المجتمع المدني بالمغرب من ثقافة الوصاية إلى ثقافة المسؤولية
المجتمع المدني المغربي
التحول من ثقافة الوصاية إلى ثقافة المسؤولية
ذ. محسن إشحا: ×××××
1- المجتمع المدني المغربي مسار التحولات:
يتأسس المجتمع المدني في مبادئه و ممارسته على فكرة المواطنة، فالمواطن هو شخص معني بحياة جماعته والوسط الذي يعيش فيه، بوصفه فاعلا أساسيا ومحوريا وليس عنصرا هامشيا، إنه يقرر في كل ما يتصل بتطوير وتحسين شروط العيش الجماعي، وإن كان المواطن قد يجد نفسه كذلك بحكم المهنة التي يزاولها، إلى أنه قد تبين عبر التاريخ أن الفعل العمومي السياسي والإداري والاقتصادي والخدماتي، سواء كان رسميا أو خاصا، مورس بشكل تلقائي أو في شكل وظيفة عمومة أو مهن حرة أو أي نشاط آخر... فهو يترك فراغات ومناطق ضل مهملة من الحياة الجماعية، تلك التي لا تدخل بطريقة أو بأخرى في نطاق حسابات الهيئات العمومية و الخاصة الرسمية والسياسية والاقتصادية، حسابات إستراتيجية أو أيديولوجية أو ربحية أو تقنية أو معرفية أو على الأرجح كل ما لا يخدم توجها بعينه، بل أكثر من ذلك تترك آليات عمل النظم الاقتصادية والصناعية و البيروقراطية مجالات من التأثير الجانبي ذي الانعكاسات السلبية على حياة الجماعة ومحيطها. فيجد المواطن نفسه - وعلى نحو تطوعي - مطالبا بالاضطلاع بمهامه "المواطنتية" في مباشرة العمل و الفعل من أجل الحد من تلك المشكلات، عبر إيجاد الحلول والتأثير والضغط في اتجاه التنبيه إلى المخاطر ودفع المؤسسات المعنية إلى لعب أدوار أكثر نجاعة في هذا الاتجاه. ولكي يتسنى له تحقيق ذلك، ومادام وجوده كمواطن مرتبط بالجماعة التي يتشارك معها الواقع والغاية والوسيلة، فلابد له أن يضيف جهده الشخصي إلى جهود جماعة منظمة ومؤطرة على نحو قانوني.
إن المجالات التنموية والحقوقية والصحية والبيئية والثقافية والاجتماعية، تتعرض في مجتمعاتنا المعاصرة لمخاطر عدة، نابعة من هواجس تحقيق الأمن و الاستقرار السياسي أو الاستجابة للضرورات والأولويات المسطرة على أجندات الأنظمة السياسية أو مصالح المؤسسات الاقتصادية، فالدولة بما هي نظام مركزي لا يمكن أن ترعى أدق تفاصيل وهموم حياة الجماعات باختلافاتها وجزئياتها، مادامت سياساتها تتصف بالعمومية والشمولية وتسري على الجميع بنفس الطريقة، وكلما احتكرت الفعل الجماعي وأسندت تدبير الشأن المحلي لأجهزتها الإدارية، إلا ووضعت المواطن في حالة قصور ووصاية، وجعلت منه أذات فعل تتحقق به غاياتها و ليس هو غاية كل ما تفعله. ومن هنا تجد الشعارات والتوجهات الرسمية للمغرب نحو نظام جهوي وحكامة محلية، سندها ومشروعيتها في إرادة عامة نحو ترسيخ سياسي للمواطنة كنظام إداري وقانوني. فمبادئ مثل التشاركية والحكامة والقرب تجد في الديمقراطية المحلية فضاء حيويا يستوعبها وينميها. لكن هذا التوجه لم يجد له سبيلا نحو التطبيق الفعلي لأن إرساء هذه الممارسة يتطلب تعزيز وتفعيل دور المجتمع المدني، باعتباره إطارا حيويا لتحقيق المواطنة. فما الذي حال دون قيام المجتمع المدني بهذا الدور؟ وما هو واقعه بالمغرب؟ وما علاقته بالدولة؟ و ما موقعه مما يجري حاليا؟ وما مدى وعي المواطنين بالأدوار التي يقوم بها وتلك التي يمكن أن يقوم بها؟
لقد شهد المجتمع المدني بالمغرب تحولات كبرى مند صدور قانون الحريات العامة في ظهير 15 نوفمبر 1958 وتضمين الدستور المغربي تنصيصا على حق تأسيس الجمعيات، فتعددت أشكال المراس الجمعوي إذ عرف في مرحلة تأسيسه قبل وبعد الاستقلال، قيام منظمات حزبية ونقابية وجمعيات كشفية وجمعيات للأوراش التطوعية والتعاونيات والخيريات، وكانت مرحلة سياسية بامتياز لعبت فيها الأحزاب، في إطار انشقاق الحركة الوطنية إلى يمين و يسار، دور المستقطب لكل فعل جمعوي. فأخضع حينها النشاط الجمعوي الشبابي والطلابي والتلاميذي والنسائي للنشاط الحزبي، إذ لم يعد مسيسا فقط بل تم ضمه بشكل مؤسساتي فيما سمي بالمنظمات الموازية للأحزاب.
في مرحلة موالية ستشهد الحريات العامة تراجعا خطيرا، مرحلة طبعها تدخل قوي وعنيف للدولة، من أجل الهيمنة على الفعل الثقافي والاجتماعي وحصر مهامه في تأييد أجهزة الدولة. فانحصر التواجد الجمعوي المسموح به في حدود دائرة التبعية للدولة أو للأحزاب السياسية المتحالفة مع النظام، أما ما دون ذلك فهو عرضة للمضايقات والاعتقالات والتعذيب والتدخلات العنيفة والطرد، وقد ضرب بقوة حاملي الطروحات الحقوقية المناهضون للسياسات العمومية بما تشهده من ختلالات، وستتعرض الحركات الاحتجاجية وكل الفاعلين فيها من حقوقيين وجمعويين وإعلاميين وفنانين وغيرهم، وبمختلف أشكالها من مظاهرات وإضرابات لمعاملة القبضة الحديدية. فالجمعيات التي تم تأسيسها في مرحلة السبعينيات و الثمانينيات، منها موالية ذات النفوذ وحاصلة على صفة المنفعة العامة، التي خول لها إنجاز مشاريع تنموية عبر تحصيل دعم مهم من الدولة، وكانت الشكل الوحيد للعمل الجمعوي في مجال التنمية، لكنها جمعيات شبه مغلقة على فئات من المقربين والموظفين المحسوبين على الدوائر الرسمية. أما المنظمات الحقوقية فقد غلب عليها الانحصار والتقوقع في الطابع المركزي، بحكم العراقيل والقيود التي فرضت عليها، واتخذت أشكالا نضالية مما جعلها في حاجة إلى مظلة سياسية، فإما أن تنصاع لسياسة النظام الحاكم أو تحتمي بحزب سياسي على نحو مشروط، فتختار مضطرة أخف الضررين. ويحق لنا في هذا المقام أن ننوه بالأدوار التاريخية لنضالات الحركة الحقوقية في المغرب، ومكاسبها على المجتمع المدني وعلى الحريات العامة. أما التعاونيات الفلاحية أو الصناعية فقد بقيت في حدود توفير الدخل الأدنى للمنتسبين إليها، في الوقت الذي شكلت فيه مطية للترقي و زيادة الاغتناء لدى الشركات الكبرى و بعض الوسطاء والتجار، وبقي الاقتصاد الاجتماعي دون مستوى المساهمة في التنمية المحلية و خلق الرفاه الجماعي. أما العمل الاجتماعي للجمعيات والتعاضضيات والموجه للمهمشين ودوي الحاجات الخاصة والمكفوفين و أطفال الشوارع، فكانت ذات طابع خيري إحساني مفرغ من أي مقاربة حقوقية ومطوقة بالكثير من "الطابوهات".
بعد انحصار طويل سيعرف الوضع، خلال العشرية الأخيرة من القرن العشرين، انفراجا تدريجيا، إذ ستشهد المرحلة في بدايتها انتعاشا للجمعيات التي تعنى بالتنشيط الثقافي والتربوي والطفولة في مطلع التسعينات، حيث ازداد الاهتمام بدور الشباب والمخيمات الصيفية. وهي الفترة نفسها التي ستعرف انبثاق الحركة الجمعوية النسائية التي تطورت بالتدريج، خصوصا بعد توقيع المغرب سنة 1993 على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، و اتفاقية حقوق الطفل. وستخرج الهيئات الحقوقية سواء المستقلة أو التابعة للأحزاب إلى العمل العلني وإشهار مواقفها، وستعرف قضية المرأة حضورا جمعويا متزايدا وقد توسع نشاطها، ولم يعد منحصرا في المجال الحضري بل امتد إلى العالم القروي. لكن أمام هذا المد المتزايد للجمعيات من حيت الكم والنوع، ونزوعها المتعاظم نحو الاستقلالية، بقيت مجموعة من العوائق الموروثة عن الفترة السابقة تحد من عملها ونتائجها الميدانية، فضعف التمويل أحيانا وغيابه أحيانا أخرى، وندرة المنح الرسمية وضآلة مبالغها... وافتقار العمل الجمعوي إلى استراتجيات ومخططات ومناهج واضحة، وضعف في التكوين. وعدم استيعاب المجتمع لثقافة وقيم العمل الجمعوي، خصوصا عندما يتعلق الأمر بقضية المرأة و الأمهات العازبات وأطفال الشوارع ومحاربة الرشوة وحماية المستهلك وتشغيل الأطفال ... حيت سيجد الفاعلون الجمعيون أنفسهم في مواجهة عقليات متحجرة، سائدة لدى الأفراد سواء كانوا أشخاص عاديون أم مسئولون سياسيون وحكوميون أم منتخبون ورجال سلطة... مما أضفى طابع الصراع على مجموعة من الوضعيات والمواقف.
1- في الحاجة إلى ميثاق جديد:
عرفت العشرية الأولى من القرن الحادي و العشرين منعطفا متميزا في الحريات العامة بالمغرب، وقد شهد موقع المجتمع المدني في سياق علاقته بالدولة انتقالا نوعيا، من موقع مصدر الارتياب و الشكوك الأمنية، إلى موقع الشريك في التنمية، والمعول عليه في تأطير المواطنين. وقد تمكنت الدولة عبر تخصيص ميزانيات معينة أو التحكم في الموارد الدولية للدعم، من التمويل الجزئي أو الكلي لأنشطة مجموعة من الجمعيات، الأنشطة التي تتماشى والمشاريع والبرامج الرسمية التي تطلقها من مرحلة لأخرى عبر مجموعة من المؤسسات، مثل مؤسسة محمد الخامس للتضامن و وكالات التنمية بالأقاليم و وكالات التنمية الاجتماعية ... هذا علاوة على إطلاق مبادرات مثل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية. وقد لقيت هذه العملية إقبالا متزايدا من طرف الفاعلين الجمعويين، بل فتحت شهية من لم يتعاطوا في السابق للعمل الجمعوي إلى تأسيس جمعيات جديدة.
ويمكن تسجيل أن المشهد الجمعوي قد أصبح يشتغل على ضوء مفاهيم تغطي متطلبات كل مرحلة، مفاهيم مثل: "التضامن- التنمية- البيئة- المواطنة- التنمية البشرية- التنمية الاجتماعية- محاربة الأمية- محاربة التهميش – التنمية المحلية..." وهي مفاهيم تحدد حقول اشتغال الجمعيات وتؤطر أهدافها وبرامجها. كما ينبغي أن نسجل أن المراجعة المتواصلة لسياسة الدولة اتجاه العلاقة بالمجتمع المدني كشريك، قد استدعت إعادة النظر في هذه العلاقة على ضوء تقييم انجازات كل مرحلة وفتح مرحلة أخرى باستراتجيات جديدة، كاعتماد إستراتجية المشروع، التي تبين بحكم التجربة أن تفعيلها وتثمين دورها أستدعى تمكين الفاعلون من التكوين اللازم، و تزويد الجمعيات من آليات انجاز وتدبير المشروع، ثم بعدها تبينت الحاجة لا فقط إلى مشاريع بل تتبع وتدبير ما أنجز، واعتماد المقاربة التشاركية واسراتجية الحكامة، وهكذا فأمام اتساع المجال أمام الجمعيات وتزايد الطلب عليها كشريك، ازداد اهتمام الفاعلون الجمعويين بالتكوين، وإدخال آخر المستجدات، كما أن تقييد الدعم الممنوح للمشاريع تلك بشروط الكفاءة عزز هذا التوجه. وإذ تبدو هذه الحصيلة مشجعة في مسار تطور حضور المجتمع المدني في الفعل التنموي عموما، إلا أنها مع ذلك تبقى سيرورة تعتريها مجموعة من الاختلالات يمكن يحصرها كما يلي:
1. رغم العدد الكبير للجمعيات بالمغرب فهناك فقط فئة محدودة من الفاعلين الجمعويين، مقابل عزوف الغالبية العظمى من المواطنين عن ممارسة العمل الجمعوي، في الوقت الذي تقتضي الضرورة قيام المجتمع المدني بتجميع وتنظيم الجهود التطوعية لأكبر عدد من الأشخاص - سواء كانت هذه الجهود جسدية أو فكرية أو إبداعية أو أي خبرة عملية - من أجل خدمة المصلحة العامة، كما أن تزايد عدد الجمعيات يفترض تزايد عملية استقطاب المواطنين.
2. كثلة الفاعلين الجمعويين تتحرك بين مفهوم وآخر في كل مرحلة، لنشهد تأسيس عدد كبير من الجمعيات، تحت تسمية التضامن عند إطلاق حملة رسمية في هذا الاتجاه، و سرعان ما انقلب التوجه نحو مفهوم المواطنة وبعده مفهوم التنمية البشرية وهكذا دواليك... فتبين أن هناك ترحال جمعوي وزحف خلف الموضة الجمعوية. إما سعيا خلف تحصيل الدعم، أو تناغما مع سياسة الدولة لغايات التقرب والترقي، مما أفرغ الساحة من عنصر الاستمرارية وتتبع البرامج، وكشف عن ضعف المرجعيات وتهافت نخبة انتهازية.
3. تحكم منطق الدعم المالي للدولة في سيرورة تأسيس الجمعيات، حيت يشكل الانسجام مع الخطاب الرسمي هاجس أساسيا لذا بعض الفاعلين، فلم يعد تأسيس مجموعة من الجمعيات استجابة لحاجات فعلية، أو تماشيا مع قناعات واستراتيجيات بعينها، بقدر ما هو مجرد تأثيث لمشهد تتلاقى فيه مصالح أشخاص مع طموحات رسمية. فنجد تشابها كبيرا بين قوانينها الأساسية و أهدافها وبرامجها ومشاريعها.
4. فساد في آليات منح الدعم، حيث لا تتعرض الملفات للدراسة الموضوعية، بل تشوبها المحسوبية والزبونية والرشوة والعلاقات الحزبية.
5. تورط بعض الفاعلين الجمعويين في الفساد المالي والنهب وسوء تدبير المال العام، فبعد ولوجهم لمشاريع حصلوا في إطارها دعما ماليا من الدولة وغيرها، لم يلتزموا بتعهداتهم ولم يرجعوا الأموال المحصلة. حيث تعرضت أموال مهمة للهدر دونما نتائج ملموسة.
6. تفشي ظاهرة الالتفاف على قانون الحريات العامة، وتوظيف الدولة للصيغ الجمعوية لتدبير بعض القضايا، كاعتماد صيغة جمعية مدرسة النجاح في قطاع التعليم العمومي، لتدبير ملف الدعم المالي للمؤسسات، وصيغة جمعيات المخيمات الحضرية لدى وزارة الشباب والرياضة. وهي صيغية للإفلات من المحاسبة المالية، إضافة إلى ذلك نجد تأسيس جمعيات بتوجيه من السلطات، فقط لتدبير وتسيير بعض المشاريع، والتي يفترض من القطاعات الحكومية الوصية أو الجماعات المحلية تعيين موظفين أو خلق مناصب شغل للقيام بذلك.
7. هشاشة استراتيجية الشراكة، بسبب ضعف استقلالية الفعاليات الجمعوية، خصوصا أمام قيام الدولة بأدوار الراعي والموجه والممول والمنظر والمؤطر، وعجز الجمعيات نفسها عن مجارات حاجياتها من التنظير و التكوين و التمويل... و حصر دور المجتمع المدني في حضور شكلي خدمة للترويج الإعلامي.
8. غياب شراكة حقيقية بين الجمعيات والقطاع الخاص، الذي لازال في موقع الداعم أو المستشهر دون أن يبلغ مرتبة الشريك الفعلي.
9. غياب إحصائيات و دراسات ميدانية مدعومة بأرقام وبيانات دقيقة عن حصيلة إنجازات الشراكة بين الدولة والجمعيات، والتي يتم على ضوئها تقييم كل مرحلة، وتجديد الاستراتيجيات، حيت أصبح الكشف عن واقع تسيير تلك المشاريع ونتائجها ونسب تحقق أهدافها حاجة ضرورية لتطوير العمل.
10. التداخل بين ما هو سياسي/انتخابي وما هو جمعوي، كتوظيف الجمعية لأهداف انتخابية، فتتأسس جمعيات جديدة قبل كل انتخابات، استغلالا لرصيد المجتمع المدن في العمل الاجتماعي، لتلميع السمعة الانتخابية لبعض المرشحين، وتوظيفها كوسيلة للضغط أو الدفاع أمام الفعاليات الجمعوية نفسها أو الخصوم السياسيين.
11. ضعف آليات الديمقراطية الداخلية للجمعية من خلال ظروف وكيفية التأسيس، و عدم احترام القوانين الأساسية من حيت الأهداف ومواعيد الجموع العامة، وتقديم التقارير المالية والأدبية، وانتخاب المكاتب المسيرة... إذ تحدث غالبا شبه قطيعة بين المكتب المسير وقواعد الجمعية، والعديد من الجمعيات تتفكك في ولاية مكتبها الأول، دون أن تفلح حتى في عقد جمعها الأول بعد التأسيس.
12. التفكك الذاتي للجمعيات بسبب نزاعات داخلية بين مسيريها، وهي نزاعات ناتجة عن أسباب مصلحية أو سلطوية أو حزبية أو قبلية أو عائلية أو بسبب خلافات حول المنطلقات والمرجعيات والمنهجيات... وهي خلافات تؤدي في كثير من الحالات إلى تفكك الجمعية وانتقال أعضائها لتأسيس جمعية أخرى أو العزوف عن العمل الجمعوي.
13. تراجع العمل الجمعوي عن بعض ثوابته التطوعية، في ضل شبه غياب لمرجعيات واضحة يتفق حولها الفاعلون الجمعويون، خصوصا أمام تنامي الحديث عن الجمعية المقاولة.
