مخير أم مسير ؟
القرآن معمار فريد.. نسيج وحده.. في الطريقة التي تصف بها الألفاظ في رصف خاص يفجر ما بداخلها من نغم، و هو نغم لا ينبع من حواشي الكلمات و أوزانها و قوافيها و إنما من باطنها بطريقة محيرة مجهولة تماما.. و بطريقة تؤدي إلى خشوع المستمع و إدراكه الغامض للمصدر الجليل الذي جاءت منه.
فنحن نصبح أسرى للقرآن بمجرد الاستماع إليه.. و قبل أن نتعقل كلماته، فإذا بدأنا نتأمل و نتعقل و نحلل و نعكف على الكلمات فسوف تنفتح لنا كنوز من المعاني و المعارف و الأفكار تحتاج إلى مجلدات لشرحها، و لذلك سوف أكتفي بوقفات قليلة أمام بعض المشكلات الأزلية.. كيف تناولها القرآن؟ و ماذا قال فيها؟
و أولاها مشكلة الحرية.
و الحرية ثغرة كبيرة يدخل منها الشك و يتسلل منها هواة الجدل من الملحدين.. فأول ما يقوله الواحد منهم ليقيم الحجة على الدين كله أن يهتف محتجا:
(( إذا كان الله قدر علي أفعالي. فلماذا يحاسبني؟ ))
(( و إذا كان كل شيء يجري في الدنيا بمشيئة الله فما ذنبي؟ ))
و السؤال يطرح معضلة بالفعل.
و قد أوصى النبي – صلى الله عليه و سلم – أصحابه بعدم الدخول في جدل.
و قال لهم إذا جاء ذكر القدر فأمسكوا..
لأنه علم أن المعضلة من المعضلات الفلسفية العالية التي لا يتيسر الرد عليها بعلوم عصره.. و أن الجدل سوف ينزلق بهم إلى متاهة يضيعون فيها.. و لذا فضل الإيمان بالقلب على الثرثرة العقلية العقيمة..
و هي وصية لا تنسحب تماما على عصرنا، الذي دخلت فيه الفلسفة الجامعات درسا ميسرا يتلقاه ابن العشرين كل يوم.
و بذلك أصبح السؤال مطروحا بشدة.. و في حاجة إلى جواب و رد شاف من الفلسفة و من الدين و من صميم القرآن ذاته.
و من النظرة المبدئية للعالم بما فيه من أرض و سماوات و نجوم و كواكب نرى أنه يقوم على سلسلة محكمة من الأسباب و المسببات، و أن كل شيء فيه يجري بنظام محكم.. و إن كان لديك ورقة و قلم فإنك تستطيع أن تحسب بالضبط متى تشرق الشمس و متى تغرب، لأنها تتحرك حسب قانون.. و كل شيء في الدنيا يتحرك حسب قانون.
إلا الإنسان.. فإنه يشعر بأنه يمشي ( على كيفه ).
الإنسان وحده هو الحر المتمرد الثائر على طبيعته و ظروفه، و لهذا يصطدم بالعالم و يصارعه.. و يستحيل في أي لحظة أن يتنبأ أحد بمصيره.
و حكاية الحتمية الداخلية التي تصورها ( فرويد ) فاعتبر الإرادة بسببها حرة في الظاهر لكن مقيدة في الباطن و أسيرة لجبرية الغرائز و آلية الحوافز الباطنة.. عاد هو ذاته فنقضها و قال: إن الغريزة هي خام غفل تتصرف فيه الإرادة بالكبت أو بالإطلاق أو بالتسامي.
و هكذا عادت الغريزة لتصبح مجرد ظرف تتحكم فيه الإرادة كما تتصرف الإرادة في الظروف الخارجية و تتحكم فيها.. و أصبحت الإرادة بهذا المعنى حقيقة متعالية متجاوزة للغرائز.
