عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين الجزء الأول » تقديم بقلم : عمر عبيد حسنه
الحمد لله الذي أنعم علينا بنعمة الإيمان، وجعلنا بفضله من جند الإسلام، الحاملين لرسالته، المبلغين لدعوته، الوارثين لنبوته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.
والصلاة والسلام على من اجتمعت فيه كمالات الأنبياء، وانتهت إليه خصائص وأصول الرسالات، فكَمُل به الدين، وكان اللبنة، وكان خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، الذين أثنى الله عليهم في كتابه الكريم الخالد إلى يوم الدين، لإيمانهم بالله، وتصديقهم لنبيه، وعلو منزلتهم في ذلك، وسَبْقِهم، ونُصْرَتِهم، وجهادهم بالأموال والأنفس، فغفر الله لهم ورحمهم، ورضي عنهم، ورضوا عنه، وذلك لمن خَشِيَ ربه، وبعد:
فقد يكون من المفيد ونحن نقدم لأحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وقادته العِظَام، أن نأتي على ذكر بعض ما ورد في القرآن والسنة من صفاتهم وخصائصهم وجهادهم، لندرك موقع هذا الجيل الرباني القدوة، الذي تربَّى على عين النبوة وتسديد الوحي، فكانت أُمَّتُه خيرَ أمةٍ أُخْرِجَتْ للناس، وكان الجيل المعيار، والجيل القدوة، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بأنه خير القرون، لِمَا تَمَتَّعَ به من المجاهدة والجهاد، والخصائص والصفات، التي تتمثل قيم الإسلام، وتثير الاقتداء.
قـــال تعـالــى: (لكن الرسول والذين آمنوا معــه جاهـــدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظـــيم ) ( التوبة:88-89 )
وقال عز وجل: ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفـــوز العظيــم )(التوبة:100).
وقـــال سبحانـــــه وتـعـــالــى: (لقد تـــاب الله علــــــى النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيع قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهــــم رؤوف رحيـم ) ( التوبة:117).
وقـــال عــز مــــن قـــائـــل: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكــــان الله عــــزيزًا حكيمًا )(الفتح:18-19)
وقال تعالى: ( للفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ( الحشر:8-9).
وقال تعالى: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلاً من الله ورضوانًاسيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرًا عظيمًا ) ( الفتح:29).
وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ الذين يَلُونهم )(رواه البُخاري).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا تَسُبُّوا أصحَابِي، فلو أنَّ أَحَدَكُم أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِم ولا نَصِيفَه )(رواه البخاري).
وبعـد:
فهذا كتاب الأمة الحادي والخمسين: (عمرو بن العاص رضي الله عنه .. القائد المسلم .. والسفير الأمين)، للواء الركن محمود شِيت خَطَّاب، في سلسلة (كتاب الأمة)، التي يصدرها مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في دولة قطر، مساهمة في إعادة البناء الثقافي وتحقيق الوعي الحضاري، وإخراج الأمة المسلمة، واسترداد دورها العالمي، وإحياء التزامها ووعيها برسالتها الإنسانية، التي كانت الغاية منها إلحاق الرحمة بالعالمين، استجابة لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين )(الأنبياء:107).
واسترداد دور الأمة العالمي، وإحياء التزامها برسالتها، وإعادة بناء خيريتها، وتحقيق إخراجها الجديد للناس، لا يتأتى إلا بتلمس ظروف وشروط ميلادها الأول، أو بتعبير أدق: إخراجها الأول، وامتلاك القدرة على التحقق بالمرجعية، وخصائص خير القرون، وعلى الأخص مرحلة السيرة وجيل الصحابة، الذي شهد له الرسول صلى الله عليه و سلم بالخيرية، ومن ثم التوغل في التاريخ العام للأمم، والاهتداء خاصة بالنماذج التي عرض لها القرآن الكريم فيما اصطلح عليه بالقصص القرآني، والمسيرة التاريخية للأمة المسلمة، والإصابات التي لحقت بها حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم، وتحديد مواطن الخلل وأسبابه، في ضوء السنن الإلهية المطردة، وأقدار الله تعالى في السقوط والنهوض.
ولعل الفترة أو المرحلة الأحق بالبحث والدراسة والتحليل باستمرار، هي مرحلة السيرة النبوية والخلافة الراشدة، وحقبة خير القرون، لأنها تُصوِّب المسار، وتمثل المعيار والمرجعية، وتشكل نقطة الانطلاق، وتحقق الارتكاز الحضاري، وتوضح الملامح والقسمات المميزة للشخصية الحضارية الإسلامية التاريخية، كما تمثل البعد الإنساني والعالمي للرسالة الإسلامية، والفترة الأمينة والمأمونة والسابقة، لتحويل المبادئ إلى برامج، والقيم إلى خطط، والفكر إلى فعل، والنظرية إلى تطبيق، وإدراك مقاصد الدين، والانطلاق في الاجتهاد، والحوار، والمشاورة، والمفاكرة، والمناظرة، إلى الآفاق والأبعاد المستقبلية، التي تتلاءم مع خلود الإسلام ومرونته، وقدرته على العطاء في كل زمان ومكان.. فتجربة هذا الجيل الرباني، واجتهادهم، وفعلهم، وتنزيلهم للقيم على الواقع، جزء من خلود هذا الدين، ووسائل إيضاح معينة وخالدة لكيفية التعامل مع النصوص في الكتاب والسنة، في الظروف والأحوال المختلفة.
وقد تكون مشكلة الكثير ممن يدَّعون التأسي بهذا الجيل الفريد اليوم، هي في الانحباس ضمن أطر الأشكال، التي هي أقرب ما تكون إلى المحاكاة، والغفلة عن المقاصد الشرعية، وتأسيس الفقه المطلوب للواقع في ضوء ذلك الفهم وتلك المرجعية، ذلك أن التقليد الذي يعني المحاكاة والببغائية، غير الاتباع الذي يعني العلم والإحاطة وإدراك مناط الحكم ومقاصده.. إن الانحباس ضمن الأشكال، أو المحاكاة للمبادئ، بعيدًا عن النفاذ إلى المعاني والمقاصد وبلوغ الرشد، بمقدور حتى الأطفال، ويمكن أن تعتبر من أدنى وظائف العقل، إن كان للعقل دَخْلٌ في ذلك، أما النفاذ إلى المعاني والمقاصد وبلوغ الرشد، فهي الإشكالية التي نعاني من غيابها اليوم.
