د. مصطفى يوسف اللداوي: رسالة من فلسطيني إلى مصطفى بكري
لستُ أدري إن كان الأستاذ مصطفى بكري يعلم أنه بتصريحاته وأقواله، وتحليلاته التي لا تستند إلى دليلٍ أو برهان، وتفتقر إلى الحكمة والحصافة والرشد، وتخلو من المنطق والعقل، والتي يكيل فيها الاتهامات الكبيرة والخطيرة إلى الشعب الفلسطيني كله، أنه يلحق ضرراً بشعاً وظلماً شديداً بشعبٍ بأكمله.
فهو يتهمهم بالتخريب والتدمير، وأنهم وراء كل مفسدةٍ في مصر، وأنهم خلف كل حادثٍ يقع فيها، فلا مؤامرة تدبر إلا ويحيك الفلسطينيون خيوطها، وما من سلاحٍ يضبط في يد أحدٍ إلا أتهم حامله بأنه فلسطيني، وأنه جاء من غزة إلى مصر بقصد الإضرار بأمنها، والمشاركة في اعتصامات ومليونيات مؤيدي الرئيس المصري المعزول محمد مرسي، وكأن مصر ينقصها رجال يؤيدون أو يعارضون، أو يتظاهرون ويعتصمون.
مصر أم الدنيا غنيةٌ بالرجال، ويكاد تعداد سكانها يناهز التسعين مليوناً، ينتشرون فوق أرضٍ واسعةٍ ممتدة، تفوق المليون كيلومتر مربع، بينما سكان قطاع غزة كلهم، بنسائهم وأطفالهم وشيوخهم، ورجالهم وشبابهم، وأصحائهم ومرضاهم، وأحرارهم وسجناءهم، يكادون يلامسون بصعوبةٍ حدود المليونين لا أكثر، وهم محاصرين ومضيق عليهم، فوق شريطٍ من الأرض صغير، لا يقارن مع أي حيٍ من أحياء القاهرة، وسكانه لا يسافرون ولا يغادرون، ولا يستطيعون مغادرة مناطق سكناهم إلا بصعوبةٍ بالغة، فمعبر رفح الذي بات يغلق أكثر مما يفتح، لا يسمح بمرور أكثر من ثماني مائة مسافر يومياً إذا كان يعمل بكامل طاقته، وقد يعود بعضهم ولا يسمح لهم بالمرور.
أما الطريق من معبر رفح إلى القاهرة، والتي تستغرق بالسيارة السريعة أكثر من خمسة ساعاتٍ من المعاناة، فإنها طريقٌ وعرة، وفي أكثرها صحراوية، وهي أمنية بامتياز، تكثر فيها اللجان الأمنية، ونقاط التفتيش المرورية، المنتظمة والمفاجئة، فلا تكاد تمر سيارة دون أن تفتش، ويدقق في أوراق وبطاقات ركابها، فلا يسمح بالمرور لمن لا يحمل إقامةً شرعية في مصر، أو جوازاً ممهوراً بختم الأمن العام المصري، ولم يمض على دخوله أياماً محددة.
علماً أن اللجان الأمنية مختلفة، وتتبع جهاتٍ أمنية متعددة، فهي ليست جهة أمنية واحدة، وإنما لها مراجعٌ مختلفة، كلٌ يعمل ويدقق ويراقب، وكلٌ يكتب تقاريره ويعد مذكراته، فكيف والحال هذا يمكن أن نتصور أن آلافاً من الفلسطينيين يستطيعون المرور أو النفاذ إلى القاهرة، أو إلى المدن المصرية الأخرى.
قد يقول البعض بأن الجيوش الفلسطينية الجرارة التي تغزو مصر من غزة، لا تعبر عبر بوابة العبور الرسمية في رفح، وإنما تجتاز الحدود بواسطة الأنفاق الممتدة في جوف الأرض، التي يصفها البعض بأنها كثيرة، وأنها غير منظمة، ولا تخضع للقانون ولا للنظام، فلا يعرف الأمن العام المصري من يدخلها أو يخرج منها، فلا يسجل أسماءهم، ولا يستطيع أن يخمن عددهم، ولا أسباب مرورهم، ولا ماذا يحملون أو يخفون.
يدرك من يروج هذه الأكاذيب أن الأنفاق بين قطاع غزة ومصر إنما هي للبضائع فقط، لما ينفع الناس، ويزيد في صمودهم وثباتهم، فهي تستخدم لنقل المواد الغذائية والأدوية والوقود ومسلتزمات البناء والتشييد، كالاسمنت والحدود والأخشاب وغير ذلك.
