النموذج الشبكي للذاكرة الطويلة المدى
النموذج الشبكي للذاكرة الطويلة المدى
منذ أواخر الستينات من القرن الماضي أصبحت الذاكرة - كما مرّ سابقاً - مادة لبحوث ودراسات كثيرة تمخضت عن تصورات متباينة لآليات عمل الذاكرة ووظائفها ومحتوياتها وقد تجسدت هذه التصورات في موديلات ونماذج عديدة نذكر منها النموذج الشبكي المعنوي الذي أخذ صيغاً مختلفة. حيث يصف هذا النموذج الذاكرة المعنوية الطويلة المدى بأنها شبكة شديدة الاتساع تحتوي على قدر هائل من المفاهيم المتصلة والمتشابكة فيما بينها (براون وماك نيل 1966Neill, Brown) والتي تجعل من هذه المفاهيم حزماً متراطبة وهذا الترابط ليس متماثلاً وغير بسيط، إنه متنوع ويجري في مستويات متفاوتة التقعيد ويمثل هذا الاتجاه الربطي الجديد في دراسة الذاكرة (اندرسن وباور 1973).إن النموذج الشبكي للذاكرة المعنوية الطويلة المدى يقوم على فكرة رئيسة مفادها أن الشبكات الترابطية تمتلك انتظاماً وتماسكاً إلى أقصى حد ويتوقع من الموضوعات المتقاربة من الناحية المعنوية أن تترابط بقوة في شبكات الذاكرة الطويلة المدى. وبهذا المعنى فإن الذاكرة الطويلة المدى تغاير في عملها وطريقة تنظيمها طريقة تنظيم المعاجم والقواميس. حيث لا توضع الكلمات أو المفردات ذات المعنى الواحد أو المتقارب في نظام بائي معين. ولهذا فإن طريقة المعاجم والقواميس قليلة النفع عند تحديد العلاقات بين المفاهيم.
التمييز بين الذاكرة القصيرة المدى والذاكرة الطويلة المدى
تختلف الذاكرة القصيرة المدى عن الذاكرة الطويلة المدى في نواح عديدة نذكر أهمها فيما يلي:
1) الذاكرة القصيرة المدى تحتفظ بالمعلومات لمدة قصيرة بينما تحتفظ الذاكرة الطويلة المدى لمدة طويلة بها.
2) الذاكرة القصيرة المدى سعتها محدودة لا تتعدى (±7 وحدات) بينما سعة الذاكرة الطويلة المدى غير محدودة.
3) المعلومات أثناء وجودها في مخزن الذاكرة الطويلة المدى أقل تأثراً بالمدخلات الجديدة من المعلومات المحفوظة في الذاكرة القصيرة المدى، نظراً للتباين الشديد في طريقة معالجة المعلومات من قبل كل منهما.
4) نوع التداخل الذي يسبب النسيان في حالة الذاكرة القصيرة المدى يختلف عن النوع الذي يسبب النسيان في حالة الذاكرة الطويلة المدى. فالأشياء التي تتداخل في الذاكرة القصيرة المدى هي تلك التي تتشابه من الناحية الصوتية، أما التداخل في الذاكرة الطويلة المدى فناجم غالباً عن التشابه القائم على المعنى.
5) الذاكرة القصيرة المدى تسترجع المعلومات متبعة طريقة الفحص المتتابع بينما تسترجع الذاكرة الطويلة المدى مستخدمة طريقة التقابل.
6) يختلف نمطا الذاكرة (القصيرة والطويلة) فيما بينهما من حيث الآليات التي تعمل في حالة كل منهما. وقد قدمت معطيات فيزيولوجية وعصبية لتأكيد هذه الفرضية ففي عام (1959) وصفت (برندا ميلنر Brenda Milner) عدداً من الظواهر التي لاحظتها لدى بعض الأشخاص بعد اصابتهم بتلف في منطقة من المخ تدعى (قرن آمون) وجملة هذه الظواهر المرضية أصبح يطلق عليها (لزمة ميلنر) فالمصاب بلزمة ميلنر غير قادر على استرجاع المواد الجديدة التي تعلمها منذ وقت قصير بينما يظل قادراً على استرجاع المواد والمعلومات التي كان قد اكتسبها في الماضي البعيد أو قبل تلف هذا الجزء من الدماغ.
على سبيل المثال بوسع المصاب استدعاء المعلومات التي تعرض عليه مباشرة، وبوسعه الاحتفاظ بها لبضعة دقائق إذا ما أتيحت له الفرصة لاعادتها المرة تلو الأخرى وبدون انقطاع. وهذه الوقائع تشير إلى أن المصاب بلزمة ميلنر يمتلك ذاكرة طويلة المدى وكذلك ذاكرة قصيرة المدى لكنها تؤكد من جهة أخرى احتمال اصابة وتعطل (الحلقة الواصلة) بين الذاكرة القصيرة والطويلة مما يحول دون انتقال المعلومات من الذاكرة القصيرة إلى الذاكرة الطويلة.
ولعل هذه الفروق الهامة بين نظامي الذاكرة دفعت بعض العلماء للقول بوجود نظام ثنائي للذاكرة مدعم بشواهد سيكولوجية وفيزيولوجية وعصبية، وهو ما يتيح لنا التأكيد على أن عملية حفظ المعلومات وبخاصة في الذاكرة الطويلة المدى لا تشبه ابداً التصوير المطابق للأصل أو البصمات الثابتة نظراً لأن المعلومات تتعرض في أثناء فترة الخزن لتغيرات وتحولات متنوعة وتصبح بالتالي اكثر عمومية وهيكلية، لكنها مع ذلك تظل متمايزة عن المعلومات الجديدة والواردة حديثاً إلى الذاكرة.