وأعتقد أنه من الأهمية بمكان، تحرير المقاصد والمعاني من قيود الأشخاص، والزمان والمكان، وأسباب النزول والورود، ومن ثم توليد الرؤى وتحقيق الاجتهاد في ضوء ذلك، وتنزيله على الواقع، وتقويمه به، ذلك أن العجز عن التجريد، وتجاوز الصورة إلى الحقيقة، والشكل إلى المضامين والمقاصد، يورث العقم في التوليد والامتداد.. فحصر البطولة في نطاق البطل، والكرم في نطاق الكريم، والتقوى في إطار التقي، والإيثار في إطار المؤثر، وعدم تجريدها وجعلها صفة وإمكانية بمقدور الجميع الوصـول إليها، سوف يجعــل حــاجزًا نفسيًا وجــدارًا سميكًا، لا يمكنُ أَن نَظْهَرَهُ في التأسي بجيل خير القرون.. ولا أدري، كيف يتحقق معنى الخلود ويمتد، ويمتلك الإسلام الإنتاج والعطاء والبناء في كل زمان ومكان، إذا كانت المعاني والخصائص المطلوبة، محبوسة ومرهونة في إطار الجيل الأول، دون إمكانية ذلك لسواه ?! وكيف يمكن أن نحقق بطولات إذا كانت البطولة محصورة في نطاق بطل لا تتعداه، الأمر الذي سوف يجعلنا عاجزين عن أن نرنو إليها؟
لذلك نرى أن المتأمل في الرسالة والحضارة الإسلامية، سوف يتحقق أنها على عكس سائر الحضارات الأخرى، السائد منها والبائد، عَظَّمَت المعاني، عَظَّمَت البطولة، لتكون مجالاً للتنافس وتناول الجميع، ولم تعظم البطل إلا بمقدار ما يمنحها ذلك من إمكانية التطبيق والتجسيد بالواقع، وتحويلها من المثال والخيال إلى الحقيقة والواقع المعيش.
لذلك أرى أن الذين يحاولون اقتفاء آثار السلف، أو بعبارة أدق آثار الصحابة، ويقتصرون على الأشكال، وطرائق الممارسات، دون محاولة النفاذ إلى الفقه والمضمون، ويخادعون أنفسهم أنهم على طريق التدين السليم، بحاجة إلى المراجعة وإعادة النظر، ذلك أنهم امتلكوا الأشكال، وافتقدوا الأعمال، فأصبحوا عبئًا على منهج الصحابة والسلف، وحاجزًا دون امتلاك القدرة على التعامل الصحيح مع خصائص جيل خير القرون، وعبئًا على أنفسهم أيضًا، لعجزهم عن التغيير والإنجاز المأمول.
وكنتُ أشرتُ في كتاباتٍ سابقةٍ إلى أهميةِ استقراء وتجريد الخصائص والصفات والمعاني، التي جعلت من جيل الصحابة خيرَ القرون، والتي جعلت منه معيارًا للأجيال، وأنموذجًا للإنجاز: خصائص الخيرية، وصفات العظمة، لينعكس ذلك على مناهجنا في التعليم والإعلام والتربية، وكل وسائل التشكيل الثقافي، وبذلك نتحول من الاقتصار على الفخر والاعتزاز، إلى مرحلة الإنجاز والتأسي العملي الذي يقود إلى تغيير الحال، أي لابد من جدولة الخصائص والصفات، التي بها كانت الخيرية، ومن ثم وضع المناهج التربوية والثقافية، الموصلة إلى الإنتاج المأمول، ذلك أن قول الرسول صلى الله عليه و سلم: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُم...الخ )، لابد أن يستدعي الاستفهام الكبير: ما هي الخصائص والصفات، التي بها كانت الخيرية، وكيف يمكن تلمسها، والاقتراب ما أمكن من هذا الجيل الرباني، ليمتد الخلود للرسالة، والإنتاج للجيل المأمول ? وإلا لكان إخبار الرسول صلى الله عليه و سلم ليس له مدلول تطبيقي في حياة المسلمين، خاصة وأن القرآن الكريم قَدَّم الأنموذج، ونَصَّ على بعض الخصائص والصفات، التي استحق بها جيل الصحابة خيرية القرون جميعها.
ولذلك كانت دراسة السير والمغازي وتعلمها، كجانب عملي تطبيقي، يعتبر موازيًا ومكملاً لدراسة السورة من القرآن، لتعلم العلم وتعلم العمل جميعًا.. يقول عليُّ بن الحسين رضي الله عنه: (كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه و سلم، كما نعلم السورة من القرآن).. وكان الإمام الزهري يقول: (في علم المغازي، علم الآخرة والدنيا) (البداية والنهاية، 3/242).
وهنا قضية لابد من التوقف عندها ولو قليلاً، وهي أن للصحابة الكرام رضي الله عنهم، موقعًا متميزًا في مسيرة الإنسانية التاريخية، بل في مسيرة النبوة وصَحْبِها ورَكْبِها الممتد، فشأنُهُم ليسَ كَشَأنِ غيرِهِم، وعمَلُهُم لَمْ يُدَانِهِ أحدٌ ممنْ سَبَقَهُمْ، وَلَنْ يَلْحَقَ بِهِ أَحَدٌ ممنْ جَاءَ بَعْدَهُم.
لقد كانوا معجزة خالدة من معجزات الإسلام، ومعيارًا لكل جيل في كل زمان ومكان.
ولنحاول فتح بعض النوافذ، التي تؤكد ذلك وتُعَزِّزُه:
فلقد قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام، وهو مِن أُولِي العزم من الرسل، ومن أكبر أنبيائهم وأعظمهم شأنًا: (قالوا يا موسى إِنَّ فيها قومًا جَبَّارِينَ وإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى' يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإنَّا دَاخِلُون * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإنَّكُمْ غَالِبُون وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنتُم مُّؤْمِنِين * قَالوا يَا مُوسَى' إنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون * قَالَ رَبِّ إنِّي لا أَمْلِكُ إلا نَفْسِي وأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَينَ القَومِ الفَاسِقِين )(المائدة:22-25).
