فيض من بلاغة العرب
خطبة قس بن ساعدة الإيادي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ألقاها في سوق عكاظ في مكة المكرمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا , إنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت مطر ونبات وأرزاق وأقوات وآباء وأمهات وأحياء وأموات جمع وأشتات وآيات , ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج و أرض ذات رتاج ,وبحار ذات أمواج , نجوم تزهر وبحار تزخر , إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا , ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا ؟ أم تركوا هناك فناموا ؟ , أقسم قس قسمًا لا حانث فيه ولا آثمًا إن لله دينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيًا قد حان حينه وأظلكم أوانه , فطوبى لمن آمن به فهداه , وويل لمن خالفه وعصاه ,
ثم قال : تبًا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية ,
يا معشر إياد : أين الآباء والأجداد ؟ وأين ثمود وعاد ؟ وأين الفراعنة الشداد ؟ أين من بنى وشيد وزخرف ونجد وغره المال والولد , أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال أنا ربكم الأعلى , ألم يكونوا أكثر منكم أموالاً وأطول منكم آجالاً وأبعد منكم آمالاً , طحنهم الدهر بكلكله ومزقهم بتطاوله , فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خاوية عمرتها الذئاب العاوية , كلا بل هو الله الواحد المعبود ليس والد ولا مولود .
ثم أنشأ يقول :
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
وصيةُ أبي طالبٍ لوجوهِ قريشٍ عندَ موتِه :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبو طالب بنُ عبدِ المطّلب:
هو عبدُ مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ، يُكنّى بـأبي طالب، عم النبي محمّد صلى الله عليه وسلم، وأمّه هي فاطمةُ بنت عمرو من بني مخزوم. خلفَ أبو طالب أباهُ عبد المطلب الذي كانَ أحدَ سادةَ قريشٍ في المكانةِ والوجاهةِ، ولكنْ ضيقُ حاله جعلَه يكلُ إلى أخيهِ العباسِ شأنَ السقايةِ وأعباءَها نظرًا لما كانَ له من ثراءٍ واسعٍ،
مما يؤثر عن حكمته وحسن تقديره أنه كان أول من سن القسامة في العرب قبل الإسلام وذلك في دم عمرو بن علقمة، ثم جاء الإسلام وأقرها.
لمّا حضرتْ أبَا طالبٍ الوفاةُ جمعَ إليهِ وجوهَ قريشٍ فأوصاهُم فقالَ:
يا معشرَ قريشٍ، أنتُم صفوةُ اللهِ من خلقِه وقلبُ العربِ، فيكم السيدُ المطاعُ وفيكُم المقدامُ الشجاعُ الواسعُ الباعِ، واعلمُوا أنّكم لم تتركوا للعربِ في المآثرِ نصيبًا إلا أحرزتُموه ولا شرفًا إلا أدركتُموه، فلكم بذلكَ على النّاسِ الفضيلةُ، ولهم بهِ إليكُم الوسيلةُ، والناسُ لكم حربٌ وعلى حربِكم ألب.
وإنّي أوصِيكم بتعظيمِ هذهِ البنيةِ (يريد الكعبةَ) فإنّ فيها مرضاةً للربِّ وقوامًا للمعاشِ وثباتًا للوطأةِ، صلُوا أرحامَكم فإنّ في صلةِ الرحمِ منْسأةً في الأجلِ، وزيادةً في العددِ، اتركوا البغيَ والعقوقَ ففيهما هلكتْ القرونُ قبلكُم.
أجيبُوا الداعِي، وأعطوا السائلَ فإنّ فيهما شرفُ الحياةِ والمماتِ , وعليكم بصدقِ الحديثِ وأداءِ الأمانةِ، فإن فيهمَا محبةٌ في الخاصِ ومكرمةٌ في العام.
