قضية المرأة.. رؤية تأصيلية » الخطاب النسوي بين الشرعية والوضعية
في إطار التغيرات التي تشهدها المجتمعات الإسلامية منذ القرن الماضي، والتي تسارعت وتيرتها في الربع الأخير من القرن وبداية القرن الحالي، تتكاثر الدعوات المحمومة لإبراز خطاب نسوي يلائم هذه التغيرات. وأشرنا سابقاً إلى أن التحدي الحضاري يمكن أن يربط بين واقع المرأة في محيط أمتها وبين انتمائها الذاتي والسمو به إلى آفاق الحرية والمسؤولية. لكن إذا رجعنا إلى الواقع الفعلي الذي تعايشه المرأة نجد أنها تمارس حياة وواقعاً يزيد في درجات سقوطها وتخلفها، ويعمل على تكريس مزيد من الظلم والقهر والعنف تجاهها، وعلى إفراغ مقصد وجودها من محتواه، وحشوه بشكليات سطحية وتافهة، رغم ما وصلت إليه من تحقيق بعض درجات المساواة خاصة على الصعيد المهني أو الاقتصادي.
وإذا كنا قد فصلنا القول عند الحديث عن أزمة واقع أم أزمة تفكير؟ حول بعض المفاهيم التي تتحكم في تفكير المرأة وتوجه واقعها وسلوكها، فإننا سوف نحفر - إن شاء الله - في طبيعة الخطاب الذي يؤسس لتغلغل تلك المفاهيم في تفكيرها، والذي أفرز انفصاماً في شخصياتنا، وانقطاعاً عن أصولنا وذواتنا، وفصلاً عن تاريخنا في الأغلب السائد، إلا من رحم ربك واستقل بشخصيته واعتز برسالته في الوجود.
وقد تفاوتت الرؤية المشكلة لهذا التفكير في كل خطاب نسوي، حسب المرجعيات المعتمدة. ويمكن أن نميز فيها بين خطابين رئيسين يتفرع عنهما مختلف الخطابات، اعتدالاً وتشدداً:
- خطاب يحتكم إلى الوحي، ويُقيم المواقف الفكرية والتشريعية على أساسه، ويحاول أن يفهم الواقع ويعالجه انطلاقاً منها. ويتفرع عنه موقف المدافع عن الإسلام وعن حقوق المرأة فيه، وكأن الإسلام هو المتهم وليس عدم تطبيق المسلمين له أو عدم فهمهم له هو السبب في الحالة المزرية، التي وصل إليها المجتمع الإسلامي ككل والأسرة المسلمة المكونة من الرجال والنساء معاً.
- خطاب يحاول تبني الموقف الغربي من المرأة بكل تداعياته، مبرزاً في الوقت نفسـه عدم معارضته للوحي وإنـما تأويله وتطويعه بما يلائم الحداثة وتطور العصر والعولمة. ويتفرع عنه الخطاب التوافقي، الذي يحاول التوصل إلى أن ما توصلت إليه البشرية في العصر الحديث من حقوق للمرأة يتوافق مع الحقوق التي أتى بها الإسلام، وما خالف ذلك يمكن ليّ عنق النصوص القرآنية والحديثية أو تأويلها ليتوافق معها، أو الاعتذار عنها ونقدها ومحاولة تغييرها بحجة أن العصر قد تجاوزها.
وهي خطابات جاءت نتيجة وعي متفاوت بين السطحية والعمق بوضعية المرأة في ظل الاسـتبداد والعنف والتخلف، واستجابة واستمرارية لدعوات الإصلاح والنهضة. وكانت مجهودات لا يمكن إنكارها، بدأ فيها تحسيس المرأة بجهلها، وتحفيزها على نيل بعض المكتسبات. وقد مارس كل خطاب نوعاً من التأثير من أجل تغيير المجتمعات الإسلامية وتطويرها بعد أن تطور إيقاع الحياة فيها بدرجة سريعة.
