عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين الجزء الأول » الإنـســـــــان
1 ـ الـوالــي
لما أسلم عمرو، قرّبه النبي صلى الله عليه و سلم، لمعرفته، وشجاعته، وولاّه غُزاة ذات السلاسل، واستعمله على عُمان، فمات النبي صلى الله عليه و سلم، وهو أميرها، قال عمرو: بعث إليّ النبي صلى الله عليه و سلم، فقال: (خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني). فأتيته، فقال: (إني أريدُ أن أَبْعَثَك على' جيش، فَيُسَلِّمَك ا$ُ، ويُغْنِمَك، وأرغبُ لك من المال رغبةً صالحة). فقلتُ: يا رسولَ الله! ما أسلمتُ من أجل المال، بل أسلمتُ رغبةً في الإسلام. فقال: (يا عمرو! نَعِمًا بالمالِ الصالح ِللمرءِ الصالح).
وكان النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، يقول عن عمرو: (عمرو ابن العاص من صالحي قريش)، فقد أسلم عمرو وحسن إسلامه، وأخلص لدينه، وكان إيمانه راسخًا، حتى قال النبي صلى الله عليه و سلم في عمرو: (أسلم الناسُ وآمن عمرو بن العاص).
ولما قُبض رسول الله صلى الله عليه و سلم، بعثه أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، أميرًا من أمراء الشام، فشهد معارك فتح الشام في أيام أبي بكر الصديق، قائدًا وإداريًا.
وولاّه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فلسطين، والأردن، ثم كتب إليه أن يسير إلى مصر، ففتحها عمرو، فولاّه مصر، إلى أن مات عمر بن الخطاب.
لقد كان عمر، إذا استعمل عاملاً، كتب عليه كتابًا، وأشهد عليه رَهْطًا من الأنصار، أن لا يركب بِرْذَوْنًا، ولا يأكل نقيًّا، ولا يلبس رقيقًا، ولا يغلق بابه دون حاجة المسلمين.. وكان يكتب إلى أمراء الأمصار: (بأنّ لكم معاشر الولاة، حقًا على الرعيّة، ولهم مثل ذلك، فإنه ليس من حلمٍ أحبّ إلى الله، ولا أعمّ نفعًا، من حِلم إمام ورِفْقِه، وأنه ليس جهل أبغض إلى الله، ولا أعم ضررًا، من جَهْل إمام وخُرْقِه، وإنه مَنْ يطلب العافية فيمن بين ظهرانيه، يُنزل ا$ُ عليه العافيةَ من فوقه).
وكان عمر يقول: (مَن استعمل رجلاً لمودّة أو لقرابة، لا يُشغله إلاَّ ذاك، فقد خان ا$َ ورسولهَ والمؤمنين)، وكان يقول: (أيّما عامل لي ظَلَمَ أحدًا، فبلغني مظلمتُه، فلم أغيّرْها، فأنا ظلمتُه).
عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: (كنّا عند عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ جاء رجل من أهل مصر، فقال: ىا أمير المؤمنين! هذا مقام العائذ بك. قال: وما لك؟ قال: أجرى عمرو بن العاص الخيل بمصر، فأقبلت فرس لي، فلمّا ترا آها الناس، قام محمد بن عمرو فقال: فرسي، وربّ الكعبة! فلما دنا مني عرفته، فقلتُ: فرسي وربّ الكعبة! فقام يضربني بالسوط، ويقول: خذها .. خذها .. وأنا ابن الأكرمين! فوالله ما زاد عُمَرُ على' أن قال: اجلس! ثم كتب إلى عمرو: (إذا جاءك كتابي هذا، فأَقْبِل، وأَقْبِل معك بابنك محمد. فدعا عمرو ابنه فقال: أحدثت حَدَثًا؟! أَجَنَيتَ جِناية؟! قال: لا. قال: فما بَالُ عُمَر يكتب فيك ? فقدما على عُمَر، فوالله إنّا لعند عمر بـ (مِنَى)، إذ نحن بعمرو، وقد أقبل في إزارٍ ورداء، فجعل عمر يلتفت، هل يرى ابنه، فإذا هو خلف أبيه، فقال: أين المصري ? فقال: ها أنا ذا. قال: دونك الدِّرَّة، اضربْ بها ابن الأكرمين .. اضربْ بها ابن الأكرمين.. اضرب بها ابن الأكرمين.. فضربه، حتى أثخنه، ثم قال: أجِلْها على صَلْعَة عمرو، فوالله، ما ضربك إلا بفضل سلطانه. فقال: يا أمير المؤمنين! لقد ضربتُ مَن ضَرَبَني. فقال: أما والله لو ضربته، ما حُلْنَا بَيْنَك وبينه، حتى تكون أنت الذي تدعــــــــه! يا عمرو! متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أحرارًا أُمُّهُم؟؟ ثم التفت إلى المصري فقال: انصرف راشدًا، فإن رابك ريبٌ فاكتب إليّ).
بل حاسب عمر بن الخطاب عَمْرًا، وقاسمه ماله، فقد كتب إلى عمرو: (من عبدِ الله عُمَرَ بن الخطاب، إلى عمرو بن العاص. سلام عليك. أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشيةٌ من خيلٍ، وإبل، وغَنَم، وعبيد، وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال عندك، فاكتب إليَّ مِن أين أصل هذا المال، ولا تكتُمْه).
فكان جواب عمرو: (من عمرو بن العاص، إلى عبد الله عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين، يذكر فيه ما فشا لي، وأنه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي. وإني أُعْلِم أميرَ المؤمنين، أني ببلدٍ السِّعر به رخيص، وأني أُعالج من الحِرْفَة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سَعَة، وبالله لو رأيت خيانتك حلالاً، ما خُنتُك، فأَقْصِر أيها الرجل، فإن لنا أحسابًا، هي خير من العمل لك، إن رجعنا إليها، عشنــا بها، ولَعَمْـري! إن عنــدك من يَذُمّ معيشتـــه، ولا تُذَمّ له. وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين، مَنْ هو خير مني، فأنَّى كان ذلك، ولم نَفْتَح قُفْلَك، ولم نَشْرِكْك في عملك).
فكتب إليه عمر: (أما بعد، فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تُسَطِّر، ونَسْقك الكلام في غير مَرجع، وما يُغني عنك أن تُزَكِّي نَفْسَك، وقد بعثتُ إليك محمد بن مسلمة، فشاطِرْه مالك، فإنّكم أيها الأمراء جلستم على عيون المال، ثم لم يُعوزكم عُذْر، تجمعون لأبنائكم، وتُمَهِّدون لأنفسكم، أما إنّكم تجمعون العار، وتُوَرِّثون النار، والسلام).
فلما قدم عليه محمد بن مسلمة، صنع له طعامًا كثيرًا، فأبى' محمد بن مَسْلَمة أن يأكل منه شيئًا، فقال له عمرو: (اتحرِّمون طعامنا؟) فقال: (لو قَدَّمتَ إليّ طعامَ الضَّيف أكلتُه، ولكنّك قدّمتَ إليّ طعامًا هو تَقْدمة شرٍ! والله لا أشربُ عندك الماءَ، فاكتُبْ لي كُلَّ شيءٍ هو لك، ولا تكْتُمه)، فشاطره ماله بأجمعه، حتى بقيت نعلاه، فأخذ إحداهما وترك الأخرى.. وقد قاسم عمر بن الخطاب أموال كثير من عماله، ممن هو أفضل من عمرو إيمانًا وسابقة، ولم يقتصر على مقاسمة عمرو وحده.
