«الثلاث» سيدي بنور .. عيد أسبوعي يتعايش فيه التجار مع السحرة والمشعوذين رواق لـ«الفقها» في خيام خاصة بالنساء والشمس تلفح وجوه «الذهايبية»
تتغير ملامح سيدي بنور كثيرا في مطلع فجر كل ثلاثاء. ينقلب هدوؤها صخبا وضجيجا. يتحول ركود تجارتها إلى رواج، بعصا سحرية اسمها «الثُلاثْ»،
وهي اختصار محلي لعبارة الثلاثاء، ويقصد بها مدينة سيدي بنور، التي تحمل اسم اليوم الذي يلتئم فيه السوق الأسبوعي. سيدي بنور.. هنا كل شيء قابل للبيع والشراء، في خيام توزّعت على مساحة شاسعة في الجزء الجنوبي من هذه الحاضرة الدكالية.
سيدي بنور يوم الثلاثاء لا تشبه سيدي بنور بقية الأيام في شيء، عدا الاسم والموقع على الخريطة.. ينقلب الهدوء الكبير الذي تمتاز به هذه الحاضرة الدكالية إلى صخب منذ الساعات الأولى من صباح كل ثلاثاء ولا تستعيد وداعتها إلا بعد غروب الشمس.
كل ثلاثاء، تضيق سيدي بنور، الصغيرة، بزوارها، حتى إن عدد سكانها يكاد أن يتضاعف حين يصل الإقبال على السوق ذروته. كل ثلاثاء، تصبح جميع الطرق سالكة نحو سيدي بنور، وإن اختلفت وسائل النقل، من حافلات وسيارات، بمختلف الأحجام، إلى العربات المجرورة والدواب. في كل يوم ثلاثاء، يتحول الجزء الجنوبي من المدينة إلى سوق كبيرة يصعب ترسيم حدودها لزائرها للمرة الأولى، سوق يعرض فيها كل شيء قابل للبيع والشراء.
عيد «التلات»
سوق سيدي بنور هو الأكبر من نوعه في جهة دكالة -عبدة، ولا تنازعه في الكبر والأهمية سوى أسواق قليلة على الصعيد الوطني. ويكاد سكان المدينة والحواضر المجاورة، بل ودواوير المنطقة كلها، يصنفون الثلاثاء ضمن أعيادهم. يتحدثون عنه بشغف ويدافعون عنه بحماس ويتجاوزون في حديثهم عنه حد الإعجاب إلى إبداء الفخر والاعتزاز.
لقد بات التردد على السوق بالنسبة إلى كثيرين التقت بهم «المساء» في عين المكان لازمة أسبوعية تُنظّم إيقاع حياتهم. يتحملون مشاق الذهاب إلى السوق، بصرف النظر عن المسافة التي تفصلهم عنه، لأن «فيه كل شيء.. وهو الأفضل في المغرب»، على حد تعبير «سي محمد»، وهو رجل خمسيني، أبدى استغرابا كبيرا حين سئل عما ينقص السوق، حيث أجاب، بلغة مفعمة ثقة: «لا شيء»...
لم يُخْفِ آخرون، كانوا في معظمهم أكثر شبابا من «سي محمد»، امتعاضهم من وسائل النقل التي تنشط في الطرق المؤدية إلى السوق. وسرعان ما تحول الامتعاض إلى غضب الواقف عاجزا أمام الزيادة التي تُفرَض كل ثلاثاء في تعريفة وسائل النقل، وإن كانت حالتها الميكانيكية «مهترئة».
تكون سيارات النقل المزدوج الأنشطَ في هذا اليوم، لأنها تقر زيادة أقل أهمية من تلك التي يفرضها أصحاب سيارات الأجرة من الصنف الكبير، كما أنها تتيح لمرتادي السوق حمل مقتنياتهم بدون مشاكل، وهو ما لا تكفُله سيارات الأجرة.
تعُجّ المحطة الطرقية لسيدي بنور، المحاذية للسوق، بعربات النقل المزدوج وتتزاحم في الساحة الضيقة للمحطة مع الحافلات التي تربط سيدي بنور ببقية المدن، لاسيما الدار البيضاء ومراكش والجديدة واليوسفية، في حين تصطف سيارات الأجرة في المساحات الفارغة المحيطة بالسوق وتتخذ مكانها في الساحة، حسب وجهتها.