وإني أوصيكُم بمحمدٍ خيرًا، فإنّه الأمينُ في قريشٍ والصدّيقُ في العربِ وهوَ الجامعُ لكلّ ما أوصيتُكم به ,، وقدْ جاءَنا بأمرٍ قَبِلَهُ الجنَانُ وأنْكرهُ اللسانُ مخافةَ الشّنآنِ ,
وايمُ اللهِ كأنّي أنظرُ إلى صعاليكِ العربِ وأهلِ الأطرافِ والمستضعفينَ من الناسِ قد أجابُوا دعوتَه وصدّقُوا كلمتَه وعظمُوا أمرَه، فخاضَ بهم غمراتِ الموتِ، وصارتْ رؤساءُ قريشٍ وصناديدُها أذنابًا ودورُها خرابًا وضعفاؤُها أربابًا ، وإذا أعظمُهم عليهِ أحوجهُم إليه، وأبعدُهم منهُ أحظاهُم عندَه ، قد محضتْه العربُ ودادَها وأصفتْ لهُ بلادَها وأعطتُه قيادَها!.
يا معشرَ قريشٍ، كونُوا له ولاةً ولحزبِه حماةً , واللهِ لا يسلكُ أحدٌ سبيلَه إلا رَشَدَ ولا يأخذُ بهديِه أحدُ إلا سَعدَ، ولو كانَ لنفسِي مدةٌ وفي أجلِي تأخيرٌ لكففتُ عنهُ الهزاهزَ ولدافعتُ عنه الدواهِي .
وصيةُ النعمانِ بن ثوابٍ العبديّ
لبنيه الثلاثة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانَ للنعمانِ بن ثوابٍ العبديّ بنون ثلاثةٌ : سعدٌ وسعيدٌ وساعدةٌ، وكانَ أبوهُم ذا شرفٍ وحكمةٍ، وكانَ يوصِي بنيهِ ويحمِلُهم علَى أدَبِه،
أمّا ابنُه سعدٌ فكانَ شجاعًا بطلًا منْ شياطينِ العربِ لا يُقامُ لسبيلِهِ ولمْ تَفُتْه طِلبتُه قطُّ، ولمْ يفرَّ عنْ قرنٍ
وأمّا سعيدٌ فكانَ يشبُه أباهُ في شرفِه وسؤدَدِه، وأمّا ساعدةُ فكانَ صاحبَ شرابٍ وندامَى وإخْوان.
فلمّا رأى الشيخُ حالَ بينهِ دعَا سعدًا وكانَ صاحبَ حربٍ فقالَ:
يا بُنيّ، إنّ الصارمَ ينْبُو , وإن والجوادَ يكْبُو, والأثرَ يعْفُو , فإذَا شهِدتَّ حرْبًا فرأيتَ نارَها تَسْتعرُ، وبَطَلَها يخْطُرُ، وبحْرَهَا يزْخَرُ، وضَعيفَها يُنْصرُ، وجَبَانَها يَجْسُرُ، فأقْلِلْ المُكثَ والانْتِظَارَ , فإنّ الفرارَ غيرُ عَار , إذَا لمْ تَكُنْ طالبَ ثَار , فإنّما يُنصرونَ هُم، وإيّاكَ أنْ تكونَ صيدَ رماحِها ونَطيحَ نِطَاحِها!
وقالَ لابْنِهِ سعيد وكانَ جوادًا:
يَا بُنيّ، لا يَبْخلُ الجوادُ , فابذلِ الطارفَ والتِّلاد , وأقْلِل التّلاحِ تُذكرْ عندَ السّمَاح , وابْلُ إخوانَكَ فإنّ وفيّهُم قليلٌ , واصْنعِ المعروفَ عندَ مُحتَمَلِه!.
وقالَ لابنِه ساعدةَ - وكانَ صاحبَ شرابٍ -:
يا بُنيّ، إنّ كثرةَ الشّرابِ تُفسدُ القلبَ وتُقَلّلُ الكسْبَ وتُجدُّ اللعبَ فأبْصرْ نَديمَكَ واحْمِ حريمَكَ وأعِنْ غَريمَك , واعْلمْ أنّ الظّمأَ القامحَ خيرٌ منَ الريِّ الفاضحِ , وعليكَ بالقصدِ فإنّ فيهِ بلاغًا.
..
وصيةُ الإمامِ جعفرِ الصادقِ لولده
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإمام جعفر الصادق: (83-148هـ) هو أبو عبد الله جعفر (الصادق)
بن محمد (الباقر) بن علي (زين العابدين) بن الحسين (السبط) بن علي بن أبي طالب.
كان من سادات أهل البيت فقها وعلما وفضلا، أخرج له مسلم وأصحاب السنن الأربعة، وكان يجل الصحابة أجمعين، ويكره من يتعرض لهم بسوء.