لقد كان عمـــر بن الخطاب، إذا نظــر إلى عمـــرو يمشـــي يقـول: (ما ينبغي لأبي عبد الله أن يمشي على الأرض إلا أميرًا).
وكان عمر بن الخطاب، إذا استضعف رجلاً في رأيه وعقله، قال: (أشهد أن خالقك، وخالق عمرو واحد)، يريد خالق الأضداد.
وكان عمر بن الخطاب، إذا رأى الرجل يتلجلج، يقول: (أشهد أن خالقَ هذا وخالقَ عمرو بن العاص واحد).
ولعل في ذكر بعض إنجازاته العظيمة في مصر، ما يسوِّغ اختياره واليًا من عمر بن الخطاب على مصر، وهو المعروف بحرصه الشديد على اختيار الرجل المناسب للعمل المناسب.
فقد فتح عمرو مصر كلها، وفتح ليبيا كلها، كما ذكرنا، وليس هذا الفتح الواسع بقليل، وقد بنى' مدينة الفسطاط.. ولسبب تسمية مصر بالفسطاط أقوال كثيرة، منها: أن عَمرًا لما أراد التوجه لفتح الإسكندرية أمر بنزع فسطاطه (خيمته)، فإذا فيه يمامة قد فَرخت، فقال عمرو: (لقد تحرّم منّا بمتحرّم)، فأمر به، فأُقِرَّ كما هو، وأوصى به صاحب القصر، فلما قفل المسلمون من الإسكندرية قالوا: أين ننزل؟، قالوا: الفُسطاط -يعنون فسطاط عمرو، الذي خلّفه بمصر، مضروبًا لأجل اليمامة، فغلب عليه ذلك.
ولما رجع عمرو من الإسكندرية سنة إحدى وعشرين الهجرية، نزل موضع فسطاطه، وتنافست القبائل بعضها مع بعض في المواضع، فولَّى' عمرو معاويةَ بن حُديج وغيره على الخطط، وكانوا هم الذين نزّلوا الناس، وفصلوا بين القبائل، وذلك في سنة إحدى' وعشرين الهجرية.
كما بنى عمرو جامع عمرو بن العاص بالفُسطاط، وكان موضعه خانًا، فلما رجعوا من الإسكندرية بعد فتحها، سأل عمرو صاحبه أن يجعله مسجدًا، فقال له صاحبه: (إني أتصدّق به على المسلمين)، وسلّمه إليهم، فبُني الجامع سنة إحدى وعشرين الهجرية، وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين ذراعًا، ويقال: إنه وقف على إقامة قِبْلَتِه ثمانون رجلاً من الصحابة. ولم يكن لهذا المسجد محراب مجوّف، فجُعل له محراب مجوّف بعد عمرو. وكان للمسجد بابان يقابلان دار عمرو بن العاص، وبابان في بحريّه، وبابان في غربيّه، وكان الخارج من شارع القناديل، يجد ركن الجامع الشرقيّ محاذيًا لرُكْنِ دار عمرو الغربيّ، وكان طُولُه من القِبْلَة إلى البحريّ مثلَ طولِ دار عمرو، وسقْفُه مطأطأ جدًا، ولا صَحْنَ له، وكان الناس يصطفون بفنائه، وكان بينه وبين دار عمرو سبعة أذرع، وكان الطريق محيطًا به من جميع جوانبه، وكان عمرو قد اتخذ منبرًا، فكتب إليه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يَعْزم عليه في كسره، ويقول: (أما بحسبك أن تقوم قائمًا، والمسلمون تحت عَقِبَيْك)، فكسره عمرو.
وجعل عمرو أهل مصر، أهل ذمة، فوضع عليهم الجزية في رقابهم، والخراج في أرضهم، وكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب. فأجازه، ولم يقسم الأرض بأمر عمر، الذي كتب إليه: (أقرّها حتى يغزو منها حَبَلُ الحَبَلة).
وجمع عمرو الفَعَلة، واحتفر الخليج، الذي بحاشية الفسطاط، الذي يقال له: خليج أمير المؤمنين، فساقه من النيل إلى (القُلْزُم)، فلم يأت الحول، حتى جرت به السُّفن، فحمل فيه ما أراد من الطعام إلى المدينة ومكة، ثم لم يزل يُحمل فيه الطعام، حتى حمل فيه بعد عمر بن عبد العزيز، ثم ضيّعته الولاة بعد ذلك، فتُرِكَ وغَلب عليه الرمل، فانقطع، فصار مُنْتَهَاه إلى ذنب (التِمْساح)، من ناحية (طحا) القُلْزُم.
ولكن أهم ما أنجزه عمرو في المجالات الإدارية وغيرها،، هو إدخال العربية لغة، والإسلام دينًا، في مصر وليبيا.. وفي غير هذين القُطْرين العربيّين المسلمَيْن، مما فتح من الأقطار شرقًا وغربًا، امتدت من عُمان على الخليج العربي شرقًا إلى بلاد الشام على البحر الأبيض المتوسط غربًا، فكان فَتْحُهُ فَتْحًا مُسْتَدَامًا من أيامه الأولى'، حتى' اليوم، وسيبقى كذلك حتى' يَرِثَ ا$ُ الأرضَ ومَنْ عليها، لأنه كان فتح مبادئ، يعتمد اللغة والدين، ولم يكن استعبادًا، يعتمد السيف والقهر.
فقد أسر المسلمون في مصر من الروم والقبط، فأمر عمرو بردّهم إلى قراهم، وصيّرهم أهل ذمة، على أن يخيّروهم بين الإسلام وبين دينهم، فإن أسلم فهو من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، وإن اختار دينه فيُعاد إلى قريته.
ولما انتهى المسلمون إلى (بَلْهيب)، في طريقهم بعد فتح الإسكندية، أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو: (إني كنتُ أخرج الجزية إلى مَن هو أبغض إليّ منكم معشر العرب، لفارس والروم، فإن أحببتَ أن أعطيك الجزية، على أن ترد ما أصبتم من سبايا أرضي، فعلتُ).
وبعث إليه عمرو: (إن ورائي أميرًا لا أستطيع أن أضع أمرًا دونه، فإن شئت أن أمسك عنك، وتُمسك عني، حتى أكتب إليه بالذي عرضتَ عليّ، فإن قبل ذلك منك قبلتُ، وإن أمرني بغير ذلك مضيتُ لأمره)، فوافق صاحب الإسكندرية.
وكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب، وكان لا يُخفون على الجند كتابًا كتبوا به، يذكر له الذي عرض عليه صاحبُ الإسكندرية، وقال: (... وفي أيدينا بقايا من سَبْيهم). وجاء جواب عمر، وفيه: (أما بعد. فإنه جاء في كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض أن يعطيك الجزية، على أن تردّ عليه ما أصيب من سبايا أرضه، ولَعمري لَجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين، أحبّ إلينا من فَيءٍ يُقسم، ثم كأنه لم يكن، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية، على أن تُخيِّروا مَن في أيديكم مِن سَبْيهم، بين الإسلام، وبين دين قومه، فمن اختار منهم الإسلام، فهو من المسلمين، له ما لهم، وعليه ما عليهم، ومَنْ اختار دين قومه، وُضع عليه من الجزية ما يُوضع على أهل دينه...).