غير أن كثيرا من رواد السوق، خصوصا القاطنين غير بعيد عنه، يتفادون زحمة عربات النقل المزدوج ويتنقلون إلى السوق عبر عرباتهم المجرورة. ويتسبب استنجاد فئات عريضة من السكان بالنوع الأخير من العربات في احتقان شديد في حركة السير في الطريق الرئيسية التي تربط سيدي بنور بمراكش والجديدة. وتزاحم الدواب، أيضا، السيارات والحافلات على موطئ قديم لها في تلك الطريق.
ثمة فرق بين العربات المجرورة والسيارت: وحدها العربة المجرورة، ويطلق عليها اسم «الكرّوسة» في لغة أهل دكالة، يمكنها أن تدلف إلى السوق بدون مشاكل وأن توصل ركابها إلى أبعد نقطة ممكنة في عمقه. ويلج كثير منها إلى السوق من مكان بين رحبة «البذور» والمحطة الطرقية وتجتاز، بسرعة ملفتة، عشرات الخيام، قبل أن تتوقف وتعود أدراجها من حيث أتت.
لا توجد بنايات في هذا السوق، عدا المحطة «كشك» صغير، استبدل أصحابه تجارة الكتب والمجلات ببيع الملابس، وآخر تخصص في بيع التبغ. تُعرَض البضائع، بجميع أنواعها، وبصرف النظر عن قيمتها، في خيام، تختلف أحجامها حسب أهمية النشاط التجاري الذي يزاوله صاحبها وحسب البضائع المعروضة فيها. كانت الخيام في كل مكان، ووحده الفضاء الخاص بالمتلاشيات والخردة ظل خاليا من منها. كما كان لافتا تجمُّعُ باعة البضاعة الواحدة في مكان واحد. وتُحوّل المهن الأكثر تنظيما الفضاءات الخاصة بها إلى أشبه بـ«قيساريات» من خيام، وتفصل بين الأقل تنظيما منها مساحات فارغة تتخذ مرمى للأزبال والنفايات.
رواق «الفقْهَا»
يتوفر «المشعوذون والسحَرة» على جناح خاص بهم في هذه السوق. يجتمعون في مكان واحد، جنبا إلى جنب مع «الجّبّارة». غير أن خيامهم لا تشبه بقية الخيام. أبوابها مثلثة. لا يكاد يرى مما بداخلها شيء سوى رجل، متقدم في السن في الغالب، يجلس القرفصاء.
لا ينتظر «أحمد» أن يبادر الزبناء إلى التوجه نحو خيمته، وإنما يبادر بنفسه إلى المناداة على المارين من أمام خيمته، لاسيما النساء، ويزداد إلحاحا إذا كانت المرأة برفقة فتاة شابة. ويعتبر هذا الجزء الأقل حركية في السوق كلها: يجد كثيرون حرجا في ولوجه أو مجرد المرور بالقرب منه...
لا يستقبل «أحمد» أكثر من «زبون» واحد في وقت واحد، ليس فقط لضيق الخيمة، وإنما لعامل السرية، الضروري لكسب ثقة «الزبناء»، وهو ما يعني، في كثير من الحالات، ضمان «فتوح» سخيّ.
يستقبل الزبون بوجه بشوش وترحيب كبير، ثم تتبع ذلك لحظةُ صمت مطبقة. يسأل عن الاسم واسم الأم، ثم يمطر الزبون بأسئلة كثيرة في وقت وجيز، قبل أن يطبق الصمت من جديد. يأخذ قلما من قصب ودواة تقليدية ويُدوّن، بخط يعسر معه التمييز بين الكلمات، فبالأحرى تبيُّن الحروف، متمتما بكلمات لا تكاد تُفهَم، قبل أن يوصي الزبون بما ينبغي فعله ويحذره، في الآن ذاته، من القيام بأشياء أخرى. ويختلف التعامل والوصفة المقترَحة حسب التشخيص الذي ينجزه «الفقيه» لكل حالة من حالة إلى أخرى. وقبل أن ينصرف الزبون، يستعرض أمامه بقية قدراته من «ملكات السحر والشعوذة».
لم يكن الإقبال في هذا الثلاثاء، الذي يصادف عيد الفطر السعيد، كبيرا على «غيتونات» السحر والشعوذة. وقال الفقيه «سي أحمد» إن الإقبال يعرف عادة تراجعا ملحوظا في رمضان، خصوصا في أسابيعه الثلاثة الأولى. ثمة عامل آخر يوجزه «سي أحمد» في تصادف هذا الثلاثاء مع «انعقاد سويقات كثيرة في المناطق المحيطة بسيدي بنور عشية عيد الفطر». وليس هذا الركن حكرا على «الفُقهَا»، وإنما يجاورهم فيه آخرون يجبرون الكسور ويداوون بطرق شعبية، أبرزها الكي.