و بالمثل حكاية الحتمية الطبقية التي أثارها ( الماركسيون ) .. فاعتبروا كل إنسان ابن طبقته.. تحدد له طبقته حوافزه النفسية و عواطفه و رغباته و شخصيته السلوكية.. فهو يتصرف كنبيل أو إقطاعي أو ( كبروليتاري ) لا كفلان الفلاني. بل هو لا يكاد يملك نفسا فما يتخيل أنه نفس مستقلة بداخله، ما هي في الحقيقة إلا مجموعة من الأنماط السلوكية التي استعارها من طبقته.. إنها الحتمية الطبقية تعمل من خلاله.. و ما هو إلا وسيط تظهر من خلاله القوى الإجتماعية اللامعقولة في تصارعها.
و هي نظرة أوقعت الفكر الماركسي و علم النفس الطبقي في أشد التناقض.. فكيف نفسر سلوك رجل مثل ( تولستوي ) و هو من النبلاء الإقطاعيين بحكم الوراثة و هو مع ذلك لم يتصرف أبدا كنبيل و لا كإقطاعي، بل تصرف كطليعة الفقراء و الفلاحين محطما بذلك تلك الحتمية التي سماها (( علم النفس الطبقي )). و بالمثل ( باكونين) و ( كروبتكين ) طليعة الفوضوية و كانا من كبار الأعيان. و ( ماركس ) ذاته ابن الطبقة البورجوازية الذي انقلب على الطبقة البورجوازية.
و ماذا نقول عن الفلاح الذي يهمل تنقية الدودة في مزرعة تعاونية.. و العامل الذي يهمل صيانة الأوتوبيسات في قطاع عام.
إن هذ الحتمية التي يصورها علم النفس الطبقي هي كلام غير دقيق و غير علمي.
و الحقيقة أن النفس الإنسانية انفردت دون صنوف الوجود المادي، بأنها تملك قدرة داخلية على التملص من اللابد و اللازم.. و الضروري.. و المحتوم.. و أن الإرادة الإنسانية لها حريتها في أن تخل بأي تعاقد.. و يستحيل التنبؤ بما يجري في منطقة الضمير.. لأنها منطقة حرة بالفعل.
لا شيء يحول بين الإنسان و بين أن يضمر شيئا في نفسه. إنه المخلوق الوحيد الذي يملك ناصية أحلامه.
و لكن هذه الحرية البكر الطليقة في الداخل ما تلبث أن تصطدم بالعالم حينما تحتك به لأول مرة في لحظة الفعل.
إن رغبتنا تظل حرة مادامت كامنة في الضمير و النية.. فإذا بدأنا التنفيذ اصطدمنا بالقيود.. و أول قيد نصطدم به هو جسدنا نفسه الذي يحيط بنا مثل ( الجاكتة الجبس) و يحصرنا بالضرورات و الحاجات و يطالبنا بالطعام و الشراب ليعيش و يستمر و لا نجد مهربا من تلبية هذه المطالب. فنجري خلف اللقمة و نلهث خلف الوظيفة و نضيع في صراع التكسب و نفقد بعض حريتنا.. بعضها و ليس كلها.. و هو ثمن ضروري، فرغباتنا لا تستطيع أن تعلن عن نفسها بدون جسد، و جسدنا هو أداة حريتنا كما أنه القيد عليها. و ليس جسدنا وحده بل أجساد الآخرين أيضا أدواتنا، فنحن ننتفع بما يصنعه العامل و ما يزرعه الفلاح و ما يخترعه المخترع و ما يكتبه الكاتب و كل هذه ثمار أجساد الآخرين و حرياتهم.
إن المجتمع أداة هائلة موضوعة في خدمتنا بما فيه من بريد و مواصلات و نور و مياه و صناعات و علوم و معارف.
و حينما يركب أحدنا قطارا فإنه يركب في الوقت نفسه على حرية مجهزة أعدها له آلاف العمال و المهندسين و المخترعين و هو يدفع في مقابل هذا الكسب ضريبة من حريته.
و ليس المجتمع وحده هو الذي يتقضاه ضرائب و لكن الكون كله.. جاذبية الأرض و ضغط الهواء و مياه المحيطات و السماء بكواكبها.. كلها تحاصره و تحاصر حريته و تطالبه بنوع من الوفاق معها.
و هو بالوفاق يربح حريته دائما.
بالوفاق مع العالم يمتطيه كما يمتطي الجواد.