والمجتمعات الإسلامية رغم تجانسها، من حيث الدين واللغة والتاريخ، التي تمنحها إمكانية التكامل والوحدة، إلا أنه بسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية في كل مجتمع، بالإضافة إلى خصوصيته، جعلت كل خطاب يأخذ أبعاداً مختلفة فيه. لكن مع ذلك يمكن القول: بأن كل الخطابات تصب في الدفاع عن حقوق المرأة وتحسين أوضاعها، سواء في الأسرة أو في مناحي الحياة الأخرى. وواكبتها واستفادت من أطروحاتها وتنظيراتها مجموعة من المنظمات والجمعيات والهيئات، التي تولت رئاستها وقامت على تسيير أغلبها نساء في جميع أنحاء المجتمعات الإسلامية في فترات تاريخية مختلفة، من العصر الحديث، سواء التي مثلت المرجعية الإسلامية أو التي مثلت المرجعية العلمانية.
فمثلاً، كانت مصر في طليعة الأقطار الإسلامية التي أولت المرأة عناية فائقة ابتداءً من رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، ومحمد رشيد رضا، وهدى شعراوي، ومحمد قطب، وسلامة موسى، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، مروراً بعبد الحليم أبو شقة وغيرهم، وناقش علماؤها وكتابها ومفكروها حقوقها وواجباتها، وأحقية اشتراكها في السياسة والولاية ومختلف القضايا، بين مؤيد ومعارض، بين منصف ومغرض، كل حسب منطلقاته ومرجعياته الفكرية والعقدية.
كما بدأت نواة حركاتها النسائية تتبلور منذ 1894م مع الحزب النسائي، وحزب بنت النيل، ومظاهرة الجامعة الأمريكية.. وبعد ثورة 1919م برزت زعامات نسائية من داخل حزب الوفد، الذي كان يتزعمه سعد زغلول، وكانت من أهم الزعامات النسائية المنادية بالسفور هدى شعراوي ابنة محمد سلطان باشا التي كانت مغرقـة في التغريب وتقليد الغرب، وقد بلغ بها الأمر أن تخلت عن أبسط حقوق ذاتها حيث تركت اسم والدها وتسمت باسم زوجها علي شعراوي تقليداً للغربيات وتبعية لهن، كما برزت الحركات النسائية المنبثقة عن التنظيمات الإسلامية وساهمت في تنوير المرأة وتبصيرها بحقوقها التي أعطاعا الله لها منذ عهد النبوة.
وقد كانت الدعوات التحررية التي أطلقها قاسم أمين في كتابيه «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة» بمثابة الشرارة التي وصلت إلى كل المجتمعات الإسلامية، وتبنتها معظم الجمعيات والتنظيمات النسائية وخاصة تلك المحسوبة على العلمانية فيها، وأفرزت لغطاً وجدلاً بين اعتبار قاسم أمين نهضوياً وليبرالياً وحداثياً أو مارقاً وخارجاً عن الدين.
والحقيقة أن مشروعه الإصلاحي المتبلور في كتاباته ومواقفه يجب أن يدرس في سياقه التاريخي والفكري، وفي إطار منظومة الفكر النهضوي مع بداية الاحـتكاك بالفكر الغربي، تلك المنظومـة التي ما زالت تحتاج إلى دراسات عميقة تكشف عن مواقفها الحقيقية، وعن تموقعها بين الأصالة والاستلاب بعيداً عن الهجوم أو التعصب، وتبين ذلك التيه والاضطراب والحيرة التي تخبط فيها العقل المسلم المتلقي لتلك المنظومة، والذي يعيش واقعاً مشوهاً بعيداً عن مفاهيم الإسلام الحقيقية، وخاصـة واقع المرأة، وهو ما عبر عنه محمد عبده في قولـه: بأن «واقع المرأة العربية الإسـلامية ليس من الإسلام في شيء، وأن المسلمين قد تدنوا بالمرأة عن منـزلة شريفة كان الإسلام قد أنزلها فيها، وغمطوها حقوقاً كان قد اعترف لها بـها، وأن إحياء الإسلام إذن ليستوجب في بعض ما يستوجب من أعمال إصلاح وضع المرأة».
ومنذ قاسـم أمين والكتابات تتوالى بخطابات تتفاوت بين الاقتراب من الشرعية الإسـلامية أو الانغماس في الوضعية الغربية.