غيرَ بعيد عن تلك الخيام «الخاصة جدا»، انتصبت خيام كبرى، بعضها مفتوح من ثلاث جهات، عكس بويبات خيام «الفقها»، المثلثة، الصغيرة. عكس الخيام السابقة، تشكل النساء أغلبية الباعة في هذا الرواق ويعتبرن، أيضا، أهمَّ زبنائه. يعرضن أصنافا عديدة من الصوف، وهي بضاعة من نوع خاص، تجعل هذه السوق أقرب إلى سوق قوية منها إلى حصرية تنعقد وسط مدينة صارت، قبل أشهر قليلة، عمالة، وتعتبر من الحواضر الصاعدة في منطقة دكالة.
ثمة خيام لا تُعرَض سوى الصوف المُعَدّ على شكل أنسجة باختيارات عديدة في الألوان، مع طغيان واضح للون الأبيض والأحمر والأخضر. وإلى جانب الصوف شبه المصنع والمنسوج، وكذا المغزول، انزوت ثلاث نسوة في ساحة وسط هذا الركن من السوق وانهمكن في إعداد صوف خامّ، تمهيدا للشروع في غزلها. اثنتان كانتا تعدان الصوف تحت أشعة شمس لافحة، بينما راحت الثالثة تدير بسرعة وفي حركة غاية في الانسيابية مغزلا تقليديا يتلوى على عوده ما تغزله الثلاثة تمهيدا لبيعه. هناك، أيضا، خيام تبيع الصوف الخام فقط، رغم زهد سعره. يتم تجميع أغلبية كميات الصوف الخامّ، التي تباع في هذا السوق من أهالي المنطقة. فكثير من «كسابي» المناطق المجاورة لسيدي بنور يعمدون إلى بيع صوف شياههم، هنا، بالجملة في الساعة الأولى من صباح كل ثلاثاء.
الصوف ليس البضاعة التي يستغل سكان المنطقة فرصة انعقاد هذا السوق لبيعها بأسعار «مناسبة» تفضل بقسط لا يستهان به في ميزانيات الفلاحين عن نظيرتها في بقية الأسواق الموجودة في المنطقة. المحظوظون منهم «كسّابون» يدر عليهم بيع أنعامهم في هذه السوق أموالا تُغطّي مصاريف الكسب وتُسعفهم في تلبية كثير من حاجياتهم.
كانت تعلو وجوهَ القرويين الملتحفين جلابيبَهم فرحة لا تخطئها فراسة. ورغم أن الكساب مصطفى كان يبدو مرتاحا للغاية، فقد قال: «السوق اليوم عيّانة»، وأضاف مخاطبا رفيقا له: «السوق الماضية كانت أفضل من هذه، رغم أن غدا الأربعاء عيد».
أبدى مصطفى، الذي يقطن في أحد دواوير «الفارس»، ندمه لكونه توجه بنعجة وثلاثة خرفان إلى السوق اليوم. «كان عليّ أن أؤجل ذلك إلى وقت لاحق، ولكنْ الحمد لله على كل شيء»، يقول مصطفى، قبل أن يقاطعه رفيقه ليؤكد أن الأنعام والخضر، والصوف أحيانا، ومواد قليلة أخرى تُشكّل أبرز المنتجات التي يبيعها سكان المنطقة للحصول على أموال قد لا تكفي لتلبية حاجياتهم، خصوصا في فترات الجفاف.
حظ «الكرّوسة»
يصعب إحصاء الأشياء التي يمكن للقرويين شراؤها من هذه السوق. «فهنا كل شيء يباع»، كما قال «سي محمد»، خضر، فواكه، أوانٍ، بما فيها الخزفية، متلاشيات، حبوب، مواد تغذية عامة وغيرها كثير... لكنْ ثمة رواق من نوع خاص. يعُمّه هدوء مثير وتُعرَض فيه بضاعة يعتبر عرضها للبيع في محلات من خيام من «كتان» مغامرة محفوفة بالمخاطر. هنا، يداوم نحو 40 تاجر ذهب وفضة على عرض بضائعهم كل أسبوع. لم يكن «أمينهم»، عبد الرحيم، على غرار الفلاح مصطفى، راضيا عن حالة السوق في هذا اليوم. قال إن عدد مرتاديه قلة مقارنة مع الأيام الأخرى واتفق مع الفقيه «سي أحمد» في إرجاع سبب هذا التراجع في حركية السوق إلى انعقاد سويقات بمناسبة عيد الفطر في دكالة وعبدة، على عادة المغاربة في مثل هذه المناسبات.