فإذا قَابَلْنَا هذا الكلام اليوم بما قاله الصحابة يوم بدر: (والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكما مقاتلون)، أدركنا تميز هذا الجيل في تاريخ النبوة الطويل.
ونقدم أنموذجًا آخر من موقف حواريّ عيسى عليه السلام، وهم خُلَّصُهُ وأنصارُه وناصِرُوه، ومع ذلك فقد كانوا غير عارفين حق المعرفة لربهم، لذلك كانوا مترددين في الالتفاف حوله، والتضحية في سبيل دينه وشريعتـــه، يقـــول تعـــــالى حاكيــًا قصتهــم: (إذ قــــال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدًا لأولنا وآخرنا وآية منكم وارزقنا وأنت خيرالرازقيــن )(المائدة:112-114).
فإذا قابلنا ذلك بموقف الصحابة رضي الله عنهم، بعد العودة من رحلة الإسراء -وقد كانت معجزةً عَصِيَّةً على العقل- والذي لَخَّصَه موقفُ أبي بكر رضي الله عنه، بقوله: (إن كان قال، فقد صدق)، أدْرَكْنَا موقعَ هذا الجيلِ الفريدِ في تاريخِ النبوات.
بذلك وغيره كثير، ندرك موقع جيل الصحابة رضي الله عنهم، وندرك بعض أبعاد الخيرية، التي شهد بها الرسول صلى الله عليه و سلم لهذا الجيل.
ولما كان لجيل الصحابة هذه المكانة الفريدة من الخيرية، وهذا التميز في تاريخ البشرية بشكل عام، وفي تاريخ النبوة بشكل خاص، وكانوا الجيل الذي تجسَّدَت الرسالة في حياتهم، وكانوا الجيل الذي سوف يبقى' يمثل أنموذج التأسي، وأنهم الجيل الذي رضي الله عنه بنص القرآن: (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ)، ووصلوا إلى مرحلة من الرِّضى' والالتزام والانضباط، والإذعان والاطمئنان إلى ما هم عليه من الخير، فوصفهم القرآن بقوله: (وَرَضُواْ عَنْهُ).
لقد وصفَ الرسولُ صلى الله عليه و سلم موقعهم بالنسبة للأمة، بقوله: (النجومُ أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبتِ النجومُ أتى السماءَ ما تُوعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يُوعدون )(رواه مسلم).
وأعتقد أن الدلالة واضحة جدًا في وصف الرسول صلى الله عليه و سلم لجيل الصحابة: فإن ذهابَ النجوم يعني اختلال نظام الكون، وتَوَقُّف الحياة الدنيا.. وإذا غابت سنة الرسول صلى الله عليه و سلم، ومعرفة الوحي، انتشرتِ البدعةُ، واختلتْ مسيرةُ الحياة، وعَمَّتِ الفوضى، وضلَّ الرأي.. وإذا غُيِّبَ جيلُ الصحابةِ، افْتَقَدَتِ الأمةُ المرجعية، واهتزَ الارتكازُ الحضاري، واعتلَّ ميزانُ التطبيق، ودخلتِ الأمةُ في التنازعِ والحيرةِ، والارتباك والفشل، والتبعثر، وعواصف الأهواء.
ولقد أجمع أهل السنة والجماعة على عدالة الصحابة في الرواية، ونقل الحديث.. والعدالة لا تعني العصمة من الخطأ بحال من الأحوال، قال الخطيب في الكفاية: (والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة، والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحدٌ إلى تعديل أحد من الخلق.. فهم على هذه الصفة إلى أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية، والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط عدالته، وقد برَّأهم الله من ذلك، ورفع أقدارهم عنده.
على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله شيء مما ذكرنا ، لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد، والنُّصرة، وبذل المُهَج والأموال، وقتل الآباء والأولاء، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد لنز اهتهم، وأنهم أفضل من المعدلين والمزكين، الذين يجيئون من بعدهم إلى أبد الآبدين) (الكفاية، ص93-96).
يقول ابن تيمية، معقبًا على قولـه تعـالى: (لقــد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا )(الفتح:18):
ويقول ابن حزم رحمه الله: (فمَن أخبرَنَا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحلُّ لأحدٍ التوقُّفُ في أمرهم، أو الشك فيهم البتة) (الفصل في الملل والنِّحَل، 4/148).
لذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (مَنْ كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم، فإنَّهم كانوا أبرَّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأَعْمَقَهَا علمًا، وأقلَّهَا تَكَلُّفًا، وأَقْوَمَها هَدْيًا، وأَحْسَنَها حالاً.. قومًا اختارهم الله لصُحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فَضْلَهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) (جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر).
لذلك ومن هنا، ندرك عِظَمَ المخاطرِ والآثارِ المترتبةِ على النيل من هذا الجيل، الذي يمثل قاعدة البناء، وأنموذج تنزيل الإسلام على الواقع، ومحل التأسي، والمرتكز الحضاري.
وليس ذلك بالنسبة لعصر، أو قوم، أو جيل، أو موضع، أو وضع اجتماعي، وإنما هم جيل التأسي الخالد، المجرد عن حدود الزمان والمكان، إنهم جيل التأسي العالمي والإنساني، لأنهم حَمَلَة رسالة عالمية إنسانية خالدة، ونماذج تطبيقها، وأوعية حَمْلِها ونَقْلِها، والقاعدة البشرية الأولى، التي قامت بها: (اللهُ أَعْلَمُ حَيثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه )(الأنعام:124).
