لم يعد الإنسان يقبل ما يقال أو ما قيل ، بل هو خائض في القيل والقال وكثرة السؤال دون أن ينتبه ولو أعطي له جواب ، وذلك لأنه يسعى إلى حرية التصرف تهربا من كل اعتقاد يجبـره على تغيير ما هو عليه . يهمه ما يكسب وما ينال ، ويهتم بتطوير وسائل عيشه ليتمـتــع كــما يحب ، ولا داعي أن يسمع لمن يقول إنه قد يسأل عن كل أعماله . لم تعد حكمــة الــحــكــماء تتحكم في فهم من ليست له حكمة ، ولم يعد الإنسان الحالي يرى حكمة في كل ما هو غــيــبي بل حكمته في كل ما يجد له دليلا في متناوله ، وحريته أن يرى كل معرفة أو علم على حسب ظنه ، فحرية الاعتقاد هي ما يصبوا إليه . فالعقيدة الحالية هي حرية الاعتقاد ، وهذه العقــيـدة ليست لها أسس خلافا لكل الطرق البائدة أو الباقية ، وخلافا لكل دين فأصولها أنه لا أصل لها ومسطرتها هي دراسة مجردة ، ووسيلة التعليم فيها هو أن يعرف الإنسان ما قـيــل فــي كــل معرفة دون إجبار لتطبيقها أو الخضوع لقوانينها . فالنظرة الحالية ملقاة على كل ديــن وهــي إنما كان الناس يعتقدون ، فحرية الاعتقاد ليست فلسفة هدفها معرفة ، بل هي وسيلة لنفي كـل معرفة ، ودراسة لكل فلسفة أو عقيدة . وتحليل لأصول الدين سعيا وراء إثبــات جــهــل كــل معتقد متتبع لتلك الأصول . وظهور مفصل حرية الاعتقاد بدأ حين وجدت كثرة الاخــتــلاف في العلوم المطروحة والموجودة في متناول الإنسان ، ولاسيما حين اكتشف أن كل مــا كــان يعرفه الإنسان منذ القديم لم تكن له نتيجة محكمة ظاهرية . وحرية الاعتقاد هي إظهار لتفـوق عقل الإنسان الحالي على الإنسان قبل اليوم . والسعي مستمر إلى إثبات الجهل الذي انطــوت عليه كل معرفة قديما . وإظهار تفوق العصر الحديث ، إذا ما اكتشفت أسباب الكون علــى أن كل ما في الطبيعة هو مجرد من كل تحكم إلهي فيه . والعاقل يجد أن الإنسان اليــوم يــســعى لنفس ما سعى إليه الإنسان القديم إنما بأسلوب جديد ، وكانت حرية الاعتقاد قـديــما تــظــهــر باعتقاد جديد نفيا لاعتقاد قديم . والفرق هو أن الاعتقاد الحر قديما كان مرتبا بطـرق جــديــدة مطبقة جماعات أو شعوبا ، واليوم فكل شخص له حريته وفهمه تجاه كل شيء ، والكل تشمله حرية الاعتقاد في مبدئها الذي ليس مبدأ وفي عقيدتها التي ليست عقيدة . وحـريــة التــصرف هي المنطلق الأساسي لما وراء كل قانون كان من قبل جعل للإنسان لـجامــا لتــصـرفــاتــه ، فالفساد اليوم هو تعبير كامل عن الحرية المطلقة للإنسان . فتحتوي حرية الاعتقاد على حرية التصرف المطلقة ، والخلاصة تذهب بنا إلى الفهم الواضح أن الإنسان خلق عبثا في الــحــياة الدنيا ، فهذا المنطلق الفكري أساسه حرية التفكير وإظهار أصول المادة المجردة من كل قــوة كامنة فيها ، فهذا التناقض الدائم والمستمر يجعل من الإنسان مصدر الجهل وأساس لتطويره. وواضح أن المعرفة تبتعد كلما الإنسان أن العلم في متناوله ، وأن الحياة مجردة لا صبغة لـها أمام أصول الحقيقة المنفردة بمضمونها الأصلي ، فالإنسان لم يخلق عبثا بل هو يعبث بنفــسه فقط ، والمشكل مشكله إن لم يجد أصلا