جلس عبد الرحيم القرفصاء، على غرار كثير من زملائه «الذهايْبية» في الركن الأيمن من خيمته الصغيرة. بينما تشغل خزانته، الملأَى بخواتم وأقراط ودمالج وسلاسل ذهبية، الحيّزَ الأكبر من تلك الخيمة. وضع أمامه، تماما مثل بقية زملائه، أربعة كراسٍ بلاستيكية، يجلس عليها زبناؤه أثناء التفاوض على سعر القطعة الذهبية التي يرغب في شرائها الزبون.
يسأل كثيرون عن السعر ويديرون ظهورهم. قليلون يستطيعون في هذه المنطقة، في «دوخة» العيد، الإقدام على شراء قطع ذهبية في فترة سجلت فيها أسعار الذهب أرقاما قياسيا. ومع ذلك، يشدد عبد الرحيم على أن الأسعار هنا أرخص مقارنة مع المدن. ولا شيء يفرق القطع الذهبية المشتراة هنا، حسب أمين تجار الذهب، عن تلك التي تُعرَض في قيساريات الذهب في الحواضر. أكثر من ذلك، يمكن أن يتم العثور هنا على قطع ذهبية قديمة يزيد عمرها، أحيانا، على 100 سنة. لكنْ، ماذا عن حماية كل هذه الكميات من الذهب في سوق يتحيّن فيها لصوص «غفْلةَ» البدويين للنيل من جيوبهم؟
يحرص جميع تجار الذهب هنا على اتخاذ الحيطة والحذر أثناء نقل بضائعهم من وإلى السوق. كان عبد الرحيم، مثلا، يضع صندوقا حديديا في صلابة الفولاذ، سميك للغاية، يستعمله في نقل بضاعتهم، بعناية، إلى السوق.
بيد أن تجار الذهب كانوا، بدورهم، يستظلون بخيام من كتان مثبتة بحبال، تماما مثل جميع باعة وتجار هذه السوق، بل إن ثمة عشرات من هؤلاء لا يستظلون بشيء ويتركون أنفسهم وبضائعهم عرضة لأشعة شمس لافحة. بينما كانت عشرات العربات المجرورة «الكرّوسة» أوفر حظا من الجميع، باعةً وروادا، لكونها أُودِعت، بغير نظام، في الفضاء الظليل الوحيد في هذه السوق، وهو عبارة عن فضاء بعلو يفوق طابقَيْ عمارة مفتوح من ثلاث جهات وتنبعث منه رائحة شبه كريهة.
سيدي بنور تبقى «تلات» رغم ارتقائها إلى عمالة
تغيرت مدينة سيدي بنور كثيرا في السنوات الماضية. لكنها بقيت «التلات» لدى فئات عريضة من سكان المناطق المجاورة لها، وإنْ كان القرويون المترددون على السوق لا يخفون افتخارهم من تحولها إلى عمالة.
ارتقت سيدي بنور في سلم الترتيب الترابي وانتقلت من مجرد بلدية إلى عمالة، وهذه جرّت من ورائها آمالا كثيرة في تحسين ظروف العيش والرقي بجودة الخدمات العمومية المقدَّمة لسكان الإقليم كله.
تم تشييد مقر عمالة سيدي بنور في الجهة المقابلة لقصر البلدية في الشارع الرئيس في المدينة، الذي يعتبر، أيضا، طريقا وطنية تربط هذه الحاضرة بباقي المدن المجاورة. ويعتبر المكان قلب المدينة النابض ويعرف لدى سكانها بـ«الجّرْدة».
تحولت مفوضية الشرطة إلى منطقة أمنية إقليمية. يوجد مقرها، بدوره، في الشارع نفسه. غير أنها أكثر منها قربا إلى السوق. وتشهد المفوضية، أيضا، إنجاز مشاريع كثيرة، عمرانية بالأساس، لاسميا في الشارع سالف الذكر، الذي بدأت بنيات عصرية من أكثر من أربعة طوابق تؤثث جوانبه. بالموازاة مع ذلك، تعرف المدينة، في جزأيْها الشمالي والجنوبي، إطلاق مشاريع تجزئات للتوسع.