فهو حينما يفطن إلى اتجاه الريح و يضع شراعه في مواجهتها يمتطي الريح و يسخرها لخدمته.. و حينما يفطن إلى أن الخشب يمتطي الماء.. و بالمثل حينما يفطن إلى نفع الناس، و يسير في اتجاههم يكسب الناس و يكسب معونتهم.
إن الإنسان يعيش مضطربا بين عالمين: عالم إرادته الحرة بداخله.. و عالم المادة حوله الراسف المغلول في القوانين.
و سبيله الوحيد إلى فعل حر هو معرفة هذه القوانين و الفطنة إلى استغلالها بالوفاق معها.. و هو دائما أمر ممكن.
و لهذا فالحرية حقيقة لا تنفيها المقاومات و الظروف الخارجية، بل إن هذه المقاومات تؤكد الحرية فلا يمكن أن تكشف حريتنا عن مدلولها في الخارج إلا بوجود عقبات تزحزحها و تتغلب عليها.. إنها تكشف عن مدلولها من خلال صراع و بدون هذا الصراع لا يقوم لها معنى.
و الضوابط الخلقية و القوانين الاجتماعية لا تنفي الحرية و إنما هي أشبه بعلامات المرور.. وضعت لتننظم المرور و تفسح أكبر حرية للكل.
و أنت حينما تقيم الضوابط على شهوتك تكسب حريتك لأنك تصبح سيد نفسك لا عبدا لغريزتك.
أما حرية القمار و السكر و العربدة و المخدرات و التبذل الجنسي فهي ليست حريات و إنما درجات من الانتحار و إهدار الحياة و بالتالي إهدار الحرية.
و كل اختيار ضد الحياة لا يكون اختيارا.
و كل اختيار ضد القانون الطبيعي ليس اختيارا و إنما إهدار للاختيار، و كلنا نعلم أننا إذا أردنا أن نزداد حرية و نحن نسبح اخترنا السباحة مع التيار و ليس ضده.
نخلص من هذا إلى أن حرية الإنسان حقيقة برغم ما يقوم حولها من حدود و مقاومات.. و أن الإنسان حر حرية مطلقة في منطقة ضميره، فهو يستطيع أن يضمر ما يشاء.. و حر حرية نسبية في التنفيذ، في منطقة الفعل و العمل.. بحسب ما يقوم حوله من حدود و مقاومات.
و يبقى بعد ذلك اللغز الأزلي في علاقة الإنسان بالله.. و علاقة حرية الإنسان بالإرادة الإلهية المطلقة.
و لأن القرآن كتاب دين و ليس كتاب فلسفة فإنه يكتفي بالومض و الرمز و الإشارة و اللمحة.
فيقرر أولا أن حرية الإنسان كانت بمشيئة الله و رغبته و مراده.. و أن ما يجري من حرية الإنسان لا يجري إكراها للخالق و لا إكراها للمخلوق، و إنما بهذا قضت المشيئة.
و يقول القرآن في وضوح:
(( و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين )) ( 99 – يونس )
لقد رفض الله أن يكره الناس على الإيمان و كان هذا في إمكانه، و لكنه أراد للإنسان أن يكون حرا مختارا، يختار الإيمان أو الكفر كما يشاء:
(( و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.. )) (29 – الكهف )
(( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.. )) ( 256 – البقرة )
(( و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها.. )) (13 – السجدة)
(( و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. )) ( 17 – فصلت )
إن الله يتركنا و لو اخترنا العمى على الهدى.. و قد سبقت بهذا مشيئته. بل فعل بنا أكثر من هذا، فخيرنا حتى في أن نختار.. عرض علينا هذه الأمانة ( و هي الحرية و المسئولية ) عرضها لنقبلها أو نرفضها كما نشاء و هي الأمانة التي رفضتها الجبال فحمل الإنسان الأمانة التي رفضتها الجبال. و كان بنفسه جهولا ظلوما:
(( إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها و حملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ( 72 – الأحزاب )
لقد جهل الإنسان تبعة هذه الأمانة و أهوالها و مهالك الغرور التي سوف يتعرض لها بحملها.. و كيف أنه سيظلم بها نفسه و غيره.. و لكن الله كان يعلم بهذه المحنة الهائلة.. و كان يعلم أن هذه المحنة سوف تزكي الإنسان و تطهره و تربيه:
(( و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون )) ( 30 – البقرة )
و لا نعرف كيف تم هذا العرض على الإنسان بأن يكون حرا أو لا يكون، و لا متى تم هذا العرض.. هل حدث في مبدأ الخلق مع آدم.. أم مع الأرواح قبل نزولها إلى الأرحام.. فهذا غيب مطلق.