وجمع المسلمون ما بأيديهم من السبايا، واجتمعت النصارى'، فيتقدم الرّجل من السبايا، ويُخيّر بين الإسلام والنصرانية، فإذا اختار الإسلام كبّر المسلمون، ثم يضمّه المسلمون إلى صفوفهم، وإذا اختار النصرانية، نخرت النصارى، ثم حازوه إليهم، وقد كان بين السبايـا، أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، الذي اختار الإسلام، فأصبح عريف زُبَيْد، فقد عرض المسلمون عليه الإسلام، وعرض عليه النصارى النصرانية، وأبوه وأمه وإخوته في النصارى، فاختار الإسلام.
وحين حاصـر عمـرو حصـن بابليـون، أرسـل إلى حُماة الحصــن: (لا تعجِّلونا لنعذر إليكم، وترون رأيكم بعد)، فكَفُّوا أصحابهم، وأرسل إليهم عمرو: (إني بارز، فليبرز إليّ أبو مريم وأبو مريام)، فأجابوه إلى ذلك، وآمن بعضهم بعضًا، فقال لهم عمرو: (أنتما راهبا هذه البلدة، فاسمعا: إن الله عز وجل بعث محمدًا صلى الله عليه و سلم بالحق، وأمره به، وأمرنا به محمد صلى الله عليه و سلم، وأَدَّى' إلينا كل الذي أُمر به، ثم مضى صلوات الله عليه ورحمته، وقد قضى' الذي عليه، وتركنا على الواضحة، وكان ممّا أمرنا به الإعذار إلى الناس، فنحن ندعوكم إلى الإسلام، فمن أجابنا إليه فمثلنا، ومَن لم يجبنا عَرَضنا عليه الجزية، وبذلنا له المنعة، وقد أَعْلَمَنَا أنَّا مُفْتَتِحُوكُم، وأوصانا بكم حِفْظًا لرَحِمنا فيكم، وإنَّ لكم إن أجبتمونا بذلك ذمَّةً إلى ذمَّةً. ومما عهد إلينا أميرنا: استوصوا بالقِبْطِيِّين خيرًا، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوصانا بالقبطيِّين خيرًا، لأن لهم رَحمًا وذمة).. فما تمّ الفتح، أوكاد، إلا وكان من أهل مصر في جيش عمرو جنود، بلغ قسم منهم رتبة عريف على إخوانه العرب الأقحاح المسلمين.
فلا عجب أن يكون القِبط لعمرو أعوانًا، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط لفتح الإسكندرية، فعاونوا المسلمين معاونات عسكرية وإدارية، ساعدتهم على الفتح، ولم ينقض القبط ولا المقوقس الصلح، الذي عقدوه بينهم وبين الفاتحين، كما نقض الروم، لأن القبط أعجبوا بعدل المسلمين بقدر كُرههم لظلم الروم، وهذا ما يقرره المؤرخون المسلمون، والأقباط القُدامى'، ولا عبرة لادعاءات غير المنصفين من المستشرقين والمؤرخين الأجانب المحدثين، فوراء ادعاءاتهم تحيّز للنصرانية، يناقض الموضوعية وحوادث التاريخ.
والحق أن عَمْرًا أثبت كفاية إدارية فذة في ولايته لمصر، ولو كانت محاسبة عمر بن الخطاب لعمرو على المال، كما ذكرنا، لخيانة عمرو في أمانته على المال، لما أبقاه لحظة واحدة على مصر، وقد حاسب عمر بن الخطاب كل عماله أشد الحساب على المال، ومنهم مَن هو أفضل من عمرو سابقة، وتدينًا، وورعًا، وتقوى، ولكن عُمر كان يحب أن يبقى' عماله مثلاً رفيعًا في النقاء، والبعد عن الشبهات، حتى يكونوا موضع ثقة رعيتهم الكاملة المطلقة، فهو يحاسبهم حرصًا عليهم ورغبة في استكمال سيطرتهم على رعيتهم، وتبادل الثقة الكاملة المطلقة، بين الحكام والمحكومين.. والثقة المتبادلة، أهم كثيرًا من المال، وأجدى للحاكم والمحكوم.
وأقره عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على مصر أربع سنين، أو نحوها، ثم عزله عنها، وولاّها عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح العامري، فقد بويع عثمان بالخلافة، في شهر المحرّم لثلاث مضين منه، سنة أربع وعشرين الهجرية.. وعزل عثمان عن مصر عَمْرًا سنة سبع وعشرين الهجرية، فقد عُزل عمرو عن خَرَاج مصر سنة سبع وعشرين الهجرية، واستُعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، وكتب عمــرو إلى عثمــان يقـول: (إن عبد الله قد كسر عليّ مكيدة الحرب)، وكتب عبد الله بن سعد إلى عثمان: (إن عَمرًا كسر عليّ الخراج)، فعزل عثمان عمرًا، واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وَخَرَاجها.
ولم يعد إلى مصر من جديد حتى سنة ثمان وثلاثين الهجرية، فقد سيّره معاوية بن أبي سفيان إلى مصر، فاستنقذها من محمد بن أبي بكر الصديق، عامل عليّ بن أبي طالب على مصر، فاستعمله معاوية عليها إلى أن مات.
لقد عمل عمرو على مصر لعمر بن الخطاب سنتين، ولعثمان بن عفان أربع سنين إلا شهرين، ولمعاوية بن أبي سفيان سنتين إلا شهرًا، ثم مات عمرو، فانتهت بموته حياة فاتح من أعظم الفاتحين، وإداري من ألمع الإدرايين، بعد أن نهض بواجبه في الفتح والإدارة على أحسن وجه، إذ لا يمــاري أحــد في أهميـة فتوحــاته، وبقــائهـا على الدهــر، ولا يجادل عاقل في قابليته الإدارية الفذّة، وقد سجّل عمرو صفحات ناصعة في تاريخ الإسلام، فاتحًا وإداريًا، كما أن صفحاته مشرقة في سائر تواريخ الأمم الأخرى، شرقية وغربية، وقديمًا وحديثًا.
2 ـ العَـالِــم
كان عمرو، عالمًا من علماء الدين الحنيف، قدّمه في العلم -على الرغم من تأخر إسلامه- ذكاؤه، وحرصه على' التعلّم من النبي صلى الله عليه و سلم، وأصحابه العلماء، وإتقانه القراءة والكتابة، وكان إتقانهما في أيامه نادرًا في أمة تفشّت فيها الأمية، فقد كان عمرو أحد كتاب النبي صلى الله عليه و سلم.
وقد رَوى' عن النبي صلى الله عليه و سلم تسعةً وثلاثين حديثًا، أو سبعةً وثلاثين حديثًا، اتفق البخاري ومسلم على ثلاثة أحاديث، ولمسلم حديثان، وللبخاري بعض حديث، وروى عنه أبو عثمان النَّهدي، وقيس بن أبي حازم، وعروة بن الزبير، وعبد الرحمن بن شَماسة (بفتح الشين وضمّها)، كما روى عنه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص، ومولاه أبو قيس، وعلي بن رَباح اللَّخْمي، ومحمد بن كعب القُرظي، وعمارة بن خُزيمة بن ثابت، وغيرهم، وروى عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها.
وكان متفقهًا في الدين، يدل على ذلك معاملته للأسرى والسبايا، وفرضه الجزية والخراج، كما تدل على ذلك نصوص العهود، التي عقدها مع أهل البلاد المفتوحة، وبخاصة في مصر، ومعاملته أهل الذمة، وعرضه تعاليم الفتح في الإسلام: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.
وكان مجتهدًا في الدين; اجتهد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، واجتهد بعد التحاق النبي عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى.
