أبن توزين
الزاوية التوزينية بالريف الشرقي
الدكتور أحمد الوار
تعرف الزاوية التوزينية([1]) بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة بني توزين، الواقعة بالريف الشرقي، ويقال أيضاً بني توجين، بالجيم بدل الزاي. وتعد هذه القبيلة من جملة قبائل البربر الزناتية التي استوطنت بلاد الريف([2]). أما رهط البيت الذي تنسب إليه الزاوية فيعرف بأولاد المقري([3])، الذين نزلوا في قبيلة بني توزين حوالي القرن 10 ?/ 16 م، حسب بعض التقديرات([4]). ويعرف أولاد المقري بأنهم من «... بيت قديم في العلم وتجويد القرآن والقيام على تلاوته مع الدين المتين»، حسب قول سليمان الحوات([5]). ولعل أكثرهم شهرة في هذا المجال في العصور المتأخرة هو الشيخ أبو عبد الله امحمد بن علي التوزيني، المتوفى سنة 1151 ?/ 1738 م، وكان التصوف هو الباب الذي قاده إلى عالم الشهرة. فهل لتصوفه ميزة، هي التي كانت وراء شهرته؟
امحمد بن علي التوزيني: وتصوف الفقهاء
من المتفق عليه، أن أبا عبد الله امحمد بن علي التوزيني، دخل عالم التصوف على يد الشيخ أبي العباس أحمد الخليفة ابن محمد بن ناصر الدرعي، شيخ زاوية تمجروت في درعة، ورئيس الطائفة الناصرية، وأنه بلغ مقاماً عالياً في الطريقة الناصرية. وفي هذا الصدد كتب سليمان الحوات: «أخذ أبو عبد الله محمد (فتحا) ابن علي... التوزيني... نفع الله به عن الشيخ الكامل الولي السني الواصل أبي العباس أحمد بن الإمام الأعظم والولي العارف الأفخم أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي (...)، واهتدى بهديه في اتباع السنة قولاً وفعلاً. والتبري من الدعوة، وانتفع به بأتم وجوه الانتفاع حتى كان من كبار وكلائه في تلقين الأوراد...»([6]). بل لقد شهد له المقربون من شيخ الزاوية الناصرية في تمجروت، بأنه كان من كبار أولئك الوكلاء، على نحو الشهادة التي أوردها الشيخ التاودي ابن سودة المري الفاسي، نقلاً عن أبي محمد عبد الله بن الحسين ابن ناصر عن والده، أنه قال: «لم يكن في أصحاب الشيخ سيدي أحمد ابن ناصر أكبر من سيدي امحمد التوزاني والشرحبيل»([7]). واعترف له الشرحبيل نفسه بالتقدم([8])، كما عبر عن ذلك سليمان الحوات، في تعليق له على كلمة لابن شرحبيل قال فيها مخاطباً رفيقه التوزيني: «هي لكم يا أولاد المقري خالدة تالدة لا يَنْزَعها منكم إلا ظالم، وهذا بإذن الله ورسوله»([9]).
كما يفهم من سيرته، أن الشيخ امحمد التوزيني كان من أشد أتباع أحمد الخليفة ابن ناصر التزاماً بأصول الطريقة الناصرية، إن لم نقل إن هذا الاهتمام هو السبب في المكانة التي حظي بها. وهكذا كتب سليمان الحوات، على لسان شيخه التاودي ابن سودة، «أن صاحب الترجمة كان متمسكاً بالسنة مجانباً للبدعة»([10])، في حياته الروحية عموماً، وتصوفه على الخصوص، اقتداء بشيوخه، ما في ذلك أدنى شك.
ويظهر هذا الاقتداء كذلك في اعتماده في نوافله على قراءة القرآن، من جهة، والإكثار من الصلاة، من جهة أخرى، على غرار الناصريين الأوائل، حتى أن سليمان الحوات، عندما تحدث عن تمسك الشيخ التوزيني بالسنة ومجانبته للبدعة، أردف ذلك بقوله: «(...) كثير الصلاة والتلاوة»([11]). وذكر أبو محمد عبد الله بن حسين ابن ناصر (ت. 1090 ?/1680 م ) من جهته، أن هذا الرجل كانت عادته «... إذا قال المؤذن "الله أكبر" قرأ كذا وعشرين حزباً»([12])، بل نقل الحوات عن عبد الله بن حسين ابن ناصر نفسه أن الشيخ امحمد التوزيني «كان يقرأ ختمة بين المغرب والعشاء، وأنه كان ربما أوتر بختمة»([13]).
وفي نفس الإطار، كان الشيخ امحمد بن علي التوزيني يفضل الذكر القلبي على الجهر، ويعتمد إيتاء الورد منفرداً، اقتداء، كذلك بشيوخه في الطريقة الناصرية. إن لم نقل إنه كان أكثر من شيوخه تشدداً في هذا الأمر. ونسجل هذه الإضافة استناداً إلى رواية للشيخ التاودي ابن سودة، قال فيها: «(...) خرج لزيارته أصحابنا، مولاي أحمد الصقلي، والشريف سيدي محمد بن الطاهر بن عبد الوهاب العلمي (...) والفقيه سيدي علي الجابري، وغيرهم، فلقوه وتبركوا به. وخرج عليهم مرة، وهم يذكرون جماعة فنهاهم، وقال: ليذكر كل واحد ربه في نفسه، ورأى الأول بدعة»([14]). وهذا يعني أن امحمد بن علي التوزيني قد عمر أوقاته وأوقات من التف حوله بالذكر القلبي، من جهة، وبالعلم والتعلم، من جهة أخرى، قياساً على سلوك شيوخه، إيماناً منه، مثلهم، ولا شك، بأن التصوف أو علوم الحقيقة لا تغني عن علوم الشريعة. ومن ثَمّ، كان طبيعياً أن يغيب الشطح، وأن يغيب الجذب، وتغيب البهللة، وما شاكل هذا وذاك، عن تراث الشيخ المذكور.