و القرآن يكتفي بأن يعطي ومضة، و لمحة..
و بهذه الحرية التي قبلها الإنسان مختارا حقت عليه المسئولية و المحاسبة، و أشار القرآن لهذا في آيات حاسمة قاطعة:
(( كل نفس بما كسبت رهينة )) ( 38 – المدثر )
(( كل امرئ بما كسب رهين )) ( 21 – الطور )
(( و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه.. )) ( 13 – الإسراء )
(( قل لا تسألون عما أجرمنا و لا نسأل عما تعملون )) ( 25 – سبأ )
(( و لا تزر وازرة وزر أخرى.. )) ( 15 – الإسراء )
و لا يستطيع أحد أن يفتدي آخر أو يحمل عنه ذنبه و إنما لكل عمله و على كل وزره.
و بمقتضى هذه الحرية جعل الله من (( ضمير الإنسان و نيته و سريرته )) منطقة محرمة و قدس أقداس.. لا يدخلها قهر أو جبر.. و قطع على نفسه عهدا بأن تكون هذه المنطقة حراما لا يدخلها جنده.
فالمبادرة بالنية حرة تماما.
و كل منا له أن يضمر و ينوي و يسر في سريرته ما يشاء، و إنما يبدأ التدخل الإلهي لحظة خروج النية إلى حيز الفعل. فيعطي الله لكل إنسان تيسيرات من جنس نيته و من جنس ضميره و قلبه.. و هو عين العدل.. ليكون الفعل بعد هذا معبرا عن دخيلة فاعله:
((فأما من أعطى و أتقى (5) و صدق بالحسنى (6) فسنيسره لليسرى (7) و أما من بخل و استغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) )) (الليل)
ها هنا وعد آخر من الله بأن يجعل تيسيرات الأفعال مطابقة لدخائل القلوب فيجد الشرير تيسيرات الشر، و يجد الخير تيسيرات الخير.. و من يعلم الله فيه الهدى يهديه، و من يعلم فيه الضلال يتركه للشياطين تضله:
(( فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا )) ( 18 – الفتح )
و في آيات أخرى نراه يقول:
(( و لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم.. )) ( 23 – الأنفال )
(( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. )) ( 5 – الصف )
و لأن الله علم بكل شيء مسبقا.. و أحاط بكل شيء علما.. نراه يتكلم في القرآن عمن:
(( حق عليهم القول.. )) ( 25 – فصلت )
(( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى.. )) ( 101 – الأنبياء )
(( و منهم من حقت عليه الضلالة.. )) ( 36 – النحل )
(( حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين )) ( 13 – السجدة )
فقد علم مسبقا و سلفا أن الإنسان سيفسد في الأرض و سيسفك الدم و يظلم نفسه و يظلم الآخرين.. و يستحق بذلك درجات متفاوتة من العقوبة.
كل هذا كان في سابق علمه.
و ليس هذا بالجبر و لا بالحتم.. و لكن.. كما يحدث أن تتوسم في أحد أبنائك حب العلم و التحصيل فتمده بالتسهيلات و التيسيرات و تبعثه إلى الخارج في بعثة.. و ترى في الآخر العكوف على الفساد و صحبة السوء فتكتفي بما له من حظ محدود من التعليم في بلده.. و لو فعلت عكس ذلك لكنت ظالما، و لأكرهت أبناءك على غير طبائعهم.
