مدينة قلين بين سحر الحاضر وعبق التاريخ
لا أخفي عليك سرًا يا صديقي، فنفسي تتوق إلى الهدوء والسكينة، والإنشغال بوداعة نسمة الريف عن ضجيج المدن وصخبها، وليس هناك نسمة ريف أحب إلى قلبي من تلك النسمة التي أستنشق عبيرها في مدينتي الصغيرة فتعود الحياة إلى كياني من جديد وكأن روحي تسري في جسدي لتوها منذ خُلقت، ربما يأسرك الفضول وتود لو أُخبرك بإسم تلك المدينة التي سحرتني وأحيتني نِسمتُها، لن أطيل أسرك كثيرًا، سأصرح لك بها وسأخبرك عنها خبرًا.. أما عن التصريح فمدينتي تلك هي " قلين " القابعة في كنف الطبيعة الساحرة بريف مصر الخالد، فتقع في عمق الدلتا تمامًا بمحافظة كفر الشيخ، أعلم أن الفضول عاد ليأسرك من جديد لتقف أمام إسم " قلين " مشدوهًا، وتتسائل لماذا يا ترى حملت هذا الاسم؟! وما معناه؟! وهل هو تاريخي أم مستحدث كغيره من الأسماء؟! الإجابة على تلك الأسئلة في الخبر الذي وعدتك بإخبارك به أنفًا علّك تتحرر من فضولك يا صديقي للأبد.
ربما تكون قد قرأت أو سمعت عن "دقليديانوس" هذا الإمبراطور الروماني الذي إعتلى عرش الإمبراطورية الرومانية عام 284 م ، وقد أبدى هذا الإمبراطور الوثني تعاطفًا ملحوظًاً مع المسيحيين في بداية عهده، ولكن ما لبس أن عين ميكسيميان عام 286 م إمبراطورًا على الشرق، ومنذ هذا التاريخ البائس ذاق المسيحيين ألوان العذاب وأشد أنواع الإضهاد، حتى أنه سُمي بعصر الشهداء.
وفي تلك الأثناء أصدر دقليديانوس منشورًا بتقديم الذبائح للأوثان، وقد عارضت كتائب كثيرة من الجيش هذا المنشور وكان منها الكتيبة الطيبوية التي كان أبنائها من مدينة الأقصر، وقد رفضت هذه الكتيبة تقديم الذبائح للأوثان ورفضت أيضًا القسم على القضاء على المسيحية في بلاد الغال (فرنسا حاليًا)، وكان جزاء تلك الكتيبة الموت بالكامل.
وكان من بين الذين رفضوا الإذعان لهذا المنشور القديس "أبسخيرون القليني" الذي ولد بمدينة قلين، وكان ضمن جنود الفرقة التي كان بأتريب (بنها)، وكان جنديًا قويًا وشجاعًا، وعندما علم الوالي بعصيان القديس أبسخيرون لأوامر ومنشور الإمبراطور أمر بسجنه ونفيه إلى الصعيد لتعذيبه كما كان متبع حينها، وهناك عُذب إلى أن أمر الوالي بقتله بعد أن أظهر معجزات كثيرة وفقًا لبعض الروايات.
وكان أهل قلين في ذلك الوقت قد أقاموا كنيسة وأطلقوا عليها إسم " كنيسة القديس أبسخيرون القليني" وكانوا يتشفعوا فيها بالقديس أبسخيرون القليني بن بلدتهم، وقد قيل أن أهل قلين كانوا يعينوا ليلة محددة لعقد الزيجات وذلك لصعوبة المواصلات حينها، وتوافق تلك الليلة مع موسم الحصاد، وفي إحدى هذه الحفلات قد تجمع نحو مائة شخص في الكنيسة، وفي أثناء الليل إجتمع مجموعة من مضطهدي المسيحية لقتل من بداخل الكنيسة، ولكن سرعان ما نُقلت الكنيسة بمن فيها إلى البيهو في صعيد مصر، قبل أن ينفذ المضهدون ما تآمروا عليه، وعندما خرج الناس في الصباح وجدوا أنفسهم في بلدة غير بلدتهم، حينها ظهر القديس دون أن يعرفوه، وإصطحبهم حتى شاطئ النيل، وما إن ركبوا السفينة حتى وصلوا في يوم عوضًا عن ثلاثة أيام، وعند وصولهم قلين لم يجدوا الكنيسة ووجدوا مكانها بركة ماء، أُطلق عليها فيما بعد بحيرة القليني.
قد تبدو الحكاية أسطورية، ولكن الثابت تاريخيًا أن مدينة قلين سُميت نسبة للقديس أبسخيرون القليني، وكما أن قلين الآن ساحرة بنقائها وصفائها، وبعبير نسماتها، فهي أيضًا خالدة في التاريخ، وراسخة في وجدان البشرية.. تلك هي مدينتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبدالحليم حفينة
10/5/2012