اشتهر بغزارة علمه، واستطاع أن يؤسس في عصره مدرسة فقهية تتلمذ على يديه فيها العديد من العلماء، وكانت له معرفة واسعة بعلم الكيمياء، ويقال أنه كان من أوائل الرواد في علم الكيمياء، حيث تتلمذ على يديه أبو الكيمياء جابر بن حيان.
جاءَ في كتابِ حليةِ الأولياءِ عن بعض أصحاب جعفر بن محمد الصادق، قال دخلت على جعفر وموسى ولده بين يديه وهو يوصيه بهذه الوصية، فكان مما حفظت منه أن قال:
يا بُنيّ، اقبلْ وصيَّتي، واحفظْ مقالَتي، فإنّك إِن حفظْتها تعِشْ سعيدًا، وتمُتْ حميدًا .
يا بُنيّ، إنَّ من قَنِعَ اسْتغنى، ومن مدَّ عينيه إِلى ما في يدِ غيرِه ماتَ فقيرًا، ومن لمْ يرضَ بما قسمَه لهُ اللّهُ عزّ وجلّ اتَّهمَ اللّه في قضائِه، ومَن استصغرَ زلّةَ نفسِه استكبرَ زلّةَ غيرِه .
يا بُنيّ، من كشفَ حِجابَ غيرِه انكشفتْ عوراتُ بيتِه، ومن سلَّ سيفَ البغيِ قُتلَ به، ومن احْتفَرَ لأخيه بئرًا سقطَ فيها، ومن داخَلَ السُفهاءَ حُقّر، ومن خالطَ العُلماءَ وُقّر، ومن دخلَ مداخِل السوءِ اتُّهم .
يا بنيّ، إياكَ أن تُزري بالرجالِ فيُزرى بك، وإيّاكَ والدخولَ فيما لا يَعنيك فتُذَلّ .
يا بُنيّ، قُل الحقَّ لكَ أو عليك تُستشارُ من بينِ أقْرانِكَ .
يا بُنيّ، كنْ لكتابِ اللهِ تاليًا، وللسلامِ فاشيًا، وبالمعروفِ آمرًا، وعن المنكرِ ناهيًا ، ولمنْ قطعَكَ واصِلًا، ولمنْ سكتَ عنكَ مبتدءًا، ولمنْ سألكَ معطيًا، وإِيّاكَ والنّميمةَ فإنَّها تَزرعُ الشّحناءَ في قُلوبِ الرّجال، وإياكَ والتعرضَ لعيوبِ الناسِ فمنزلةُ المتعرضِ لعيوبِ الناسِ بمنزلةِ الهدفِ .
يا بُنيّ، إِذا طلبتَ الجُودَ فعليكَ بمعادِنِه، فإنّ للجودِ معادِنًا، وللمعادِن اُصولًا، وللاُصولِ فروعًا، وللفروع ثمرًا، ولا يطيبُ ثمرٌ إِلا بفرعٍ، ولا فرعٌ إلا بأصلٍ، ولا أصلٌ ثابتٌ إِلا بمعدنٍ طيّب .
يا بُنيّ، إِذا زُرتَ فزُر الأخيارَ، ولا تزُر الأشرارَ، فإنَّهم صخرةٌ صمّاءُ لا ينفجرُ ماؤٌها، وشجرةٌ لا يخضّرّ ورقُها، وأرضٌ لا يظهرُ عشبُها .
مِنْ وَصِيَّةِ الخليفةِ الأوَّل أبي بكر الصديق لِجيش أسامة بن زيد المُتَوَجّه إلى الشام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"لا تَخونوا ، ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدِروا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، ولا تعقِروا نخلاً ، ولا تحرقوه ، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة ، ولا تذبحوا شاةً ، ولا بقرةً ، ولا بعيراً إلاّ لِمَأْكَلَة . وسوف تمرّون بأقوام قد فَرّغوا أنفسَهم في الصوامِع ، فدَعوهم وما فرّغوا أنفسهم له..."
مِن كتاب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص:
كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد:
"أما بعد ؛ فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال ، فإنّ تقوى الله أفضلُ العُدَّة على العدوّ ، وأقوى المكيدة في الحرب .
وآمرك ومن معك أن تكونوا أشدّ احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم ، فإنّ ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم .
واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظةً من الله يعلمون ما تفعلون ، فاستحيوا منهم ، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله .
واسألوا الله العون على أنفسكم ، كما تسألونه النصر على عدوكم ، أسأل الله ذلك لنا ولكم
ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح
واللهُ وليُّ أمرك ومن معك ، ووليُّ النصر لكم على عدوكم ، والله المستعان"
المَنيَّةُ ولا الدَنيَّة
يُروى أَنَّ النُّعمانَ بن المُنذِر خَافَ على نَفسِهِ مِن كِسرى لما مَنَعَهُ مِن تَزويِجِ ابنَتِه فأودَعَ أسلِحَتَهُ وحَرَمَهُ إلى هانئ بن مسعود الشيباني، و رَحَلَ إلى كِسرى فَبَطَشَ بِه كِسرى، ثُمَّ أرسَلَ كِسرى إلى هانئ يَطلُبُ مِنهُ وَدائِعَ النُّعمان، فأبى، فَسَيَّرَ إليهِ كِسرى جَيشًا لِقِتالهِ فَجمَعَ هانئ قَومَهُ آل بَكر و خَطَبَ فيهم فقال:
«يا مَعشَرَ بكر، هالكٌ مَعذور، خَيرٌ مِن ناجٍ فَرور، إنَّ الحَذَرَ لا يُنجي مِن قَدَر، وإنَّ الصَّبرَ مِن أسبابِ الظُفرِ، المَنيَّةُ ولا الدَنيَّة، و استِقبالُ المَوتِ خَيرٌ مِن استدبارِه، و الطعنُ في ثَغرِ النُحورِ، أكرَمُ مِنهُ في الأَعجَازِ والظُهورِ، يا آل بكر قاتِلوا فما لِلمَنايا مِن بُد»،
واستطاعَ بنو بكر أنْ يَهزِموا الفُرس في مَوقِعَةِ ذي قار، بِسَبَبِ هذا الرجلِ الذي احتَقَرَ حَياةَ الصَغارِ والمَهانَةِ، ولَمْ يُبالِ بالموتِ في سَبيلِ الوفاءِ بالعَهد وحفظ الوعد .
من أروع وأجمل وأحكم وأبلغ الوصايا
أوصى عبد الملك بن صالح ابناً له فقال:
أيْ بنيَّ، احلُم فإنّ مَن حلُم ساد، ومن تفهَّم ازداد، والقَ أهلَ الخير، فإنّ لقاءَهم عِمارةٌ للقلوب، ولا تجمَحْ بك مَطِيّة اللَّجاج، ومنك مَن أعتبك، والصاحبُ مُناسِب، والصَّبر على المكروه يَعصِم القلب، المِزاحُ يورث الضغائن، وحُسن التَّدبير مع الكَفاف خيرٌ من الكثير مع الإسراف، والاقتصاد يثمِّر القليل، والإسراف يُتَبِّر الكثير، ونعِم الحظُّ القناعة، وشرُّ ما صحِب المرءُ الحسد، وما كلُّ عَورةٍ تُصاب، وربَّما أقصر العَمِي رشدَه، وأخطأ البصيرُ قصْدَه، واليأس خيرٌ من الطَّلب إلى الناس، والعِفّة مع الحِرفة خير من الغنى مع الفُجور ،
ارفقْ في الطَّلب وأجملْ في المكسب، فإنّه ربَّ طلَبٍ قد جرَّ إلى حَرَبٍ، ليس كلُّ طالبٍ بمُنْجِح، ولا كلُّ ملحّ بمحتاج، والمغبونُ من غُبن نصيبَه من اللَّه، عاتِبْ مَن رجوت عُتباه، وفاكِهْ مَن أمِنت بَلواه، لا تكن مِضحاكاً من غير عَجب، ولا مشّاءً إلى غير أرب، ومَن نأى عن الحقِّ ضاق مذهبُه، ومن اقتصر على حاله كان أنعمَ لباله، لا يكبرنَّ عليك ظُلمُ مَن ظلمك، فإنّه إنَّما سعى في مَضرّته ونَفْعِك، وعوِّد نفسك السَّماح، وتخيَّرْ لها مِن كلِّ خلُق أحسنَه، فإنّ الخيرَ عادة، والشّرَّ لجاجة، والصدودَ آيةُ المقت، والتعلُّلَ آية البخل، ومن الفقه كِتمان السر، ولِقاح المعرفةِ دراسةُ العلم، وطولُ التّجاربِ زيادةٌ في العقل والقناعةُ راحة الأبدان، والشَّرف التَّقوى، والبلاغةُ معرفة رتْقِ الكلام وفتقِه، بالعقل تُستخرَج الحكمة، وبالحِلْم يُستخرج غور العَقْل، ومن شمَّر في الأمور ركب البُحور، شرُّ القول ما نقضَ بعضُه بعضاً، من سَعَى بالنَّميمة حَذِرَه البعيد، ومقَته القريب، مَن أطال النّظرَ بإرادةٍ تامّة أدرك الغاية، ومن تواني في نفسه ضاع، مَن أسرف في الأمور انتشَرت عليه، ومن اقتصَدَ اجتمعت له، واللَّجاجة تورث الضَّياعَ للأمور، غِبُّ الأدب أحمد من ابتدائه، مبادرةُ الفهم تورِث النِّسيان، سوءُ الاستماع يُعقِب العِيّ، لا تحدِّث مَن لا يقبِل بوجهه عليك، ولا تنصِتْ لمن لا ينمِي بحديثه إليك، البلادة في الرجل هجنة، ما قلَّ مالِكٌ إلاّ استأثر، ما قلَّ عاجزٌ إلاّ تأخّر، الإحجام عن الأمور يورث العجز، والإقدام عليها يُورث اجتلابَ الحظّ، سُوء الطُّعْمَةِ يفسد العِرْض، ويُخلِق الوجه، ويَمحَق الدِّين، الهيبةُ قرين الحرمان، والجَسَارة قرين الظّفَر، ومِنكَ مَن أنصفك، وأخوك مَن عاتبك، وشريكُك مَن وَفَى لك، وصَفِيُّك مَن آثرَك، أعدى الاعتِداء العُقوق، اتِّباع الشَهوة يُورث النّدامة، وفَوتُ الفرصة يُورث الحَسرة، جميع أركان الأدب التأتِّي للرفق، أكْرِمْ نفسَك عن كلِّ دنِيَّة وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تجدَ بما تَبذُل من دينك ونفسك عوضاً، لا تساعد النساء فيملَلْنَك واستبق من نفسك بقيَّة، فإنّهن إن يَرينك ذا اقتدارٍ خيرٌ من أن يطّلِعْن منك على انكسار لا تُملِّك المرأة الشفاعةَ لغيرها، فيميلَ من شفعتْ له عليك معها، أي بنيَّ، إني قد اخترت لك الوصيَّة، ومَحضْتك النصيحة، وأدَّيت الحقَّ إلى اللَّه في تأديبك، فلا تُغفِلنَّ الأخذَ بأحسنها، والعملَ بها، واللُّهُ موفّقك .