أما قضية العِصمة عن الخطأ، فالصحابة لا عِصْمَة لهم، لأنهم بَشَرٌ يجري عليهم الخطأ والصواب، بكل ما في البشرية من أبعاد، وبكـــل ما فيها من نوازع، ودوافع، وغرائز، وخصائص، وتفاوت في أقدار التدين، وفوارق فردية في النظر والاجتهاد، لذلك فلن يتأتى لأحد أن يَدَّعي العِصْمَة في القول أو العمل، أو يمنحهم خصائص وصفات الملائكة، الذين جُبِلوا على الخير وحده، وسُلِبُوا حرية الاختيار بين الخير والشر، ولم يكن للشَرِّ سبيلاً إليهم.
لقد عَمِلَ بعض الصحابة، فأخطأ في حياة الرسول صلى الله عليه و سلم فعاتبه القرآن، واجتهدوا فأصابوا وأخطأوا، ولا نزال نتخيَّر من آرائهم الفقهية الاجتهادية، في حالة اختلافهم، حيث إنهم لم يختلفوا في قضايا العقيدة.. فكم من مرة تَخَلَّى أبو بكر رضي الله عنه، عن رأيه.. وكم من مرةٍ تَخَلَّى' عُمر رضي الله عنه، عن رأيه، و(أصابت امرأة وأخطأ عُمَر).. وكم قال عثمان رضي الله عنه: (لولا عَليٌّ لهلك عثمان)، حين أراد رجم التي ولدت لستة أشهر.
ولو لم يكونوا بَشَرًا، لما استحقوا أن يكون محلاً للتأسي، وأنموذجًا يُحتذى لتنزيل الإسلام على الواقع، وتحقيق المعجزة الإسلامية من خلال عزمات البشر.. وقد نحتاج هنا إلى إعادة التذكير بقولة الإمام مالك رحمه الله، إمام دار الهجرة، بأن: (كُل إنسان يؤخذ من كلامه ويُرَدُّ إلا صاحب هذا القَبْر)، يعني الرسول صلى الله عليه و سلم، لأنه معصومٌ بالنبوةِ، مُسدَّدٌ بالوحي، ومؤيدٌ به، أما الصحابةُ فَبَشَرٌ يجري عليهم الخطأُ والصوابُ، عاشوا حياة البشر بكل ما فيها من أبعاد وحالات، حتى لنستطيع القول: بأن بشريتهم، وما نتج عنها من ممارسات واجتهادات وفوارق فردية، جاءت مستوعبة للحالات التي تمر بها الأمة الخاتمة، حتى يَرِثَ ا$ُ الأرضَ ومَن عليها، ليشكل جيل هذا القرن الذي وصف بالخيرية، المعيارية في موقع التأسي ومرجعية التطبيق.. اختلفوا واتفقوا، وتعارضوا وتوافقوا، ووصلت القناعات والاجتهادات في بعض الحالات مرحلة الاحتراب، بل احتربوا فعلاً، دفاعًا عما يعتقدونه من الحق.
لقد جمعت حياتهم أصول الحالات التي تمر بها البشرية جميعًا، والتي يمكن أن تعرض للمجتمعات البشرية، وكيفية التعامل معها، من خلال ما يؤمنون به من قيم، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه و سلم بالخيرية، لتشكل حياتُهم رؤية لكل السائرين على الطريق.
وقد يكون من المفيد أن نعرض لبعض النماذج التي ترسم لنا خطًا بيانيًا، لكينونتهم البشرية، ولمستوى أقدار التدين، وطرائق الانفعال البشري بقيم الوحي.. لكن لابد أن ننبه ابتداءً إلى قضية أساسية: وهي أن الصحابة أَوَّابُون، تَوَّابُون، قد يقعون في الهوى والخطأ والضعف، وهذا شأن بشري، لكن سرعان ما يعودون إلى الحق ويلتزمونه.
فعندما تُوفِّيَ الرسولُ صلى الله عليه و سلم، اشتدت الرَزِيَّةُ بموته، وعَظُمَ الخَطْبُ، وجَلَّ الأمرُ، وأصيب المسلمون بنبيهم، ولما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنبأ وفاته، أنكر ذلك، وقال: إنه لم يمت، وإنه سيعود كما عاد موسى لقومه، وقام يخطبُ الناسَ، ويتوعَّدُ من قال: مات، بالقتل والقطع، حتى' خرجَ أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ليقيم الأوَد، ويصدعَ بالحقِّ، ويردَّ الناسَ إلى رشدهم وصوابهم، وعُمَرُ يُكلِّمُ الناسَ، فقال له أبو بكرٍ: اجلس يا عمر! فأبى عُمَـرُ أن يجلسَ، فَتَشَـهَّد أبو بكرٍ، فأقبل الناسُ عليه، فقال: (أمَّا بَعْدُ، مَن كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فإنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، ومَن كانَ يعبُدُ اللهَ فإنَّ اللهَ حَيٌّ لا يموت)، قال الله تعـالى: (ومَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أفائن مَاتَ أو قُتِلَ انقلبتم على أعْقَابِكم ومَن يَنْقَلِبْ على عَقِبيهِ فَلَن يضرَّ اللهَ شيئًا وسيجــزي اللهُ الشاكــرين )(آل عمران:144).
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فواللهِ لكأنَّ الناسَ لم يعلموا أنَّ اللهَ أنزلَ هذه الآيةَ حتى تلاها أبو بكرٍ، فَتَلَقَّاها منه الناسُ كُلُّهُم، فما أَسْمَعُ بَشَرًا من الناسِ إلا يتلوها).. ويقول ابن المسيب: قال عمر: (واللهِ ما هو إلا أن سمعتُ أبا بكرٍ تلاها، فَعَقِرْتُ -أي دهشتُ- حتَّى ما تَقلني رِجْلاي، وحَتّى' هويتُ إلى الأرضِ )(رواه البخاري، وأحمد).
وتخلّف وتثاقل عن الذهاب إلى غزوة تبوك مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الصحابة الثلاثة (كعب بن مالك، ومُرَارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أمية الواقفي) رضي الله عنهم، وتوبتهم معروفة في مظانها من كتب السير والحديث، ولقد سجل القرآنُ هذا التخلف، لأنه حالة بشرية متكررة، ليكون خالدًا على الدهر.
كما لحق به صلى الله عليه و سلم أبو خَيْثَمَة، بعد أن تخلَّف وجلس إلى نسائه وطعامه وَمَائِهِ البارد، فأدركتْهُ حالةُ يقظة وصحوة ضمير، فاستشعر تقصيره، ولامَ نَفْسَهُ، كيف يكون بين نسائه وطعامه في ظلٍّ ظليل، والرسول صلى الله عليه و سلم يسير على رمال الصحراء اللاهبة، إلى منازلة الروم في تبوك ? فما كان منه إلا أن ركب فرسه، والتحق بالرَّكْبِ، فلما رأى الرسولُ صلى الله عليه و سلم الغبار يثور من بعيدٍ، قال: (كُنْ أبا خَيْثَمَة )، فكان القادم المجاهد الآيب، التائب، أبا خيثمة، رضي الله عنه (متفق عليه).
والصحابي ماعز رضي الله عنه وقع في الزنا، وأحس بعُقدة الذنب، ومخالفة الشرع، فأسرع للتطهر، والإقرار على نفسه، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم عنه، بعد إنفاذ العقوبة، وإقامة الحد: (لقدْ تَابَ تَوبَةً لو قُسمَتْ على أَهْلِ الأرضِ لَوَسِعَتْهُم )(رواه مسلم).
وأسامة بن زيد، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه و سلم وابْنُ حِبِّهِ، توسَّط في حَدٍّ من حُدود الله، توسط لرفع عقوبة القطع عن المرأة المخزومية التي سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلما تلوَّن وجهُ الرسولِ صلى الله عليه و سلم من فَعْلَتِهِ، وقال له مستنكرًا: (أَتَشْفَعُ في حَدٍّ مِن حُدُودِ الله ؟) قال أسامة رضي الله عنه: (استغفر لي يا رسولَ الله)(متفق عليه).
وامرأة من جُهينة، أَتَت رسولَ الله صلى الله عليه و سلم وهي حُبْلى من الزنى، فقالت: يا رسولَ الله! أصبتُ حَدًّا فأَقِمْهُ عليَّ، فلمَّا أُقيم عليها الحَدُّ، صلَّى' عليها النبيُ صلى الله عليه و سلم، فقال له عُمَر: (تُصَلِّي عليها يا رسولَ الله وقد زَنَت ؟) قال: (لقد تَابت تَوبةً لو قُسِمَتْ بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم )(رواه مسلم).
والمخزومية سَرَقَتْ، والغامدية زَنَتْ، لكن قَدَّرَ اللهُ ذلك، لأنه من طبيعة البشر، وحتى يكون وسيلة إيضاح، ومناسبات لِتَنَزُّلِ الأحكامِ وكيفيات التطبيق.
واجتهد سيفُ اللهِ خالدُ بن الوليد، رضي الله عنه، وعمل فأخطأ، فتبرأ الرسولُ صلى الله عليه و سلم من عمله.. فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: بعثَ النبيُّ صلى الله عليه و سلم خالدَ بن الوليد إلى بَنِي جَذيمَة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسِنوا أن يقولوا: أَسْلَمْنَا، فجعلوا يقولون: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فجعلَ خالد يقتُلُ منهم ويَأْسِر، ودَفَعَ إلى' كلِّ واحدٍ منا أسيرَهُ، حَتَّى إذا كان يومٌ، أمر خالدٌ أن يقْتَُلَ كُلُّ رجلٍ منَّا أسيرَهُ،فقلتُ: والله لا أقتلُ أسيري، ولا يقتلُ رجلٌ من أصحابي أسيرَهُ، حتى' قَدِمْنَا على النبي صلى الله عليه و سلم فذكرناه، فَرَفَعَ النبي صلى الله عليه و سلم يديه، فقال: (اللهمَّ إنِّي أَبْرَأُ إليكَ مما صَنَعَ خالد )مرتين(رواه البخاري).
ولا نزال نذكر موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صُلح الحُديبية، الذي بناه على اجتهاده في رؤية النتائج القريبة، وغَابَتْ عنه العواقبُ والمآلات، عندما قال للرسول صلى الله عليه و سلم مستنكرًا: أَلَسْتَ نَبِيَّ الله حقًّا ? ألسنا على الحقِّ وعَدُوُّنا على' الباطلِ ؟ فَلِمَ نُعطِي الدَّنِيَّةَ في ديننا ؟ ( رواه البخاري) ثم لما تبيَّن له الحقُّ، بقي يتوبُ ويعتذر إلى' الله بقية حياتِهِ، من مَوْقِفِهِ يومَ الحُدَيْبِية، الذي أسماه الله الفتح المبين، يقول عمر رضي الله عنه: (مازلتُ أصومُ وأُصَلِّي وأتصدَّقُ وأَعْتِقُ مِنَ الذي صنعتُ، مخافةَ كلامي، الذي تَكَلَّمْتُ به يومئذ، حتى رجوتُ أن يكون خيرًا )(رواه أحمد).
وهؤلاءِ البدريون، وهم من أكرمِ خَلْقِ الله على الله، يجادلون في الحقِّ بعدما تبين، ويَكْرَهُون الخروج للجهاد، مع رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال تعالى: (كما أَخْرَجَكَ ربُّك من بيتِك بالحقِّ، وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهـم ينظـرون )(الأنفال:5).
ويختلفون في قِسْمَةِ الغنائم يومَ بدرٍ، ويروي عُبادة بن الصامت، رضي الله عنه، ذلك فيقول: اختلفنا في غنائم بدرٍ حتى كادت تسوء أخلاقُنَا، فَنَزَعَهَا اللهُ منِّا، وَجَعَلَ أمرَ قِسْمَتِها للهِ والرسول، ونَزَلَت الآياتُ لتعيــد إصــلاح ما فََسَــــدَ من ذاتِ البَيْن، قــال تعــالى: (يسألونكَ عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتَّقُوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين * إنما المؤمنون الذين إذا ذُكِرَ الله وَجلت قلوبهم وإذا تُليت عليهم آياتُه زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون * الذي يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كـريم )(الأنفال:1-4).
