إن فكر الإنسان يوما في نفسه يستغرب في أمره ، وإن فكر في عقله لا يجد سبيلا إلى فهمه ، ما الداعي الذي يدعوه إلى البحث عن نفسه؟ وما الهدف في البحث عن قوة عقله في عـقـله أو التفكير في خياله بخياله؟ ألا يعقل أن نفهم أن بالعقل لا يمكن أن نعرف العقل ، كما لا يمـكــن أن نعرف الخيال بالخيال ، كل شيء حول الإنسان يحيط به تساؤلا ، وأول ســؤال هــو عــن أنفسنا : من نحن؟ وما هو العقل؟ فكان البحث عن أمر الإنسان والعقل صراعا فــي المبادىء والأفكار وكذا العقائد والديانات . وما كنت الحروب كلها من أولها إلا اختـلافا فــي الأفــكــار والمبادىء ، يتجلى ذلك في اختلاف مراتب العقل والعلم والمعرفة . وجد الإنسان أن أجدر ما يجب أن يعرفه هو المعرفة والبحث عن العلم قبل البحث عن نفسه أو البحث عن عقــلـه فــي عقله ، فيرجع على بدايته . فيجد أنه ولد وما معه من عتاد أو زاد ، ودون علم أو معــرفـة أو تمييز بين الخطأ والصواب . وما من أحد يولد غلا ويأتي من مكانه المجهول غيـر مــسـتـأذن لأحد ولا طارق لباب ، لا يعرف نفسه ولا يُعرِّف عن نفسه ثم لا يعرف عنه شيء . لم يــكـن شيئا فأصبح شيئا بين الأشياء ، يعتني به ويعطى له اسم دون اختيار فيتعلم ممن يحيــط بــه ، فيجد أن مسطرة الحياة جعلت دون استشارته ، ثم يتعلم ذلك مـما يــحــيــط به ومــن تــجاربه واكتشافاته ، والعقل دليله ، ودليل العقل العلم ، وبالمعرفة المبهمة يطرح الإنسان السؤال مـن أنا؟ فكان الإنسان هو نفسه سؤالا في الحياة .
كل فرد منا إلا ووجد نفسه أنه خلق بين الناس ، وقد سبقوه إلى الحياة ،كيف تأخر في قدومه؟ ولِمَ لم يكن هو أول الخلق حتى يعرف خلقته؟ هذه الدنيا أمامه والطبيـعـة مــدرسة لــه ، إنــها لأول مدرسة تعلمه ما لا يستطيع أحد أن يعلمه ، فحين شعوره بالبرد يبحـث عــن الــحــرارة فيتعلم معنى الحرارة والبرودة ، ثم بالليل يعرف النهار ، فكانت هذه معرفة تفرضها الطبيـعة وعلما أوليا لا يمكن الهروب منه ، وما اخترع الإنسان شيئا ، إنما يكتشف كنوز الطـبــيــعــة فيستغلها ويرتب ما يكتشفه ترتيبا خاصا بالعقل فيجد الأشياء كأنها خاضعة له ، وينــسَــى أنه أيضا يخضع لأشياء علمته دون إرادته كما علمته الطبيعة . إن أول من يستغل في هذه الحـياة لهو الإنسان نفسه ، كأن الطبيعة تستغله لنفسها لتعرف نفسها بعقل الإنسان . فليفـكر الإنــسان أن كل ما حوله مخلوق مثله ، وليسعَ أن يفكر في الأشياء التي هي قبـله فــي وجــودها . إنــه رتب أشياء وجدها في الطبيعة والطبيعة نفسها مرتبة فيها أشياء ، هــذه الــشــمــس فــوقــنا ، والنجوم ساطعة ، وكل ذلك في فلك سابح ، والإنسان سابح في نفسه وعقله كمتخبط في دمائه
لا يدري ما الذي أصابه . منذ متَى والوجود موجود ، وكيف وجد أول مــرة؟ إن الــطــريـق لطويل على الوراء ، وكم توارث الإنسان العلم ولم يرث معرفة نفسه كاملة إلا بوسيلة دين أو عقيدة ، وفي ذلك أجوبة وأسئلة . وما الدليل على الحقيقة؟