وقد يكون من هذه الخطابات التي وضعت أيديها على لب الموضوع السيدة صافيناز كاظم في كتابها «في مسألة السفور والحجاب» فقد كشفت عن وضع المرأة المسلمة في مطلع القرن العشرين، والظلم والحيف الواقعين عليها، وبينت أن غياب رؤية إسلامية ناضجة وواضحة لقضية المرأة جنحت بها نحو التغريب والاستلاب، وزاد من استغلالها، فبعد أن كانت تُستغل من طرف الفهم الخاطئ للإسلام أصبحت تُستغل جسدياً، تقول: «عندما التقى وضع الظلم مع غياب الموقف الإسلامي لتقويمه، سُمح للتغريب الفكري استغلاله ليرفع شعار «تحرير المرأة».. وهو بهذا استطاع أن يضلل الكثيرات، وذلك حين حول قضية تحرير المسلمة من قضية تحرير من عبودية الظلم والجهل، ومطلب للانبعاث من حقوقها الشرعية في التعليم والإنسانية، كفلها لها الإسلام، إلى حركة تنحرف إلى المطالبة بنـزع الحجاب، وحملة للسفور، وتحقيق ذلك مع كسر متواصل لأصول وميزان الإسلام في البناء العقلي والنفسي والعصبي للمرأة المسلمة المعاصرة، حتى وقعت بين جاهليتين، جاهلية تستمد موروثاتها المتخلفة من عقلية ما قبل الإسـلام، تقوم بوأد البنات، وجاهلية جديدة غربية تستمد موروثاتها من مادية تجارية. ولا حل لتحرير المرأة من هاتيـن العبوديتين إلا بالعودة للإسلام، فترتدي حجابها، ومعها العلم والحرية، بإذن الله، ووفق قانونه وشريعته».
وإذا كانت مرجعية صافيناز كاظم إسلامية، ورؤيتها لقضية المرأة تنبع من داخل المنظومة الحضارية الإسلامية الشاملة، وتقدم خطاباً منسـجماً مع الذات والهوية، فإننا نجد خطاباً آخر مغايراً يعكس الجهود الفكرية لموقف يتبنى الصـورة النمطية السائدة عن ظلم الإسـلام للمرأة، وقـهره لها، وإغماطـه لحقوقـها، من مثل قول كاتبة يسارية:
«ينتقص الفكر الإسلامي السلفي التقليدي من حقوق المرأة جميعاً، استناداً إلى القرآن والسنة، في القوامة، والولاية، والزواج، والطلاق، وتعدد الزوجات، والإرث، والشهادة، حيث المرأة مأمورة بالطاعة دائماً للرجل الذي له عليها «درجة» ومن واجبها الطاعة التامة له ما لم يأمرها بمعصـية الله.. والرسـول هو نفسـه القائل ما معناه: إن النساء ناقصات عقل ودين، وإنه لن يفلح قوم ولوا عليهم امرأة، ولا نستطيع كباحثين في ظل هيمنة السـلفية والجمود أن نقول إن النبـي قد أخطأ، في حين أن البحث يفترض الخطأ والصواب في كل الفرضيات والمقولات».
إن الفهم البراني للنصوص القرآنية والحديثية جلي، بل إن الدعوة «لاعتبار المواثيق الدولية مرجعية لحقوق المرأة»، وقبول ذلك بإطلاق، نفي للذات، وارتماء مطلق في مؤخرة (الآخر) الذي يريد السيطرة على ما تبقى من حصون المقاومة في المجتمعات الإسـلامية بالاعتماد المطلق عليه، دون اعتبار لخصوصية أو تفرد، أو على الأقل كشف عن عدم محاولة فهم النصوص الشرعية المتعلقة بالمرأة، قرآناً وسنة صحيحة، وتحليلها واستقراء الواقع المعاصر، وعدم الوعي بأبعاد قضاياه في ضوء الثوابت، التي تمثل الامتداد الزماني والمكاني والإنساني للأمة، ويمثل الانتماء إليها أصل القوة والكرامة والخصوصية.
ولعل مثل هذه الخطابات التي تنـزلق إلى تغييب الفهم الموضوعي والسليم للقرآن الكريم والسنة الصحيحة للقضية، ولمختلف القضايا المتعلقة بالأمة، تعتقد، ربما عن غير علم أو قصد، أن الإسلام ومفاهيمه وأخلاقياته وقيمه هي السبب في مشكلات المرأة، دون محاولة التمييز بين لحظات الانحطاط والتخلف والتطبيق المشوه لبعض النصوص المبتسرة عن سياقاتها وما لحق الشخصية الإسلامية، امرأة كانت أم رجلاً، من تخلف فكري وسلوكي، وبين المفاهيم الإسلامية والأحكام الشرعية المنبثقة عن الأصلين: القرآن والسنة، والتطبيق الفعلي لهما في العهد النبوي.