والمهم في الأمر أنه كان ناصري الطريقة، ومن المتشددين في التمسك بأهداب الناصرية الأم، التي رسم معالمها، الشيخ امحمد بن ناصر، الذي تنسب إليه هذه الطريقة. وقد أبان عن هذا الموقف عندما وقف إلى جانب شيخه، أحمد الخليفة بن محمد ابن ناصر، ومن أخذ برأيهما في التصدي "لنَزعات التجديد" التي ظهرت على سلوك وتصوف بعض رفاقهم في الطائفة الناصرية، وهو الجدال الذي ظهر فيه الشيخ امحمد بن علي التوزيني ناصرياً أكثر من ناصريي تمجروت أنفسهم. لكن ما قصة هذا الجدال؟
لقد ظهر، ضمن الطائفة الناصرية، منذ أيام أحمد الخليفة، العهد الذي بلغت فيه الطريقة الناصرية أوج إشعاعها، ظهر تيار، نحا رجاله منحا جديداً في ناصريتهم، أكثر تحرراً من قيود طريقتهم الأم، وأكثر قرباً من تيار الحضرة، وأهل الأحوال. وقد سمينا طريقتهم بـ"الناصرية الجديدة"، تمييزاً لها عن الناصرية القديمة أو الأصلية([15]). وكان أهم ما أخذ به الناصريون الجدد استعمال الحضرة، واعتماد السماع، وغير ذلك من الأساليب الروحانية في التربية الصوفية، كما صار الاهتمام لديهم بالخوارق والكرامات والبركات ملحوظاً أكثر من العناية بالعلم والتعليم، وقس على ذلك من الأساليب والسلوكات الصوفية التي جعلت لكثير من شيوخ الزاوية الناصرية خداماً ومحبين ينشدون حضور حلقات الجذبة، وينشدون الاستفادة من الخارقة، أكثر من أي شيء آخر.
وقد بلغ نفوذ هذا التيار في أيام أحمد الخليفة ابن محمد بن ناصر نفسه ( ت. 1129 ?/1717 م )، مستوى هدد بشكل قوي وحدة الطريقة الناصرية وأصالتها، وجعل الطائفة الناصرية طائفتين، وليس واحدة.
ولكن ذلك لم يمنع أحمد الخليفة من محاولة التصدي لحركة "التمرد"([16])، يساعده في ذلك أنصار "الناصرية القديمة". وقد كان الشيخ أبو عبد الله امحمد بن علي التوزيني، على رأس المناصرين له. ولا نقول ذلك، اعتباراً لما عرف عنه من التزام بمبادئ الناصرية الأم، كما رأينا، وحسب، ولكن للدور الذي قام به في مناهضة الناصرية الجديدة في المغرب عموماً، وفي منطقة المغرب الشرقي، على حد سواء.
وفي هذا الصدد بالذات، وقفنا في الخزانة العامة بالرباط على مجموعة من الرسائل، ذات الصلة القوية بالموضوع، كان بعث بها الشيخ أحمد الخليفة ابن ناصر، إلى أتباعه في المغرب الشرقي([17]). وقد أمر في إحداها: الشيخ بوعزة بن عمار ورفيقه امحمد بن علي التوزيني بالرحيل «(...) إلى تازة، وتسكنا بدارنا لحرز بيضة طريقة الأشياخ من نشر السنة وطي البدعة...» وفي نفس الوقت بعث الشيخ نفسه رسالة أخرى إلى ناصريي تازة يحذرهم ممن «(...) يزعم أنهم نائبون عنا في تلقين الأوراد...، ومن زعم ذلك فلا تصدقوه، ومن أراد الانخراط في سلكنا الاتصال بحلبنا سيدي بوعزة بن عمار، هو نائبنا في ذلك، وبيده إذننا» وفي رسالة أخرى بعث بها الشيخ أبو علي الحسين بن شرحبيل البوسعيدي بتاريخ 1129 ?، إلى الناصريين النازلين بالدار الناصرية في تازة، جدد لهم فيها تحذيراته مما سماه «(...) ترهات وزخاريف وأراجيف... الغاويين (كذا)». وقد سمى فيها أحدهم «(...) بالدمناتي، وسمى صاحبه بالصنهاجي»([18]).
ويفهم من هذه الرسائل والوصايا أن الطائفة الناصرية في تازة وما حواليها قد انقسمت على نفسها بين أنصار الناصرية الأم، وأتباع ما سميناه بالناصرية الجديدة. كما يفهم منها أن الشيخ امحمد بن علي التوزيني كان من كبار أنصار "التيار القديم" في الطائفة الناصرية. وقد أهله هذا الموقف ليصبح وكيلاً لناصريي تمجروت في تلقين الأوراد. خلفاً للشيخ بوعزة بن عمار، عقب وفاة هذا الأخير، بتعيين رسمي من أحمد الخليفة بن ناصر، عام 1128 ?/1715 م ([19]). كما أهله هذا الوضع ليصبح مقدماً للزاوية الناصرية بتازة، ومقدماً لشيوخ تمجروت على رأس الطائفة الناصرية في تازة وبني زولت وبني خليفة وغياثة وصنهاجة([20]).
وكان امحمد بن علي التوزيني في مستوى المهمة التي أنيطت به، ولا سيما فيما يتعلق بالصراع مع الناصريين الجدد. بل لقد بلغ في انتقاده لمن خالفه مستوى الطعن في صلاحهم. ولدينا، على ذلك، مثل يهم حملة التشهير التي شنها ضد أبي عبد الله محمد بن أبي زيان القندوسي (ت. 1145 ?/1733 م )، شيخ زاوية القنادسة، الواقعة على مسيرة يوم جنوب فجيج، وكان هذا الأخير واحداً من زعماء تيار الناصرية الجديدة، ودخل في جدال عنيف مع الشيخ أحمد الخليفة([21]). ومن أهم ما يذكر في هذا الصدد أن ابن زيان «... ابتلى بالطعن من أصحاب سيدي أحمد بن ناصر... وأكثر في ذلك... محمد التوزاني، صاحبه، ساكن دشرة بتازة، وصاحب سكنى بجبل غياثة»([22]). وقد كانا يقولان: «... إن الشيخ سيدي محمد بن أبي زيان ضل وضل من تبعه»([23]).
