محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -
محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -
* من كتابات العقاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد بن عبد الله في مولده :
ذلك محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه ، والجزيرة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه ، والدنيا مهيأة لظهوره وهي محتاجة إليه ، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة ؟
وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير ؟ ،
وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع وهذا التوفيق ؟
علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة ، وهي أسباب تتمهد لظهورها ، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أدائها .
خُلِقَ محمد بن عبد الله ليكون رسولاً مبشراً بدين ، وإلا فلأي شيء خُلِق ؟ ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات ؟ كل هاتيك المناقب والصفات ؟
محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - في إيمانه بدعوته :لقد قضى محمد صلى الله عليه وسلم شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان ، وجاوره أُناسٌ أقلَّ منه نُبْلاً في النفس ، ولطفاً في الحس ، ونفوراً من الرجس ، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله ، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام ، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام ، فإذا جاوزهم في صدق وعيه وسداد سعيه ، فقد وافق المعهود فيه ، والموروث من جده وأبيه .
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في وسامته :
وكانت له صلى الله عليه وسلم مع الفصاحة صباحةً ودماثة تحببانه إلى كل من رآه ، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه ، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو ، ولم ينقل من أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء .
- الضعفاء :وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبداً يفقد أباه وأسرته - كزيد بن حارثة - ثم يظهر أبوه بعد طول الغيبة ، فيُؤْثِرُ البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه ، وأن خادم خديجة رضي الله عنها - نعني به ميسرة - يقدمه ( أي محمد ) ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته وهو أولى أن ينفس عليه ، وأن يدَّعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقديم .
- الأقوياء: وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أُناساً بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة وهم جميعاً من عظماء الرجال .
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في فصاحته :
أما فصاحة محمد فقد تكاملت له في كلامه وفي هيئة نطقه بكلامه ، وفي موضوع كلامه ، فكان أعرب العرب كما قال عليه السلام " أنا قرشي واسْتَرضعتُ في بني سعد بن بكر " .
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة ، وهذه هي فصاحة الكلام .
وجمال فصاحة محمد في نطقه كجمال فصاحته في كلامه ، وخير من وصفه بذلك عائشة رضي الله عنها حيث قالت " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد كسردكم هذا ، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّنٍ فصل يحفظه من جلس إليه "
إن عمل محمد لكافٍ جِدَّ الكفاية لتخويله المكان الأسنى من التعظيم والإعجاب والثناء ، إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله ، ولم تكن أصناماً كأصنام يونان يحسب للمُعْجب بها ذوق الجمال إن فاته أن يحسب له هدى الضمير ، ولكنها أصنام شائهات كتعاويذ السحر التي تُفسد الأذواق وتفسد العقول ، فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة إلى عبادة الحق الأعلى ، عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه ، ونقل العالم كله من ركود إلى حركة ، ومن فوضى إلى نظام ، ومن مهانة حيوانية إلى كرامة إنسانية ، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات .
وحسبنا من عبقرية محمد أن نقيم البرهان على أن محمداً عظيم في كل ميزان ، عظيم في ميزان الدين ، وعظيم في ميزان العلم ، وعظيم في ميزان الشعور ، وعظيم عند من يختلفون في العقائد ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية ، إلا أن يرين العنت على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها ولا خسارة على السواء .
محمد بن عبد الله ونجاحه في دعوته :
فهم لم يُسْلِموا على حدِّ السيف خوفاً من النبي الأعزل المفرد بين قومه ، الغاضبين عليه ، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين ، ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف ليدفعوا الأذى ويُبطِلوا الإرهاب والوعيد ، ولم يحملوه ليبدأوا واحداً بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان .
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها هجوم ، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع .
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ونجاحه في دعوته 2 :
هل كان نجاح الدعوة المحمدية مصطنعاً لا سبب له غير الوعيد والوعود ، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين ؟
إن الرجل حين يقاتل مَنْ حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف ، وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يُعَرِّضُونَ أحداً لسيوفهم ، وكانوا يَلْقَون عنتاً ولا يُصيبون أحداً بعنت ، وكانوا يَخرجون من ديارهم لياذاً بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين ونقمة الناقمين ، ولا يُخرِجون أحداً من دياره .
محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام القائد العسكري البصير :
إن محمداً كان على اجتنابه العدوان يُحسن من فنون الحرب ما لم يكن يُحسنه المعتدون عليه ، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال ، لعجر أو خوف مما يجهله ولا يجيده ، ولكنه اجتنبه لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها ، ويجتنبها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة .
إذاً لم يكن الإسلام دين قتال ، ولم يكن النبي رجلاً مقاتلاً يطلب الحرب للحرب ، أو يطلبها وله مندوحة ، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة ، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلم غيره بالدرس والمرانة ، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه ورسم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة الاستشارة ، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة ، آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء ، لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير ، كما تستفيد من شجاعة الشجاع ، وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 1) :
كان النبي محمد عليه الصلاة والسلام مثلاً نادراً لجمال الرجولة العربية ، كان كشأنه في جميع شمائله مستوفياً للصفة من جميع نواحيها ، فرب رجل وسيم غير محبوب ، ورب رجل وسيم محبوب غير مهيب ، ورب رجل وسيم يحبه الناس ويهابونه وهو لا يحب الناس ولا يعطف عليهم ولا يبادلهم الولاء والوفاء ، أما محمد عليه السلام فقد استوفى في شمائل الوسامة والمحبة والمهابة والعطف على الناس ، فكان على ما يختاره واصفوه ومحبوه ، وكان نعم المسمى ... بالمختار .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 2) :
كان عليه الصلاة والسلام يمشي كأنما ينحدر من جبل وينحط من صبب ، ويرفع قدمه فيرفعها تقلعاً كأنما ينشط بجملة جسمه ، ويلتفت فيلتفت كله ، ويشير فيشير بكفه كلها ، ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى ويضرب بإبهام اليمنى وراحة اليسرى ، ويفتح الكلام بأشداقه ويختمه بأشداقه ، وربما حرك رأسه وعض شفته أثناء كلامه ، وهو على هذه الحركة الحية جمَّ الحياء ، أشدَّ حياء من العذراء ، نضَّاح المُحيا ، إذا كره شيئاً عرف ذلك في وجهه ، وإذا رضي تطلقت أساريره وتبين رضاه .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 3) :
واقترن النشاط والحياء بالقوة والمضاء في هذه البنية الجميلة ، فكان عليه السلام يصرع الرجل القوي ويركب الفرس عارياً فيروضه على السير ، ويداعب من يحب بالمسابقة بالعَدْوِ ، قالت عائشة رضي الله عنها : خرجتُ مع النبي ص في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل من اللحم ، فقال ص للناس : تقدَّموا ، فتقدَّموا ! ثم قال تعالي حتى أُسابِقُك ، فسابقْتُهُ فسبقتُهُ ، فسكتَ ، حتى إذا حملتُ اللحم وكنا في سفرة أخرى قال ص للناس : تقدموا ، فتقدموا ! ، ثم قال : تعالي أُسابقك فسابقته فسبقني فجعل ص يضحك ويقول هذه بتلك " وهذا بعد أن قارب الستين إنها لمسابقة تنْمُ على فتوة الروح فوق ما نمت عليه من فتوة الأوصال .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 4) :
وتجلَّت هذه الأريحية في علاقته بكل إنسان من خاصة أهله أو من عامة صحبه ، فرقَّتْ حاشية جده حتى عَطَفَتْ على كل أسى ، ورحمتْ كل ضعيف ، وامتزجتْ بكل شعور ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه " دخل النبي عليه السلام على أُمي فوجد أخي أبا عُمَير حزيناً ، فقال : يا أمَّ سليم ! ما بالُ أبا عُمَير حزيناً ؟ فقالت بارسول الله مات نُغَيرهُ ، تعني طيراً كان يلعب به ، فقال ص : أبا عمير ! ما فعل النُغَير ؟ وكان كلما رآه قال له ذلك " وهذه قصة صغيرة تفيض بالعطف والمروءة من حيثما نظرت إليها ، فالسيد يزور خادمه في بيته ، ويسأل أمه عن حزن أخيه ، ويواسيه في موت طائر ، ولا يزال يرحم ذكراه كلمات رآه .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 5) :
كان نُعَيمان بن عمرو أشهر الأنصار بالدعابة ، لا يَقيْلُ منها أحداً ولا يراه النبي فيتمالك أن يبتسم ، وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه وعلمه بموقع الفكاهة من نفسه .
جاء أعرابي إلى رسول الله فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه ، فقال بعض الصحابة لنعيمان : " لو نَحَرْتَها فأكلناها ؟ فإنَّا قد قَرِمْنَا إلى اللحم ، ويَغْرَمُ النبي ص حقها " فنحرها نُعيمان ، وخرج الأعرابي ورأى راحلته فصاح " واعقراه يا محمد ! فخرج النبي يسأل : من فعل هذا ؟ قالوا : نعيمان ، فاتبعه النبي حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد ، فأشار إليه رجل ورفع صوته " ما رأيتُهُ يا رسول الله " وهو يُشيرُ بأصبعه إلى حيث هو ، فأخرجه رسول الله وقد تعفَّر وجهُهُ بالتراب فقال : " ما حملك على ما صنعتْ ؟ قال : " الذي دلُّوكَ عليَّ يا رسول الله هم الذين أَمَرُوني ، فجعل رسول الله يمسح عن وجهه التراب ويضحك ، ثم غرم ثمن الراحلة .
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في رجولته ( 6) :
من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور بل بأعظمها جِدَّاً ووقاراً وهو إقامة الأديان وإصلاح الأمم وتحويل مجرى التاريخ ، ثم يطيب نفساً للفكاهة ويطيب عطفاً على المتفكهين ، ويُشْرِكهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ ، فللجد صرامة تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الحياة ، ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق إلا دلت على شيء من ضيق الحظيرة ونقص المزايا وإن نهضت بالعظيم من الأعمال ، فاستراحة محمد إلى الفكاهة هي مقاس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كل ناحية من نواحي العاطفة الانسانية ، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال .
........
* عباس محمود العقاد في عبقرياته