إشكالية التعليم والتنمية بالمغرب تأهيل العنصر البشري، هل من مقاربات محلية مندمجة؟
إشكالية التعليم والتنمية بالمغرب
تأهيل العنصر البشري، هل من مقاربات محلية مندمجة؟
قراءة في تعثر الإصلاح
الأستاذ محسن إشحا
إن إحدى الإشكاليات الكبرى التي تطرح نفسها بقوة، في سياق إصلاح منظومة التعليم بالمغرب، هي تلك العلاقة الجدلية بين التنمية و التعليم، فإما أن يكون على التعليم تقديم عنصرا بشريا مؤهلا لتحقيق التنمية، أو أن يكون من الضروري توفير الثروات اللازمة لتأسيس نظام تعليمي فعال وناجع. الإشكالية هذه تجد امتدادها في النقاش السوسيولوجي حول وظائف المدرسة بين التغيير والمحافظة، فالمدرسة قد ينظر إليها كرافد للتغيير الاجتماعي، كما قد يراد منها فقط المحافظة ونقل ثقافة المجتمع بأمانة إلى الأجيال الناشئة. فهل سيكون التعليم مدخلا أساسيا لتحقيق التنمية؟ أم أن تحسن مستوى التعليم سيكون نتيجة حتمية لتحقيق تنمية مستدامة؟ فمن أين ستكون الانطلاقة؟
يبدوا أن المرجعيات الدولية للتنمية قد اهتدت - بحكم التجربة - إلى أن من يصنع تنمية حقيقية، ليس هو وفرة الثروات، بل العنصر البشري القادر على خلق تلك الثروات وترشيد استغلالها. أما وقد اتضح للعالم المعاصر، أن تنمية العنصر البشري أساس كل تنمية أخرى، فيما أصبح يصطلح عليه بالتنمية البشرية، فلا يمكن الحديث عن التعليم إلى كمنطلق لتحقيق هذا المفهوم، باعتباره المسئول عن تخريج العنصر البشري بالمعايير والمقاييس المطلوبة. لكن الرهان على التعليم لوحده قد يجعل منه مصدر خيبة أمل كبيرة، كما أن تحميله أدوار ووظائف أكثر من طاقته، سيعمق الأزمات عوض أن يحلها. فالأكيد أن للتعليم أدوار في التنمية، إلى أن تلك الأدوار لا تأتي أبدا منفصلة عن المنظومة الاجتماعية التي يوجد بها، بل تتكامل وظائفه مع باقي مكونات المشروع التنموي للمجتمع، هذا المشروع الذي ينبغي أن يتصف بالشمولية، وأن تمتد مخططاته طولا وعرضا، وأن تسري بنفس الوثيرة وبشكل متزامن مع باقي أجزاء المنظومة التنموية، وإن لم يتموقع التعليم بشكل صحيح ضمن خارطة التنمية ففائدته لن تأتي منسجمة مع أهداف المشروع.
إن سيرورة التحديث التي عرفها المغرب مند الاستقلال، حقق فيها التعليم مكاسب هامة جدا، فجودة التخرج اجتازت حدود وثيرة التنمية، إذ نجد في الوقت الذي كانت تدرس فيه العلوم الكميائية مثلا، لتوفير كفاءات تستجيب لمتطلبات التصنيع، لم تتحقق فيه أي نجاحات لمخططات التصنيع، مما تُرجم في الواقع إلى هجرة الكفاءات وتفشي بطالة حاملي الشهادات، والتوجه القسري- بدافع الحاجة إلى العمل- لبعض الوظائف التي لا تتماشى مع التخصصات والمستويات، وتفاقم الوضع أكثر مع تقلص هامش الإدماج في الوظيفة العمومية. مما أفقد التعليم صورته كمصدر للاندماج في سوق الشغل، ولم يعد في ثقافة المجتمع المغربي وسيلة للترقي الاجتماعي، الشيء الذي أضعف حس التنافس على تحصيل الشهادات والميزات المؤهلة لنيل المناصب و الوظائف، فأخذت مؤشرات الأمية تتصاعد، وتزامن ذلك مع الانفجار الديمغرافي، وزحف ساكنة العالم القروي نحو المدن.