وفي نفس الإطار، ألف الشيخ امحمد بن علي التوزاني رسالة على شكل وصية وجهها إلى رفاقه في الطائفة الناصرية وسائر الناصريين، يدعوهم فيها إلى التمسك بطريقتهم القائمة على اتباع السنة وترك البدعة والابتعاد عن «(...) الدجاجيل المنسوبين لهذه الطريقة المطهرة الناصرية»، ملحاً على أخذ الأوراد عمن له الإذن في التلقين من شيوخ تمجروت دون غيرهم([24]).
وإذا علمنا هذا كله، فهمنا المقصود من كلام سليمان الحوات، الذي قال فيه: «... اختصت الطائفة التوزينية منهم (الناصريين)، نسبة إلى الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي التوزاني، بأن لا يجلس أحد للمشيخة والتلقين إلا بعد وفاة الشيخ وعهده بالوصية له، فلا يتعدد الشيخ عندهم»([25]).
وقد ظل الشيخ التوزيني المذكور وفياً للناصرية الأم، ووفياً لعهده مع شيوخ زاوية تمجروت إلى أن توفي «... عام 1151 ?/ 1739 م، بمدينة تازة، وضريحه، يقول سليمان الحوات، بها معلوم زاوية عظمى ومزارة كبرى»([26]).
اختيار الخليفة لضمان تماسك الطائفة
انسجاماً مع مبدأ الوصية، التي تمنع تعدد الشيوخ في الطائفة التوزينية - الناصرية، «(...) عهد أبو عبد الله محمد بن علي التوزيني (ثم التازي) بالخلافة عنه لولد أخيه الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن علي التوزيني، المتوفى سنة 1164 ?/ 1751 م»([27]). وقد ورد في بعض الأخبار أن روضة هذا الشيخ تقع بموطن الأسرة التوزينية في بني توزين بالريف الشرقي ([28])، مما يعني أنه دفن هناك، وليس في تازة. لكن هل يفيد هذا في القول بأنه كان يقيم في بلدته؟
لا يبعد ذلك، سيما وأن التوزينيين كانت لهم في بلدهم، قبل هذا العهد بكثير، زاوية ناصرية أيضاً، وكانت تنسب، بدورها، إلى الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي([29])، مثل ما كان عليه الحال في تازة، أي أنها تأسست هناك، ولا شك، قبل انتقال الشيخ أبي عبد الله امحمد بن علي التوزيني إلى تازة. ومما لا ريب فيه أن الشيخ أبا عبد الله امحمد التوزيني كان أحد شيوخ الدار الناصرية في بني توزين، وإلا لما انتدبه شيخه أحمد الخليفة للمهمة المذكورة في تازة. ويمكن أن ندفع بهذا المعطى إلى أبعد من ذلك، لنفترض بأن أبا عبد الله التوزيني، لما رحل إلى تازة، ترك أحداً من أفراد عائلته من المتصوفة طبعاً، على رأس "دار محمد ابن ناصر" ببني توزين، قد يكن أخاه، أبا العباس أحمد بن علي، لكونه كان رجلاً من أهل الصلاح([30])، ثم لما توفي هذا الأخير خلفه ابنه أبو محمد عبد الله، على رأس الدار الناصرية ببني توزين، قبل أن يعهد إليه العم بالخلافة عنه.
وإذا اعتبرنا تعيين أبي العباس لولده أبي محمد عبد الله شيخاً في الدار الناصرية ببني توزين أمراً عادياً، لمكانته الصوفية، وبحكم رابطة الأبوة، فإن للصلات العائلية دورها القوي أيضاً في تعيينه من قبل عمه خليفة عنه. ولا أقصد هنا رابطة العمومة، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن رابطة المصاهرة، لأنه كان صهراً لعمه، أي زوج ابنته.
بل يفهم من الأسلوب الذي روى به سليمان الحوات كيفية انتقال العهد من العم إلى ابن الأخ، وكان الأمر متفقاً عليه بين هذا العم وأخيه، حيث قال «(...) توفي امحمد بن علي التوزيني سنة 1151 ?/1738 م بمدينة تازة (...) وكان عهد بالخلافة عنه لولد أخيه الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن علي التوزيني المتوفى سنة 1164 ?/ 1751 م، ثم بعد وفاته يقوم مقامه في الخلافة ولده الشيخ الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عبد الله...»([31]).
ومهما يكن من أمر، فإن خلافة "الشيخ" عبد الله التوزيني، لم تعمر كثيراً([32])، كما أن المعلومات تعوزنا للحديث عن اهتماماته وتراثه. لكن يمكن القول بكل اطمئنان إنه لم يكن يقل شأناً عن غيره من شيوخ الزاوية التوزينية. ويكفي للدلالة على علو مقامه اعتراف الحوات له بالمشيخة، من جهة، كما رأينا، واعتراف عمه له بالتفوق، عندما عهد إليه بالخلافة، من جهة أخرى.
أما أهم ما ينبغي تسجيله عنه هو نجاحه في نقل الخلافة من أبيه وعمه إلى حفيديهما، كما أوصياه بذلك، مما يفيد سهره على أن يكون هذا الابن في مستوى الخلافة.
خلافة الحفيد ونجاح التجربة
نقصد بالحفيد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي التوزيني، المتوفى عام 1193 ?/1780 م ([33]). حلاه سليمان الحوات بتحلية متميزة، هي "الشيخ الأستاذ([34])، التي تفيد، بدون شك، أنه بلغ رتبة الأستاذية في علوم الظاهر، ومقام المشيخة في علوم الباطن. أما المقربون منه من المتصوفة([35])، ومن أهل المنطقة، فقد نعتوه باسم خاص، هو: سيدي محمد بوجدين، إشارة منهم إلى صلته الخاصة بجديه: الشيخ المقدم امحمد بن علي التوزيني دفين تازة، وهو والد أمه، والشيخ أحمد بن علي التوزيني دفين بني توزين، وهو والد أبيه، باعتبارهما كانا من الصلحاء الكبار في الأسرة([36]).
وكان جورج دراك G. Drague قد تعرض لذكر بوجدين، المتوفى عام 1193 ?/ 1780 م، ونقل رواية تفيد أنه أخذ عن الشيخ أحمد الخليفة ابن ناصر الدرعي([37])، المتوفى عام 1129 ?/1717 م . وهذا أمر وارد، إذا افترضنا أنه أدركه، ولقيه، وأخذ عنه، في حياة جده الشيخ أبي عبد الله امحمد التوزاني التازي، المتوفى عام 1151 ?، أو في حياة والده أبي محمد عبد الله التوزيني المتوفى عام 1161 ?، لأن هذا الأمر ممكن، باعتبار أن أحمد الخليفة تولى المشيخة في تمجروت عام 1085 ?/ 1974 م، أي قبل وفاة جد وأبي بوجدين بكثير.