ومن اجتهاده على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، ما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، قال عمرو: (احتلمت في ليلة باردة، شديدة البرد، فأَشْفَقْتُ إن اغْتَسَلْتُ أن أَهْلِك، فتيمَّمْتُ، ثم صليتُ بأصحابي صلاةَ الصُّبْح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم، ذكرتُ ذلك له، فقال: (ياعمرو! صليتَ بأصحابك وأنت جُنُب) فقلتُ: نعم يا رسولَ الله! إني احتلمتُ في ليلةٍ باردةٍ، شديدةٍ البَرْدِ، فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، وذكرتُ قول الله عز وجل: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا )(النساء:29)، فتيمّمتُ ثم صليت! فضحك رسولُ الله صلى الله عليه و سلم، ولم يقلْ شيئًا)، وكان ذلك في سرية ذات السلاسل، التي كان من جنودها أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم.
وكان عمرو يقول: (عَقِلْتُ عن رسولِ الله صلى الله عليه و سلم ألفَ مَثَل).
أما اجتهاد عمرو بعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، ففي سنة ثماني عشرة الهجرية، كان طاعـون عَمْواس، فلما اشتعل قام أبو عبيدة في الناس خطيبًا، فقال: ( أيها الناس إنّ هذا الوَجَع رحمةُ رَبِّكُم، ودعوةُ نَبِيِّكُم محمد صلى الله عليه و سلم، وموتُ الصالحين قَبْلَكُم، وإن أبا عبيدة، يسألُ اللهَ أن يقسم له منه حظّه)، فطُعن، فمات. واستُخلف على الناس مُعاذ بن جبل بعده، فقام خطيبًا، فقال: (أيها الناس! إنّ هذا الوَجَع رحمةُ ربكم، ودعوةُ نبيكم، وموتُ الصالحين قَبْلَكم، وإنّ معاذًا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظهم)، فطُعــن ابنه عبد الرحمن ابن معاذ، فمات، ثم قام فدعا به لنفسه، فطُعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها، ثم يُقَبِّل ظهر كفّه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيكِ شيئًا من الدنيــا)، فلما مــات; استُخـلف على الناس عمـــرو ابن العاص، فقام خطيبًا في الناس فقال: (أيها الناس! إن هذا الوجع إذا وقع، فإنما يشتعــل اشتعال النــار، فتجبَّلوا منه في الجبــال)، فقــال أبو وائلة الهُذَلي: (كَذَبْتَ، والله لقد صحبتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم، وأنت شر من حماري هذا)، قال عمرو: (والله ما أردّ عليك ما تقــول! وأيمُ الله لا نقيم عليه)، ثم خرج، وخرج الناس فتفرّقوا، ورفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمــر بن الخطاب من رأي عمــرو بن العـاص، فــوالله ما كرهه.
وقد اختلف هؤلاء الصحابة الكرام في اجتهادهم، ولكن عمر بن الخطاب أقرّ عمرًا على اجتهاده.
وقد كان عمرو يروي عن النبي صلى الله عليه و سلم، أنه قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم واجتهد، ثم أخطأ، فله أجر ).
وعن عمرو بن العاص، قال: (جاء رسولَ الله صلى الله عليه و سلم خصمان يختصمان، فقال لعمرو: (اقض بينهما يا عمرو!) فقال: أنت أولى بذلك مِني يا رسول الله! قال: (وإن كان ). قال: فإذا قضيتُ بينهما فما لي؟ قال: (إن أنت قضيتَ بينهما، فأصبتَ القضاء، فلك عَشْرُ حسنات، وإن أنت اجتهدتَ فأخطأتَ، فلك حَسَنَة). وتكليفه بالقضاء من النبيصلى الله عليه و سلم، دليل على متانته في الفقه، وذكائه، وحصافته.
وكان عمرو من أصحاب الفُتيا من الصحابة، وكفى بذلك دليلاً على علمه.
وقد وصفه رجلٌ فقال: (صحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبينَ قرآنًا، ولا أكرمَ خُلُقًا، ولا أشبهَ سريرة بعلانية منه).
لقد كان عمرو عالمًا من علماء الدين، تلقّى علمه من النبي صلى الله عليه و سلم، وكان قارئًا للقرآن الكريم، محدثًا، فقيهًا، مجتهدًا في الدين، من أصحاب الفتيا من الصحابة، ومن قضاة المسلمين الأولين.
3 ـ الكـاتـب
كان عمرو كاتبًا بليغًا، في نثره ونظمه، ولعلّ كتابه إلى عمر بن الخطاب يصف فيه مصر بعد فتحها، يُعدّ من أبلغ الرسائل، ليس في العربية فقط، بل في كل لغات العالم.
فقد كتب عمر بن الخطاب، إلى عمرو: (أنْ صِفْ لي مصر)، فكتب إليه عمرو: (ورد كتابُ أمير المؤمنين -أطال الله بقاءه- يسألني عن مصر: اعلم يا أمير المؤمنين! أن مصر قرية غَبْراء، وشجرة خضراء، طولُها شهر، وعَرْضها عَشْر، يكنُفُها جَبَل أغْبر، ورَمْل أعْفَر، يخطُّ وسَطَها نيلٌ مباركُ الغُدُوات، ميمونُ الرَّوْحات، تجري فيه الزيادة والنقصان، كجَرْي الشمس والقمر، له أوانٌ يدرُّ حِلابُهُ ، ويكثر فيه ذُبابه، تمدّه عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصْلَخَمَّ عَجَّاجُه، وتعظّمت أمواجُه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلّص من القُرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب، وخِفاف القوارب، وزَوَراق كأنهنّ في المخايل وُرْقُ الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نَكَص على عَقِبيه كأول ما بدأ في جَرْيته، وطَمَا في دِرَّته، فعند ذلك تخرج أهلُ مِلَّة محقورة، وذمّة مخفورة، يحرثون في الأرض، ويبذرون في الحَبِّ، يرجون بذلك النّماء من الرّب، لغيرهم ما سَعَوا من كدِّهم، فناله منهم بغير جِدّهم، فإذا أحدق الزرع وأشرق، سقاه النّدى، وغذاه من تحته الثّرى'، فبينما مصرُ يا أميرَ المؤمنين لؤلؤة بيضاء، إذا هي عَنْبَرة سوداء، فإذا هي زُمُرُّدة خضراء، فإذا هي ديباجة رَقْشَاء، فتبارك ا$ُ الخالق لما يشاء، والذي يُصلحُ هذه البلاد وينمّيها، ويُقرّ قاطنيها فيها، أَلاَّ يُقْبَل قول خسيسها في رئيسها، وألاَّ يُسْتَأدى خراجُ ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرْف ثلثُ ارتفاعها في عمل جسورها وتُرعها، فإذا تقرّر الحال مع العمّال على هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، واللهُ تعالى يوفّق في المبدأ والمآل). فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: (لله دَرُّك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرًا، كأني أشاهده).
وليست هذه الرسالة أبلغ رسائل عمرو، ولكنّها من أبلغها، وأمثالها من رسائله كثير.