وصية علي - رضي الله عنه- لكميل بن زياد :
عَنْ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ:-
" أَخَذَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِي فَأَخْرَجَنِي إِلَى نَاحِيَةِ الْجَبَّانِ، فَلَمَّا أَصْحَرْنَا جَلَسَ ثُمَّ تَنَفَّسَ ,
ثُمَّ قَالَ:-
" يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ : الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، وَاحْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ، وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ، الْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْعَمَلِ، وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ، وَمَحَبَّةُ الْعَالِمِ ديْنٌ يُدَانُ بِهَا، الْعِلْمُ يُكْسِبُ الْعَالِمَ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ، وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَصَنِيعَةُ الْمَالِ تَزُولُ بِزَوَالِهِ. مَاتَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ، أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ، هَاهْ إِنَّ هَهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - عِلْمًا لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، بَلَى أَصَبْتُهُ لَقِنًا غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، يَسْتَعْمِلُ آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، يَسْتَظْهِرُ بِحُجَجِ اللهِ عَلَى كِتَابِهِ، وَبِنِعَمِهِ عَلَى عِبَادِهِ، أَوْ مُنْقَادًا لِأَهْلِ الْحَقِّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي إِحْيَائِهِ، يَقْتَدِحُ الشَّكَّ فِي قَلْبِهِ، بِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ، لَا ذَا وَلَا ذَاكَ، أَوْ مَنْهُوَمٌ بِاللَّذَّاتِ، سَلِسُ الْقِيَادِ لِلشَّهَوَاتِ، أَوْ مُغْرًى بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ وَالِادِّخَارِ، وَلَيْسَا مِنْ دُعَاةِ الدِّينِ، أَقْرَبُ شَبَهًا بِهِمَا الْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ، كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ، اللهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُهُ، أُولَئِكَ هُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا، بِهِمْ يَدْفَعُ اللهُ عَنْ حُجَجِهِ، حَتَّى يَؤُدُوهَا إِلَى نُظَرَائِهِمْ، وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ، هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَ مِنْهُ الْمُتْرَفُونَ، وَأَنِسُوا مِمَّا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ، صَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَنْظَرِ الْأَعْلَى، أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ فِي بِلَادِهِ، وَدُعَاتُهُ إِلَى دِينِهِ. هَاهْ هَاهْ شَوْقًا إِلَى رُؤْيَتِهِمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكَ، إِذَا شِئْتَ فَقُمْ "
* أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/79)،
وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1878)،
والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/182).
من وصايا الخليفة الراشد أبي بكر الصّدّيق - رضي الله عنه - :
قال - رضي الله عنه -:
" إني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو له أهل، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة؛ فان الله تعالى أثنى على زكريا وعلى أهل بيته فقال: { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغباً ورهباً، وكانوا لنا خاشعين }.
ثم اعلموا عباد الله، إن الله تعالى قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب لا تفنى عجائبه، ولا يطفأ نوره، فصدقوا قوله، وانتصحوا كتابه، واستبصروا فيه ليوم الظلمة؛ فإنما خلقكم للعبادة، ووكل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون.
ثم اعلموا عباد الله، أنكم تغدون وتروحون في أجل قد غيب عنكم علمه، فإن استطعتم أن تنقضي الآجال وأنتم في عمل الله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم قبل أن تنقضي آجالكم فيردكم إلى أسوأ أعمالكم؛ فان أقواما جعلوا آجالهم لغيرهم ونسوا أنفسهم! فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم، الوحا الوحا، النجا النجا، إن وراءكم طالب حثيث، أمره سريع "
و قال وقد حضره الموتُ لسيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - :
" اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة. وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة: باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا. وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة: باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا. وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئاتهم، فإذا ذكرتهم قلت إني لأخاف أن لا ألحق بهم. وإن الله تعالى ذكر أهل النار فذكرهم بأسوأ أعمالهم ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت إني لأرجو أن لا أكون مع هؤلاء. فيكون العبد راغبا راهبا، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمته عز وجلَّ. فإن أنت حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو آتيك، وإن أنت ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أبغض إليك من الموت ولست بمعجزه "
وصية أبي الأسود عمرو بن كلثوم (المتوفى 39 ق. هـ - 584 م) لأبنائه
- وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة - :
قال :
يا بني، قد بلغت من العمر ما لم يبلغه أحد من آبائي، ولا بد أن ينزل بي ما نزل بهم من الموت.
وإني والله ما عيرت أحداً بشيء إلا عيرت بمثله، إن كان حقاً فحقاً، وإن كان باطلاً فباطلاً.
ومن سب سب؛ فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم،
وأحسنوا جواركم يحسن ثناؤكم،
وامنعوا من ضيم الغريب؛ فرب رجلٍ خير من ألف، ورد خير من خلف.
وإذا حدثتم فعوا، وإذا حدثتم فأوجزوا؛ فإن مع الإكثار تكون الأهذار .
وأشجع القوم العطوف بعد الكر، كما أن أكرم المنايا القتل.
ولا خير فيمن لا رويّة له عند الغضب، ولا من إذا عوتب لم يعتب .
ومن الناس من لا يرجى خيره، ولا يخاف شره؛ فبكؤه خير من دره، وعقوقه خير من بره.
ولا تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض.
http://www.sh-aladab.com/vb/showthread.php?t=13761
http://www.sh-aladab.com/vb/showthread.php?t=12736