وقصة الصحابي حاطب بن أبي بَلْتَعة رضي الله عنه، التي نَزَلَ فيها قُرآنٌ خَالِدٌ يُتلى على الدهر، وهو من البدريين، معروفة في مظانها من كتب السيرة والتفسير، عندما ضَعُفَ أمام حفظ العهد، وأراد عُمَرُ رضي الله عنه أن يَقْتُلَهُ جزاء فعلتِهِ، فنهاه الرسولُ صلى الله عليه و سلم قائلاً: (لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ إلى أهلِ بدرٍ فقالَ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فقد غَفَرْتُ لكم )(رواه الجماعة إلا ابن ماجه).
وهكذا فالنماذج كثيرة ويصعبُ استقصاؤها، والآيات الخالدة في القرآن تقرر ذلك وتحكيه، ليكون وسيلة إيضاح، ودليل عمل على الزمن الممتد.
لذلك أرى أن الذين يعتقدون أن نزع الصفة البشرية بكل أبعادها عن جيل الصحابة، ظنًا منهم أن هذا نوع من التقدير والتعظيم والإجلال، ويدَّعون لهم العصمة عن الخطأ، إنما يساهمون مساهمة سلبية في القطيعة المعرفية والسلوكية والتربوية، والمحاصرة لامتداد التأسي بهذا الجيل.. إنهم يحنطون الإسلام، ويطفئون شُعلتَهُ، ويميتون فاعليته، ويلغون خلوده وامتداده، ويدخلون به إلى المتاحف والمعارض، بدل المساهمة في تفعيله، وتقديم النماذج التي تثير الاقتداء، وتدلل على إمكانية التنزيل للقيم على الواقع، وتبين أن رسالة الإسلام واقعية، تتعامل مع الناس من خلال الحالات التي هم عليها، وترتقي بهم، وليست خياليةً أو مثاليةً، عَصِيَّةً عن التطبيق.. ولا أدري كيف يمكن أن يشكل محلاً لتأسي البشر، الذي يجري عليه الخطأ والزلل والصواب، مَن هو معصوم، خارج عن طبيعة البشر، وضعف البشر، وخصائص البشر؟!
وهُنا قضية أعتقد أنه من المفيد التوقف عندها قليلاً، أو على الأقل إثارتها وفتح ملفها، لعله يُغْرِي مستقبلاً بعض القادرين أو الباحثين بالمتابعة، وهي أن جيل الصحابة رضي الله عنهم، هم لَبِنَاتُ البناء، ووسائلُ الاكتمال للدين، والوصولُ به إلى مرحلة الكمال، حيث انتهت إليهم حياة الأنبياء، وأصحاب النبوات، وصُنِعَتْ بهم الصورةُ الأخيرةُ والخاتمة للنبوة.. كانوا هم محل التلقِّي لآيات الكتاب، وميدان الفعل والتجريب، ووسائل إيضاح للتطبيق.. حياتهم وتصرفاتهم هي أسباب النزول للآيات، وأسباب الورود للأحاديث، لذلك نرى أن الكثير من الآيات والأحاديث سجلاً لحياتهم، وبيانًا لخصائصهم، وتصويبًا أو إقرارًا لممارساتهم، واستنزالاً واستدعاءً لبعض الأحكام الشرعية، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما: (اللهُمَّ بَيِّن لَنَا فِي الخَمْرِ بيانًا شافيًا، فإنها مفسدةٌ للعقلِ، مضيعةٌ للمال)(رواه أحمد).
هم حلقة الاتصال بين الفكر والفعل، بين المبادئ والبرامج، بين التكاليف الإلهية والفعل البشري، ولعلنا نقول: إن آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه و سلم، سجلاً لحياتهم، وتقويمًا لمسالكهم، وإرشادًا لوجهتهم، ليكون أنموذج الفعل، وسبيل الاقتداء، وميدان التطبيق.. ولا شك عندي أن الأمر في البداية أو النهاية واقع في علم الله، وأن الله أعلم حيثُ يجعلُ رسالَتَهُ، ومَنْ هم المؤهلون ليكونوا قاعدة الرسالة الأولى، وامتلاك الخصائص والصفات التي تمكنهم من الامتداد بها ونقلها، وأن أي محاولة للتشكيك في عدالتهم، وهدم مرحلة خير القرون، تعني تطرق الشك إلى الرسالة، وأوعية نقلها، والحط من قَدْر الرسول الـمُرَبِّي صلى الله عليه و سلم.
وبإمكاننا القول: إنهم الجيل الذي استدعى الوحي بحركته، وتحقَّقَ لهم الانفعالُ به، والتحركُ وِفْقَ مَقَاصِدِهِ.. إنهم الجيلُ الذي يُمَثِّلُ أَجِنَّةَ الدعوةِ الأولى، وشَبَابَهَا، ورِجَالَهَا، وَدَعْوَتَهَا، وَدَوْلَتَهَا، وفَرْدَهَا، ومُجْتَمَعَها، جعلَ اللهُ نَصْرَهُم لها موازيًا لتأييدهِ ونصره، فقال تعالى: (هُوَ الَذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤمِنِين )(الأنفال:62)، لأنهم في المحصلة النهائية، أوعيةُ نصرِ اللهِ ووسائلُ تحقيقه.
فاللهُ أيَّدَ الرسولَ بنصرِهِ، كما أيَّدَهُ بهداية الصحابة إلى الإيمان بالله ورسوله، الأمر الذي دفعهم للجهاد وتحقيق نصر الله، من خلال حركة البشر المؤمنين.. فأي جيل أكرم من هذا الجيل ؟ إنه جيلُ الخلودِ، لأنه جسد الرسالة الخاتمة الخالدةِ.. وجيلُ الاكتمال، لأنه بهم اكتمل التشريعُ.. وجيلُ الكمالِ، لأنهم اللَّبِنَاتُ التي اكتملَ بها بناءُ النُّبوة التاريخي.