وفي سنة ثمان وعشرين الهجرية، فتح معاوية بن أبي سفيان جزيرة (قُبْرُس) المعروفة في البحر الأبيض المتوسط، وكان معاوية قد لجّ على عمر بن الخطاب في غزو البحر، وقرب الروم من مدينةِ حِمْصٍ، وقال: (إن قرية من قرى حِمص ليسمع أهلها نُباح كلابهم، وصياح دجاجهم)، حتى كاد ذلك يأخذ بقلب عمر، فكتب إلى عمرو بن العاص: (صف لي البحر وراكبه، فإنّ نفسي تنازعني إليه)، فكتب عمرو إلى عمر: (إني رأيت خَلْقًا كبيرًا يركبه خلْقٌ صغير، إن رَكُن خَرَق القلوب، وإن تحرّك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قِلَّة، والشكّ كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غَرِق، وإن نجا بَرِق)، فلما قرأه عمر، كتب إلى معاوية: (لا والذي بعث محمدًا بالحق، لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا).
4 ـ الشاعـــر
رُويت لعمرو آثار في الشعر، تسلكه بين الشعراء، قال في يوم أُحُد، وكان يومئذ مُشركًا:
خَرَجْنا من الفَيْفَا عليهم كأنّنا
مع الصُّبْحِ من رَضْوَى الحَبِيكُ المُنَطَّقُ
تَمَنَّتْ بنو النَّجَّار جَهْلاً لقاءَنَا
لَدى جَنْبِ سَلْـعٍ والأَمانِيّ تَصْـــدُقُ
فما راعَهُمْ بالشرِّ إلا فُجَاءَةً
كرادِيْسُ خَيْـــــلٍ في الأزِقّة تَمْــــرُقُ
أرادوا لِكَيْما يَسْتَبِيْحُوا قِبَابنا
وَدُونَ القِبَــابِ اليــــــومَ ضَرْبٌ مُحَـــــرِّقُ
وكانت قِبَابًا أُومِنَــــت قَبْلَ ما تَرى
كـــــأنّ رُءوسَ الخَزْرَجِيِّيـــن غُــدْوةً
وأيمانـَهـــــم بالمَشْـــرَفيَّـــة بَــرْوَقُ
لمَّا رأيتُ الحَرْبَ يَنْزو شَرُّها بالرَّضْفِ نَــــزْوَا
تَنازَلَتْ شَهْبَاءُ تَلْحُو الناسَ بالضَّرَّاءِ لَحْـوَا
أَيْقَنْتُ أنّ المــوتَ حَـقٌ والحيــاةُ تكــونُ لَغْـــوَا
حَمَّلْتُ أثوابي على عَتَدٍ يَبُذُّ الخَيْلَ رَهْوَا
سلِسٍ إذا نَكَّبْنَ في البيداء يَعْلُو الطَّرْفَ عُلْوا
وإذا تَنَزَّلَ ماؤُهُ من عِطْفِهِ يَزْدَادُ زَهـــوا
رَبِذٍ كَيَعْفُورِ الصَّرِيمَةِ رَاعَهُ الرَّامونَ دَحْــوا
شَنِجٍ نَسَاهُ ضابِطٍ للخَيْل إِرْخَـــاءً وَعَـــدْوا
فِفِدًى لَهُمْ أُمِّي غَداة الرَّوع إذ يَمشُون قَطْوا
سَيْرًا إلى كَبْشِ الكتيبة إذْ جَلَتْهُ الشَّمْسُ جَلْوا
تَعَلَّمْ عُمَارُ أنّ من شرِّ شُبْهَةٍ
لِمِثلِكَ أنْ يُدْعى ابن عَمٍ له انتمى
لئن كُنتَ ذا بُرْدَيْنِ أحْوى مرجَّلاً
فلستَ براءٍ لابن عَمك مُحرما
ولم يَنْهَ قلبًا هائمًا حيث يَمَّما
قَضَى وَطَرًا منه وغادر سُبَّةً
شُبّتِ الحربُ فأعددتُ لها
مفرغَ الحارك مَحْبوكَ السَّبَجْ
يَصِـــــلُ الشَّـدَّ بشـــدٍّ فـــإذا
وَفَتِ الخيل من الشدِّ مَعَجْ
جُرْشَــــــعٌ أَعْظَمُــــــهُ جَفْرَتُـــــــهُ
فإذا ابتلَّ من الماءِ حَدَج
مُعاويَ لا أُعطيك دِيني ولم أَنَلْ
به منك دُنْيا فانْظُرَنْ كيف تَصْنَعُ؟
وما الدِّينُ والدنيا سواءٌ وإنّني
لآخـــذ ما تُعطــــي ورأســـــي مُقَنَّـــــــعُ
فإنْ تُعطني مِصْرًا فَأَرْبِحْ بِصَفْقةٍ
أخذتَ بها شيخًا يَضُرّ ويَنْفَعُ
وأُغْضي على أشياءَ لو شِئتُ قُلْتُها
ولو قُلْتُها لم أُبْقِ للصُّلحِ موضِعا
فإنْ كان عُودِي من نُضارٍ فإنني
لأَكْرهُ يومًا أَنْ أُحطِّمَ خِرْوَعا
تلك نماذج قليلة من شعره، تدلّ على قابليته الشعرية المتميزة، وثراء رصيده اللّغوي بالكلمات العربية الفصحى الأصيلة، ولعّله لو تفرّغ للشعر، ولم تشغله حوادث الأيام بالحرب، والسياسة، والإدارة، لكان له شأن مرموق بين الشعراء الفحول.
وكان يَروي الشعر، ويلقيه على الأسماع، حين يجد إلى ذلك سبيلاً، ومن مَنقُوله لا من مَقُوله، ما ذكره لمعاوية بن أبي سفيان، أن بكّارة الهلالية، قالت:
يا زيدُ دونك فاسْتَشِرْ من دارنا
سَيْفًا حُسَامًا في التراب دَفِينا
قد كنتُ أَذْخَرُه ليومِ كريهةٍ
فاليوم أَبْرَزَهُ الزَّمانُ مَصُونا
ومن النادر أن يقول المرء شعرًا، إلا إذا حفظ كثيرًا من الشعر ورواه.
5 ـ الخطــيب
كان عمرو خطيبًا مصقعًا، من ألمع خطباء الصحابة، رضي الله عنهم، وقد شهد أحدهم خطبة لعمرو، فقال: (رحتُ أنا ووالدي إلى صلاة الجمعة تهجيرًا، وذلك آخر الشتاء بعد حَميم النصارى بأيام يسيرة، فأطلنا الركوع، إذ أقبل رجال بأيديهم السِّياط، يزجرون الناس، فَذُعِرْتُ! فقلت: يا أبتِ! مَن هؤلاء؟! فقال: يا بُنيّ! هؤلاء الشُّرَط. فأقام المؤذنون الصلاة، فقام عمرو بن العاص على المنبر، فرأيت رجلاً رَبْعَةً، قصير القامة، وافر الهامة، أَدْعَج، أَبْلَج، عليه ثياب موشِيّة، كأن به العِقْيَان يأتلق، عليه حُلَّة وعمامة وجُبَّة، فحمد الله وأثنى عليه حمدًا موجزًا، وصلى على النبي صلى الله عليه و سلم، ووعظ الناس، وأمرهم ونهاهم، فسمعته يحضّ على الزكاة، وصِلَة الأرحام، ويأمر بالاقتصاد، وينهى عن الفُضول، وكثرة العيال، وقال في ذلك: (يا معشر الناس! إياكم وخلالاً أربعة، فإنها تدعو إلى النَّصَب بعد الراحة، وإلى الضيق بعد السَّعة، وإلى المذلّة بعد العزة، إياكم وكثرة العيال، وإخفاض الحال، وتضييع المال، والقِيل بعد القــال، في غيــر دَرَك ولا نوال، ثم إنّه لابد من فراغ يؤول إلىه المرء في توديع جسمه، والتدبير لشأنه، وتخليته بين نفسه وبين شهواتها، ومَن صار إلى ذلك، فليأخذ بالقَصْد والنّصيب الأقل، ولا يُضيع المرء في فراغه نصيب العلم من نفسه، فيحُور من الخير عاطلاً، وعن حلال الله وحرامه غافلاً.
