلمين! واستعصى فتح الحصن على الجنود، فوقف مسلمة يخطب بينهم ويقول لهم ما معناه: أما فيكم أحد يقدم فيحدث لنا نقبا في هذا الحصن؟.
وبعدقليل تقدم جندي ملثم، وألقى بنفسه على الحصن، واحتمل ما احتمل من أخطار وآلام، حتى أحدث في الحصن نقبا كان سببا في فتح المسلمين له، وعقب ذلك نادى مسلمة في جنوده قائلا: أين صاحب النقب؟.
فلم يجبه أحد، فقال مسلمة: عزمت على صاحب النقب أن يأتي للقائي، وقد أمرت الآذن بإدخاله علي ساعة مجيئه.
وبعدحين أقبل نحو الآذن شخص ملثم، وقال له: استأذن لي على الأمير، فقال له: أأنت صاحب النقب؟.
فأجاب:أنا أخبركم عنه، وأدلكم عليه، فأدخله الآذن على مسلمة، فقال الجندي الملثم للقائد:إن صاحب النقب يشترط عليكم أمورا ثلاثة: ألا تبعثوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة،وألا تأمروا له بشيء جزاء ما صنع، وألا تسألوه من هو؟. فقال مسلمة: له ذلك، فأين هو؟ فأجاب الجندي في تواضع واستحياء أنا صاحب النقب أيها الأمير، ثم سارع بالخروج.
فكان مسلمة بعد ذلك لا يصلي صلاة إلا قال في دعائها: اللهم اجعلني مع صاحب النقب يوم القيامة[28].
وبعدما يزيد عن نصف قرن من الزمان قضاها مسلمة بن عبد الملك في قتال ونضال، وكفاح وحمل سلاح، مضى إلى ربه سنة إحدى وعشرين ومائة، لينال ثوابه مع أهل التقوى وأهل المغفرة{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [سورة القمر 54 : 55] وهو الذي سأله أخوه هشام: هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ فقال: ما سلمت في ذلك من ذعر ينبه على حيلة، ولم يغشني ذعر سلبني رأيي. فقال هشام: هذه والله البسالة[29].
توفي مسلمة يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة، في موضع يقال له:الحانوت، وقيل: سنة عشرين ومائة، وقيل: سنة ثنتين وعشرين ومائة.
ومن العجيب أن صاحب (النجوم الزاهرة) ذكر خبرين عن وفاته فذكر أولا أنه مات سنة عشرين ومائة.
ثم عاد بعد قليل فذكر أنه مات سنة ثنتين وعشرين ومائة، ولكن القول الأول أصح[30].
ولقد رثى الوليد بن يزيد بن عبد الملك عمه البطل مسلمة بن عبد الملك فقال في رثائه هذه الأبيات:
أقول وما البعد إلا الردى ** أمسلم، لا تبعدن، مسلمة
فقد كنت نورا لنا في البلاد ** مضيئا، فقد أصبحت مظلمة
ونكتم موتك نخشى اليقين ** فأبدى اليقين لنا الجمجمة!
رضوانالله- تبارك وتعالى -عليه.
المصادر ..
???????
[1] وقيل في كُنْيته أيضا : أبو الإِصْبع ، وقيل أبو شاكِر . ويقال إنَّ هذه كُنْيَةٌ لابنأخيه مَسْلَمة بن هِشام بن عبد المَلِك ( النجوم الزاهرة ج1ص289)
[2] المرجع السابق
[3]البدايةوالنهاية ج9ص328و329
[4] العقدالفريد، ج7 ص145
[5] مروج الذهبللمسعودي ج3ص161
[6] العبر ج1 ص154
[7] مُروجالذَّهَب ج3ص91
[8] انظر تاريخ الطبري، ج6 ص426، 429، 434، 436 على التوالي
[9] تاريخ الطبري: ج 6 ص439وص441وص469 على التوالي
[10]تاريخ الطبري ج6ص522و523و 530 و531 . على التَّوالي وفي البِداية والنِّهاية ج9 ص328 أن مَسْلمة لَقِي في حصاره القُسطَنطينِيَّة شِدة عَظيمَة وجاع المُسلِمون جوعا شديدافلما وَلِي عُمَر بن عبد العَزيز أرسَل إليهم البَريد يأمُرُهم بالرُّجوع إلى الشام فحَلَف مَسْلمة ألا يُقْلع عنهم حتى يَبْنوا له جامِعا كبيرا بالقُسْطنطينِية،فبَنَوْا له جامِعا ومَنارَة.
[11]تاريخ الطبري: ج7 ص43 و 54
[12] البدايةوالنهاية: ج9 ص 259
[13] تاريخ الطبري ج 7 ص 88.
[14] البداية والنهايةج9 ص304
[15] البداية ج9ص326
[16] البدايةوالنهاية ج9 ص328
[17 العقد الفريد ج3 ص183
[18] العقد الفريد ج5 ص 203
[19] العقد الفريد ج5 ص198
[20] العقد الفريد ج2 ص57 و 58
[21 عيون الأخبار ج2 ص 158
[22]عيون الأخبار ج1 ص296
[23] العقد الفريد ج1 ص 194
[24] البداية والنهاية ج9 ص329
[25] العقد الفريد ج1 ص314
[26] العقد الفريد ج1 ص211، والخميصة ثوب من الخز
[27]مروج الذهب ج3 ص196
[28]عيون الأخبار ج1 ص 172
[29]العقد الفريد ج1 ص 82
[30]انظر :البداية والنهاية ج9 ص329 : ، والعبر ج1 ص154 ، والأعلام ج8 ص122 : ، والنجوم الزاهرة ج 1 ( ص285 ثم ص 288 )

?‏د راغب السرجاني?


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة