إن من أراد بلوغ المعرفة الحقيقية لابد له من معرفة حقه ، ولابد له مـن مــبادىء فكــريــة لا يكون لها هدف غير هدف سمو الأفكار والعلم ، ولابد للإنسان أن يقوم بواجبه نــحــو نفسـه ، ولمعرفة ما يحيط بسر الأشياء يجب الرجوع إلى أصل هذه الأشياء ، والــرجــوع إلــى هــذا الأصل هو أصل المعرفة . وقد درس الإنسان ما حوله محاولا اكتشاف كل قانون تــعــمـل به الطبيعة ليقارن بينه وبينها ، وليقرب إليه معرفة ما في الطبيعة لمعرفة نفسه . والطبيعــة لــها سرها ، والعقل له أسراره ، إذ ليس في العقل كواكب أخرى لها قانون مشابه لقانــون تــوازن الطبيعة ، إنما هو قوة متحركة في نفسها ومحركة للإنسان . والإنسان بالعقل هو الـذي نــقــل إليه صورة الطبيعة ولو أنه وجد في مكان غير الأرض تحيط به أشياء أخرى غير ما يحـيــط به الآن لبدل كل أفكاره ومبادئه على حسب ما يتوفر لديه . ونجد الشعوب كلها فــي فــكــرها خاضعة للبيئة التي تعيشها ولو تناقلت العلوم بينها لا نجد أثرا للحقيقة الثابتة ، بل نجـد طــرقا علمية مختلفة أساسها البحث عن الحقيقة نفسها ، وإن اقتناع الإنسان بعلم ما ، فصـعــب جــدا بالنسبة له . إذ أغلب العلوم تفرض عليه الاقتناع بالغيب وحصر المعرفة . والإنسان يقـتــنــع بكل علم هو خاضع للرؤيا والحواس ، أو خاضع للتجربة والاستعمال . والعلم في حد ذاتـه لا يخضع كله لما يتطلبه الإنسان ، وكل علم خاضع للإنسان في شيء إنما يبقى معرفة للأشــياء بالنسبة للإنسان ، ولا يكون معرفة حقيقية للحقيقة .
والحقيقة التي يبحث عنها الإنسان إنما هي حقيقة الكون وحقيقة نفسه أو حقيقة كنه الأشــياء أو دورها أو مركزها أمامه . وهذه الحقيقة مجردة من الحقيقة ، لأن معرفتها تدل علــى قــوة الأشياء فنجد الإنسان يسعَى إلى القوة للسيطرة فقط .
أما الحقيقة المفروضة على الإنسان ، فهي معرفة كل حقيقة دون استخلاص ما فيـه ، ودون إرادة ترتيبها ترتيبا آخر يجعل الأشياء خاضعة له ، والحقيقة المجردة هي حكمة كل الحكـماء وخلاص كل باحث ، وللبلوغ لهذه المرتبة لابد من استعمال العقل دون استغلاله فيما يستنــفع به الإنسان من استكثار حاجياته أو شهواته ولذاته فقط .
فلابد للعق من حكمة تكون حاكمة بحكمتها للإنسان حتى يجد طريقة في كـل بــحــث ، ولا يمكن فصل علم عن علم آخر بمجرد عدم الاقتناع ، أو عدم توفر أدلة مادية لذلــك الــعــلــم ، والإنسان إن تميز بالعقل فالواجب أن يكون عاقلا ويقبل الأشياء المطروحة علـيــه فــي هــذه الحياة أو المفروضة عليه حتى يتم له التمييز بين الخطأ والصواب . وإن خطأ الإنسان بدأ مـذ أخذ يحاول تسخير الطبيعة كلها له ، والطبيعة فيها ما هو مسخر لها ليضمن سـر حــركــتــها ودوامها ، وفيها كذلك ما سخر للإنسان . ونجد الطبيعة تساعده في استعمال ما سخر لـه دون
عناء . وسبب الخطأ كله هو وجود علمين ، علم علم ، وعلمجهل ، فعلم العلم هو علـم فــيــه المعرفة للحقيقة المجردة من كل استغلال ، وأما علم الجهل ، فهو معرفة قد تـضــر الإنســان وهو يحسب أنه يستنفع بها ، ويبقى ذلك علما حقا لأنه معرفة ، ولكـن وجــب علــى الإنــسان الوقوف عند حد بعض الأشياء وبعض العلوم ، إذا تبين له أنها تضر به . وعند سـوء تــوازن ما يحيط بالإنسان يسوء توازن العقل ويصبح الإنسان مهتما بهمومه ولا يهتم بما يــهــمه عن نفسه . والإنسان إن تغير أمره ، أخطر عليه من كل تغير في الطبيعة ، لأن الطـبــيــعــة لــها نموذجها لتغيير ما يغيره الإنسان ، ولها القدرة على الرجوع إلى أصلها .