أما حسن ا?????? فقد ذكر أن بوجدين أخذ في زاوية تمجروت أيام خلافة الشيخ أبي يعقوب يوسف بن (محمد الكبير) ([38]) بن محمد ابن ناصر الدرعي، الممتدة بين 1157 ?/1744 م وعام 1197 ?/ 1783 م، مستنداً في ترجيح رأيه على رسالة بعث بها شيخ تمجروت إلى أتباعه في الريف الشرقي، يخبرهم فيها أنه عين محمد بوجدين خليفة عنه في المنطقة([39]). لكن هذه الحجة، ورغم أهميتها، لا تفيد أن بوجدين كان من تلامذة الشيخ يوسف الناصري. وإن كنا لا نستبعد أن يكون جدد العهد معه.
إنما الثابت أن بوجدين تربى على يد أهله، وأنه بفضل تلك التربية صار مؤهلاً للمشيخة، خلفاً لجده، ثم والده، الأمر الذي جعل شيخ تمجروت يبارك ويزكي استخلافه، ويعلن توليته وكيلاً عنه في تلقين الأوراد الناصرية، كما يفهم من الرسالة المشار إليها، التي جاء فيها: «ليعلم الواقف عليه ومن انتهى أمره إليه من جميع الإخوان والفقراء والطلبة والأحبة وجميع الأعيان من بني توزين وغيرهم من النواحي، حاضرة وعموداً، عموماً وخصوصاً، داخلاً وخارجاً، أننا ولينا في الله سيدي محمد بوجدين، يذكر الناس، ويعظ الجاهل، ويلقن الأوراد من أحب، فقد أذنا في ذلك إذناً عاماً، لكونه معدن الأسرار وقلبه سالم من الأقذار، وألبسناه ملابس البها، حتى يذكر بلساننا، وينظر بعيننا، له ما لنا وعليه ما علينا، يجب له من التعظيم والاحترام والتوقير ما يجب لنا، فدمه دمنا ولحمه لحمنا، فمن تعرض في شيء أو آذاه فلا يخافن إلا نفسه، فالعاقبة نصب عينيه، والأشياخ في أثره، فقد وليناه مكان سيدي علي...»([40]).
وقد ظل الشيخ محمد بوجدين على رأس الزاوية التوزينية ببني توزين([41])، وربما على رأس الطائفة الناصرية في الريف الشرقي، من سنة 1164 ? إلى أن توفي عام 1193 ?، ودفن في القرية التي صارت تعرف باسمه، أي قرية بوجدين في بني توزين([42]). وكان أهم ما تميز به زمن مشيخته ارتقاء الزاوية التوزينية إلى مصاف الزوايا الكبرى من حيث النفوذ والشعبية، ولا سيما في بني توزين وما والاها من جهات الريف([43]). ولعل ذلك ما سبب في شهرة أهلها وفي حصول المتاعب لهم ولزاويتهم.
ترك أبو عبد الله محمد بوجدين، بعد وفاته عام 1193 ?، المشيخة لأخيه أبي علي الحسن، بعهد منه لذلك([44])، كما ترك وراءه زاوية أصبحت شهيرة. ولم يطل الأمر بعد وفاته حتى تعرضت لنكبتين عنيفتين، ولم تكن النكبة المزدوجة نتيجة صراع خاص بين المخزن وشيوخ الزاوية التوزينية، كما لم تكن مجرد رد فعل إزاء تنامي نفوذ الشيخ محمد بوجدين بالذات، فحسب([45])، بقدر ما جاءت في خضم نزاع طويل ومرير بين المخزن ومؤسسة الزوايا في المغرب. وقد ارتبطت النكبة بمخلفات المجاعة الكبرى التي ضربت المغرب في الفترة بين 1190 و1197 ?/ 1776 و1782 م، في وقت كانت السلطة تطالب بمستحقات الخزينة، وترى في تململ القبائل فوضى وعصياناً([46]). ومن ثَمّ، نشط أسلوب الحركة([47])، وتحركت المحلات السلطانية في اتجاهات مختلفة للحد من الفتن([48]).
لقد وجه السلطان سيدي محمد بن عبد الله تهماً واضحة إلى شيوخ الزوايا، مثل حمايتهم لمن تتابعهم الدولة في التزامات مالية، وحمايتهم للفارين من عدالة المخزن([49]). بل لم يقف الأمر عند هذا الاتهام، وإنما تعداه إلى الحركة التي استهدفت كبريات الزوايا في المغرب، زمنئذ، مثل الزاوية الشرقاوية في أبي الجعد، ودار الضمانة في وزان، والزاوية الناصرية في تمجروت، وزاوية بوجدين التوزينية في الريف الشرقي. وقد روى الضعيف الحملة التي استهدفت زاوية بوجدين، في خضم حديثه عن وجود الجيوش الحاركة في شراكة والحياينة وبني زروال في عام 1202 ?/ 1787 م، فقال: «وفي هذه الحركة (...) بعث جيوشه (السلطان سيدي محمد بن عبد الله) مع القائد العباس السفياني لناحية قبائل الريف بقصد زاوية بني توزين المنسوبة للشيخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي... وبعد ذلك أمنهم»([50]).
وإذا كانت المصادر لا تخبرنا عن المكان الذي رحلت إليه أسرة بوجدين، يفهم من بعض الإشارات أن شيخ الزاوية زمن النكبة، أبا الحسن علي بوجدين، شقيق محمد بوجدين، كان يوجد في دار له بالحضرة الإدريسية([51]).