تشتهر سيدي بنور، وطنيا، كذلك، بتوفرها على أحد أكبر وأبرز مصانع السكّر لكنها تظل، في أعين قرويي المناطق المجاورة لها، بل وفي نظر كثير من سكان بعض المدن المجاورة «تْلاتْ» وليس سيدي بنور.
وهي اختصار محلي لعبارة الثلاثاء، ويقصد بها مدينة سيدي بنور، التي تحمل اسم اليوم الذي يلتئم فيه السوق الأسبوعي. سيدي بنور.. هنا كل شيء قابل للبيع والشراء، في خيام توزّعت على مساحة شاسعة في الجزء الجنوبي من هذه الحاضرة الدكالية.
سيدي بنور يوم الثلاثاء لا تشبه سيدي بنور بقية الأيام في شيء، عدا الاسم والموقع على الخريطة.. ينقلب الهدوء الكبير الذي تمتاز به هذه الحاضرة الدكالية إلى صخب منذ الساعات الأولى من صباح كل ثلاثاء ولا تستعيد وداعتها إلا بعد غروب الشمس.
كل ثلاثاء، تضيق سيدي بنور، الصغيرة، بزوارها، حتى إن عدد سكانها يكاد أن يتضاعف حين يصل الإقبال على السوق ذروته. كل ثلاثاء، تصبح جميع الطرق سالكة نحو سيدي بنور، وإن اختلفت وسائل النقل، من حافلات وسيارات، بمختلف الأحجام، إلى العربات المجرورة والدواب. في كل يوم ثلاثاء، يتحول الجزء الجنوبي من المدينة إلى سوق كبيرة يصعب ترسيم حدودها لزائرها للمرة الأولى، سوق يعرض فيها كل شيء قابل للبيع والشراء.
عيد «التلات»
سوق سيدي بنور هو الأكبر من نوعه في جهة دكالة -عبدة، ولا تنازعه في الكبر والأهمية سوى أسواق قليلة على الصعيد الوطني. ويكاد سكان المدينة والحواضر المجاورة، بل ودواوير المنطقة كلها، يصنفون الثلاثاء ضمن أعيادهم. يتحدثون عنه بشغف ويدافعون عنه بحماس ويتجاوزون في حديثهم عنه حد الإعجاب إلى إبداء الفخر والاعتزاز.
لقد بات التردد على السوق بالنسبة إلى كثيرين التقت بهم «المساء» في عين المكان لازمة أسبوعية تُنظّم إيقاع حياتهم. يتحملون مشاق الذهاب إلى السوق، بصرف النظر عن المسافة التي تفصلهم عنه، لأن «فيه كل شيء.. وهو الأفضل في المغرب»، على حد تعبير «سي محمد»، وهو رجل خمسيني، أبدى استغرابا كبيرا حين سئل عما ينقص السوق، حيث أجاب، بلغة مفعمة ثقة: «لا شيء»...
لم يُخْفِ آخرون، كانوا في معظمهم أكثر شبابا من «سي محمد»، امتعاضهم من وسائل النقل التي تنشط في الطرق المؤدية إلى السوق. وسرعان ما تحول الامتعاض إلى غضب الواقف عاجزا أمام الزيادة التي تُفرَض كل ثلاثاء في تعريفة وسائل النقل، وإن كانت حالتها الميكانيكية «مهترئة».
تكون سيارات النقل المزدوج الأنشطَ في هذا اليوم، لأنها تقر زيادة أقل أهمية من تلك التي يفرضها أصحاب سيارات الأجرة من الصنف الكبير، كما أنها تتيح لمرتادي السوق حمل مقتنياتهم بدون مشاكل، وهو ما لا تكفُله سيارات الأجرة.
تعُجّ المحطة الطرقية لسيدي بنور، المحاذية للسوق، بعربات النقل المزدوج وتتزاحم في الساحة الضيقة للمحطة مع الحافلات التي تربط سيدي بنور ببقية المدن، لاسيما الدار البيضاء ومراكش والجديدة واليوسفية، في حين تصطف سيارات الأجرة في المساحات الفارغة المحيطة بالسوق وتتخذ مكانها في الساحة، حسب وجهتها.
غير أن كثيرا من رواد السوق، خصوصا القاطنين غير بعيد عنه، يتفادون زحمة عربات النقل المزدوج ويتنقلون إلى السوق عبر عرباتهم المجرورة. ويتسبب استنجاد فئات عريضة من السكان بالنوع الأخير من العربات في احتقان شديد في حركة السير في الطريق الرئيسية التي تربط سيدي بنور بمراكش والجديدة. وتزاحم الدواب، أيضا، السيارات والحافلات على موطئ قديم لها في تلك الطريق.