كما أن هذا التوسم المسبق ليس فيه عنصر إكراه و لا جبر.. و إنما هو مجرد سبق علم.. فأنت تعلم مسبقا من أخلاق ولدك بأنه سوف ينصرف إلى اللعب و يهمل كتبه.. فإذا انصرف إلى اللعب بالفعل و أهمل كتبه فإن ذلك لا يكون إكراها منك و لا جبرا و لا عنوة و إنما لأن هذه طبيعته التي سبق علمك إليها.. و إنما تأتي التجربة فتكشف له نفسه.. و بذلك يحق عليه العقاب صدقا و عدلا.. فقد علم من نفسه ما لم يكن يعلمه:
(( علمت نفس ما قدمت و أخرت )) ( 5 – الانفطار )
و لهذا جاءت الدنيا لتكون حقل تجربة و اختبارا لمعادن النفوس:
(( خلق الموت و الحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.. )) ( 2 – الملك )
و حتى لا تكون لأحد أعذار في أفعاله فيقول لحظة الحساب فعلت كذا و كذا تحت تأثير العرف و التقاليد و البيئة و المجتمع و التربية.. إلخ.. إلخ.. حسم الله الموضوع فقال في القرآن:
(( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم.. )) (225 – البقرة )
و في آية ثانية:
(( و ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به و لكن ما تعمدت قلوبكم.. )) ( 5 – الأحزاب )
و في آية ثالثة يحدثنا عن الذين ارتدوا إلى الكفر بعد إيمانهم و يهددهم بأشد العذاب ثم يستثني قائلا:
(( إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان.. )) ( 106 – النحل )
أي من كفر بلسانه تحت تأثير التعذيب و ظل قلبه مؤمنا.
إن ما يدور في القلب هو موضوع المحاسبة بالدرجة الأولى و ليس ما يجري على مسرح الفعل.
(( يوم تُبلى السرائر )) ( 9 – الطارق )
إن السريرة هي محل الابتلاء و محل المحاسبة.
و السريرة هي السر المتجاوز للظروف و المجتمع و البيئة و التربية كما أسلفنا في شرحنا المسهب.. فهي المبادرة المطلقة.. و الابتداء المطلق الذي أعتقه الله من كل القيود.
إنها روحك ذاتها و هي الكاشفة عن حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة إصبعك عن فرديتك.
و روحك فيها من حرية الله لأنها نفخة منه:
(( فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) ( 29 – الحجر )
و لأن فيك ذلك القبس من الله و لأنه كرمك بحرية الإرادة، فأنت محاسب على هذه الحرية، و هذا منتهى العطاء الإلهي و منتهى العدل أيضا.
و من هنا يأتي المزج بين الروح و بين الله في آيات عميقة الدلالة:
(( و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى.. )) ( 17 – الأنفال )
يأتيك النصر بيدك و بيد الله في ذات الوقت فتكون يدك لحظة الانتصار هي يد الله و رميتك رميته و مشيئتك مشيئته.
و من هنا قد يعترض معترض فيقول:
فلماذا لا تكون النية هي الأخرى مقدرة؟
و الجواب على ذلك يأتي من صميم القرآن:
(( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا.. )) ( 10 – البقرة )
(( كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب )) ( 34 – غافر )
(( و الذين اهتدوا زادهم هدى.. )) ( 17 – محمد )
(( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم.. )) ( 5 – الصف )
(( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق.. )) ( 146 – الأعراف )
و من هذا يتبين أن الله ترك المبادرة بالنية دائما لك ثم بعد ذلك يأتي قضاؤه فيزيدك مرضا إذا أضمرت المرض في قلبك و يهديك إذا بادرت في سريرتك بميل إلى هدى.. و يصرفك عن الهدى إذا أضمرت الكبر.
إن منطقة الضمير متروكة دائما لك لتبادر بما تشاء.. و بعد ذلك ينزل عليك القضاء و يحق عليك القول.
و الله لا يمكن أن يفرض عليك نية بالسوء أو بالظلم:
(( إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون )) ( 28 – الأعراف )
و هذا يدل على أن قانون الخلق الأول هو أن تكون الروح محرابا و قدس أقداس لا يدخلها قهر.. و لا يكرهها الله على شيء لا هو و لا جنده و لا أنبياؤه و لا أولياؤه إن النفس حرة منزهة.