أمام هذا الوضع سوف يدان نظام التعليم بتهمة عدم الاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، في الوقت الذي لم يعترف فيه أحد أن الوضع هو نتاج فشل المخططات العمومية للتنمية، التي كانت أشبه بجوقة عازفين، كل واحد فيها يعزف على هواه، فلم يأتي لحن التعليم متناسب مع ذاك الضجيج، لكن بدل أن نصوب الوضع بأكمله وننظم أداء العازفين جميعا، حملنا عازفا واحدا المسؤولية. فجاء الميثاق الوطني لإصلاح التعليم، وبعد عشر سنوات من تطبيقه، جاء المخطط الاستعجالي، وكل مشاريع الإصلاح مفيدة، لأن الإصلاح ضرورة لا مفر منها، وتطور التعليم سيكون عبر إصلاحه باستمرار، ولكن لكي يلعب دوره المطلوب في التنمية، ينبغي أن يتكامل إصلاحه وتطويره مع إصلاح وتطوير الاقتصاد والمجتمع والحياة الثقافية والسياسية... فمن الطبيعي أن نلتقط ثمار إصلاح التعليم كلما ارتفعت مؤشرات التنمية، وأن نلمس جودته كلما اتسع أفق الاندماج واستيعاب الكفاءات، فحين يتزامن دور التعليم مع نمو القطاعات الأخرى، لابد أن تعود مصداقيته عند اندماج خريجيه، واستثمار كفاءاته بالشكل الصحيح.
لن نستغرب حجم الإكراهات المطروحة على عاتق المنظومة التعليمية بالمغرب، حين ندرك تضخم المهام الموكولة إليها، والتي لم تعد تستوعبها جداول حصص التلاميذ المثقلة بجميع الهموم والعلوم، سواء في الحصص الرسمية أو حصص الدعم، فالقضايا والقيم التي يفترض أن يلتزم المجتمع ككل بتنشئة الأجيال عليها، تضاف في سجلات المدارس ضمن مذكرات وتوجيهات رسمية، فيجد تطبيقها فضاء غريبا يقاومها، وطفل مرهق بوفرة المضامين المقررة، ومدرس يعاني عدم تقبل الوسط لها، أو لم يستوعبها هو كقناعة أو لا يوجد ما يحفزه على العمل بها، في ظروف إدارية بيروقراطية تريد منها مجرد أنشطة مناسباتية، وتقارير ترسل عبر التسلسل الإداري، وضعف في التجهيزات، وغياب حوافز مادية ومعنوية، فالمدرس قد يتلقى استفسارا عن تأخر لكنه لن يتلقى أي تشجيع أو تنويه أو مكافأة تذكر عما قد يبذله من جهد خارج وقت عمله الرسمي. فموضوعات البيئة ومدونة الأسرة والتربية الطرقية وحقوق الإنسان والمواطنة والسيدا ومحاربة التدخين... بذلت فيها المدارس جهودا، يمكن تسجيل بعض آثارها واضحة على المجتمع، لكنها بقيت محدودة ومعزولة، وتفقد تأثيرها لذا المتلقي أمام التناقضات الحاصلة في واقعه المعاش، عندما يحفظ التلميذ على ظهر قلب دروس الاحتباس الحراري ومشكل النفايات، يجد بجوار المدرسة مزبلة وفي طريقها يوجد معمل للآجور يشغل أفرانه بحرق العجلات المطاطية المستعملة ومجاري مكشوفة "لواد الحار"... فأمام الدولة والمجتمع المدني والقطاع الخاص وكل المؤسسات التي يقع على عاتقها الجزء الأكبر من المسؤولية، الكثير من المهام اتجاه هذه القضايا، كما هو الشأن بالنسبة للأسرة والإعلام والجماعات المحلية ودور الثقافة ودور الشباب والإدارات العمومية والمساجد وجميع المؤسسات مدعوة للعمل على خدمة تلك القضايا، كي لا يبقى جهد المدرسة معزولا ووحيدا، و حتى تلقى مبادراتها الاستجابة اللازمة لذا السكان حين يروا حياتهم تتحسن.
