سهم حاد
آه منها.. آه من تلك الفتنة النائمة في أعماق عينيها.. العسليتين، ما أروعهما وهما تنظران من خلال أهدابهما، ما أشد أسرهما وهما ترسلان تلك النظرات العذبة، فتنشران الهوى وتعبثان بالأفئدة وتفرضان الحب على القلوب وتخضعها لسهامها النافدة.. آه من تلك الابتسامة الساحرة الساخرة المملوءة جاذبية ودفءا... سبحان الله الذي جمع فيها من الخصال أحمدها، ومن الخلق أحسنه، ومن الأوصاف أجملها وأكملها، وجه ملائكي تنبعث منه الأنوار، كأنه هلال القمر لحظة ولادته، جسدها الثائر المتمرد، أكثر إثارة وشبقا، يتحرك على شاكلة عروس البحر، كأنه قنبلة درية، يبعث الحياة في المحتضر.. تبدو وكأنها فاكهة شهية، أو طبق حلوى.. أو حروف قصيدة وأبياتها.. جوهرة أحلى من الجمال وأجمل.
آه من لوعتها في أعماق قلبي، فمنذ نظرت إليها يخيل إلي أنني أعيش في شبه غيبوبة جميلة لا أود أن أفيق منها، لقد شعرت من هذه النظرة كأن سهما حادا استقر في قلبي وتغلغل في حنايا صدري فأحسست بشعور غامر قد عم جسدي لم يكن لي عهد به من قبل، فوجدت نفسي لها خاضعا طائعا، وقلبي الخافق بالخوف لا ينطق إلا مثل جرس خافت، يشكو لي ألم العشق ويتلذذ بالأسر في هواها، فيه ألف حوار وحوار، وحين ألقاها أخجل.. سكنت بلاط وجداني، وهي في كل نابض من عروقي تسري، فأصبحت مفصولا على كل من حولي .. لم أعد ذلك الإنسان الذي يعيش كما يعيش الناس، يغدو ويروح كما يشاء.
أتخيلها في كل لحظة، ترافقني تماشيني في تلك السبل التي يجول فيها يراعي.. بتبختر وتغنج، وعبق عطر أنوثتها يملأ المكان، ساقاها يظهران من فتحة فقطانها الحريري، ناصعي البياض كأنهما صيغا من التبر، و في عنقها سلسلة ذهبية تتوسطها لوزة تتقاذف بين نهديها الموسيقيين، وفي يدها اليسرى ساعة فاض عليها اللحم، وفي اليمنى دملجان يحدثان رنينا كلما تحركا كنغمات العود، وفي بنصرها خاتم غليظ منقوش عليه اسم الله.... تطربني بكلماتها التي تفيض عطفا وحنانا، و تبحر بي في عالم الرومانسية، كل حرف من لفظها الحلو فردوس ندي وسلسبيل مسلسل، كلما نطقت رف من ثغرها القرمزي الفجر وغنى الربيع بالعطر وشدت العصافير بالغرام .
تعلقت بها حتى استحال علي العيش دونها، هائما في حبها، قلبي لا ينبض إلا بها، هي سبب سهادي، وشقائي وبلائي، هي سر علتي ونحولي ، هي أنسي و ملهمتي.. لم أعد كالماضي، تغير كل شيء في حياتي، نفسيتي، تفكيري، تغيرت أنا بالكامل أصبحت لا أحتمل شيئا، لا أسمع لشيء، لا يهمني شيء، يؤلمني كل شيء، أصبحت أكره أن يسألني الناس ما بك، لأن إجابتي واحدة لاشيء ولكن في داخلي كل شيء.
وجدت نفسي في منعطف خطير غير مسار حياتي، فسرت أنمحي كقطعة الجليد حتى أشرفت على الهلاك ولم أعد أبالي بنفسي، واستغرب أهلي وأصحابي وأشفقوا لحالي وظنوا أني مسحور، أمي المسكينة من شدة حزنها علي تبكي وتنوح، وطرفها إلى وجهي الشاحب العليل، وإلى جفني الداهل الذي أذبله ألم الحب، وأدوته حمى العشق والغرام، وإلى جسمي المتهدم الواهن، وإلى شفتي اللتين أظماهما الشوق، وسمعها إلى نفسي المتقطع وتأوهاتي المتتابعة، وعهدها بي أني ذاك الرجل القوي الجليد المتحمل، فما تراني كذلك إلا وتملأ صدرها الزفرات، وتملأ عينها العبرات، وتنطلق من قلبها المثلوم وصدرها المكلوم أنات القهر ودعوات الرجاء إلى الله أن يشفي فلذة كبدها.
ولشدة اعتقادها بالقدرات الخارقة للفقهاء وأولياء الله الصالحين والشوافات الذين عجزوا كلهم عن كشف دائي، صارت المسكينة تتنقل بي من فقيه إلى فقيه، ومن ولي إلى ولي، ومن شوافة إلى شوافة، لكن دون جدوى.. وفي الأخير اقتنعت مؤمنة بالقضاء والقدر، تدعو الله أن يفرج عني مصابي..
بقلم: ادريس لشكر