ويبدو أن مقام أبي الحسن التوزيني وأهله، في فاس، امتد إلى ما بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله. كما يبدو أن سياسة السلطان مولاي سليمان الهادفة إلى الاستفادة من خدمات الزوايا في بداية عهده إبان صراعه مع إخوته حول العرش، كان لها أثرها في عودة التوزينيين إلى زاويتهم([52]). بل يفهم من بعض الوثائق أن مولاي سليمان أنعم على الشيخ التوزيني بهبة ذات بال، لما وفد عليه بفاس في شوال 1212 ?/ مارس - أبريل 1798 م، حيث «... أعطاه خمسمائة ريال وخمسين شقة كتاناً وأربعين طرفاً من الملف، وأمره أن يبني داره بفاس»([53]).
غير أن موقف المولى سليمان من الصوفية، سرعان ما تبدل، بعد توحيده للبلاد، وقد تمثل الموقف الجديد في تقنين نشاط الزوايا ليكون في خدمة الشرع، وسياسة المخزن. وقد نجح في ذلك أيما نجاح. لكن المولى سليمان لم يوفر لسياسته "الجديدة" شروطاً اقتصادية مواكبة لها، ولا الوسائل العسكرية الكافية لإنجازها، وزادت التهديدات الإمبريالية، واضطرار السلطان، بسببها، إلى نهج ما يعرف بسياسة العزلة، ثم توالي سنوات من القحوط والمساغب والأوبئة بين 1233 و1236 ?/ 1817 و1820 م، من متاعب السلطان([54]).
عاد بنو جدين إلى الظهور على مسرح الأحداث من جديد، زمن مولاي الحسن الأول، ظهروا «... بصفتهم مقدمي الأسرة، يتمتعون باعتبار السلطان، ولهم نفوذ ديني وسياسي بالريف الشرقي، نعرف منهم أحمد بوجدين (قبل 1301 ?/1783 م )، والمختار بن محمد بوجدين (بين 1301 ?/ 1883 م، و1307 ?/ 1891 م ) وابنه محمد (1308-1309)، ومحمد بن أحمد بوجدين...» ([55]). ويبدو أن مولاي الحسن الأول قد وجد في هؤلاء المقدمين أعواناً مناسبين لخدمة سياسة المخزن في القبيلة التوزينية خصوصاً والريف الشرقي بشكل عام.
الدكتور أحمد الوار
تعرف الزاوية التوزينية([1]) بهذا الاسم نسبة إلى قبيلة بني توزين، الواقعة بالريف الشرقي، ويقال أيضاً بني توجين، بالجيم بدل الزاي. وتعد هذه القبيلة من جملة قبائل البربر الزناتية التي استوطنت بلاد الريف([2]). أما رهط البيت الذي تنسب إليه الزاوية فيعرف بأولاد المقري([3])، الذين نزلوا في قبيلة بني توزين حوالي القرن 10 ?/ 16 م، حسب بعض التقديرات([4]). ويعرف أولاد المقري بأنهم من «... بيت قديم في العلم وتجويد القرآن والقيام على تلاوته مع الدين المتين»، حسب قول سليمان الحوات([5]). ولعل أكثرهم شهرة في هذا المجال في العصور المتأخرة هو الشيخ أبو عبد الله امحمد بن علي التوزيني، المتوفى سنة 1151 ?/ 1738 م، وكان التصوف هو الباب الذي قاده إلى عالم الشهرة. فهل لتصوفه ميزة، هي التي كانت وراء شهرته؟
امحمد بن علي التوزيني: وتصوف الفقهاء
من المتفق عليه، أن أبا عبد الله امحمد بن علي التوزيني، دخل عالم التصوف على يد الشيخ أبي العباس أحمد الخليفة ابن محمد بن ناصر الدرعي، شيخ زاوية تمجروت في درعة، ورئيس الطائفة الناصرية، وأنه بلغ مقاماً عالياً في الطريقة الناصرية. وفي هذا الصدد كتب سليمان الحوات: «أخذ أبو عبد الله محمد (فتحا) ابن علي... التوزيني... نفع الله به عن الشيخ الكامل الولي السني الواصل أبي العباس أحمد بن الإمام الأعظم والولي العارف الأفخم أبي عبد الله محمد بن ناصر الدرعي (...)، واهتدى بهديه في اتباع السنة قولاً وفعلاً. والتبري من الدعوة، وانتفع به بأتم وجوه الانتفاع حتى كان من كبار وكلائه في تلقين الأوراد...»([6]). بل لقد شهد له المقربون من شيخ الزاوية الناصرية في تمجروت، بأنه كان من كبار أولئك الوكلاء، على نحو الشهادة التي أوردها الشيخ التاودي ابن سودة المري الفاسي، نقلاً عن أبي محمد عبد الله بن الحسين ابن ناصر عن والده، أنه قال: «لم يكن في أصحاب الشيخ سيدي أحمد ابن ناصر أكبر من سيدي امحمد التوزاني والشرحبيل»([7]). واعترف له الشرحبيل نفسه بالتقدم([8])، كما عبر عن ذلك سليمان الحوات، في تعليق له على كلمة لابن شرحبيل قال فيها مخاطباً رفيقه التوزيني: «هي لكم يا أولاد المقري خالدة تالدة لا يَنْزَعها منكم إلا ظالم، وهذا بإذن الله ورسوله»([9]).
كما يفهم من سيرته، أن الشيخ امحمد التوزيني كان من أشد أتباع أحمد الخليفة ابن ناصر التزاماً بأصول الطريقة الناصرية، إن لم نقل إن هذا الاهتمام هو السبب في المكانة التي حظي بها. وهكذا كتب سليمان الحوات، على لسان شيخه التاودي ابن سودة، «أن صاحب الترجمة كان متمسكاً بالسنة مجانباً للبدعة»([10])، في حياته الروحية عموماً، وتصوفه على الخصوص، اقتداء بشيوخه، ما في ذلك أدنى شك.