لكن المشكلة كل المشكلة، قد تكون فيما نعانيه -منذ توقف العقل والاجتهاد والامتداد المعرفي- من الارتهان الثقافي، والاستلاب الحضاري، والانشطار التربوي، فنكتب عن جيل الصحابة بشكل عام، أو عن أحد الأصحاب، أو أية دراسة أخرى، بأدوات وأنظمة معرفية ليست من إبداعنا، ولا من امتدادنا المعرفي، وليست منطلقة من قِيَمِنَا.. فالكثيرُ منا يكتبُ وهو مطبوع بثقافة فصل الدين عن الحياة، التي شكلت المناخَ الثقافي لأمتنا خلال حقبة من الزمن، الأمر الذي يتطلب الكثير من الجهد للانعتاق منه.. فإذا جاءَ أَحَدُنا يتكلَّمُ عن خصائص وصفات بعض الصحابة وعبادتهم وإيمانهم، أحسنَ الكتابةَ، لكن إذا طوى' هذه الصفحةَ، التي تخص التدين -بالمفهوم العلماني- وتحوَّل للكلام عن ممارساتهم السياسية، رسم لهم صورة كاريكاتورية من المكر والكذب والخداع والغش ونقض العهود، قد لا تليق حتى بالإنسان العادي.
ذلك أن المشكلة -فيما نرى- هي في المنهج الذي يرتهننا، ويمزِّق رؤيتَنَا، ويُعَلْمِن تفكيرَنَا، فنقع في مقاصده وأدواته، حتى ولو حاولنا في كثير من الأحيان رفع شعار مناقضته، والتنكر له.
أما بعض الباحثين، وتلامذتهم في الداخل الإسلامي، الذين تخصصوا بالنقاط السود في تاريخنا، وعلى الأخـص عصــر الـصـحــابة، فلم يبصـروا إلا ما تخصَّصُـــوا بــه، وما تهوى أنفسهم، وحاولوا توهين هذا الجيل، والحطّ من قَدْرِهِ وأدائه، والادعاء بأنه جيل الفتن، والاغتيالات، والحروب، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، فمقاصدهم قطع الأمة عن جذورها وتشويه شخصيتها التاريخية، وتركها في مَهَبِّ الرياح! فالغاية من طروحاتهم لم تعد خافية على أحد.
ومن هنا نُدرك الأبعاد الحقيقية لنهي الرسول صلى الله عليه و سلم عن سَبِّ الصحابة بقوله: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي )(رواه البخاري).
ونُدرك مخاطر مَن فهموا من ذلك العصمة لهم عن الخطأ، ورفعهم فوق مستوى البشر.. وندرك الخلط الحاصل عند مَنْ فَهِمُوا أن البحثَ في اجتهاد الصحابة، وترجيحَ بعض الاجتهادات، ورد الأخرى، هو من السبِّ المنهي عنه.. فكيف يكون ذلك، وقد خطَّأ بعضهم بعضًا، وخطَّأ بعضُهم نفسه، وتراجع عن اجتهاده ؟! لذلك نقول: إن المشكلة في استخدام مناهج (الآخر) بالدرجة الأولى، وغياب النظام المعرفي، الذي يأتي ثمرة للقيم والمبادئ الإسلامية.
وهنا أمر لابد من إيضاحه، وهو أننا بالإمكان أن نمتد بالرؤية الإسلامية، ونعديها إلى آفاق واجتهادات بحسب ظروف الزمان والمكان، لكن لا يجوز بحال من الأحوال أن تلغي هذه الاجتهادات، أو تَنْتَقِصَ ما اجتهده عمومُ الصحابة، لأنهم جيل المرجعية للفهم والتنزيل، كما أن القرآن والسنة هما محل المصدرية لتشريعات وأحكام هذا الدين.
ومن نعمة الله على هذه الأمة المسلمة -ولعل ذلك من ملامح وخصائص الخلود والخاتمية- أن جعل لها من جيل الصحابة، جيلَ خير القرون، وأن الرسول صلى الله عليه و سلم شهد له بأنه الجيل المعيار، ليكونوا جيل الشهادة على الناس، كما كان الرسولُ صلى الله عليه و سلم شهيدًا عليهم، ونهى عن سَبِّهِم، والنيل منهم، لتبقى خصائصُهم وصفاتُهم واجتهاداتهم، معالم هادية على الطريق الطويل لمسيرة الدعوة الإسلامية، وحركة الأمة الإسلامية، ويبقى فهمهم للتنزيل متميزًا، بسبب معاصرتهم له، وكونهم مادته وأدوات فعله وتنفيذه، وأوعية حِفْظِــهِ ونَقْـلِهِ، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (والذي لا إله غيرُهُ، ما نَزَلَتْ آيةٌ مِنْ كتابِ الله، إلا وأنا أعلمُ فِيمَن نَزَلَتْ، وأينَ نَزَلَتْ)(أخرجه البخاري، وابن جرير الطبري في تفسيره واللفظ له).
وفي هذه المرحلة الحرجة من حياة الأمة، أو في هذه الأزمنة الرديئة، إن صح التعبير -وقد وَصَف الله بعض الأيام بأنها نَحِسَات بسبب ما يقع فيها- والتي تجتاحنا فيها ثقافات السموم، والإفساد في الأرض، تحاول اقتلاعنا من جذورنا، وتوهين قِيَمِنا، والتشكيك بثوابتنا، والنيل من تاريخنا، وتجريح حِقبة الخيرية والمرجعية في مسيرتنا، يشتد اشتياقنا لطي مسافة الزمان والمكان، وتجاوز فترات العجز والتخاذل والوهن.. تشتد حاجتنا إلى تجديدِ العزيمةِ على الرشد، والانعتاقِ من مرحلةِ (القَصْعَة)، حيث تتداعى علينا الأُممُ، كَمَا تَدَاعَى' الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها، في محاولة للوصولِ إلى الينابيعِ الأولى في الكتاب والسنة، وأوعية الاغتراف منها، من جيل الصحابة، وأدلة التعامل معها، من سيرة أهل خير القرون.
