واتممت عليكم نعمتى
نزلت هذه الكلمة في عرفة، وظن بعضهم أن النعمة في الأسكنة والدور والدراهم والقصور والموائد الشهية والمراكب الوطية فأين هذه النعمة إذا من النبي الأمي، وهو الذي ما شبع ثلاث ليال متواليات من خبز الشعير، فهل هو المقصود بقوله : وأتممت عليكم نعمتي والحصير يؤثر في جنبه؟! وأتممت عليكم نعمتي وبيته في قامة الإنسان بني من لبن الطين؟! فأين النعمة؟
ألا إنها تلك المبادئ الخالدة التي جاء بها هو، وعاشها في روحه وضميره ودمه.
ألا أنها أخلاقه العامرة الزكية التي سرت في قلوب أتباعه إلى يوم الدين.
إلا أن النعمة ذلك النور الذي يحمله إلى المتخبطين في الظلام يخرجهم من الظلمات إلى النور والوحي الذي تشرف بتبليغه للعالم: ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عليكَ عَظِيماً) (113) ، لقد بعث عليه الصلاة والسلام بهذه الرسالة الربانية التي لم يطرق العالم رسالة مثلها ولم يصدع الكون صوت أنبل منه.
بعث عليه الصلاة والسلام والجزيرة العربية شحيحة الموارد، شاحبة الكنوز، مثقلة الخطا بالتبعات، مبعثرة في دروب التاريخ.
بعث عليه الصلاة والسلام والجزيرة العربية تحتاج إلى دور للرعاية، وملاجئ للعناية، ومستشفيات لمحاربة أمراض الإنسان ، وقلاع عسكرية لحماية الأمة.
بعث عليه الصلاة والسلام في أمة تأكل الميتة، وتقدس الحجر، وتؤمن بالكهانة، فكانت مهمته أعظم من عمارة دار، أو بناء مدرسة، أو تعمير مستشفي أو إقامة قلعة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (107)
فصاغ العقول بمعدن الفطرة السليمة، وغذي الأرواح بقوت الوحي، وأيقظ الأنفس من سبات الغافلين، وأخبر العالم أن هناك عالماً ثانياً، وحياة أخري، وميعاداً يقوم فيه الناس لرب العالمين، فيا لخسارة الغافل كم يقتل بسكين الهوى وما علم المسكين!، وكم يشنق في حبال الدنيا وهو مستكين، يضحك والموت ينادي ويحك، ويلعب والفناء أطمع في بقائه من أشعب:
ليتنا يوم ولنا المنحني ومررنا بالفضي زرنا ثمد
عسي الله أن يركبنا سفينة محمد صلي الله عليه وسلم، فقد نادانا حادي السيرك اركب معنا ولا تكن من الغافلين،وأذن فينا بلال الإنذار: لا عاصم من أمر الله إلا من رحم.
فالبدار البدار قبل موت الأهل وخراب الدار.
هذا وأيامك الأولي غدت أسفاً
وعمرك الفذ أضحى في الهوى ندما