ولأن الرجوع إلى أصل الأشياء هو رجوع إلى أصل المعرفة ، وقبل أن نرجع إلى مصـدر وجود الإنسان أو سر الكون وأصله ، فلابد أن نرجع إلى أول خلقة الإنسان وبعــد ولادتــه إذ كان بعقله ، والعقل راكد فيه وقد وجدت عنده فطرة الرضاعة دون سابق تعلـيــم فــكان ذلــك ضرورة . حياة الجسم هي التي دفعت قوة الإلهام الحاسي حتى تمكن الإنسان من الرضاعــة، فكانت حاسة الجسم للحياة منفصلة عن العقل في حواسه ، وعندما يدركها العقل يلبي رغــبــة حاجة الجسم ويرجع العقل الحواس للجسم مترجما له إرادة الرضاعة ، وبعد أيام نجد الطفــل يكتسب حواسه ويتعرف عليها إذ هي موجودة فيه ، فيفهم في مدة ما يراه بعد أن يكتسب قــوة الرؤيا ، وكذلك قوة السمع ، فيفزع للأصوات الغريبة عنه ، وعند كمال الحواس فـي قــوتــها نجد الإنسان يتفرغ للبحث عن الجلوس والمشي وكل ما يحتاج إليه ، ثم يتعرف على الأشـياء الخارجية عن جسمه بحجمها ، أو نعدها ، أو حرارتها ، ثم بذوقها ، أو رائحـتها . فــيــتــصل الإنسان بعد ذلك بمعرفة العلوم الموضوعة في الطبيعة ، وهناك أشياء يـرثــها الإنــسان مــن فصيلته ، أو يتوارثها ممن يحيط به ، وقد نركز عقله في البحث عن أشياء سليمة ، أو نجْـبـره على السعي إلى وسائل إجرامية . وهذا الميدان كله إنما هو طريقة تطور العقل فـي الأفــكار، وليس تطور الأفكار في العقل ، لأن العقل لا يخضع لمسطرة معينة ، بل يرجع للجسم فـعالية ما يطلب منه الخضوع إليه . ونجد الإنسان هو الذي خضع للمسطرة المعينة وليس العــقــل . والعقل هو وسيلة تسجيل لما يريده ، أو ما يسعى إليه فقط .
إن التسجيل في العقل يتم بواسطة الحواس وحدها ، والأفكار كذلك إن لم تأخـذ صــبغــتــها صوريا أو إحساسيا لا تسجل في العقل ، وكل مالا يحفظه الإنسان مما يريد حفظه ، أصــلـه راجع على عدم تمكنه من إعطاء صورة ما لما يسعَى إلى حفظه ، وإن توفر لمشهد ما ، قـوة الخوف والفزع تتجمع الحواس كلها فيتم التسجيل في العقل بوسيلة واضحة يذكرهـا الإنــسان دائما وبسرعة ، والعقل لا يسجل فيه شيء في حد ذاته بل كل ما يسجله يحتفظ به فـي خــلايا الدماغ كما يضع النحل العسل في خلايا خليته .
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.