- يولد العقل مع الإنسان ساكنا فيه وما معه من معرفة أو وسيلة تفكير ، ودون فـكـر أو قــوة إدراك ، لا يعرف نفسه بنفسه . وما هو بشيء بين الأشياء ، يُعتنى به بالعلم والتفكير دليــله ، والحقيقة مبتغاه ، وأي حقيقة هي؟ حقيقة مجهولة ، ويسعَى الإنسان أن يبعد عنـه الــجــهــل ، فينطلق باحثا مفكرا بعقله في عقله بتفكيره لعله يجد نفسه في نفســه ، أو أن يفهــم ما حــولــه بدقة ، فلا يجد جلا قريبا لأن الطبيعة علمته أنما هو فيها متمتع بما فيها دون أن تـعــرِّفه على نفسه ، فيريد تركها ليفكر في داخله ، في عقله ،
فيجد أن للعقل مراتب كثيرة ، وأن في العقل صورة أخرى للطبيعة التي أراد الخروج مـنها ، والتي جعلته بفكره منحصرا فيها ، إلا أن هذه الطبيعة غير منحصرة كالأولى ، إذ بالـخــيــال يسبح فيها دون أجنحة ، ويجد فيها صحراء أخرى وشمسا وقمرا وأشجاراً بفاكـهـة لا يــأكــل منها وإن أكل فبخياله ، وإن تطور فبفكره . وجد أن عقله منحصر بخياله فـي خــيـالــه وفــي الطبيعة التي يعيش فيها . تعلم الإنسان من الطبيعة الثانية التي في عقله بفكره أنه يعيش فيــها بتفكيره وخياله ولم تعرِّفه على نفسه ولا على عقله ، ولا يجيب العــقــل أبــدا عــن تــســاؤل الإنسان ، إذ الــعــقــل هو السؤال في الإنسان كما أن الإنسان هو السؤال في الحياة . فـكـيـف الجواب على سؤال بسؤال؟
إنه لحق إذ تميز الإنسان بالعقل ولكن العقل كان أساس تمييزه على أنه إنسان بعقله فقط ، كما تعلم بتمييز عقله أنه في حمقه بفقد تمييز فكره ، وقد انطلق منذ بدايته باحثا عن الــمــعــرفـــة لتنمية أفكاره ، وكان بحثه دليلا على جهله . إن الجهل أول شيء يعرِّف بالعلـم ، واخــتــلاف العلم أول دليل على الجهل ، ثم إن العلم منحصر فيما يتوصل إليه الإنسـان مــن مــعــرفــة ، وبانحصاره ينحصر التفكير إذ أن التفكير يعيش كالإنسان في عالم العلم فيقف العق حائرا في عالمه كما يقف الإنسان حائرا في طبيعته .
إن الحيرة والتساؤل أول راية حملها الإنسان منذ نشأته ، حملها بجهل إذ كيف يحير ويتساءل وهو معترف بقوة عقله ، وأنه يعرف الخطأ والصواب بمجرد ما يكتسبه من تـجــربــة . وإذا عرف الإنسان جهله فقد عرفه بعلم ، وهو يكتشف الجهل بما لديه من علـم والخطأ بــمــا لديه من صواب ، وهذا دليل أنه ليس لديه علم عن الجهل ، ولا علم عن العلم . ثــم ألا يــمكــن أن يكون الإنسان عالما لعلم جهل فقط؟ لأنه لا يجد الحلول الكاملة لأسئلته ، وأنـه إنــما يــســعَى لإقناع نفسه بما يعرف ، ويحصر المعرفة فيما لديه خوفا من تعقيـد الأشــيــاء ، فــجــعــلــت العــقائـد لتحصر الأسئلة لأنها تجرف الإنسان في بحر العلم المجهول فيـخاف أن يغـرق فــي الجهل التام .
ما أروع أمر الإنسان في حيــرته!؟ ولكن أمر حقيقته حقيقة لأنه موجود ، إنما سر وجوده فغير ثابت لديه ، والحقيقة نفسها يجب أن لا يكون فيها تغيير ، وطالما أن الإنسان يبـدل دائما آراءه والقوانين التي يجعل لــنــفــســه فذلك دليل على عدم توفره على العلم الذي هو علــم لا ينطوي أمام تعقيد ، وللحقيقة التي لا تفنى ، فكان سر حقيقة الإنسان هو حقيقة نفسه ، وحقيقة عقله فيه قبل أن يكون إنسانا .
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.