وإذا عرجنا على قطر آخر وهو المغرب - أو غيره من أقطار العالم العربي الإسلامي- نجد أن المشروع النهضوي الشرقي في قضية المرأة وصلت أصداؤه إليه، واتخذ هو الآخر مسارين اثنين في الخطاب النسائي، خطاب تحكيم الوحي وخطاب تبني الموقف الغربي من القضية.
ومن بيـن الخطابات المناهضة لتبعية الغرب كان خطاب محمد ابن الحسن الحجوي الدعوي، الذي حث على إخراج المرأة من جهلها، ودعا إلى تعليمها، والرفع من مستواها الثقافي والفكري، في إطار ما تسمح لها به الـشريعة الإسـلامية. وتوالت الكتابات بعد ذلك مدافعـة عن المرأة وخاصة في إطار الدعوة الإصلاحية، التي عرفها المغرب إبان الاسـتعمار، ثم في إطار التحسيس بوضعية المرأة المزرية في مجتمع يتوخى تحرير الإنسان ككل وليس المرأة فقط.
وفي سياق ما تم تحقيقه من تراكم معرفي حول وضعية المرأة المغربية، وما شهدته الساحة الفكرية والسياسية من تغيرات، بدأت الأحزاب السياسية تهتم بالمرأة، وبدأت التنظيمات النسائية التابعة لها تظهر للوجود. وإذا كانت اهتمامات كل الحزب وأولوياته هي الطاغية في البداية، فإنه تم تجاوز ذلك وأُعلن عن استقلال الجمعيات النسائية عن الأحزاب. إلا أن المغرب لم يعرف حضوراً حقيقياً للتنظيمات النسائية إلا بعد الثمانينيات «فهي لم تتطور بشكل ملموس إلا بعد سنة 1980م، بحيث نجد أن 55.2% من الجمعيات تـم تأسيسها خلال فترة الثمانينيات مقابل 27.6 % تم تأسيسها ما بين 1971م و1973م و17.2 % قبل سنة 1970م». وقد أدركت الجمعيات الرائدة هذا التأخر في بروز الحركة النسائية بشكل منظم في المغرب، فنجد في بعض الوثائق الخاصة بجمعية «أخوات الصفا» مثلاً ما يؤكد ذلك. كما أن انبثاقها عن أحزاب وطنية لها مرجعية إسلامية وتاريخ عريق في مقاومة الاحتلال جعلها تركز على الرفع من مستوى الوعي الوطني بين صفوف النساء، ودعوتهن للمشاركة في النضال السياسي والنقابي والاجتماعي، وغير ذلك.
وربما كان من أبرز الجمعيات التي تولت توعية المرأة في المغرب، وحققت مجموعة لا يستهان بها من المكتسبات لصالح المرأة المغربية، سواء في العمل الخيري أو في المجال التعليمي «الحركة النسوية لحزب الاستقلال» التي ساهم زعيم الحزب علال الفاسي، رحمه الله، في بلورة رؤاها ومفاهيمها. وهذا النص خير معبر عن تنظيراته للحركة ورؤيته لأهم الإشكالات، التي أثيرت في قضية المرأة آنذاك: «إن الإسلام يعترف للمرأة بحقوق لا يعترف بها حتى أحدث المتمدنين، ولكن الإسلام في الوقت نفسه يرغب في أن يرى من المرأة ومن الرجل محافظة كاملة على العرض، وعلى الأخلاق، ويمنع التبرج وكل محاولات الإغراب التي تتشبث بها المرأة عادة، استجابة لأحاسيس بشرية. أما الحجاب فأمره معروف من الدين، وجِماعه قوله تعالى: ((وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ)) فهذه الآية تفرض على المرأة ما فرضته الآية قبل على الرجل من غض البصر وحفظ الفرج، وتزيد بإلزام المرأة عدم إظهار ما لم يظهر من زينتها.. والمقصود بالجيوب المذكورة في الآية فتحات الثوب والقميص الذي كانت ترتديه المرأة العربية في عهد الإسلام الأول، وكان من عادة بعضهن توسعة هذه الفتحات لتظهر منها فتنة المرأة. وقد بالغ المسلمون في حجب النساء، وفعلوا ذلك سداً لذريعة الفساد، ولكن التجربة دلت على عدم جدوى ما اتبعناه، فإن الفساد لم ينقطع بل ربما زاد، وقد أجمع المسلمون على شرعية صلاة النساء وراء الرجل في المساجد، (ظاهرات) الوجه والكفين، وأجمعوا على إحرامهـن وطوافهن كذلك، وقد فعلنه بمحضر الرجال على مشهد من رسول الله وخلفائه... فيجب ألا نشغل أنفسنا بالجدل والسفور، وإنما ينبغي أن ننصرف للعمل الصالح، وأن نبذل الجهد كله لتحسين أخلاق المجـتمع المغربي، وإشاعـة روح المروءة والـتدين فيه، دون إفراط ولا تفريط».
