لكل دمع جرى من مقلة سبب
لكل دمع جرى من مقلة سبب
محمود سامي البارودي
لِكُلِّ دَمْعٍ مِنْ مُقْلَةٍ سَبَبُ : وَكَيْفَ يَمْلِكُ دَمْعَ الْعَيْنِ مُكْتَئِبُ
لَوْلا مُكَابَدَةُ الأَشْوَاقِ ما دَمَعَتْ : عَيْنٌ وَلا بَاتَ قَلْبٌ فِي الْحَشَا يَجِبُ
فَيَا أَخَا الْعَذْلِ لا تَعْجَلْ بِلائِمَةٍ : عَلَيَّ فَالْحُبُّ سُلْطَانٌ لَهُ الغَلَبُ
لَوْ كَانَ لِلْمَرْءِ عَقْلٌ يَسْتَضيءُ بِهِ : فِي ظُلْمَةِ الشَّكِّ لَم تَعْلَقْ بِهِ النُّوَبُ
وَلَوْ تَبَيَّنَ ما في الْغَيْبِ مِنْ حَدَثٍ : لَكَانَ يَعْلَمُ مَا يَأْتِي وَيَجْتَنِبُ
لَكِنَّهُ غَرَضٌ لِلدَّهْرِ يَرْشُقُهُ : بِأَسْهُمٍ ما لَها رِيشٌ وَلا عَقَبُ
فَكَيفَ أَكْتُمُ أَشْوَاقِي وَبِي كَلَفٌ : تَكَادُ مِنْ مَسِّهِ الأَحْشَاءُ تَنْشَعِبُ
أَمْ كَيْفَ أَسْلُو وَلِي قَلْبٌ إِذَا الْتَهَبَتْ : بِالأُفْقِ لَمْعَةُ بَرْقٍ كَادَ يَلْتَهِبُ
أَصْبَحْتُ فِي الْحُبِّ مَطْوِيَّاً عَلَى حُرَقٍ : يَكَادُ أَيْسَرُها بِالرُّوحِ يَنْتَشِبُ
إِذَا تَنَفَّسْتُ فَاضَتْ زَفْرَتِي شَرَراً : كَمَا اسْتَنَارَ وَرَاءَ الْقَدْحَةِ اللَّهَبُ
لَمْ يَبْقَ لِي غَيْرَ نَفْسِي مَا أَجُودُ بِهِ : وَقَدْ فَعَلْتُ فَهَلْ مِنْ رَحْمَةٍ تَجِبُ
كَأَنَّ قَلْبِي إِذَا هَاجَ الْغَرَامُ بِهِ : بَيْنَ الْحَشَا طَائِرٌ فِي الْفَخِّ يَضْطَرِبُ
لا يَتْرُكُ الْحُبُّ قَلْبِي مِنْ لَواعِجِهِ : كَأَنَّمَا بَيْنَ قَلْبِي وَالْهَوَى نَسَبُ
فَلا تَلُمْنِي عَلَى دَمْعٍ تَحَدَّرَ في : سَفْحِ الْعَقِيقِ فَلِي في سَفْحِهِ أَرَبُ
مَنَازِلٌ كُلَّمَا لاحَتْ مَخَايِلُهَا : فِي صَفْحَةِ الْفِكْرِ مِنِّي هاجَنِي طَرَبُ
لِي عِنْدَ سَاكِنِهَا عَهْدٌ شَقِيتُ بِهِ : وَالْعَهْدُ ما لَم يَصُنْهُ الْوُدُّ مُنْقَضِبُ
وَعادَ ظَنِّي عَلِيلاً بَعْدَ صِحَّتِهِ : وَالظَنُّ يَبْعُدُ أَحْيَاناً وَيَقْتَرِبُ
فَيَا سَرَاةَ الْحِمَى ما بَالُ نُصْرَتِكُمْ : ضَاقَتْ عَلَيَّ وَأَنْتُمْ سادَةٌ نُجُبُ
أَضَعْتُمُوني وَكانَتْ لِي بِكُمْ ثِقَةٌ : مَتَى خَفَرْتُمْ ذِمَامَ الْعَهْدِ يا عَرَبُ