للمسألة وجه آخر في العالم القروي
إن من شروط تحقيق تنمية بمجال جغرافي معين، أن يستهدف الفعل التنموي ساكنة هذا المجال، وأن تشترك هذه الساكنة في تخطيط وتنفيذ تلك البرامج المحتملة، وكل هذا يقتضي تأهيل العنصر البشري وإقداره عمليا على المشاركة. ولكي يتأتى دور التعليم في تنمية العالم القروي، سيكون من بين وظائفه، تمكين الناشئة من كفايات الاندماج والمساهمة في الإنجاز الجماعي لتطوير المجال، الشيء الذي يتطلب من التعليم انخراطا واعيا وهادفا في مخطط شامل للتنمية المحلية، مخطط بإمكانه جعل المجال القروي قادر على الحفاظ على ساكنته وتمكينها من المساهمة في التنمية، عبر تثبيت الإطار الديمغرافي وتحصينه من الهجرة. لكن عندما نتتبع سيرورة التعليم بالطرق المعتمدة حاليا، نجد أن نظام التعليم يقدم في مختلف مسوياته من الابتدائية إلى الجامعية، خريجين دووا مؤهلات لا تجد لها موقعا للاندماج في العالم القروي، أمام ما يعانيه هذا المجال من تلاشي بنيات الاقتصاد الزراعي المعيشي، وتراجع الحرف التقليدية، وضعف نتائج مخططات التحول إلى زراعات تسويقية. فتعتر مشاريع التحديث وتلاشي نظم العيش التقليدية نتجت عنه الهجرة نحو المدن، إذ يندفع الشباب القروي إلى الهجرة نحو المدن أو إلى الخارج، بعد أن أصبحت أنشطة الزراعة التقليدية والرعي لا تتجاوب مع تكوينهم المدرسي، خاصة إدا استكمل جزء من تمدرسه بالمدينة، فهو من جهة قد قطع -جزئيا أو كليا- الصلة مع نشاطاته الاقتصادية المحلية، مع ضعف إمكاناته المادية للاستثمار في القطاع الفلاحي العصري، ومن جهة أخرى لم يحض بتأهيل كاف للاندماج في سوق الشغل بالمجال الحضري، أو بالأحرى لا يملك القدرة على مجارات المنافسة القوية على المناصب فيه، فيضطر للعيش في الهامش ومزاولة أنشطة اقتصادية غير مهيكلة، هذا إن لم ينتهي به المطاف إلى البطالة أو الانحراف، الشيء الذي يضيف إلى أعباء المدينة مزيدا من مشاكل الفقر والبطالة وأحياء الهامش أو ما يوصف بأحزمة البؤس...
الشباب القروي المتعلم المستقر في القرى، والذي توقفت به مسيرته عند أسلاك التعليم الثانوي الإعدادي أو الثانوي التأهيلي، أوالعائدون بعد سنواتهم الجامعية بشهادات أو بدونها، أو بعد حصولهم على شهادات في التكوين المهني، يشكلون حاليا ظاهرة اجتماعية تتطلب دراسات سوسيولوجية، فنجد أن الحكم المأثور عليهم لذا ذويهم يلخص في عبارة "أفسدتهم المدرسة" فإن كان هذا القول محل شك، إلى أن الأخذ به لابد له من تفسير، فوضعيتهم في الوسط الذي يعيشون به بعد انقطاعهم عن الدراسة هي وضعية بطالة، متعلمون متمدنون ويظهر ذلك في ملبسهم وسلوكهم، عالة على دويهم لأنهم ينفرون من الأعمال المألوفة في وسطهم، ويتطلعون إلى العيش على النمط الحضري. إن لم يكن في هذه المواصفات ما يدعو إلى الاستغراب، فالغريب على الأقل هو أن لا يتطور واقع القرية مع مرور الوقت، حتى يستوعب مهام المهندس الزراعي والتقني والكاتب والرصاص... وأن الغريب أيضا ألا تتزامن عملية تنمية القرية مع إنتاجات عمل المنظومة التعليمية، والأغرب كذلك أن لا يتوافق منتوج التعليم مع واقع متطلبات الاندماج الحقيقي في المجال.
إن إلزامية التمدرس و توفير مدارس قريبة من المتمدرسين في العالم القروي، وتوزيع مستلزمات التمدرس مجانا، إلى جانب تزويد القرى بالماء والكهرباء... لم يعفي ساكنتها أمام استمرار الفقر، من حرمان أطفالهم من التمدرس، بل إننا لازلنا نجد فتيات وفتيان ينقطعون عن حجرات المدرسة، لكي يشتغلون في الرعي أو في الحقول أو ينتقلون للمدن من أجل مزاولة بعض الحرف أو تشغيل الفتيات منهم في المنازل... فالأسر القروية ما يقلقها أكثر هو قوت عيشها اليومي، والطفل حتى وإن كان يتمدرس فهو لازال يشكل قوة عاملة، مما يقتضي بالضرورة انحدارا للمستوى العام للتمدرس بالعالم القروي.
