لماذا المغرب في صفوف متأخرة في ميدانة التعليم
محمد بودهان
تقرير الأمم المتحدة للتنمية، لفترة 2007 ـ 2008، صنّف المغرب في مؤخرة دول العالم (المرتبة 126 من أصل 177 دولة). وتقرير البنك الدولي، الصادر في فبراير 2008، يضعه في مؤخرة الدول العربية (المرتبة 11 من أصل 14 بلدا عربيا) فيما يخص قطاع التربية والتعليم. التقرير الأول أثار عددا من الأسئلة حول أسباب تخلف المغرب عالميا في مجال التنمية. أما الجواب فيتضمنه التقرير الثاني: الفشل في التربية والتعليم يعني الفشل في كل شيء، وبالتالي فإن تخلف قطاع التعليم يستتبع بالضرورة تخلف كل القطاعات الأخرى. وبما أن المغرب يحتل مرتبة متأخرة، على مستوى النظام التعليمي، فإن احتلاله مرتبة متأخرة على مستوى التنمية، كما جاء في تقرير الأمم المتحدة، يصبح تحصيلا للحاصل.
لكن إذا كان تقرير البنك الدولي، الذي وضع المغرب في مؤخرة الدول العربية تعليميا، يقدم الجواب عن أسئلة تقرير الأمم المتحدة الذي صنف المغرب في مؤخرة دول العالم إنمائيا، فهناك أسئلة يطرحها من جديد التقرير الأول تنتظر الجواب. هذه الأسئلة هي: لماذا جاء المغرب متأخرا ـ ومتأخرا جدا ـ في مجال التعليم مقارنة مع الدول العربية التي “ينتمي” إليها؟
في الحقيقة، هل تحتاج ظاهرة تخلف التعليم بالمغرب، على المستوى العربي، إلى طرح أسئلة حول أسبابه وعوامله؟ لا نعتقد ذلك لأن الجواب بديهي وبسيط لا يتطلب تفكيرا كثيرا ولا استدلالا طويلا. ذلك أن من الحقائق الثابتة، كبديهيات واضحة وبسيطة، أن النسخة المنقولة هي دائما أقل جودة من النموذج الأصلي الذين نقلت منه. وبما أن الإنسان العربي، بهويته ولغته وتاريخه وتفكيره ووجدانه…، يشكل النموذج الذي يعمل المسؤولون العروبيون بالمغرب على صنعه واستنساخه عن طريق المدرسة والتعليم الذي تتكون برامجه ومناهجه من “المواد” التي تدخل في صنع واستنساخ هذا “الإنسان العربي” بالمغرب، فمن الطبيعي، إذن، أن تكون نتائج التعليم عندنا دون مستوى النموذج الذي يريد هذا التعليم استنساخه وخلقه. أي أن حصيلة هذا التعليم هي دوما دون مستوى مثيلتها في الدول العربية الأخرى. لماذا؟
لأن الغاية من التعليم بالمغرب، منذ الاستقلال إلى الآن، ليس هو تكوين إنسان حر ومستقل، فخور بانتمائه الأمازيغي، قادر على إبداع الحلول للمشاكل التي يواجهها في الحياة، وابتكار أجوبة عقلانية ملائمة لها وبشكل مفيد وفعال ومنتج. وإنما الغاية ـ من التعليم بالمغرب ـ هي ـ كما سبقت الإشارة ـ تكوين “إنسان عربي” في انتمائه ولغته وتفكيره ووجدانه. وبما أن هذا الإنسان العربي “المصنوع” لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الإنسان العربي النموذج، أي الإنسان العربي الطبيعي والحقيقي، فالنتيجة هي أن تعليمنا يبقى متأخرا دائما عن التعليم في الدول العربية، الذي ينتج ويعيد إنتاج “الإنسان العربي” بشكل أفضل وأنجح، لأن الأمر طبيعي وواقعي وليس صنعا ولا استنساخا، كما في المغرب.
وهنا لا بد من توضيح بعض الأمور.