وربما كان هذا النص يعبر أيضاً عما كان سائداً من مثل هذه الرؤى والمفاهيم في كل المجتمعات الإسلامية، التي خرجت الدعوات والتنظيمات منها تنادي في البداية بإصلاح وضعية المرأة وتدافع عن حقوقها، دون أي صدام يذكر مع الثوابت الإسلامية، إلا أنها بعد ذلك ومنذ السبعينيات بدأت الدعوات التحررية في المغرب، شأنها في ذلك شأن كل البلدان العربية والإسلامية، تتخذ مساراً تبعياً للحركات النسائية الغربية، وبدأ الوجه السافر للخطابات العلمانية تتجلى في محاولة تعميم صورة الغرب النمطية عن الإسلام وعن ظلمه للمرأة وقهره لها، واعتبار أن الخلاص من وضعيتها لن تكون إلا بتبني النموذج الغربي.
كما كان لانتشار الفكر الشيوعي دوركبير في ترسيخ قناعات وقيم جديدة مجتثة الجذور عن قيم الإسلام وثوابته. وكان لانعقاد أول مؤتمر دولي خاص بالمرأة بالمكسيك تحت شعار «المساواة، التنمية، السلام» تحت رعاية الأمم المتحدة أيضاً دور واضح في تدويل القضية، وخضوعها للتبعية والاستلاب الغربي في مختلف البلدان الإسلامية، واعتبر المؤتمر سنة 1975م عاماً دولياً للمرأة، كما دعا إلى اعتبار الفترة ما بين 1975م-1985م عقداً دولياً للمرأة يجب أن تُركز فيه الجهود لتحقيق مساواة المرأة بالرجل.
وإذا كان هذا التدويل للقضية لم يحقق للمرأة المسلمة أي تقدم يذكر في الارتقاء بوضعيتها، إلا أنه ساهم في استفزاز الفكر الإسلامي لتأصيل مفهوم المساواة انطلاقاً من النص القرآني، فانبرت مجموعة من الكتابات الموضوعية التي قاربت القضية من الداخل وبروح علمية تتوخى الحق ضمن المشروعية الدينية للمجتمعات الإسلامية، وتعالت الأصوات في إطار الجمعيات والهيئات والمنظمات الإسلامية تدعو إلى النظر في قضية المرأة من داخل الحضارة الإسلامية وليس من خارجها، منها النداء الذي وجهته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) إلى المؤتمر العالمي الرابع حول المرأة ببكين، وقد نص النداء على أن الإسلام رسالة عالمية عادلة لتحرير المرأة من الظلم والعنف، حفظت لها حقوقها المدنية والسياسية والاقتصادية، كما قرر بأن كثيراً من الأفكار الخاطئة ضد المرأة في البلاد العربية والإسلامية هي ناتجـة إما عن الجهل بتعاليم الإسلام ومبادئه وقيمه، وإما عن عدم اتباع هـذه التعاليم والامتثال لها والتقيد بها.
وقد انعقد المؤتمر الثاني للمرأة سنة 1979م في كوبنهاجن، ثم تلاه المؤتمر الثالث سنة 1985م بنيروبي، وأخيراً انعقد المؤتمر الرابع ببكين في شهر سبتمبر1995م. وهذه المؤتمرات العالمية حول المرأة التي نظمت تحت إشراف الأمم المتحدة تجسد الحلقة الخاصة في مسلسل عولمة العلمانية، وسيلتها إلغاء الخصوصيات، وهدفها اختراق النظام الأسري. وقد أكد بعض الباحثين «أن البواعث والخلفيات التي تحكمت في الجهات التي صاغت الوثيقة الرئيسية المقدمة لمؤتمر بكين، لم تكن تسعى فقط إلى إقامة الأسرة العلمانية بل أكثر من ذلك إلى تفكيك النظام الأسري.. وبالتالي يسهل تعميمها (أي الأسرة العلمانية) باعتبارها نظاماً أسرياً كونياً، وبتعبير أوضح يصبح هذا النظام الأسري المقترح أداة من أدوات عولمة العولمة» .