ويظهر هذا الاقتداء كذلك في اعتماده في نوافله على قراءة القرآن، من جهة، والإكثار من الصلاة، من جهة أخرى، على غرار الناصريين الأوائل، حتى أن سليمان الحوات، عندما تحدث عن تمسك الشيخ التوزيني بالسنة ومجانبته للبدعة، أردف ذلك بقوله: «(...) كثير الصلاة والتلاوة»([11]). وذكر أبو محمد عبد الله بن حسين ابن ناصر (ت. 1090 ?/
وفي نفس الإطار، كان الشيخ امحمد بن علي التوزيني يفضل الذكر القلبي على الجهر، ويعتمد إيتاء الورد منفرداً، اقتداء، كذلك بشيوخه في الطريقة الناصرية. إن لم نقل إنه كان أكثر من شيوخه تشدداً في هذا الأمر. ونسجل هذه الإضافة استناداً إلى رواية للشيخ التاودي ابن سودة، قال فيها: «(...) خرج لزيارته أصحابنا، مولاي أحمد الصقلي، والشريف سيدي محمد بن الطاهر بن عبد الوهاب العلمي (...) والفقيه سيدي علي الجابري، وغيرهم، فلقوه وتبركوا به. وخرج عليهم مرة، وهم يذكرون جماعة فنهاهم، وقال: ليذكر كل واحد ربه في نفسه، ورأى الأول بدعة»([14]). وهذا يعني أن امحمد بن علي التوزيني قد عمر أوقاته وأوقات من التف حوله بالذكر القلبي، من جهة، وبالعلم والتعلم، من جهة أخرى، قياساً على سلوك شيوخه، إيماناً منه، مثلهم، ولا شك، بأن التصوف أو علوم الحقيقة لا تغني عن علوم الشريعة. ومن ثَمّ، كان طبيعياً أن يغيب الشطح، وأن يغيب الجذب، وتغيب البهللة، وما شاكل هذا وذاك، عن تراث الشيخ المذكور.
والمهم في الأمر أنه كان ناصري الطريقة، ومن المتشددين في التمسك بأهداب الناصرية الأم، التي رسم معالمها، الشيخ امحمد بن ناصر، الذي تنسب إليه هذه الطريقة. وقد أبان عن هذا الموقف عندما وقف إلى جانب شيخه، أحمد الخليفة بن محمد ابن ناصر، ومن أخذ برأيهما في التصدي "لنَزعات التجديد" التي ظهرت على سلوك وتصوف بعض رفاقهم في الطائفة الناصرية، وهو الجدال الذي ظهر فيه الشيخ امحمد بن علي التوزيني ناصرياً أكثر من ناصريي تمجروت أنفسهم. لكن ما قصة هذا الجدال؟
لقد ظهر، ضمن الطائفة الناصرية، منذ أيام أحمد الخليفة، العهد الذي بلغت فيه الطريقة الناصرية أوج إشعاعها، ظهر تيار، نحا رجاله منحا جديداً في ناصريتهم، أكثر تحرراً من قيود طريقتهم الأم، وأكثر قرباً من تيار الحضرة، وأهل الأحوال. وقد سمينا طريقتهم بـ"الناصرية الجديدة"، تمييزاً لها عن الناصرية القديمة أو الأصلية([15]). وكان أهم ما أخذ به الناصريون الجدد استعمال الحضرة، واعتماد السماع، وغير ذلك من الأساليب الروحانية في التربية الصوفية، كما صار الاهتمام لديهم بالخوارق والكرامات والبركات ملحوظاً أكثر من العناية بالعلم والتعليم، وقس على ذلك من الأساليب والسلوكات الصوفية التي جعلت لكثير من شيوخ الزاوية الناصرية خداماً ومحبين ينشدون حضور حلقات الجذبة، وينشدون الاستفادة من الخارقة، أكثر من أي شيء آخر.
وقد بلغ نفوذ هذا التيار في أيام أحمد الخليفة ابن محمد بن ناصر نفسه ( ت. 1129 ?/
ولكن ذلك لم يمنع أحمد الخليفة من محاولة التصدي لحركة "التمرد"([16])، يساعده في ذلك أنصار "الناصرية القديمة". وقد كان الشيخ أبو عبد الله امحمد بن علي التوزيني، على رأس المناصرين له. ولا نقول ذلك، اعتباراً لما عرف عنه من التزام بمبادئ الناصرية الأم، كما رأينا، وحسب، ولكن للدور الذي قام به في مناهضة الناصرية الجديدة في المغرب عموماً، وفي منطقة المغرب الشرقي، على حد سواء.
وفي هذا الصدد بالذات، وقفنا في الخزانة العامة بالرباط على مجموعة من الرسائل، ذات الصلة القوية بالموضوع، كان بعث بها الشيخ أحمد الخليفة ابن ناصر، إلى أتباعه في المغرب الشرقي([17]). وقد أمر في إحداها: الشيخ بوعزة بن عمار ورفيقه امحمد بن علي التوزيني بالرحيل «(...) إلى تازة، وتسكنا بدارنا لحرز بيضة طريقة الأشياخ من نشر السنة وطي البدعة...» وفي نفس الوقت بعث الشيخ نفسه رسالة أخرى إلى ناصريي تازة يحذرهم ممن «(...) يزعم أنهم نائبون عنا في تلقين الأوراد...، ومن زعم ذلك فلا تصدقوه، ومن أراد الانخراط في سلكنا الاتصال بحلبنا سيدي بوعزة بن عمار، هو نائبنا في ذلك، وبيده إذننا» وفي رسالة أخرى بعث بها الشيخ أبو علي الحسين بن شرحبيل البوسعيدي بتاريخ 1129 ?، إلى الناصريين النازلين بالدار الناصرية في تازة، جدد لهم فيها تحذيراته مما سماه «(...) ترهات وزخاريف وأراجيف... الغاويين (كذا)». وقد سمى فيها أحدهم «(...) بالدمناتي، وسمى صاحبه بالصنهاجي»([18]).
ويفهم من هذه الرسائل والوصايا أن الطائفة الناصرية في تازة وما حواليها قد انقسمت على نفسها بين أنصار الناصرية الأم، وأتباع ما سميناه بالناصرية الجديدة. كما يفهم منها أن الشيخ امحمد بن علي التوزيني كان من كبار أنصار "التيار القديم" في الطائفة الناصرية. وقد أهله هذا الموقف ليصبح وكيلاً لناصريي تمجروت في تلقين الأوراد. خلفاً للشيخ بوعزة بن عمار، عقب وفاة هذا الأخير، بتعيين رسمي من أحمد الخليفة بن ناصر، عام 1128 ?/
وكان امحمد بن علي التوزيني في مستوى المهمة التي أنيطت به، ولا سيما فيما يتعلق بالصراع مع الناصريين الجدد. بل لقد بلغ في انتقاده لمن خالفه مستوى الطعن في صلاحهم. ولدينا، على ذلك، مثل يهم حملة التشهير التي شنها ضد أبي عبد الله محمد بن أبي زيان القندوسي (ت. 1145 ?/
وفي نفس الإطار، ألف الشيخ امحمد بن علي التوزاني رسالة على شكل وصية وجهها إلى رفاقه في الطائفة الناصرية وسائر الناصريين، يدعوهم فيها إلى التمسك بطريقتهم القائمة على اتباع السنة وترك البدعة والابتعاد عن «(...) الدجاجيل المنسوبين لهذه الطريقة المطهرة الناصرية»، ملحاً على أخذ الأوراد عمن له الإذن في التلقين من شيوخ تمجروت دون غيرهم([24]).