ثمة فرق بين العربات المجرورة والسيارت: وحدها العربة المجرورة، ويطلق عليها اسم «الكرّوسة» في لغة أهل دكالة، يمكنها أن تدلف إلى السوق بدون مشاكل وأن توصل ركابها إلى أبعد نقطة ممكنة في عمقه. ويلج كثير منها إلى السوق من مكان بين رحبة «البذور» والمحطة الطرقية وتجتاز، بسرعة ملفتة، عشرات الخيام، قبل أن تتوقف وتعود أدراجها من حيث أتت.
لا توجد بنايات في هذا السوق، عدا المحطة «كشك» صغير، استبدل أصحابه تجارة الكتب والمجلات ببيع الملابس، وآخر تخصص في بيع التبغ. تُعرَض البضائع، بجميع أنواعها، وبصرف النظر عن قيمتها، في خيام، تختلف أحجامها حسب أهمية النشاط التجاري الذي يزاوله صاحبها وحسب البضائع المعروضة فيها. كانت الخيام في كل مكان، ووحده الفضاء الخاص بالمتلاشيات والخردة ظل خاليا من منها. كما كان لافتا تجمُّعُ باعة البضاعة الواحدة في مكان واحد. وتُحوّل المهن الأكثر تنظيما الفضاءات الخاصة بها إلى أشبه بـ«قيساريات» من خيام، وتفصل بين الأقل تنظيما منها مساحات فارغة تتخذ مرمى للأزبال والنفايات.
رواق «الفقْهَا»
يتوفر «المشعوذون والسحَرة» على جناح خاص بهم في هذه السوق. يجتمعون في مكان واحد، جنبا إلى جنب مع «الجّبّارة». غير أن خيامهم لا تشبه بقية الخيام. أبوابها مثلثة. لا يكاد يرى مما بداخلها شيء سوى رجل، متقدم في السن في الغالب، يجلس القرفصاء.
لا ينتظر «أحمد» أن يبادر الزبناء إلى التوجه نحو خيمته، وإنما يبادر بنفسه إلى المناداة على المارين من أمام خيمته، لاسيما النساء، ويزداد إلحاحا إذا كانت المرأة برفقة فتاة شابة. ويعتبر هذا الجزء الأقل حركية في السوق كلها: يجد كثيرون حرجا في ولوجه أو مجرد المرور بالقرب منه...
لا يستقبل «أحمد» أكثر من «زبون» واحد في وقت واحد، ليس فقط لضيق الخيمة، وإنما لعامل السرية، الضروري لكسب ثقة «الزبناء»، وهو ما يعني، في كثير من الحالات، ضمان «فتوح» سخيّ.
يستقبل الزبون بوجه بشوش وترحيب كبير، ثم تتبع ذلك لحظةُ صمت مطبقة. يسأل عن الاسم واسم الأم، ثم يمطر الزبون بأسئلة كثيرة في وقت وجيز، قبل أن يطبق الصمت من جديد. يأخذ قلما من قصب ودواة تقليدية ويُدوّن، بخط يعسر معه التمييز بين الكلمات، فبالأحرى تبيُّن الحروف، متمتما بكلمات لا تكاد تُفهَم، قبل أن يوصي الزبون بما ينبغي فعله ويحذره، في الآن ذاته، من القيام بأشياء أخرى. ويختلف التعامل والوصفة المقترَحة حسب التشخيص الذي ينجزه «الفقيه» لكل حالة من حالة إلى أخرى. وقبل أن ينصرف الزبون، يستعرض أمامه بقية قدراته من «ملكات السحر والشعوذة».
لم يكن الإقبال في هذا الثلاثاء، الذي يصادف عيد الفطر السعيد، كبيرا على «غيتونات» السحر والشعوذة. وقال الفقيه «سي أحمد» إن الإقبال يعرف عادة تراجعا ملحوظا في رمضان، خصوصا في أسابيعه الثلاثة الأولى. ثمة عامل آخر يوجزه «سي أحمد» في تصادف هذا الثلاثاء مع «انعقاد سويقات كثيرة في المناطق المحيطة بسيدي بنور عشية عيد الفطر». وليس هذا الركن حكرا على «الفُقهَا»، وإنما يجاورهم فيه آخرون يجبرون الكسور ويداوون بطرق شعبية، أبرزها الكي.