في هذه الظروف الحرجة، يشتد اشتياقنا إلى اتِّباع أبي بكرٍ رضي الله عنه: (إنَّما أنا مُتَّبِعٌ ولستُ مبتدعًا)، وإلى اجتهاد عمر رضي الله عنه، وإلى إيمان وحياء عثمان، وإلى حِكْمة علي، وإلى فقه ابن عباس، وابن مسعود، وإلى زهدِ أبي ذَرٍّ وانعتَاقِه من الجاهليـــة، وإلى ثبــات عبد الله بن الزبير، وإلى حِنْكَة عمرو بن العاص، ومَشورة أم سلمة، وإدراك أم المؤمنين خديجة لأبعاد النبوة، وطمأنة الرسول صلى الله عليه و سلم بأنَّ الله لن يخزيه أبدًا، وإلى شجاعة عائشة، وتَوبة ماعز، وموقف السَّعْدَيْن، وذكاء نعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب، وقدرته في التعامل مع سنن المدافعة، وتوظيف التناقض، وتحقيق النصر على الأحزاب، و إلى سياسة عمر بن عبد العزيز الذي عاد بالأمة إلى ممارسات الخلافة الراشدة.
في هذه الأيام، تشتد حاجتنا إلى إعادة بناء القاعدة الصلبة للتخلص من الهشاشة والرخاوة، وإعادة بناء المرجعية للتخلص من الضياع والضلال الثقافي، وتشتد حاجتنا أكثر فأكثر إلى الاقتداء والتأسي، لأن التأسي بهذا الجيل، يعني اكتشاف سبيل التربية والمنهج وعلم الطريق، الذي يحقق لنا الانتشال من الحال التي صرنا إليها، ويمكننا من التجاوز، ويحصننا من الإصابات، ويمنحنا قدرات إضافية للتحمل والثبات على الحق، ويقدم لنا رؤىً تمكننا من التعامل مع الواقع، والانسجام مع السنن، ومدافعة قَدَرٍ بقَدَرٍ، والعودة إلى الجادة والسبيل القويم على بصيرة وهدى.. وبعد:
فهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم، عن شخصيةِ أَحَدِ الصحابة الكرام، وقادة الفتح العظام، وسفراء النبوة الأمناء، رجل المهام والتعامل مع المآزق الكبرى، الذي جمع الإخلاص والصواب، وحسبنا في ذلك شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم له بقوله: (أَسْلَمَ الناسُ وآمنَ عمرو بن العاص)(رواه أحمد)، حيث لم تَدَع هذه الشهادة استزادة لمستزيد، وقولة عمرو رضي الله عنه: (والله ما عَدَلَ بي رسولُ الله صلى الله عليه و سلم وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في أمرٍ حَزَبَهُ منذ أَسْلَمْنَا).
حيث كان الرسول صلى الله عليه و سلم يختاره دون غيره، للسفارات والمهمات الكبرى: (يا عمرو خُذ عليك ثيابك وسلاحَك، ثم ائتني )، فأتيته، فقال: (إني أُريدُ أن أبْعَثَكَ على جيشٍ فيُسَلِّمُكَ اللهُ ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة ). فقلتُ يا رسولَ الله: ما أسلمتُ من أجل المال، بل أسلمتُ رغبة في الإسلام. قال: (يا عمرو! نِعِمًا بالمالِ الصالحِ للمرءِ الصالح )(أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح).
وقد تكون المشكلة في دراساتنا التاريخية وسير الأعلام، أو الكثير منها، كما أسلفنا، أنها مرتهنة لمناهج وثقافات بعيدة عن قِيَمِنا وأصولِنا ومرجعيتِنا، ونسقنا المعرفي، لذلك جاءت في معظمها -إلا مَن رَحِمَ الله- مطبوعة، بنظرات وفلسفات غريبة عن طبيعة هذا الـدين، حيـث تـوهـم الكـثيرُ مـن البـاحثين أن تدينَ الإنســانِ وإيمـانَـهُ، لا يمنَعُهُ في مجال الحياة والسياسة، من المكر والدهاء والكذب والانتهازية، والوصولية والأثرة، لذلك تأتي الصورة أقرب ما تكون إلى الشخصية الخرافية المتناقضة.. وبهذه الرؤية والثقافة الانشطارية، شُوِّهَتْ رموزُنا، وقرئت بأبجديات مخطئة وغريبة عن مناهجنا وقيمنا، وانتقيت رويات هالكة وضعيفة ومنحازة، فلم تزدنا تلك المعارف والدراسات إلا بعثرة وارتباكًا وحيرة، وحسبنا أن نورد ما أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح إلى محمد بن سيرين، قال: (هاجت الفتنُ، وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه و سلم عشرات الألوف، فلم يحضرْها منهم مائة، بل لم يبلغوا الثلاثين)، فأين هذا الواقع، وهذه الحقيقة مما ذهب إليه القصاصون، والمؤرخون غير المحققين، والمغرضون، من التهويل والتضخيم، واعتماد الروايات الضعيفة والهالكة للنيل من جيل القدوة؟!
وعلى الرغمِ من وجودِ دراساتٍ مقدورةٍ في مجالِ التحقيقِ لموقفِ الصحابة، واعتمادِ موازين رجال الحديث في القبول والردِّ، إلاَّ أن هذه الدراسات لم تَصِل إلى مرحلة تكوين الثقافة التأصيلية والوثائقية المطلوبة.
ولعل من أبرز الشخصيات التي تعرَّضَت للتشويه والافتراءات الخاطئة، شخصية عمرو بن العاص، رضي الله عنه، الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه و سلم: (أسلمَ الناسُ وآمن عمرو بن العاص )(رواه أحمد).
وقد آثرنا في هذا الكتابِ، أن نتجاوزَ الحديثَ عنِ الفتنِ، ومقتلِ سيدنا عثمانَ رضي اللهُ عنه، لعدةِ أسبابٍ، لعل من أبرزها أن الرواياتِ التاريخيةَ لأخطرِ مرحلةٍ من حياتِنَا المرجعيةِ، لمْ تخضعْ لمعاييرِ الـمُحَدِّثِين في الجرحِ والتعديل، والقَبُولِ والرَدِّ، مما يجعل الصورةَ الدقيقةَ غائبةً، الأمر الذي سوفَ يُحْدِثُ بعضَ الاضطرابِ في الرؤية والتشويه للصورة.
والله المستعان من قبلُ ومن بَعد.