إن رحلة معرفة الذات في غاية البساطة! فهي مجرد خلع جميع القبعات والألقاب والقصص والأسماء التي وضعتها لنفسك... هذا ما أسميه بالتعرّي والخروج عن طريقك الذي تسير به الآن! فكم من الطاقة نهدر لكي نؤدي دور المدير الماهر والزوج المخلص والأب المرح والابن المطيع والصديق الوفي؟ كم من الطاقة نستطيع المحافظة عليها فقط بإلقاء صندوق القبعات بعيداً والعيش بحقيقتنا وذاتنا؟ إنه من الممتع طبعاً القيام بعدة أدوار وارتداء أقنعة مختلفة ولكن... متى هو الوقت الذي نشعر فيه باسترخاء وراحة حقيقية؟ فقط ذاك الوقت الذي نجلس فيه لنحتسي مشروبنا المفضل؟
والآن... وقت مستقطع!
نعم... فنحن بحاجة إلى وقت مستقطع في هذه المباراة التي نعيشها طوال الوقت... لماذا لا نحاول ولو للحظات قليلة في اليوم أن نخلع جميع القبعات التي نرتديها ونسقط جميع الأدوار التي نمثلها لنكون أنفسنا لا غير! أنت فقط دون قبعات ولا أدوار!
ما بعد الماضي!
لا يمكنك أن تغير الماضي... ولكن يمكنك أن تدمّر الحاضر الجميل وذلك بقلقك من المستقبل! بعضنا يعتقد بأننا خلاصة كل ما قمنا به إلى هذه اللحظة! بأننا تاريخ حياتنا! فالبعض يحاول أن يسعد نفسه بجعل سيرته الذاتية لامعة بنجاحات وأمجاد تركها خلفه، بينما يشعر البعض الآخر بالانزعاج لوجود مجموعة من التجارب الفاشلة أو المخزية في ماضيه! ولكن هل نحن فعلا تلك التجارب سواء كانت البطولية أو الفاشلة التي حدثت منذ 10 سنوات؟ هل يحدّد ماضينا حقيقتنا؟
عندما نلجأ للمخدرات أو المهدئات مثلاً للهروب من أنفسنا بدلاً من التوقف والرجوع إليها لمعرفتها! فنعتقد بأنه يمكنننا ذلك عن طريق إدماننا عليها ظناً منّا بأنها ستحسن الأمور... ولكن نتفاجأ بالعكس. فبعد النشوة وشعورنا بالسعادة للحظة نغرق فجأة في أعمق اكتئاب وألم قد نمر به في حياتنا... ولكن لا بد لك أن تقرر إما أن تستمر في هذا ويزداد السقوط إلى الهاوية أكثر أو أن تعود إلى حياتك السابقة وتنهي الأمر برمته. ففي النهاية هذه المخدرات لا تحل أي مشكلة بل تزيد الأمر سوءاً... فأنت لا تستطيع أن تهرب من ألمك ومعاناتك، بل عليك أن تواجه الأمر وتتعرف على نفسك لكي تتغلب عليه.
مهما كان الماضي بصعوباته وآلامه وأفعالنا غير المشرفة! فإنه لا ينبغي أن نشعر بأنه نحن... بل هي مجرد تجارب وتجارب جيدة! نعم فلولاها لما تعلمنا وعرفنا بأنه ينبغي لنا أن نتركها للمكان الذي تنتمي إليه... وهو الماضي... وأين هذا الماضي الآن؟ لقد اختفى، انتهى، مات للأبد، وكأنه لم يحدث أصلاً من البداية! أنت الآن ليس الشخص الذي تعاطى المخدرات بالأمس وليس الشخص الذي توقف عنها اليوم! فأنت لست الماضي من حياتك أو حيواتك السابقة كما أنك لست ملكك أنت! لأنك إنسان جديد في كل لحظة! لا بد لنا أن نرى الحقيقة الآن!
سوف أصبح... في المستقبل!
وبالطبع.. إذا لم نعتقد بأننا ماضينا نعتقد بأننا مستقبلنا، فدائماً ما نعتقد بأن الأمور ستكون على خير ما يرام... غداً! ونظل نعيش على هذا الأمل بينما يضيع الحاضر من بين أيدينا.
جميعنا نقوم بهذا لأننا تعلمنا بأننا لا بد أن نخطط جميعنا للمستقبل وذلك لأن المستقبل سيكون رائعاً فالحاضر لا يبدو كذلك! فنفكر "قد لا أكون شيئاً مهماً الآن ولكن بضع سنوات وسأري الجميع ما الذي يمكنني أن أفعله!" ولذا نبني هويتنا على من "سنصبح" ومن "نريد أن نصبح" غداً، لأننا لسنا راضين عما نحن عليه اليوم! "انتظروا حتى أحصل على تلك السيارة... ولن تضحكوا علي بعد ذلك!"
لنأخذ على سبيل المثال... رجل يعمل في محطة الوقود أو أي عمل صنفنّاه على أنه غير مشرف! سترى أغلبهم غير راض وإذا سألته عن عمله سيقول لك فوراً "كلا إنه عمل مؤقت فأنا أحضر لرسالة الدكتوراه... أو أكتب بعض المؤلفات... أو أو أو" أنا لا أقول بأنه أمر سيء أن تحاول القيام بأمر ما بطرق مختلفة أو أن تجد حياة كريمة لنفسك... وبأن رجل الوقود لا ينبغي له أن يكمل دراسته وتعليمه.. كلا.. فإذا أردت أن تكون طبيبا كن طبيبا وإذا أردت أن تكون رياضياً كن رياضياً... فنحن جميعاً لا بد لنا أن نعمل لنكسب دخلنا بطريقة ما... ولكن من الأفضل أن تحب عملك الذي تقوم به بدلاً من أن تكرهه وتمقته على أساس أنه وسيلة لتصل إلى شيء آخر وحسب... والأهم من هذا، لا تخلط بين من تود أن تصبح ومن أنت في الحقيقة! ولا تقل لنفسك طوال الوقت "ستصبح شخصاً ما عندما..." لأنك عندما تصل إلى تلك الـ "عندما" من المستقبل ستظل تفكر وتقول الشيء نفسه مرة أخرى! حالياً فإن جميع أفكارك وتوقعاتك ومشاريعك وطموحك وأهدافك تعيقك عن ذاتك التي أنت عليها الآن!