غيرَ بعيد عن تلك الخيام «الخاصة جدا»، انتصبت خيام كبرى، بعضها مفتوح من ثلاث جهات، عكس بويبات خيام «الفقها»، المثلثة، الصغيرة. عكس الخيام السابقة، تشكل النساء أغلبية الباعة في هذا الرواق ويعتبرن، أيضا، أهمَّ زبنائه. يعرضن أصنافا عديدة من الصوف، وهي بضاعة من نوع خاص، تجعل هذه السوق أقرب إلى سوق قوية منها إلى حصرية تنعقد وسط مدينة صارت، قبل أشهر قليلة، عمالة، وتعتبر من الحواضر الصاعدة في منطقة دكالة.
ثمة خيام لا تُعرَض سوى الصوف المُعَدّ على شكل أنسجة باختيارات عديدة في الألوان، مع طغيان واضح للون الأبيض والأحمر والأخضر. وإلى جانب الصوف شبه المصنع والمنسوج، وكذا المغزول، انزوت ثلاث نسوة في ساحة وسط هذا الركن من السوق وانهمكن في إعداد صوف خامّ، تمهيدا للشروع في غزلها. اثنتان كانتا تعدان الصوف تحت أشعة شمس لافحة، بينما راحت الثالثة تدير بسرعة وفي حركة غاية في الانسيابية مغزلا تقليديا يتلوى على عوده ما تغزله الثلاثة تمهيدا لبيعه. هناك، أيضا، خيام تبيع الصوف الخام فقط، رغم زهد سعره. يتم تجميع أغلبية كميات الصوف الخامّ، التي تباع في هذا السوق من أهالي المنطقة. فكثير من «كسابي» المناطق المجاورة لسيدي بنور يعمدون إلى بيع صوف شياههم، هنا، بالجملة في الساعة الأولى من صباح كل ثلاثاء.
الصوف ليس البضاعة التي يستغل سكان المنطقة فرصة انعقاد هذا السوق لبيعها بأسعار «مناسبة» تفضل بقسط لا يستهان به في ميزانيات الفلاحين عن نظيرتها في بقية الأسواق الموجودة في المنطقة. المحظوظون منهم «كسّابون» يدر عليهم بيع أنعامهم في هذه السوق أموالا تُغطّي مصاريف الكسب وتُسعفهم في تلبية كثير من حاجياتهم.
كانت تعلو وجوهَ القرويين الملتحفين جلابيبَهم فرحة لا تخطئها فراسة. ورغم أن الكساب مصطفى كان يبدو مرتاحا للغاية، فقد قال: «السوق اليوم عيّانة»، وأضاف مخاطبا رفيقا له: «السوق الماضية كانت أفضل من هذه، رغم أن غدا الأربعاء عيد».
أبدى مصطفى، الذي يقطن في أحد دواوير «الفارس»، ندمه لكونه توجه بنعجة وثلاثة خرفان إلى السوق اليوم. «كان عليّ أن أؤجل ذلك إلى وقت لاحق، ولكنْ الحمد لله على كل شيء»، يقول مصطفى، قبل أن يقاطعه رفيقه ليؤكد أن الأنعام والخضر، والصوف أحيانا، ومواد قليلة أخرى تُشكّل أبرز المنتجات التي يبيعها سكان المنطقة للحصول على أموال قد لا تكفي لتلبية حاجياتهم، خصوصا في فترات الجفاف.
حظ «الكرّوسة»
يصعب إحصاء الأشياء التي يمكن للقرويين شراؤها من هذه السوق. «فهنا كل شيء يباع»، كما قال «سي محمد»، خضر، فواكه، أوانٍ، بما فيها الخزفية، متلاشيات، حبوب، مواد تغذية عامة وغيرها كثير... لكنْ ثمة رواق من نوع خاص. يعُمّه هدوء مثير وتُعرَض فيه بضاعة يعتبر عرضها للبيع في محلات من خيام من «كتان» مغامرة محفوفة بالمخاطر. هنا، يداوم نحو 40 تاجر ذهب وفضة على عرض بضائعهم كل أسبوع. لم يكن «أمينهم»، عبد الرحيم، على غرار الفلاح مصطفى، راضيا عن حالة السوق في هذا اليوم. قال إن عدد مرتاديه قلة مقارنة مع الأيام الأخرى واتفق مع الفقيه «سي أحمد» في إرجاع سبب هذا التراجع في حركية السوق إلى انعقاد سويقات بمناسبة عيد الفطر في دكالة وعبدة، على عادة المغاربة في مثل هذه المناسبات.