إنها أنفاقٌ مضبوطةٌ ومعروفة، وتشرف الحكومة على كثيرٍ منها، سواء بالرقابة أو التدقيق، فلا تسمح بأي مخالفة في الأنفاق، ولا تسكت على أي ممنوعٍ يهرب أو يمرر، ليقينها أن هذه الأنفاق إنما هي ملك الشعب، وهي لخدمة الشعب، من أجل قوتهم ووقودهم، فلا ينبغي المقامرة بها، أو المغامرة بسلامتها، لهذا فإن حجم الرقابة الداخلية على الأنفاق كبيرٌ للغاية، ولا يُسمح من قديمٍ لأحدٍ بالعبور إلى مصر تهريباً عبر الأنفاق، وإن تم فإنه يكون بعلم السلطات الأمنية المصرية.
مصر أيها السادة أكبر دولةٍ عربية، شعبُها عريق، وحضارتها قديمة، ودولتها عتيدة، ونظامها عميقٌ يمتد في عمق الزمن، وجيشها واحدٌ من أقوى الجيوش في المنطقة، وأجهزتها الأمنية قويةٌ وعريقة، ولديها سجلٌ حافلٌ بالانتصارات والإنجازات، الوطنية والقومية، والعربية والدولية، ومنها اختراقاتٌ كبيرة وفاضحة للمؤسسات الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية، يشهد بها الإسرائيليون، ويعترف بها الخبراء والمسؤولون، ما يجعل اختراق أمن مصر صعباً، والتغلغل إليها عسيراً، فهل تصدقون أن أحداً من الفلسطينيين يقوى على اختراق أمن هذه الدولة العميقة، أو التسلل عبر حدودها، أو إلحاق الضرر بها، أو الإساءة إلى شعبها.
إن من يدعي ويروج هذه الأكاذيب، وينشر هذه المفاسد والموبقات، لا يسيئ إلى الشعب الفلسطيني فقط، الذي هو شعبٌ صادقٌ في وده لإخوانه المصريين، ومحبٌ لهم، ومدافعٌ عن أمنهم، ومضحي من أجلهم، وغيورٌ على مصالحهم، بل يسئ بتشويهاته إلى مصر كلها، الدولة والشعب والمؤسسات، عندما يصورها بأنها ضعيفة مهزوزة أمام مجموعاتٍ صغيرة، تستبيح حدودها، وتخترق أمنها، وتنفذ عملياتها، وتنسحب من أرض المعركة بسهولة، دون أن يلقي أحدٌ القبض عليها، أو يتعرف على بعض عناصرها.
أخي وصديقي الأستاذ مصطفى بكري أدعوك وقد منحك الله قلماً سيالاً، ولساناً بالحق سباقاً، وعقلاً راشداً منصفاً، وميزاناً بالعدل ناطقاً، وعاطفةً محبة، ومشاعر تجاه أمتك صادقة، أن تتحرى الصدق فيما تقول، وأن تتوخى المصلحة فيما تنقل، وأن تكون حصناً حصيناً حصيفاً نلجأ إليه إذا أصابتنا الخطوب، ونزلت بنا الكوارث، فلا تكون عوناً على أمتك، بل كن معيناً وموجهاً، ناصحاً ومرشداً، حريصاً وخائفاً على أمتك، ولا يغرنك سرعة نقل وسائل الإعلام لأقوالك وتصريحاتك، فإنهم لا ينقلون حديثك إلا لعلمهم أنه يهدم، ولا ينشرون تصريحاتك إلا ليقينهم أنها تسيئ، كما أنهم لا يستضيفونك إلا لأنهم يريدون منك أن تشوه الحقائق، وتزيف الوقائع.
أخي وصديقي الأستاذ مصطفى بكري، قد عهدتك صداحاً بالحق، لا تخاف فيه لومة لائم، ولا يضيرك من يغضب ولا يحرضك من يرضى، فقد عرفتك في أكثر من مؤتمرٍ ومنتدى، صاحب موقفٍ جرئ، وقولٍ سديدٍ وحكمةٍ بالغة، تنتقد بلا خوف، وتعارض بوضوح، وتنصحُ بحب، تقدم المصالح القومية والوطنية على أي مصالح أخرى، فلا تعمي عيونك الاختلافات، ولا تتوه وسط الاضطرابات، ولا تضل الطريق إذا إدلهمت الخطوب، ما يجعلنا نربأ بك أن تتهم شعباً بأكمله، وأن تتسبب في حصار قطاع غزة، وتجويع أهله، وحصار أبنائه، وشماتة أعدائه، خاصةً أننا نعيش في شهر رمضان الكريم، شهر التراحم والتآخي، الذي ترق فيه القلوب، وتصفو فيه النفوس، وتسمو فيه الأرواح.
المصدر: مراسلة د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 12/7/2013