بالنسبة للبنك الدولي، المغرب متأخر في تعليمه عن الدول العربية. وقد بينا بأن هذا التأخر منطقي وطبيعي لأن النموذج الأصلي هو دائما أفضل من النسخ المنقولة منه. لكن بالنسبة للمغرب ـ وحتى بالنسبة للعرب ـ ليس هناك تأخر ولا فشل في التعليم بالمغرب، بل هناك تقدم ونجاح. لماذا؟
إن نجاح أو فشل أي مشروع يقاسان بمقدار ما تحقق من الأهداف التي رسمت لذلك المشروع. وبالرجوع إلى الأهداف التي حددت للنظام التعليمي بالمغرب منذ الاستقلال إلى الآن، نجدها تتلخص في تعريب الإنسان الأمازيغي وتحويله إلى إنسان عربي، هوية ولسانا وفكرا ووجدانا، أي صنع واستنساخ هذا الإنسان العربي مكان الإنسان الطبيعي، الإنسان الأمازيغي، كما سبق أن شرحنا. وإذا قارنا النتائج التي تحققت مع الأهداف التي رسمت للتعليم بالمغرب منذ البداية، فسنلاحظ أن نجاح التعليم عندنا، من خلال تحقيقه لهذه الأهداف التي حددت له منذ الاستقلال، يفوق كل التوقعات بشكل يذهل الباحث والملاحظ: فالمغرب أصبح بلدا “عربيا”، معترفا به في المحافل الدولية كدولة عربية، وحكامه عربا، ولغته عربية، وقضاياه عربية، وأسماء جزره عربية (الجزر الجعفرية وجزيرة ليلى!!(، وأغانيه عربية، وتلفزته عربية، وصحافته عربية، وأحزابه عربية، ورياضته عربية، ورياضيوه عربا، وسياسته عربية… إنه في الحقيقة نجاح باهر منقطع النظير. فتحويل الأمازيغيين إلى عرب، بفضل سياسة التعريب التعليمية، عملية تعجز عن إنجازها بنجاح أشهر المصحات العالمية المتخصصة في تحويل الجنس. لكن المختبر التعليمي بالمغرب نجح، وبزيادة، في تحويل الجنس الأمازيغي إلى جنس عربي. بل حتى ما تبقى من الأمازيغية، لأنه عصي على الاستيعاب والتعريب، يُتعامل معه بالشكل الذي يؤكد ويدعم عروبة المغرب، إذ يُنظر إلى الأمازيغيين كأقلية محدودة وسط أغلبية واسعة من العرب الذين لا “يألون جهدا” من أجل “الحفاظ” على الثقافة الأمازيغية باعتبارها ثقافة تابعة وملحقة بالثقافة العربية الأم التي تستمد منها الحياة والوجود.
وهكذا يشكل ما قام به المسؤولون العروبيون، فيما يخص التعليم وتعريب الأمازيغيين، جريمة إنسانية تبقى قائمة وقانونية لا يطالها التقادم إلى حين تقديم هؤلاء المسؤولين للعدالة قصد محاكمتهم. ولا تسقط المتابعة بمجرد موت هؤلاء المسؤولين، لأن الأمر يتعلق بجريمة دولة، المسؤولية فيها مستمرة ولا تنقطع بموت هذا المسؤول أو ذاك. هذه الجريمة الكبرى ـ جريمة التعريب ـ تتفرع إلى جرائم أربع:
ـ انتهاك جسيم لحق من حقوق الإنسان الطبيعية والبديهية، وهو حق الانتماء إلى هوية آبائه وأجداده التي يحددها الموطن الجغرافي لتلك الهوية، التي هي الأرض الأمازيغية كما في حالة المغرب.
ـ انتهاك جسيم لحق من حقوق الإنسان الطبيعية والبديهية، وهو حق استعمال لغة الأم في التعليم والمدرسة والإدارة والمحكمة.
ـ ارتكاب جريمة في حق الشعب المغربي بترتيبه، على مستوى التعليم، في مؤخرة الدول العربية. وأن يكون المغرب في مؤخرة الدول العربية تعليميا، معناه أنه في مؤخرة المؤخرة، لأن الأنظمة التعليمية بهذه الدول العربية هي أصلا في المؤخرة.
ـ جريمة في حق الشعب المغربي بإيصاله، بسبب جريمة التعليم والتعريب، إلى الدرك الأسفل في سلم التنمية على الصعيد العالمي.
هذه الجريمة الكبرى ـ جريمة التعريب ـ بالإضافة إلى نتائجها على مستوى الهوية واللغة الأمازيغيتين واحتلال المغرب المراتب المتأخرة عربيا فيما يخص التعليم، وعالميا فيما يخص التنمية، أفرزت نتائج جانبية أخرى مصاحبة على مستوى تدبير الشأن العام وتأهيل الإنسان المغربي.
ـ ففيما يخص تدبير الشأن العام، أصبح الفساد والإفساد، ليس سمة مميزة لهذا التدبير، بل شرطا له لا يقوم إلا بوجوده وتوافره، كجزء من فلسفة الحكم المخزني بالمغرب. وهو ما جعل من الارتشاء ونهب المال العام سياسة قائمة بذاتها. فكانت النتيجة احتلال المغرب للمراتب الأخيرة عالميا، في التنمية والتعليم والحكامة الجيدة، لكن المراتب الأولى في الفساد والارتشاء.
ربما هناك من يسأل: وما العلاقة بين حالة الفساد والارتشاء ونهب المال العام وبين السياسة التعليمية الفاشلة؟ العلاقة تمر عبر جسر التعريب الذي يفرض ويعلّم تقليد واستنساخ نموذج المشرق العربي بالمغرب، في كل شيء، بما في ذلك طبعا أساليب الحكامة وتدبير الشأن العام الذي لا تمييز فيه بين المال العام والمال الخاص للحكام ورجال السلطة بأنظمة المشرق العربي.