جلس عبد الرحيم القرفصاء، على غرار كثير من زملائه «الذهايْبية» في الركن الأيمن من خيمته الصغيرة. بينما تشغل خزانته، الملأَى بخواتم وأقراط ودمالج وسلاسل ذهبية، الحيّزَ الأكبر من تلك الخيمة. وضع أمامه، تماما مثل بقية زملائه، أربعة كراسٍ بلاستيكية، يجلس عليها زبناؤه أثناء التفاوض على سعر القطعة الذهبية التي يرغب في شرائها الزبون.
يسأل كثيرون عن السعر ويديرون ظهورهم. قليلون يستطيعون في هذه المنطقة، في «دوخة» العيد، الإقدام على شراء قطع ذهبية في فترة سجلت فيها أسعار الذهب أرقاما قياسيا. ومع ذلك، يشدد عبد الرحيم على أن الأسعار هنا أرخص مقارنة مع المدن. ولا شيء يفرق القطع الذهبية المشتراة هنا، حسب أمين تجار الذهب، عن تلك التي تُعرَض في قيساريات الذهب في الحواضر. أكثر من ذلك، يمكن أن يتم العثور هنا على قطع ذهبية قديمة يزيد عمرها، أحيانا، على 100 سنة. لكنْ، ماذا عن حماية كل هذه الكميات من الذهب في سوق يتحيّن فيها لصوص «غفْلةَ» البدويين للنيل من جيوبهم؟
يحرص جميع تجار الذهب هنا على اتخاذ الحيطة والحذر أثناء نقل بضائعهم من وإلى السوق. كان عبد الرحيم، مثلا، يضع صندوقا حديديا في صلابة الفولاذ، سميك للغاية، يستعمله في نقل بضاعتهم، بعناية، إلى السوق.
بيد أن تجار الذهب كانوا، بدورهم، يستظلون بخيام من كتان مثبتة بحبال، تماما مثل جميع باعة وتجار هذه السوق، بل إن ثمة عشرات من هؤلاء لا يستظلون بشيء ويتركون أنفسهم وبضائعهم عرضة لأشعة شمس لافحة. بينما كانت عشرات العربات المجرورة «الكرّوسة» أوفر حظا من الجميع، باعةً وروادا، لكونها أُودِعت، بغير نظام، في الفضاء الظليل الوحيد في هذه السوق، وهو عبارة عن فضاء بعلو يفوق طابقَيْ عمارة مفتوح من ثلاث جهات وتنبعث منه رائحة شبه كريهة.
سيدي بنور تبقى «تلات» رغم ارتقائها إلى عمالة
تغيرت مدينة سيدي بنور كثيرا في السنوات الماضية. لكنها بقيت «التلات» لدى فئات عريضة من سكان المناطق المجاورة لها، وإنْ كان القرويون المترددون على السوق لا يخفون افتخارهم من تحولها إلى عمالة.
ارتقت سيدي بنور في سلم الترتيب الترابي وانتقلت من مجرد بلدية إلى عمالة، وهذه جرّت من ورائها آمالا كثيرة في تحسين ظروف العيش والرقي بجودة الخدمات العمومية المقدَّمة لسكان الإقليم كله.
تم تشييد مقر عمالة سيدي بنور في الجهة المقابلة لقصر البلدية في الشارع الرئيس في المدينة، الذي يعتبر، أيضا، طريقا وطنية تربط هذه الحاضرة بباقي المدن المجاورة. ويعتبر المكان قلب المدينة النابض ويعرف لدى سكانها بـ«الجّرْدة».
تحولت مفوضية الشرطة إلى منطقة أمنية إقليمية. يوجد مقرها، بدوره، في الشارع نفسه. غير أنها أكثر منها قربا إلى السوق. وتشهد المفوضية، أيضا، إنجاز مشاريع كثيرة، عمرانية بالأساس، لاسميا في الشارع سالف الذكر، الذي بدأت بنيات عصرية من أكثر من أربعة طوابق تؤثث جوانبه. بالموازاة مع ذلك، تعرف المدينة، في جزأيْها الشمالي والجنوبي، إطلاق مشاريع تجزئات للتوسع.
تشتهر سيدي بنور، وطنيا، كذلك، بتوفرها على أحد أكبر وأبرز مصانع السكّر لكنها تظل، في أعين قرويي المناطق المجاورة لها، بل وفي نظر كثير من سكان بعض المدن المجاورة «تْلاتْ» وليس سيدي بنور.