إنها(( السر الأعظم )) الذي لا يعلم به إلا الله يوم تبلى السرائر.
و في هذا يقول حديث نبوي شريف عن أبي بكر:
(( لا يفضلكم أبوبكر بصلاة و لا بصيام و لكن بسر وقر في قلبه )).
و يقول الله في قرآنه:
(( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم.. )) ( 109 – البقرة )
لم يخلق الله الحسد في قلوبهم و لم يودعه ضمائرهم، و لكنهم يحسدونكم اختيارا من عند أنفسهم.. و العبارة هنا صريحة (( من عند أنفسهم )).. و هي تنفي التدخل الإلهي و تقطع بوجود هذه المنطقة الداخلية التي تركها الله حرة.
و يقول الله تعالى مخاطبا الشيطان:
(( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين )) ( 42 – الحجر )
إن الشيطان لا يستطيع أن يدخل قلبك إلا إذا فتحت له الباب اختيارا و كنت من الغاوين، و لكنه لا يستطيع أن يقتحم عليك قلبك جبرا و قسرا.
إن الله قد كفل لهذا لقلب الحماية و لم يجعل لأحد من جند الشر أو الخير سلطانا قاهرا عليه إلا إذا أراد صاحب هذا القلب اختيارا أن يستضيف و يدعو و يحتضن دواعي الشر أو دواعي الخير فحينئذ يكون له ما أراد.
نحن أمام قدس أقداس بالفعل.. و حرم محرم تقوم عليه الأسوار و لا يدخله حتم و لا جبر و لا إكراه.
و ما يحدث لنا من إكراه بالفعل في عالم الواقع لا يمكن أن يصل إلى داخل ضمائرنا.
يمكنك أن تجبرني بالقوة على أن أرفع يدي أو أقف مرغما أو اهتف باسمك، و لا يمكنك أبدا أن تجبرني على أن أحبك.
و لهذا لا تعطينا الأديان رخصة لنقول يوم الحساب إن فلانا أغراني أو فلانا أجبرني، أو فلانا أكرهني أملا في أن يلقي الواحد ذنبه على الآخر، فقد جعل الله من أعماق الضمير و السريرة منطقة حراما لا يستطيع أن يدخلها جبار بجبروته.
يمكنك أن تكره خادمك على فعل. و لكنك لا تستطيع أن تكرهه على أن يضمر شيئا في سريرة قلبه.
و القرآن يعتبرك حرا مسئولا مهما أحاطت بك ظروف الاستبداد فيقول إشارة إلى أمثال هذه الظروف:
(( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. ) ( 97 – النساء )
لا أعذار.
حينما تقضي اللحظة أن تختار فأنت تختار نفسك بالفعل.
(( إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا )) ( 3 – الإنسان )
و في لفظ (( إما )) يبدو عنصر الاختيار واضحا محددا.
(( و نفس و ما سواها ( 7 ) فألهمها فجورها و تقواها ( 8 ) )) ( الشمس )
أي فتح أمامها سبيل الخير و الشر و تركها أمام الطريقين لتختار.. و لهذا قال ( فجورها و تقواها )، و لم يقل ( أو تقواها ) لأنه فتح الطريقين معا ليجعل للنفس الاختيار و لم يجبرها على أحد الطريقين.. و لذلك أردف موضحا:
(( قد أفلح من زكاها ( 9 ) و قد خاب من دساها ( 10 ) )) ( الشمس )
فرد الفلاح و الخيبة للنفس المخيرة، و في آية أخرى يوضح الأمر أكثر فيقول:
(( و هديناه النجدين )) ( 10 – البلد )
أي هديناه مفترق طريقين يختار أيهما.
إن النية حرة.
و السريرة حرة في إضمارها لما تشاء.
أما الفعل فهو حر و مقدور في ذات الوقت.
و كل واحد منا له نصيبه من حرية الفعل.. و الذي يقول بالجبرية سوف يقع في مأزق حينما نسأله كيف يميز بين يده يحركها في حرية و يكتب بها ما يشاء.. و بين يده و هي أسيرة ترتعش قهرا في رجفة الحمى.. هنا أمامنا حالتان واضحتان، حرية في حالة الصحة، و جبرية في حالة المرض، و لو كانت الجبرية التي يقول بها صحيحة لما أمكن أن يميز بداهة بين الحالين.. و لما أمكن أن تقوم الحالتان أصلا.