وقد أسفرت المؤتمرات الثلاثة الأولى، وتوالي الاتفاقيات والقرارات الدولية والإقليمية، وتنامي الاهتمام العالمي بقضية المرأة، بالإضافة إلى تزايد معاناة المرأة وخاصة بتنامي العنف الموجه ضدها، وفي مجال استغلالها في العمل وغيره، مجموعة من الأنشطة والمناظرات والملتقيات قامت بها مختلف الجمعيات والحركات النسائية في المغرب، وربما كان أهمها المناظرة الوطنية الخاصة بتغيير مدونة الأحوال الشخصية التي ضمت مجموعة من الهيئات هي:
اتحاد العمل النسائي، القطاع النسائي للاتحاد الاشتراكي، الجمعية المغربية للنساء التقدميات، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الجمعية المغربية لحقوق النساء، قدمت مقترحاً للبرلمان المغربي من أجل تغيير مدونة الأحوال الشخصية يضم مجموعـة من البنود لصالح المرأة والأسرة عامة. وقد كانت هذه المطالبة مهمة أسالت حولها كثيراً من المداد.
والحقيقة، أن مراجعة المدونة من آن لآخر، والعمل على إصلاحها، وتدارك ثغراتها، وتطوير وتبسيط إجراءاتها، ضرورة يفرضها إيقاع التطور والتغيير السريع في مقتضيات الحياة الإنسانية العصرية، لكن مع الحفاظ على القواعد الأساسية والثوابت الأصلية، التي قامت عليها الأسرة المغربية المسلمة، والبحث عن مقومات التغيير والتطور الملائمين من داخل الذات الحضارية، والتشبث بالهوية الوطنية والدينية. وأعتقد أن الذي يؤخر تعديل المدونة بما يلائم الشخصية المغربية الإسلامية هو التشنج في الحوار، وتراشق الاتهامات، فتخرج المسألة من إطار محاولة التوصل إلى حل يرفع من شأن المرأة ويكفل لها كرامتها، ويساعدها على تربية أفراد المجتمع، نساءً ورجالاً، إلى قضايا فرعية هامشية يسعى كل طرف فيها التشبث بأفكاره وتصوراته وكأنها منـزلة من السماء.
وكان صدى انعقاد المؤتمر العالمي الرابع في بكين مناسبة لإخراج كتاب «مائة إجراء ومقتضيات. من أجل تقنين مغاربي بروح المساواة في مادة الأحوال الشخصية وقانون الأسرة» قالت عنه مجموعة 95 المغاربية من أجل المساواة، المدعمة من الاتحاد الأوروبي ومؤسسة «فريدريش إبرت» الألمانية التي قدمته: «كان أفق عقد المؤتمر العالمي الرابع حول المرأة المناسبة التي استغلتها المجموعة لتحسيس الرأي العام المغاربي أولاً، ولنقل كفاحات ونضالات النساء بمنطقتنا إلى فضاء منتدى المنظمات غير الحكومية ببكين».
وقد اعتبر الكتاب أن المؤسسة الشرعية المنتمية للإسلام تقليدية ومتخلفة، وبذلك من الواجب الانخراط في الخيار التحديثي، واعتبار القوانين والصكوك الدولية مرجعاً أساسياً لقانون الأسرة، التي يجب أن تزال عنها الصبغة القدسية.. ومن جملة المطالب المقدمة فيه: التخلي عن مفهوم رب الأسرة وواجب الطاعة، والمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، والاعتراف بأولاد الزنى كما هو الأمر في كل الدول الغربية.
