غزوة بدر الكبرى
غزوة بدر الكبرى
أول معركة من معارك الإسلام الفاصلة
العير تفلت والنوايا تتغير : الجيش المكي في عرصة القتال ووقوع الانشقاق فيه
أما قريش فقضت ليلتها هذه في معسكرها بالعدوة القصوى، ولما أصبحت أقبلت في كتائبها، ونزلت من الكثيب إلى وادي بدر. وأقبل نفر منهم إلى حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: [دعوهم]، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل، سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل، وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين قال: لا والذي نجاني من يوم بدر. فلما اطمأنت قريش بعثت عُمَيْر بن وهب الجُمَحِي للتعرف على مدى قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول العسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلًا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئًا، فرجع إليهم فقال: ما وجدت شيئًا، ولكنى قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلًا منكم،فإذا أصابوا منكم أعدادكم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم. وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل ـ المصمم على المعركة ـ تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة ابن ربيعة فقال: يا أبا الوليد، إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ـ المقتول في سرية نخلة ـ فقال عتبة: قد فعلت. أنت ضامن علىّ بذلك. إنما هو حليفي، فعلى عقله [ديته] وما أصيب من ماله. ثم قال عتبة لحكيم بن حزام: فائت ابن الحَنْظَلِيَّةِ ـ أبا جهل، والحنظلية أمه ـ فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلًا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألْفَاكُمْ ولم تَعَرَّضُوا منه ما تريدون. وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل ـ وهو يهيئ درعًا له ـ قال: يا أبا الحكم، إن عتبة أرسلني بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سَحْرُهُ حين رأي محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه قد رأي أن محمدًا وأصحابه أكلة جَزُور، وفيهم ابنه ـ وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديمًا وهاجر ـ فَتَخَوَّفَكُمْ عليه. ولما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ والله سحره، قال عتبة: سيعلم مُصَفِّر اسْتَه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل، مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمى ـ أخي عمرو بن الحضرمى المقتول في سرية عبد الله بن جحش ـ فقال: هذا حليفك [أي عتبة] يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانْشُد خُفْرَتَك ، ومَقْتَلَ أخيك، فقام عامر فكشف عن استه، وصرخ: واعمراه، واعمراه، فحمى القوم، وحَقِبَ أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.
الجيشان يترآان
ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيَلائها وفَخْرها تُحَادُّك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحْنِهُم [الغداة]) وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر: (إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر، إن يطيعوه يَرْشُدُوا). وعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف المسلمين، وبينما هو يعدلها وقع أمر عجيب، فقد كان في يديه قِدْح يعدل به، وكان سَوَاد بن غَزِيَّة مُسْتَنْصِلًا من الصف، فطعن في بطنه بالقدح، وقال: (استو يا سواد)، فقال سواد: يا رسول الله، أوجعتني فأقدني ، فكشف عن بطنه وقال: (استقد)، فاعتنقه سواد وقبل بطنه، فقال: (ما حملك على هذا يا سواد؟) قال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير. ولما تم تعديل الصفوف أصدر أوامره إلى جيشه بألا يبدؤوا القتال حتى يتلقوا منه الأوامر الأخيرة، ثم أدلى إليهم بتوجيه خـاص في أمـر الحـرب، فقال: (إذا أكثبوكم ـ يعنى اقتربوا منكم ـ فارموهم، واستبقوا نبلكم، ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) ثم رجع إلى العريش هو وأبو بكر خاصة،وقام سعد بن معاذ بكتيبة الحراسة على باب العريش.
أما المشركون فقد استفتح أبو جهل في ذلك اليوم فقال: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه،فأحِنْه الغداة،اللهم أينا كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره اليوم، وفي ذلك أنزل الله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]
( الرحيق المختوم للمباركفوري)