وانطلاقا من هذه المعطيات، يبين واضحا استمرار منطق الوصاية في سيرورة المجتمع المدني، لأسباب ذاتية هي بالأساس تنظيمية ومنهجية، وأخرى تتمثل في تدخل الدولة التي تشترط فعالية المجتمع المدني في حدود ما تفرضه توجهاتها، وتتحكم فيه عبر آلية الدعم المشروط وتأسيس جمعيات تابعة للنظام. إنها وصاية من طرف الدولة على الحياة الجمعوية بصيغ مباشرة أو غير مباشرة، فمنع الأنشطة بدعوى أنها "لا تحمل ترخيصا"، وهو ترخيص لا ينصص عليه القانون المغربي، بل إن النخب الجمعوية أقحمت في عالم المال والصفقات والمشاريع التي أفرغت من أهدافها الإنسانية النبيلة المعلنة، وزج بها في سياق التهافت نحو الربح غير المشروع لدى الكثيرين، وأصبح التوريط في الفساد المالي والتلويح بالمحاسبة آلية لاستتباع المسؤولين الجمعويين، حتى صارت العملية برمتها لعبة مكشوفة، يقع فيها رؤساء الجمعيات تحت سيطرة القائد أو الباشا أو العامل أو الوالي، وإن انفلتوا من هؤلاء يقعون تحت سيطرة المجلس البلدي أو الحزب أو كتابة الدولة ... فالحصول على الدعم عن طريق المحسوبية والزبونية، لدرجة أن الجمعية التي تضع ملفا للدعم لدى جهة معينة تكون مطالبة بوجود مقرب أو وسيط أو خادم رشوة... كضمانة للحصول على الدعم.
إنه واقع أقل ما يمكن وصفه به هو أنه مأزوم ويندر بإفلاس المجتمع المدني بالمغرب والمطلوب الآن إطلاق حركة تصحيح، واستثمار التجارب الناجحة والإيجابية وتخليق الحياة الجمعوية، مع تفعيل آلية المحاسبة وعرض المفسدين على القضاء، ومتابعة الأشخاص المتورطين إذا تعذر متابعة التنظيمات التي تفكك بسهولة يسهل معها التنصل من كل التزامات، وإدراج الحسم في شبكة المحسوبية والزبونية والرشوة، في إطار عام للحسم النهائي مع هذه الشبكة وتفكيكها وطنيا. وعلى اعتبار أن المجتمع المدني يستمد تطوره، من مسار تطور التجربة الإنسانية المشتركة، فالحاجة إلى توسيع مجال المشاركة الديمقراطية إلى مجمل الفعل الجماعي برمته، وعدم حصرها في الفعل السياسي، يقتضي تمكين الجماعات من مباشرة تدبير شؤونها، ومواجهة مشاكلها بالطاقات والإمكانات الذاتية، عن طريق إنشاء تنظيمات مدنية لا تلغي دور المجالس والهيئات المنتخبة، لكنها مستقلة عنها، فالسياسة العمومية في مركزيتها - مهما كانت نابعة من ممارسة ديمقراطية- لا تستطيع الإحاطة بأدق تفاصيل ومتطلبات الحياة الجماعية في مختلف مستوياتها. لهذا فمجتمع يسمح بخلق جمعيات تمكن المواطن من القيام بأدواره وتحصين حقوقه، ولأن المجتمع المدني - ومند ظهوره - تأسس من منطلق الوعي بأهمية العمل المشترك للمواطنين، وتجميع جهودهم على نحو تطوعي لخدمة قضية تمس شأنهم العام، تطلب دائما الالتزام بمعايير محددة تثنيه عن شبهة أو لبس، فوضعية المجتمع المدني في المغرب في حاجة إلى ميثاق جديد تضعه الفعاليات الجمعوية نفسها، تحدد فيه المبادئ والمنطلقات والغايات، ميثاق يشكل مرجعا تهتدي به الجمعيات على ضوء أرضية أخلاقية تحصن الممارسة من الانحرافات الحاصلة و المكنة. حتى يطلع المجتمع المدني بالمسؤولية في رسم طريق خريطة طريقه باستقلالية حقيقية بعيد عن التوجيه الرسمي أو الحزبي أو المقاولاتي.
محسن إشحا : الكاتب العام للفدرالية الجمعوية للتنمية والتكوين بالمغرب