لحل مشاكله أو عدم اعتراف بعلم كـان لــه وســيــلــة للإرشاد وسبيلا للخلاص . واعتمد القدماء على سبيل خلاص الإنسان في خلاصه من جهلــه وبقائه في ظل العلم . وتناول الإنسان ما أعطي من علم سعيا لتحليل مضمونه حتى لا يبــقــى بشروطه مفروضا عليه ز فالإنسان بالجهل يريد أن يرجع أصل كل علم أنه مصــدر جــهــل مادامت الحقيقة لا تتجلى فيه ، والعلم يُسمى علما لإظهاره لأصول الجهل ، والإنسان الحالـي
فرحته عظيمة ، ة
إذا قيل له أن لا أصول ثابتة ظاهرة متناهية في الحقيقة ، وأن الأنبياء أعمدة الدين ما هم إلا أشخاصا قد بلغوا في مراتب العقل درجة علوية تم بها استخراج ما فــرضــوه من سيطرة بالعلم على الإنسان ابتغاء سجنه ومحو أصول . حريته . فحــرية الإنــســان هــي بالعلم لا بالجهل ، والحرية المطلقة في حرية الاعتقاد إنما هي طغــيان وســطــوة ومــحــبــة وسيطرة لأجل الاستكثار والترف في العيش ، لأنه لو بقيت مسطرة الدين مستـمرة لتـعــجــز الإنسان عن الكسب الوفير في حياته ، لأن الدين مانع مثلا للربا والسرقة ،فحرية
الاعــتــقاد لها أساس آخر هو جعل قوانين أخرى فائدتها لمن لهم أسبقية في السطوة والسيطرة . وأصول علم الدين ، نجد أنها كانت تعطي الحق للمسكين وللسائل والمحروم . فعلى المفكر أن يـعــيــد أفكاره إلى الترتيب الشامل لقانون تصرف الإنسان ، مع إدراك فهم من يأمر بحرية التصرف أن هناك أهدافا لم تكن أهداف علم بل أهداف مادة فقط . وهذه الأهداف تـطــورت فــي وقــت طويل لم يكن الدين بالغا لقطعها عند الشعوب المتطورة ماديا . فأصبح كل متدين كـأنــه فــي تأخر أمام البلوغ للمادة ، وذلك لأنه كان يجهل أنه متقدم في العلم لأجل خــلاص الإنــســان . وهنا أصبح كل متدين هو كذلك يسعى لتغيير أصول اعتقاده مع إدخال أسلوب حرية الــعـيش والراغب في الحياة مبقيا في نفسه الإيمان بالخالق حجة على أنه على صواب وعلى أنــه لــم يكفر، إنما يسعى للوقوف أمام الأمم الزاحفة نحوه بتطور المادة . ولكن الشعوب المــتــطورة تبقى دائما هي المستغلة لظروف الشعوب المتدينة ، وسوف تبقى هذه المشاكل كلها مــشــكلا معتقدا لا سبيل للخروج منه ، وأساسه السباق المادي المغير لكل علم في قـوانــيــنــه ، وفــي وجوب الاعتقاد فيه أو الإيمان بالغيب الغير المدرك بحقيقة الـوجــود الظاهــري . فــحــريــة الاعتقاد اعتبرت في القديم أسلوبا انتحاريا للشعوب كلها إذ أبواب العلم مغلـقــة ، فــلا يــجــد الإنسان ما يستمسك به من أجل نجاته من شر نفسه ، واعتبر هذا الحال ، في العصر الحديث عن الهنود أنه عهد الشيطان ، وقد حذر منه الإنسان ، كما أن الدين حذر من عصر تكون فيه قوى الظلمات في درجاتها القصوى ، واعتبر عصر الفتنة . والإنسان حقا نجده اليوم مفــتونا في نفسه بنفسه وبأفكاره ما كان عقله يرشده ولا العلم يقوده ولا شيء يقنعه ، والعقل يتـركـــه على حاله إلى أن يتحقق كل علم في مقاله ، فيتم الفصل بين العلم والجهل ، ويعرف حقــيـقــة الإنسان والعقل .
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.