ـ أما على مستوى تأهيل الإنسان المغربي، فإن التعليم، بدل أن ينمي لديه العقلانية والفكر النقدي وتوخي الحداثة، وروح التسامح واحترام الرأي الآخر المخالف، غرس فيه، عكس ذلك، بذور التطرف ومبادئ الظلامية ومعاداة الحداثة والمرأة ومحاربة العقلانية والدفاع عن الفكر الغيبي والخرافي اللاعقلاني. كل هذا جعل المغاربة يحتلون رأس قوائم الإرهابيين والانتحاريين على الصعيد العالمي.
إن المسؤولين السياسيين العروبيين بالمغرب، بسياسة التعريب التي سنوها واتبعوها، باعوا الهوية واللغة الأمازيغيتين للمغاربة مقابل أن يصبح المغرب في مؤخرة الدول العربية، أي في مؤخرة المؤخرة كما سبق أن قلت. فحتى فلسطين التي تجمع لها المساعدات بالمغرب وتنظم للتضامن معها تظاهرات مليونية، متقدمة في نظامها التعليمي على المغرب، كما كشف عن ذلك تقرير البنك الدولي. فالمحتاج إذن إلى مساعدات وتظاهرات تضامن، ليس فلسطين، المتقدمة على المغرب، بل المغرب الموجود في المؤخرة. إنها مفارقة مضحكة ومبكية في نفس الوقت!
كيف يمكن الخروج من هذا التخلف العميق، السياسي والفكري والتنموي الذي أوصلتنا إليه سياسة التعريب الإجرامية التي لم تنجح سوى في إنتاج “إنسان عربي” بالمغرب، مستعد للانتحار والنحر من أجل العروبة وقضاياها النرجسية التي لا تنتهي؟
الشرط الأول هو توفر الإرادة السياسة لإعادة النظر بشكل شامل وجذري في النظام التعليمي، مع ضرورة القطع النهائي والشجاع مع سياسة التعريب التخريبية، أي مع أداة التخلف والتأخر. بعد توفر هذه الإرادة، يشرع في التخطيط على أسس جديدة، لتعليم مفيد ومنتج، غايته، ليس تكوين إنسان “عربي” بالبلاد الأمازيغية التي هي المغرب، بل تكوين إنسان حر ومستقل، كفء ومنتج ومتنور، معتز بهويته ولغته الأمازيغيتين وبانتمائه إلى دولة أمازيغية تستمد هويتها من الأرض الأمازيغية للمغرب، يساهم في تنمية بلاده، اقتصاديا وديمقراطيا وعلميا. ولا حاجة للتذكير أن الشرط الآخر لنجاح النظام الجديد للتعليم هو ضرورة إعادة النظر في لغة التدريس والتحصيل. لقد رأينا كيف كان التعريب هو المسؤول المباشر عن التأخر الكبير الذي رتبت فيه التقارير الدولية المغرب. أي أن اللغة المفروضة في المدرسة كان لها الدور المباشر في ما وصل إليه المغرب من درك أسفل على مستوى التنمية والتعليم والحكامة الجيدة. وإعادة النظر في لغة التدريس لا يعني أبدا تهميش اللغة العربية أو إقصاءها، بل سيعمل الإصلاح “اللغوي” للتعليم على رد الاعتبار لها، لكن ليس كأداة إيديولوجية لتعريب المغاربة كما كانت وظيفتها منذ الاستقلال إلى اليوم، بل كلغة دين وعبادة وثقافة عربية إسلامية، في إطار الهوية الأمازيغية للمغرب، بجانب النهوض الحقيقي باللغة الأمازيغية وتأهيلها الجدي في أفق استعمالها كلغة للتعليم والتدريس.
الشروع في العمل بنظام تعليمي بهذه الأهداف والمواصفات والشروط، لن يعطي أكله إلا بعد أزيد من عشرين سنة، نعم بعد أزيد من عشرين سنة، أي بعد تخرج المستفيدين من هذا النظام الجديد إلى سوق الشغل لتطبيق كفاءاتهم التي اكتسبوها في ظل هذا النظام التعليمي الجديد. ومن هنا تأتي الخطورة الكبيرة للتعليم الذي لا تظهر آثاره ونتائجه إلا بعد ربع قرن. لماذا؟ لأن الأمر يتعلق ببناء الإنسان، ثروة كل الثروات، وليس ببناء معمل أو صنع سيارة.
لكن يبدو، وينبغي الوعي بذلك، أنه من الصعب على المسؤولين العروبيين بالمغرب، التنازل والتراجع عن خيار التعريب. لماذا؟ لأن هذا الخيار أصبح علة وجودهم السياسي والاقتصادي الذي يمنحهم السلطة والثروة. وفي هذه الحالة، ينبغي النضال والكفاح لوضع حد لهذا الوجود الذي أصبح يقف عائقا أمام نهوض المغرب وتقدمه وسيره إلى الأمام..