أَلَيْسَ فِي الحَقِّ أَنْ يَلْقَى النَّزِيلُ بِكُمْ : إِمْناً إِذا خَافَ أَنْ يَنْتَابَهُ الْعَطَبُ
فَكَيْفَ تَسْلُبُنِي قَلْبِي بِلا تِرَةٍ : فَتاةُ خِدْرٍ لَهَا فِي الْحَيِّ مُنْتَسَبُ
مَرَّتْ عَلَيْنَا تَهَادَى في صَوَاحِبِهَا : كَالْبَدْرِ في هَالَةٍ حَفَّتْ بِهِ الشُّهُبُ
تَهْتَزُّ مِنْ فَرْعِها الْفَيْنَانِ في سرَقٍ : كَسَمْهَرِيٍّ لهُ مِنْ سَوْسَنٍ عَذَبُ
كَأَنَّ غُرَّتَهَا مِنْ تَحْتِ طُرَّتِها : فَجْرٌ بِجَانِحَةِ الظَّلْمَاءِ مُنْتَقِبُ
كانَتْ لَنا آيَةً في الْحُسْنِ فاحْتَجَبَتْ : عَنَّا بِلَيْلِ النَّوَى وَالْبَدْرُ يَحْتَجِبُ
فَهَلْ إِلى نَظْرَةٍ يَحْيَا بِهَا رَمَقٌ : ذَرِيعَةٌ تَبْتَغِيها النَّفْسُ أَو سَبَبُ
أَبِيتُ في غُرْبَةٍ لا النَّفْسُ رَاضِيَةٌ : بِها وَلا المُلْتَقَى مِنْ شِيعَتِي كَثَبُ
فَلا رَفِيقٌ تَسُرُّ النَّفْسَ طَلْعَتُهُ : وَلا صَدِيقٌ يَرَى ما بِي فَيَكْتَئِبُ
وَمِنْ عَجَائِبِ ما لاقَيْتُ مِنْ زَمَنِي : أَنِّي مُنِيتُ بِخَطْبٍ أَمْرُهُ عَجَبُ
لَم أَقْتَرِفْ زَلَّةً تَقْضِي عَلَيَّ بِما : أَصْبَحْتُ فيهِ فَماذَا الْوَيْلُ والْحَرَبُ
فَهَلْ دِفَاعِي عَنْ دِيني وَعَنْ وَطَنِي : ذَنْبٌ أُدَانُ بِهِ ظُلْمَاً وَأَغْتَرِبُ
فَلا يَظُنّ بِيَ الْحُسَّادُ مَنْدَمَةً : فَإِنَّنِي صابِرٌ فِي اللهِ مُحْتَسِبُ
أَثْرَيْتُ مَجْداً فَلَمْ أَعْبَأْ بِمَا سَلَبَتْ : أَيْدِي الْحَوادِثِ مِنِّي فَهْوَ مُكْتَسَبُ
لا يَخْفِضُ الْبُؤْسُ نَفْساً وَهْيَ عَالِيَةٌ : وَلا يُشِيدُ بِذِكْرِ الْخَامِلِ النَّشَبُ
إِنِّي امْرُؤٌ لا يَرُدُّ الخَوْفُ بادِرَتِي : وَلا يَحِيفُ عَلَى أَخْلاقِيَ الْغَضَبُ
مَلَكْتُ حِلْمِي فَلَمْ أَنْطِقْ بِمُنْدِيَةٍ : وَصُنْتُ عِرْضِي فَلَم تَعْلَقْ بِهِ الرِّيَبُ
ومَا أُبَالِي ونَفْسِي غَيْرُ خاطِئَةٍ : إِذا تَخَرَّصَ أَقْوامٌ وَإِنْ كَذَبُوا
ها إِنَّها فِرْيَةٌ قَدْ كانَ باءَ بِها : في ثَوْبِ يُوسُفَ مِنْ قَبْلِي دَمٌ كَذِبُ
فَإِنْ يَكُنْ سَاءَنِي دَهْرِي وغَادَرَنِي : في غُرْبَةٍ لَيْسَ لِي فيها أَخٌ حَدِبُ
فَسَوْفَ تَصْفُو اللَّيَالي بَعْدَ كُدْرَتِها : وَكُلُّ دَوْرٍ إِذَا ما تَمَّ يَنْقَلِبُ