وإذا علمنا هذا كله، فهمنا المقصود من كلام سليمان الحوات، الذي قال فيه: «... اختصت الطائفة التوزينية منهم (الناصريين)، نسبة إلى الشيخ الصالح أبي عبد الله محمد بن علي التوزاني، بأن لا يجلس أحد للمشيخة والتلقين إلا بعد وفاة الشيخ وعهده بالوصية له، فلا يتعدد الشيخ عندهم»([25]).
وقد ظل الشيخ التوزيني المذكور وفياً للناصرية الأم، ووفياً لعهده مع شيوخ زاوية تمجروت إلى أن توفي «... عام 1151 ?/ 1739 م، بمدينة تازة، وضريحه، يقول سليمان الحوات، بها معلوم زاوية عظمى ومزارة كبرى»([26]).
اختيار الخليفة لضمان تماسك الطائفة
انسجاماً مع مبدأ الوصية، التي تمنع تعدد الشيوخ في الطائفة التوزينية - الناصرية، «(...) عهد أبو عبد الله محمد بن علي التوزيني (ثم التازي) بالخلافة عنه لولد أخيه الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن علي التوزيني، المتوفى سنة 1164 ?/ 1751 م»([27]). وقد ورد في بعض الأخبار أن روضة هذا الشيخ تقع بموطن الأسرة التوزينية في بني توزين بالريف الشرقي ([28])، مما يعني أنه دفن هناك، وليس في تازة. لكن هل يفيد هذا في القول بأنه كان يقيم في بلدته؟
لا يبعد ذلك، سيما وأن التوزينيين كانت لهم في بلدهم، قبل هذا العهد بكثير، زاوية ناصرية أيضاً، وكانت تنسب، بدورها، إلى الشيخ محمد ابن ناصر الدرعي([29])، مثل ما كان عليه الحال في تازة، أي أنها تأسست هناك، ولا شك، قبل انتقال الشيخ أبي عبد الله امحمد بن علي التوزيني إلى تازة. ومما لا ريب فيه أن الشيخ أبا عبد الله امحمد التوزيني كان أحد شيوخ الدار الناصرية في بني توزين، وإلا لما انتدبه شيخه أحمد الخليفة للمهمة المذكورة في تازة. ويمكن أن ندفع بهذا المعطى إلى أبعد من ذلك، لنفترض بأن أبا عبد الله التوزيني، لما رحل إلى تازة، ترك أحداً من أفراد عائلته من المتصوفة طبعاً، على رأس "دار محمد ابن ناصر" ببني توزين، قد يكن أخاه، أبا العباس أحمد بن علي، لكونه كان رجلاً من أهل الصلاح([30])، ثم لما توفي هذا الأخير خلفه ابنه أبو محمد عبد الله، على رأس الدار الناصرية ببني توزين، قبل أن يعهد إليه العم بالخلافة عنه.
وإذا اعتبرنا تعيين أبي العباس لولده أبي محمد عبد الله شيخاً في الدار الناصرية ببني توزين أمراً عادياً، لمكانته الصوفية، وبحكم رابطة الأبوة، فإن للصلات العائلية دورها القوي أيضاً في تعيينه من قبل عمه خليفة عنه. ولا أقصد هنا رابطة العمومة، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكن رابطة المصاهرة، لأنه كان صهراً لعمه، أي زوج ابنته.
بل يفهم من الأسلوب الذي روى به سليمان الحوات كيفية انتقال العهد من العم إلى ابن الأخ، وكان الأمر متفقاً عليه بين هذا العم وأخيه، حيث قال «(...) توفي امحمد بن علي التوزيني سنة 1151 ?/
ومهما يكن من أمر، فإن خلافة "الشيخ" عبد الله التوزيني، لم تعمر كثيراً([32])، كما أن المعلومات تعوزنا للحديث عن اهتماماته وتراثه. لكن يمكن القول بكل اطمئنان إنه لم يكن يقل شأناً عن غيره من شيوخ الزاوية التوزينية. ويكفي للدلالة على علو مقامه اعتراف الحوات له بالمشيخة، من جهة، كما رأينا، واعتراف عمه له بالتفوق، عندما عهد إليه بالخلافة، من جهة أخرى.
أما أهم ما ينبغي تسجيله عنه هو نجاحه في نقل الخلافة من أبيه وعمه إلى حفيديهما، كما أوصياه بذلك، مما يفيد سهره على أن يكون هذا الابن في مستوى الخلافة.
خلافة الحفيد ونجاح التجربة
نقصد بالحفيد أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن علي التوزيني، المتوفى عام 1193 ?/
وكان جورج دراك G. Drague قد تعرض لذكر بوجدين، المتوفى عام 1193 ?/ 1780 م، ونقل رواية تفيد أنه أخذ عن الشيخ أحمد الخليفة ابن ناصر الدرعي([37])، المتوفى عام 1129 ?/
أما حسن ا?????? فقد ذكر أن بوجدين أخذ في زاوية تمجروت أيام خلافة الشيخ أبي يعقوب يوسف بن (محمد الكبير) ([38]) بن محمد ابن ناصر الدرعي، الممتدة بين 1157 ?/
إنما الثابت أن بوجدين تربى على يد أهله، وأنه بفضل تلك التربية صار مؤهلاً للمشيخة، خلفاً لجده، ثم والده، الأمر الذي جعل شيخ تمجروت يبارك ويزكي استخلافه، ويعلن توليته وكيلاً عنه في تلقين الأوراد الناصرية، كما يفهم من الرسالة المشار إليها، التي جاء فيها: «ليعلم الواقف عليه ومن انتهى أمره إليه من جميع الإخوان والفقراء والطلبة والأحبة وجميع الأعيان من بني توزين وغيرهم من النواحي، حاضرة وعموداً، عموماً وخصوصاً، داخلاً وخارجاً، أننا ولينا في الله سيدي محمد بوجدين، يذكر الناس، ويعظ الجاهل، ويلقن الأوراد من أحب، فقد أذنا في ذلك إذناً عاماً، لكونه معدن الأسرار وقلبه سالم من الأقذار، وألبسناه ملابس البها، حتى يذكر بلساننا، وينظر بعيننا، له ما لنا وعليه ما علينا، يجب له من التعظيم والاحترام والتوقير ما يجب لنا، فدمه دمنا ولحمه لحمنا، فمن تعرض في شيء أو آذاه فلا يخافن إلا نفسه، فالعاقبة نصب عينيه، والأشياخ في أثره، فقد وليناه مكان سيدي علي...»([40]).