فما أدراك... قد تكون "أنت" على حقيقتك أكبر وأفضل مما تحاول أن تكون... قد تكون الآن في هذه اللحظة كل ما تريد أن تصبح... إن رحلة العودة لذاتك الداخلية ليست أن تصبح شخصاً ما أو أن توجد هوية لنفسك... ولكنها التوقف عن محاولة خلق هذه الذات لكي ترى بأنها موجودة منذ زمن! في الحقيقة أنت لست من كنت عليه في الماضي ولا الذي ستكون عليه في المستقبل، فأنت هو أنت الموجود الآن... والذي لطالما كان وسيكون!
من أنت... الآن في هذا المكان والزمان؟
توقف للحظة! من أنت... الآن! انظر إلى نفسك من أنت في ذلك الفراغ الذي يمر في أجزاء الثانية بين الفكرة والفكرة قبل أن يمتلئ عقلك بالأفكار. ربما لا تعرف، ربما تكون قد اختفيت... إنها تلك اللحظات التي يتوقف فيها الفكر، كما يحدث في الصدمة أو المفاجأة، التي نستطيع فيها فعلاً أن نلمح وجهنا الحقيقي. فعندما لا يكون هناك وجود للأفكار أو الذكريات أو الأحلام أو جسد أو عقل أو هوية نتمسك بها...
عندها فقط نستطيع أن نعرف من نحن...
أن نكون أحياء إلى أقصى الحدود!
أن نكون صفحة بيضاء وجديدة بكل معنى الكلمة!
أن تكون إنسانا للمرة الأولى منذ قدومك إلى هذا العالم!
ماذا عن شخصياتنا؟
هناك مفهوم آخر وهو بأننا عبارة عن "الشخصية" كاملة! أي أسماؤنا وأعمارنا وجنسنا وشكلنا وتعليمنا وشهاداتنا ومواهبنا وعائلاتنا وديننا وجنسياتنا وماضينا ومستقبلنا... كل هذه الأمور مجتمعة! فنحن كل ما يقوم به هذا الجسد والعقل الإنساني أو يشعر به أو يفكر به أو يقوله!
الجميع يقوم بإيجاد شخصية معينة له وهذه هي المشكلة! فنحن نبدأ ببناء هذه الشخصية وهذه القصة التي ننسبها لأنفسنا منذ اليوم الذي نولد فيه! وبمرور السنين نعدّل هذه الشخصيات فنزيل ما نريد إزالته ونضيف أسطر جديدة على النص! فنجتمع في الحفلات لنتحدث عن شخصياتنا ونستمع إلى شخصيات الآخرين كذلك... "هل تعرف خالد! إنه شخص محبوب ولكنه وغد في بعض الأحيان" و"تعرفين سارة، إنها في الحقيقة ليست بالهدوء الذي تبدو عليه!" وبمجرد حصولنا على بعض التفاصيل عن حياتهم نعتقد بأننا عرفناهم فنصنفهم كما نريد "امممم، إنها من برج العقرب لا بد أنها جذابة!" و"يا إلهي إنه من برج الأسد... احذر منه!"
إن الشخصية عبارة عن قناع... فنحن نضعها ونخفي حقيقتنا تحتها، إننا نمضي بداية حياتنا في بناء شخصيتنا وتطويرها وفي تحديد شكل القناع الاجتماعي. وهذا القناع نستطيع تغييره كما نريد ليبدو بأي شكل نريد، حيث نستطيع وضعه ونزعه في أي وقت بالإضافة إلى إيجاد شخصيتين عامة وخاصة بدلاً من واحدة فقط. نعم... إذا أردنا أن نمزّق هذه الشخصية المزيفة فلا بد لنا أولاً من معرفة حقيقة هذه الشخصية... فهذا ما تتطلبه الرحلة الداخلية، تمزيق جميع الأقنعة الاجتماعية وتحطيم جدران هويتنا إلى أن نغدو متجردين وعاريين من كل ما يخفي "من نحن".
إن الشخصية عبارة أساساً عن مجموعة من المعلومات... مجرّد أفكار عن حقيقة من نكون موضوعة على شكل كلمات. ولكنها ليست أمور ملموسة بل في غاية الرقة والهشاشة وقد تختفي في أي لحظة... إن الشخصية هي عبارة عن "من نعتقد بأنه نحن" والكلمة الأساسية هنا هي "نعتقد"! فالاعتقاد مجرد فكرة... وهذا ما تعتمد عليه الشخصية... "الفكرة" ولكن عندما لا يكون هناك فكرة فلا يكون هناك شخصية، ألم تلاحظ من قبل في تلك اللحظات التي يتوقف فيها العقل عن التفكير مثل لحظات الصدمة أو التأمل بأننا نفقد شخصياتنا على الفور ونصبح مثل المساحة الفارغة! إن هذا هو ما نتحدث عنه نزع جميع طبقات شخصياتنا ليظهر وجهنا الحقيقي من تحتها
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.