إن حرية الفعل إذن حقيقة.. و القدر أيضا حقيقة.
و المشكلة هي أن نحاول أن نفهم هذا الازدواج و كيف لا يلغي القدر الحرية.. و كيف لا تلغي الحرية القدر.
و هذا أمر نستشفه من الآيات استشفافا.. فهي تلمح و لا تصرح حتى لا تُلقي بالناس في بلبلة.
يقول الله في كتابه:
(( إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين )) ( 4 – الشعراء )
لو شاء لفعل و لكنه لم يفعل.. لأنه لم يشأ أن يقهرنا على إيمان فتنتفي بذلك حرية الاختيار التي جعل منها جوهر وجودنا.. فقد أراد لنا أن نكون أحرارا نؤمن أو نكفر.
و لم يجعل الله إبليس إبليسا.
و إنما إبليس اختار لنفسه الكبرياء و الجبروت و التعاظم حينما رفض أن يكون في خدمة آدم مثل بقية الملائكة و قال:
(( أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين )) ( 76 – ص )
اختار إبليس لنفسه الغرور بغير علم و لا حق. فاختاره الله ليغرر بالناس و قضى عليه قضاء من جنس ضميره.
و بالمثل أبصر النقاء و الطهر في قلب محمد فاختاره نبيا للهداية:
(( و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا.. )) ( 69 – العنكبوت )
و لهذا السبب أيضا – لعدم القهر و الجبر – أخفى الله نفسه في الإنجيل، و أخفى نفسه في القرآن لأنه لم يرد أن يلجمنا بالتجلي القاطع الفاصل فيقهرنا على الإيمان قهرا. فجعل من التوراة و الإنجيل و القرآن كتبا يمكن أن نؤمن بها و يمكن أن نشك فيها.
و قال عن قرآنه:
(( يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا.. )) ( 26 – البقرة )
و ضمن آياته البراهين و لكنه لم يجعلها أبدا براهين ملزمة تأخذ بالخناق و تقهر العقل.. و إنما تركك دائما لترجح شيئا على شيء حرصا منه على حريتك.. و لتقول ما تريد دون مؤثرات كابحة.. فتفصح عن دخيلتك و سريرتك و يحق عليك القول.
لقد أرادك أن تكون من أحد الأوجه خليفة صغيرا له على الأرض تحكم و تقضي في شئونك و شئون الآخرين.. ليمتحنك و يختبرك.
و في آية نموذجية يشرح القرآن ما بين القدر الإلهي و الحرية الفردية من تلاق، و يرفع ما بينهما من تناقض.. حينما يروي ما حدث من تكاسل المنافقين عن نصرة الرسول – صلى الله عليه و سلم – و عدم الخروج معه في غزواته:
(( و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين ( 46 ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لهم و الله عليم بالظالمين ( 47 ) )) ( التوبة )
ها هنا منافقون بالقلب لا يريدون بالنية أن ينصروا نبيهم فيقضي عليهم الله بمثل نيتهم فلا يريد لهم كما لم يريدوا لأنفسهم و يثبطهم و يكره لهم الخروج كما كرهوه لأنفسهم.
و يبدو هذا التماثل بين قدر الله و سريرة الإنسان في آية أخرى أكثر صراحة و التي تخاطب النبي (( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم.. )) ( 70 – الأنفال )
هنا يبدو الفعل الإلهي ( القدر ) دائما من جنس النية التي هي عين الاختيار.
و يبدو كيف تماثل أمر الله و اختيار الإنسان و انتفى التناقض.. فلم يكن التناقض إلا في وهمنا نتيجة عدم الفهم.
و أصبح من السهل علينا أن نفهم آيتين متناقضتين في الظاهر مثل:
(( فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.. )) ( 29 – الكهف )
(( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله.. )) ( 30 – الإنسان )
ففي الآية الأولى يصف الله إرادة الإنسان الحرة.