والذي يقرأ هذا الخطاب بإمعان، يتلمس بالإضافة إلى بلاغته وبيانه المشرق، وإيجازه، ووضوح مقاصده، اهتمام عمرو برعيّته، وتوجيههم إلى الصلاح والخير، واهتمامه بالناحيتين الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، فهو بحق رجل دولة بكل معنى الكلمة، يأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويشعر بمسؤولياته في توجيههم، توجيهًا سليمًا، يفيدهم في دنياهم وآخرتهم.
ومن نماذج خطبه في الحرب، خطبته في صِفِّين، فقد أراد معاوية ابن أبي سفيان أن يخطب بصِفِّين، فقال له عمرو: (دعني أتكلم، فإن أتيتُ على ما تريد، وإلا كنتَ من وراء ذلك)، فأذن له، وتكلّم عمرو بكلمات، قال: (قدِّموا المُسْتَلْئِمَة، وأخِّروا الحُسَّر.. كونوا مِقَصَّ الشَّارب.. أعيرونا أيديكم ساعة.. قد بلغ الحقُّ مَفْصِلَهُ، إنما هو ظالم، أو مظلوم).
ولا أعرف خطابًا في مثل هذا الموقف، أوضح بيانًا، وأجزل عبارة، وأوجز كلامًا، وأصحّ منطقًا، مثل هذا الخطاب، الذي اختصر به تعبية الميدان بكلمات معدودات.
6 ـ الداهيـــة
كان الإمام الشعبي رحمه الله يقول: دُهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمُغيرة بن شُعبة، وزياد. فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهة، وأما زياد فللكبير والصغير).
وقالوا: (الدُّهاة أربعة: معاوية للرَّوِيَّّة، وعمرو بن العاص للبديهة، والمغيرة للمُعضلات، وزياد لكل صغيرة وكبيرة).
وكان من دهائه، دخوله على الأرطبون، وتخلّصه منه، بعد أن انكشف أمره للأرطبون، فلما سمع عمر بن الخطاب بخديعة عمرو للأرطبون، قال: (لله دَرُّ عمرو)، كما قال عنه الأرطبون: (هذا أدهى الخَلْق).
ولما فتح عمرو قيسارية من أرض فلسطين، سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عِلْجُها: (أن ابعث إليّ رجلاً أكلمه)، وفكّر عمرو، فقال: (ما لهذا أحد غيري).
وخرج عمرو، حتى دخل على العِلْج، فكلّمه، فسمع كلامًا لم يسمع قط مثله، فقال العِلْج: (حدِّثني، هل في أصحابك أحد مثلك؟! قال: (لا تسأل عن هذا، إنّي هيّن عليهم، إذ بعثوا بي إليك، وعرّضوني لما عرّضوني له، ولا يَدْرون ما تصنع بي!) فأمر له بجائزة وكُسْوة، وبعث إلى البوّاب: (إذا مرّ بك، فاضرب عُنُقَه، وخذ ما معه).
وخرج عمرو من عنده، فمرّ برجل من نصارى غَسَّان، فعَرفه، فقال: (يا عمرو! قد أحسنت الدّخول، فأحسن الخروج).. ففطن عمرو لما أراده، فرجع، وقال له الملك: (ما ردّك إلينا) فقال: (نظرت فيما أعطيتني، فلم أجد ذلك يَسع بني عمّي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم، تعطيهم هذه العَطِية، فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد)، فقال: (صدقت! اعْجَل بهم)، وبعث إلى' البوّاب: (أن خلِّ سبيله)، وخرج عمرو، وهو يلتفت، حتى إذا أَمِــنَ، قــال: (لا عُدْتُ لمثلها أبدًا).. فلما صالحه عمرو، ودخل عليه العِلْج، قال له:(أنت هو!!) قال: (نعم، على ما كان من غَدْرك).
وكرّر عمرو هذه العملية مرة ثالثة في أيام فتح مصر، فحين استعصى عليه فتح حِصن بابليون، أقدم على دخول الحصن، ودخل على صاحبه، فتناظرا في شيء مما هم فيه، فقال عمرو: (أَخْرُجُ أستشير أصحابي).
وكان صاحب الحِصن أوصى الذي على الباب، إذا مَرَّ به عمرو، أن يُلْقي عليه صخرة فيقتله، فمرّ عمرو وهو يريد الخروج برجل من العرب، فقال له: (قد دخلت، فانظر كيف تخرج).
ورجع عمرو إلى صاحب الحصن، فقال له:(إني أريد أن آتيك بنفرٍ من أصحابي، حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعتُ)، فقال العِلْج في نفسه: (قَتْلُ جماعة أحبّ إليّ من قَتْلِ واحد)، فأرسل إلى الذي كان أَمَرَهُ بما أَمَرَهُ من قتل عمرو: (ألا تَعْرِضْ له)، رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم.
وخرج عمرو، وتخلّص من موتٍ أكيدٍ بِدَهَائه.
ومهما قيل في إثبات هذه المحاولات الثلاث، أو نفيها، فإنها تدل على ما عُرف عنه من دهاء، إذ لم تنسب مثل هذه الحالات لغيره من القادة والولاة.
وخطب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أم كُلثوم ابنة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فقالت أم كلثوم: (لا حاجة لي فيه، إنّه خَشِنُ العيش، شديد على النساء)، وأرسلت عائشةُ أم المؤمنين إلى عمرو، فقال: (أنا أكفيك).
وأتــى' عُمَـــرَ، فقــــال: (بلغنـــي خبــر أعيــــذك بالله منه)، قــال: (ما هو؟!) قال: (خطبتَ أُمَّ كلثوم بنت أبي بكر قال: (نعم أفرغبتَ بي عنها، أم رغبت بها عني؟!) قال: (ولا واحدة، ولكنها حَدَثَة نشأت تحت كَنف أمير المؤمنين في لينٍ ورفق، وفيك غِلـظة، ونحن نَهَابُك، وما نقدر أن نردَّك عن خُلُق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء، فسطوتَ بها، كنتَ قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحقّ عليك)، فقال: (وكيف بعائشة، وقد كلّمتها) قال: (أنا لك بها، وأدلّك على خيرٍ منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، تعلق بها بسبب من رسول الله صلى الله عليه و سلم)، وهكذا حقَّقَ رغبةَ أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق بدهائه، من غير أن يزعج عمر بن الخطاب.
وقد قال معاوية بن أبي سفيان يومًا لعمرو: (ما بلغ عقلك؟)، فقال: (ما دخلتُ في شيء قط إلا خرجتُ منه)، وفي رواية أنه قال: (لم أدخل في أمر قطّ، فكرهته، إلا خرجتُ منه)، وكان يقول: (ليس العاقل، الذي يعرف الخير من الشر، ولكنّه الذي يعرف خير الشرّين).
لقد كان عمرو بحق: أحد الدُّهاة المقدّمين في المكر والرأي، وكان من شجعان العرب، وأبطالهم، ودُهاتهم.
7 ـ الحكيــــم
الحِكمة هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، وهي العلم والتفقه، وفي التنزيل العزيز: (ولقد آتينا لُقْمانَ الحِكمة )(لقمان:12)، وهي الكلام الذي يَقِلُّ لفظه، وَيَجِلُّ معناه.. والحكيم هو ذو الحِكْمة.
وقد كان عمرو حكيمًا حقًا في أقواله وتصرفاته.
ومن أقواله الحكيمة: (لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل)(1).
وقيل لعمرو: ما العَقْل ? ، فقال: (الإصابة بالظن، ومعرفة ما يكون بما قد كان)(2).
وقال: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، إنما العاقل الذي يعرف خير الشرين)(3).
وكان يقول: (اعمل لدُنياك عَمل من يعيش أبدًا، واعمل لآخرتك عمل من يموت غدًا)(4).
وقال: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)(1).
وسمع عمرو رجلاً يقول: (الرُّجلة(2) قطعة من العذاب)، فقال له: (لم تُحْسن، بل العذاب قطعة من الرُّجْلة)(3).
وكان يقول: (ثلاثة لا أناة فيهن: المبادرة بالعمل الصالح، ودفن الميِّت، وتزويج الكُفء)(4).
وكان يقول: (ثلاثة لا أَمَلُّهم: جليــسي ما فَهِـــمَ عني، ودابَّتــــي ما حملت رحلي، وثوبي ما سترني) وزاد آخر: (وامرأتي ما أحسنت عِشْرتي)(5).
وقال معاوية بن أبي سفيان لعمرو: (ما بقي من لذَّة الدنيا تلذُّه ?) قال: (محادثة أهل العلم، وخبرٌ صالح يأتيني من ضَيْعتي)(6).
وكان يقول: (ما استودعتُ رجلاً سِرًا، فأفشاه، فلُمْته، لأني كنت أضيق صدرًا منه، حين استودعته إياه، حتى أفشاه)(7).
وقال عمرو: (أكثروا الطعام، فوالله ما بَطُنَ(8) قوم قط، إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عَزْمَةُ رجلٍ بات بطينًا)(1).
وقد ذكرنا أن خَصْمَين جاءا النبيَ صلى الله عليه و سلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه و سلم: (اقضِِ بينهما يا عمرو!)(2)
وكان بين طَلْحة بن عُبيد الله (3)، والزبير بن العوام، مداراة في وادٍ بالمدينة، فقالا: (نجعل بيننا عمرو بن العاص)، فأتياه، فقال لهما: (أنتما في فضلكما، وقديم سوابقكما، ونعمة الله عليكما، تختلفان! وقد سمعتما من رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل ما سمعتُ، وحضرتما من قوله مِثْل الذي حضرتُ، فيمن اقتطع شِبرًا من أرض أخيه بغير حق، أنه يطوّقه من سبع أرضين! والحَكَم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه، وذلك لأن الحَكَم إذا جار رُزئ دينُه، والمحكوم عليه إذا جِير عليه، رُزئ عَرَض الدنيا. إن شئتما فأدليا بحجتكما، وإن شئتما فأصلحا ذات بينكما)، فاصطلحا، وأعطى كلُّ واحدٍ منهما صاحبه الرضا(4).
وهكذا يقضي عمرو بين الخصوم، من دون أن يقضي، فيحلّ المشاكل بينهم والمعضلات، ويزيل مِن بينهم سوءَ التفاهم والخلافات، بأسلوب من الحكمة فريد.
وقال يومًا لمعاوية: (إنَّ الكريمَ يَصُولُ إذا جَاع، واللئيمَ يَصُولُ إذا شَبِع، فَسُدَّ خَصَاصَةَ (حاجة) الكريمِ، واقمع اللئيم).
وقال معاوية لعمرو: (مَن أبلغ الناس ؟) قال: (مَن كان رَأْيُهُ ردًّا لهواه)، فقال: (مَن أسخى الناس ؟) فقال: (مَن بَذَلَ دُنْيَاهُ في صلاح دينه)، قال: (مَنْ أَشْجَعُ النَّاس ؟) قال: (مَن ردَّ جَهْلَهُ بِحِلْمِه).
ومن غُرر أقواله: (مَوتُ أَلْفٍ من العِلْيَةِ، أَقَلُّ ضَرَرًا من ارتفاعِ واحدٍ مِنَ السّفلة).
وقال: (إذا أنا أفشيتُ سِرِّي إلى صديقي، فأذاعه فهو في حلٍّ)، فقيل له: وكيف ذلك ?! فقال: (أنا كنت أحق بصيانته).
وما أصدق جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، في قوله: (صحبتُ عمر بن الخطاب، فما رأيت أقرأ لكتاب الله منه، ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مداراةً منه. وصحبتُ طلحة بن عبيد الله، فما رأيتُ رجلاً أعطى للجزيل منه من غير مسألة. وصحبتُ معاوية، فما رأيتُ رجلاً أحلم منه، وصحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبين، أو قال: أنصعَ ظرفًا منه، ولا أكرم جليسًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، وصحبتُ المغيرة بن شُعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب، لا يُخْرَجُ منها إلا بمكر، لخرج من أبوابها كلّها).
وقد ذكرنا من أقواله الحكيمة، وتصرفاته المتزنة، وأفكاره الحصيفة، عند الحديث على دهائه، فالتفريق بين الداهية والحكيم بالنسبة لعمرو وأضرابه صعب، وقد فرّقت بينهما لغرض إلقاء الضوء على شخصيته العمليّة الناضجة، لا لغرض الفصل بين الخصلتين اللتين هما من خصال عمرو في حياته العملية، فهو حكيم داهية، أو داهية حكيم، أو هو حكيم لأنه داهية، وداهية لأنه حكيم: فقد كان من أدهى العرب، وأحسنهم رأيًا وتدبيرًا .
8 ـ الرّجل
مفتاح شخصية عمرو، أنه كان يستعرض جوانب (القوة) دائمًا، ويوازن بين ما لدى أعدائه وأصحابه على حد سواء من (القُدرة) موازنة طويلة، حتى لا يخفى عليه منها وجه من وجوه الرأي، فقد كان رجلاً يتقن الحساب، ويجيد المساومة... يقف ساكنًا، ويفكر طويلاً، ثم يساوم في حرص.
وكان متواضعًا، يعرف الحق لأهله، فقد دخل عمرو مكة المكرمة، فرأى قومًا من قريش، قد تحلّقوا حَلقة، فلما رأوه، رموا بأبصارهم إليه، فعدل إليهم، وقال: (أحسبكم كنتم في شيء من ذِكْري)، قالوا: أجل! كُنا نُماثل بينك وبين أخيك هشام، أيكما أفضل، فقال عمرو: (إنّ لهشام عليّ أربعة: أمّه ابنة هشام بن المغيرة، وأمّي مَن قد عرفتم، وكان أحبَ الناس إلى أبيه مني، وقد عرفتم معرفة الوالد بالولد، وأسْلَم قبلي، واستُشهد وبَقيتُ).
وقالوا لعمرو: أنت خير، أم أخوك هشام بن العاص ؟ ، قال: (أخبركم عنّي وعنه، عرضنا أنفسنا على الله، فقَبِله، وتركني). وقد استشهد هشام في أجْنادين.
وكان يعتزّ بنفسه وبكرامته، فقد كتب عمر بن الخطاب، وهو على مصر ، يسأله فيه عن أصل المال الذي جمعه، فغضب عمرو، وكان مما أجاب به: (... والله لو كانت خيانتك حلالاً ما خنتك، وقد ائتمنتني، فإنّ لنا أحسابًا، إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك).