وقد ظل الشيخ محمد بوجدين على رأس الزاوية التوزينية ببني توزين([41])، وربما على رأس الطائفة الناصرية في الريف الشرقي، من سنة 1164 ? إلى أن توفي عام 1193 ?، ودفن في القرية التي صارت تعرف باسمه، أي قرية بوجدين في بني توزين([42]). وكان أهم ما تميز به زمن مشيخته ارتقاء الزاوية التوزينية إلى مصاف الزوايا الكبرى من حيث النفوذ والشعبية، ولا سيما في بني توزين وما والاها من جهات الريف([43]). ولعل ذلك ما سبب في شهرة أهلها وفي حصول المتاعب لهم ولزاويتهم.
ترك أبو عبد الله محمد بوجدين، بعد وفاته عام 1193 ?، المشيخة لأخيه أبي علي الحسن، بعهد منه لذلك([44])، كما ترك وراءه زاوية أصبحت شهيرة. ولم يطل الأمر بعد وفاته حتى تعرضت لنكبتين عنيفتين، ولم تكن النكبة المزدوجة نتيجة صراع خاص بين المخزن وشيوخ الزاوية التوزينية، كما لم تكن مجرد رد فعل إزاء تنامي نفوذ الشيخ محمد بوجدين بالذات، فحسب([45])، بقدر ما جاءت في خضم نزاع طويل ومرير بين المخزن ومؤسسة الزوايا في المغرب. وقد ارتبطت النكبة بمخلفات المجاعة الكبرى التي ضربت المغرب في الفترة بين 1190 و1197 ?/ 1776 و1782 م، في وقت كانت السلطة تطالب بمستحقات الخزينة، وترى في تململ القبائل فوضى وعصياناً([46]). ومن ثَمّ، نشط أسلوب الحركة([47])، وتحركت المحلات السلطانية في اتجاهات مختلفة للحد من الفتن([48]).
لقد وجه السلطان سيدي محمد بن عبد الله تهماً واضحة إلى شيوخ الزوايا، مثل حمايتهم لمن تتابعهم الدولة في التزامات مالية، وحمايتهم للفارين من عدالة المخزن([49]). بل لم يقف الأمر عند هذا الاتهام، وإنما تعداه إلى الحركة التي استهدفت كبريات الزوايا في المغرب، زمنئذ، مثل الزاوية الشرقاوية في أبي الجعد، ودار الضمانة في وزان، والزاوية الناصرية في تمجروت، وزاوية بوجدين التوزينية في الريف الشرقي. وقد روى الضعيف الحملة التي استهدفت زاوية بوجدين، في خضم حديثه عن وجود الجيوش الحاركة في شراكة والحياينة وبني زروال في عام 1202 ?/ 1787 م، فقال: «وفي هذه الحركة (...) بعث جيوشه (السلطان سيدي محمد بن عبد الله) مع القائد العباس السفياني لناحية قبائل الريف بقصد زاوية بني توزين المنسوبة للشيخ سيدي محمد بن ناصر الدرعي... وبعد ذلك أمنهم»([50]).
وإذا كانت المصادر لا تخبرنا عن المكان الذي رحلت إليه أسرة بوجدين، يفهم من بعض الإشارات أن شيخ الزاوية زمن النكبة، أبا الحسن علي بوجدين، شقيق محمد بوجدين، كان يوجد في دار له بالحضرة الإدريسية([51]).
ويبدو أن مقام أبي الحسن التوزيني وأهله، في فاس، امتد إلى ما بعد وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الله. كما يبدو أن سياسة السلطان مولاي سليمان الهادفة إلى الاستفادة من خدمات الزوايا في بداية عهده إبان صراعه مع إخوته حول العرش، كان لها أثرها في عودة التوزينيين إلى زاويتهم([52]). بل يفهم من بعض الوثائق أن مولاي سليمان أنعم على الشيخ التوزيني بهبة ذات بال، لما وفد عليه بفاس في شوال 1212 ?/ مارس - أبريل 1798 م، حيث «... أعطاه خمسمائة ريال وخمسين شقة كتاناً وأربعين طرفاً من الملف، وأمره أن يبني داره بفاس»([53]).
غير أن موقف المولى سليمان من الصوفية، سرعان ما تبدل، بعد توحيده للبلاد، وقد تمثل الموقف الجديد في تقنين نشاط الزوايا ليكون في خدمة الشرع، وسياسة المخزن. وقد نجح في ذلك أيما نجاح. لكن المولى سليمان لم يوفر لسياسته "الجديدة" شروطاً اقتصادية مواكبة لها، ولا الوسائل العسكرية الكافية لإنجازها، وزادت التهديدات الإمبريالية، واضطرار السلطان، بسببها، إلى نهج ما يعرف بسياسة العزلة، ثم توالي سنوات من القحوط والمساغب والأوبئة بين 1233 و1236 ?/ 1817 و1820 م، من متاعب السلطان([54]).
عاد بنو جدين إلى الظهور على مسرح الأحداث من جديد، زمن مولاي الحسن الأول، ظهروا «... بصفتهم مقدمي الأسرة، يتمتعون باعتبار السلطان، ولهم نفوذ ديني وسياسي بالريف الشرقي، نعرف منهم أحمد بوجدين (قبل 1301 ?/