و في الآية الثانية يتكلم عن إرادته الإلهية و هي القدر.
و ما بين الإثنين من تناقض هو تناقض في الظاهر فقط.. فقد فهمنا أن الله لا يريد للإنسان إلا ما يريد الإنسان لنفسه:
(( و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا )) ( 115 – النساء )
من يختار طريق السوء و يرى الله في نيته الإصرار فإنه لا يكرهه على الخير و إنما يختار له ما اختار لنفسه و يمد له في غيه و يمهد له أسباب الشر تمهيدا حتى يخرج ما يكتمه و يتلبس بفعله و يحق عليه العذاب:
(( نولّه ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا )) ( 115 – النساء )
هنا الجبر هو عين الاختيار و لا تناقض لأن إرادة الله هي إرادة العبد.
انتفت الثنائية.
(( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. )) ( 11 – الرعد )
الله لا يغير ما يريده بإنسان حتى يغير ذلك الإنسان ما يريده بنفسه.. التطابق هنا واضح.
الإثنان.. الحرية و القدر.. ينفذ القضاء و يتم الفعل بإرادة الله و مشيئته و في الوقت نفسه باختيار الإنسان و حريته بلا تناقض (( قل كلٌ من عند الله )) ( 78 – النساء )
فأنت تشاء و لكن قدرتك على أن تشاء و تختار هي منحة من الله و مشيئة عليا.. حريتك ذاتها منحة و عطية و مشيئة إلهية.. و من هنا كانت الآية:
(( و ما تشاءون إلا أن يشاء الله.. )) ( 30 – الإنسان )
هي تقرير للحقيقة.. و ليست كلاما متناقضا.. فهي تقرر أنك حر و لكن حريتك منحة و عطية و هبة و مشيئة من المعطي.
(( و الله مخرج ما كنتم تكتمون )) ( 72 – البقرة )
الله يخرج ما في النية و يفضح مكتوم السرائر ليسجل على كل واحد نيته كما هي دون جبر أو إكراه.. إنه يفضحها فقط و يخرجها على حالها ليكون كل واحد ( طائره في عنقه ).
ثم تأتي الآية القرآنية الحاسمة فتختم الموضوع:
(( و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه و أنه إليه تحشرون )) ( 24 – الانفال )
و معنى هذا أن الله يدع القلب حرا فتكون لكل إنسان سريرة هو حر فيها. و لكنه يقيم سلطانه بين المرء و قلبه.
فهو يحول بين المرء و قلبه بالتمكين أو الإحباط لطفا منه و رحمة ليقي أحبائه السيئات.. و ليقدم التيسيرات لكلٍّ حسب ضميره و نيته و مبادراته.. إما لليسرى و إما للعسرى.
(( إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في الأمر و لكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( 43 ) و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا و إلى الله ترجع الأمور ( 44 ) )) ( الأنفال )
هنا مثل آخر بليغ للتدخل الإلهي اللطيف الخفي بين المرء و بين قلبه.. فالله يريد أن يحث المسلمين على القتال في بدر و هم قلة ( ثلثمائة يواجهون ألفا مدججين بالسلاح و الدروع ) يريد أن يدفع المسلمين إلى المعركة دون جبر و دون إكراه حتى يكون الاختيار اختيارهم.. فيسوق إلى الرسول في منامه رؤيا يظهر فيها الأعداء قلة قليلة لا يؤبه لها.. و ساعة المعركة يجعل كثرة المشركين تبدو للمسلمين قلة ليهون من شأنهم.. كما يهون من شأن المسلمين في أعينهم.. و بذلك يستدرج الكل إلى معركة ليقضي أمرا كان في علمه مفعولا.
و هذا هو التيسير الذي يسوق به الأسباب دون أن يخل بناموس الحرية الذي قضى به لكل إنسان في سريرته و هو عن هذه الحرية مسئول.
بهذه الكلمات التي تضيء كالومض الخفي يعطي القرآن المفتاح لأكبر المشكلات استعصاء في الفلسفة.. مشكلة الجبر و الاختيار.
الدكتور / مصطفى محمود
كتاب / القرآن .. محاولة لفهم عصري