وربما كان أهم حدث بارز ما سُمي بـ «مشروع خطة العمل الوطنية لإدماج المرأة في التنمية»، الذي قدمته حكومة التناوب. وقد أشاعت الخطة ردود فعل مختلفة بين مؤيد ومعارض، وكانت المعارضة بين متشـددة وداعـية إلى الحوار، لا تهدف إلا إلى الانطـلاق من المرجعية الإسـلامية في إدماج المرأة ( والرجل أيضاً) في التنمية، والتشبث بخصوصية المغرب الثقافية والحضارية. وقد دعا كل ذلك إلى إصدار بيان عن رابطة علماء المغرب في مايو 1999م ورد فيه: «إن علماء المملكة المغربية ينددون بما تضمنته بنود الخطة المقترحة، وديباجتها، من استخفاف بالتشريع الإسلامي وتهديد لاستمرارية الإسلام الذي تضمنته تلك البنود المناهضة لأصول الأحكام الإسلامية كتاباً وسنة».
كما حذر البيان من تزايد الفساد والانحلال في المجتمع، مؤكداً: «أن مشروع الخطة المقترحة، حسب ما تبين فيه، يؤدي إلى المزيد من دفع الشباب إلى العزوف عن الزواج، ويفتح الباب في وجه الانحلال الخلقي والتفسخ العائلي، ويشيع الفساد والفجور في المجتمع، ويؤدي أيضاً إلى القضاء على الغيرة والشرف».
والواقع أنه لا يمكن لأحد أن ينكر الأوضاع المتردية التي تعيش فيها المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية، وخاصة تلك التي خرجت إلى سوق العمل بسبب وطأة الظروف الاقتصادية في ظل عدم الإحساس بالمسؤولية الأسرية عند الرجل، الذي أصبح يعتمد على عملها، وفي الوقت نفسـه يعتمد على خدمـتها له، دون تقـدير أو مساعدة، أو تلك التي تواجـه الإذلال والدونية والاسـتغلال إما من طرف الأب أو الزوج في بعض الأحـيان، أو من طرف أرباب العـمل، أو تلك التي تجد نفسها دون عائل أو مؤهلات للشغل وفي حجرها حفنة من القاصـرين، وغير ذلك من النماذج النسوية التي لا تعد ولا تُحصى، والتي تعيش في ظروف اجتماعية واقتصادية لا تبشر بالخير. وهذا ما يدعو المخلصين من الأمة أن يتداعوا إلى العمل والبحث عن مخرج لها، لتعيش في ظروف إنسانية حسنة، كي تقوم بدورها بكرامة. قد تكون المنطلقات والمرجعيات مختلفة، إلا أن الإخلاص في الفعل والعمل سوف يؤدي إلى نتيجة إيجابية تستطيع المرأة في ظلها أن تقوم بدورها الحضاري المطلوب.
ولا شك أن إشاعة روح الحوار والتفاعل بين مختلف المهتمين بالمرأة وقضيتها، ومد جسور التواصل بينهم للتوافق على صيغ تنبثق عن الثوابت التي تكفل للأمة كرامتها وعزتها، وعدم تحييد أو تهميش أحكام الوحي ونصوصه الشرعية، كما تنبثق عن الاستفادة من مختلف التوصيات والمواثيق والأفكار والتصورات ومختلف المرجعيات الدولية، مهما كان مصدرها، شرط ألا تتعارض مع ثوابتنا وقيمنا وأخلاقياتنا ومبادئنا، لأننا إذا تخلينا عنها واندمجنا مع التيارات التي تبعدنا عن أصول وطنيتنا وهويتنا فلن يحترمنا أحد، وسوف نظل عالة على الإنسانية جمعاء، نعرج دائماً للحاق بذيلها، ولن نحتل أبداً مواقع متقدمة إلى جانب الحضارات الإنسانية الأخرى بمعارك مفتعلة مع عقيدتنا وديننا.
من هنا يمكن القول: إننا لا ندين (الآخر) أو ننتقص من تجاربه الحياتية، وإنما نعلن تميز خصوصياتنا عن خصوصياته، خاصة وأن التجارب الحضارية الملموسة أثبتت أمرين اثنين:
1- أن التحديث لا يعني التغريب.
2- أن فشل نماذج التنمية التي انتهجها العالم الثالث يعود بالأساس إلى التقليد الأعمى لنماذج التنمية الغربية.
ولاشك أن قضية المرأة تدخل في سياق قضايا الأمة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتنموية، وأن الرفع من مستواها وحل إشكالياتها تنبع من الأصالة، لتنطلق كيفما تشاء، تستفيد من الآخرين بما لا يتعارض مع القيم الدافعة نحو التقدم والرقي.