فتكلفة تعميم التمدرس بالعالم القروي كبيرة جدا، لكن نتائجه المتواضعة لم تكن في صالح هذا المجال. لأن تعميم نفس البرامج والمناهج على القرى والمدن، لم يأخذ بعين الاعتبار الفروق الشاسعة بينهما، ففي المجال الحضري يحض الأطفال بمعاملة خاصة كأن يستفيدوا من تعليم أولي، ومن مواكبة من أبوين متعلمين أو أحدهما، ووسائل وإمكانات يفتقر إليها الطفل القروي الذي يساهم في أعمال الرعي والسقي. حيث يصطدم منطق تكافئ الفرص بقوة عدم تكافئ الواقع، كما أن تكييف التعليم مع متطلبات سوق الشغل، جاء بمنطق سوق المجال الحضري ولم يراعي حاجيات العالم القروي الواقعية، وليس السوق الافتراضية التي ترسم صورة القرية التي تعرف المكننة والضيعات المنظمة على غرار المقاولة العصرية. أما إنشاء مجموعات مدرسية تتوزع "فرعياتها" على نطاق جغرافي واسع، فقد عرض جهود المدرسين إلى الهدر، وتأزيم أوضاعهم النفسية والاجتماعية، وتعريضهم لحالات الانهيار والشعور بالعداء للمنظومة.
فمدرسي التعليم الابتدائي -الذين إختيروا بالآلاف- من بين خيرة المتفوقين في البكالوريا، لسنوات التسعينات والعشرية الأولى، ومن بينهم حاملي شهادات جامعية، دفعهم انسداد الآفاق بعد الإجازة، إلى اختيار التوظيف في التعليم هروبا من شبح البطالة، وليس حبا في المهنة في أغلب الحالات. هي فئة شكل لذيها واقع التعيينات النائية جدا مصدر صدمة، رغم أنها كانت تسمع الكثير عن هذا الواقع، بل إنها تعيش إلى يومنا هذا صدمات اكتشاف المغرب العميق، والعود إلى وضعيات لم يعتقدوا قط بوجودها في الحاضر، لأنها تنتمي إلى عصور بدائية قياسا بالظروف التي نشئوا فيها بالحضارة. فالطريق إلى الفرعية والعيش في "الدوار" هي معانات دائمة للذكور كما للإناث ومنهن أمهات وحوامل، ظروف صعبة يتطلب العيش فيها تحمل مشاق عدة كالسير على الأقدام لعشرات الكيلومترات، بعد استنفاذ جميع وسائل النقل المتاحة، مرورا بالغابة والجبل والوادي... وجمع الحطب لتدفئة وسقي الماء، بدون شبكة الهاتف النقال أحيانا، ولا تسأل عن حالات الطوارئ، بدون كهرباء... وهو واقع ليس من سمع عنه كمن عاشه.
تلك مفارقات أخرى من مفارقات تنزيل التحديث على العالم القروي، دون استثمار خصوصياته المحلية، والأمر بات يستدعي اعتماد مقاربات محلية في تقرير جانب من وظائف المدرسة داخل كل قرية، وتبني استراتجية القرب في تدبير الموارد البشرية بالعالم القروي. وتحقيق هذا لا ينفصل عن مخطط استراتيجي شامل لتنمية محلية بالقرية أو بمجموعة القرى المتقاربة، مخطط يحدد معالم الدور الذي يمكن أن تلعبه المدرسة في تنشئة المواطن محليا.
خلاصة القول أن أفق إصلاح التعليم يتطلب الأخذ بمقاربات مندمجة، تراعى فيها الخصوصيات المحلية ضمن مخططات تنموية محلية، لا تستهدف المدن أو الجماعات الكبرى فقط، بل تستهدف أيضا مختلف القرى، مخطط تتكامل فيه مهمة التعليم مع مختلف القطاعات المكونة لمشروع تنموي شامل. وكي تنجح المدرسة في زمن مدرسة النجاح، سيكون لزاما على الفاعلين تبني إصلاحا يؤخذ فيها بشكل متزامن البعدين الداخلي والخارجي معا، فتغيير البرامج والمناهج والمقررات وتوفير جميع شروط قيام المدرسة بمهامها، لا يعفي من مسؤولية إدماج الخريجين والحد من بطالة الكفاءات، لأن المجتمع لن يرضى عن مدرسته إلا إذا وفرت لأبنائه فرص الاندماج وتحقيق الذات بذل نزعهم من تربة التقاليد وزرعهم في دوامة الضياع.
ذ. محسن إشحا