أما مع معاوية بن أبي سفيان، فكان يرى نفسه لمعاوية ندًا، فقد قال عمرو يومًا لمعاوية: (والله، ما أدري يا أمير المؤمنين، أشجاع أنت أم جبان ؟) فقال معاوية:
شُـجــــاعٌ إذا مــا أمكـنَـتْـنِي فـرصـــــــةٌ
وإن لم تكـن لي فُرصـــــةٌ فَجَبـــانُ
واجتمع عمرو مع معاوية مرّة فقال له معاوية: (مَن الناس ؟) فقال: (أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد)، فقال معاوية: (كيف ذلك ؟) ، قال عمرو: (أما أنت فللتأنّي، وأما أنا فللبديهة، وأما المغيرة فللمعضلات، وأما زياد فللصغير والكبير). قال معاوية: (أما ذانك، فقد غابا، فهاتِ بديهتك يا عمرو!) قال: (وتريد ذلك ؟) قال: (نعم)، قال: (فأَخْرِجْ مَن عندك)، فأخرجهم معاوية! فقال عمـــرو: (يا أمير المؤمنين! أُسارّك!) فأدنى معاوية رأسَه منه، فقال عمرو: (هذا من ذاك! مَن معنا في البيت حتى أسارك!!)
وكانَ إداريًا عادلاً، تحبَّبَ إلى' سكان البلاد، وردَّ إليهم حقوقَهم الـمُغْتَصَبَة، وقطعَ دابرَ ما كان يثيرُ تذمُّرَهم، وأبقى أرضَهُم على حالها، لم يقسمها بين الفاتحين من المسلمين، وحَرِصَ على رفاهيةِ السكان، وعدم إرهاقهم بالضرائب، فقد جبى خَرَاجَ مصرَ وجزيتها ألفي ألف، وجباها خلفه عبدُ الله بن سعد بن أبي سَرح أربعة آلف ألف، فقال عثمان لعمرو: (إنَّ اللّقاح بمصر بعدك درَّت ألبانها)، فقال عمرو: (ذاك لأنكم أعجفتم أولادها)، فأصبح أهل مصر في أيامه آمنين، على أموالِهم، ودمائهم، ونسائهم، وأولادهم، لا يُباع منهم أحد، وفَرَضَ عليهم خراجًا لا يُزاد عليهم، على أن يدفع عنهم خوف عدوهم، ونفَّذَ فيهم وصية النبي صلى الله عليه و سلم: (إذا فتحتمْ مصر فاستوصوا بالقِبْطِ خيرًا، فإنَّ لهم ذمَّة وَرَحِمًا).
وكان عمرو رَبْعَة، قصير القامة، وافر الهامة، أَدْعَج، أَبْلَج، يخضب بالسّواد، ويهتم بملبسه، ومسكنه، ومأكله.
وأخو عمرو هو هشام، الذي استشهد يوم أجنادين، وكان صحابيًا، ولا عقب له، وأمّه: أم حَرْملة بنت هشام بن المغيرة المخزومي، وكان هشام قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة في المرة الثانية، ثم قدم مكة للهجرة إلى المدينة، فحبسه أبوه، فلم يزل محبوسًا بمكة، حتى مات أبوه في آخر السنة الأولى من الهجرة، ثمّ حبسه قومه بعد أبيه، فلم يزل يحتال، حتى تخلّص وقدم على النبي صلى الله عليه و سلم بعد الخندق، وجاهد حتى قُتل بالشام، وكان أصغر سنًا من أخيه عمرو، وكان يُكنى أبا العاص، فكنّاه رسول الله صلى الله عليه و سلم: أبا مُطِيع.
وإخوة عمرو لأمه: عُروة بن أبي أُثاثة العَدَوي، وأَرْنَب بنت عفيف بن العاص، وعُقْبة بن نافع بن عَبد القيس بن لَقِيط، من بني الحارث بن فِهْر القُرشي.
وَلَدُ عمرو بن العاص: عبدُ الله بن عمرو، صحب رسول الله صلى الله عليه و سلم، وروى عنه الحديث، وكان يصوم الدهر، ويقوم الليل، فبلــغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال له: (صُم وأفطر، وصَلِّ ونَمْ). وأمّه: رَيْطة بنت مُنَبِّه بن الحجاج بن عامر، وعبد الله من فضلاء الصحابة، وله بالوَهط(6) ومكة عَقِب كثير، يناهزون المائة.
وولد عمرو أيضًا: محمد بن عمرو بن العاص، لا عَقِبَ له، وأمّه من بَلِيّ.
وتزوّج عمرو: أم كلثوم بنت عُقبة بن أبي مُعيط، وكانت من المهاجرات، فتزوّجها الزبيـــر بن العــــوام، فطلّقها، فتزوّجهـــــــا بعـــده عبد الرحمن بن عوف، فلما مات عنها، تزوّجها عمرو بن العاص.
وتزوّج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نُفيل بن عبد العُزَّى، التي تزوجها بعد عُبيدة بن الحارث بن المطلب، ثم عبد الله بن أبي بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم محمد بن أبي بكر، فقُتل عنها بمصر، فتزوجها عمرو بن العاص.
وكانت رَيْطَة أم عبد الله بن عمرو بن العاص زوجته أيضًا كما ذكرنا.
وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب نديمًا لعمرو بن العاص في الجاهلية، مما يدل على أنه كان من الشخصيات البارزة قبل الإسلام.
وأخيرًا داهم الموتُ هذا الداهية، بعد أن ملأ صفحات التاريخ بأعماله المجيدة، وترك آثارًا باقية على الدهر، وبخاصة في الفتوح.
فقد مَرِض مَرَض موتِه، سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فاشتدّ عليه المرض، وكان من النادر أن يزوره المرض، لاهتمامه الشديد بصحته وعافيته، وعنايته الكبيرة بهما، فهو مثلاً، لا يغتسل من الجنابة، إذا خشي الضرر من البرد بل يصلي متيممًا، كما فعل وهو قائد غزوة ذات السلاسل، ولا يخرج إلى صلاة الجماعة، وهو أمير، إذا كان متوَعِّكًا، بل يؤم الناس وكيله، كما فعل في صلاة الصبح من يوم محاولة اغتياله.
ولا نصّ في المصادر المعتمدة عن سبب مرضه الأخير، ويبدو أنه مرض الشيخوخة، إذ كان قد بلغ من الكِبَر عتيًا.
وقد قيل لعمرو في مرضه: (كيف تَجدك ؟) قال: (أجـــدني أذوب ولا أثوب، وأجد نَجْوِي أكثر من رُزْئي، فما بقاء الشيخ على هذا).
ولما حضرت عمرو الوفاة، دمعت عيناه، فقال عبد الله بن عمرو: (يا أبا عبد الله! أجَزَعٌ من الموت، يحملك على هذا ؟) فقـــال: (لا! ولكن مما بعد الموت).
ودخل عبد الله بن العباس، على عمرو وهو مريض، فقال: (كيف أصبحتَ ؟) قال: (أصبحتُ وقد أصلحتُ من دنياي قليلاً، وأفسدت من ديني كثيرًا، فلو كان ما أصلحتُ هو ما أفسدتُ لفُزتُ، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبتُ، ولو كان يُنْجيني أن أهرُب لهربتُ، فعِظْني بموعظةٍ، أنتفع بها، يا ابن أخي!) فقال: (هيهات يا أبا عبد الله!) فقال: (اللهم إنّ ابن عباس يُقْنِطُني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى).
وكان عمرو يقول: (عَجَبًا لمن نزل به المــــوت، وعقـله معــــــه، كيف لا يصفه) فلما نزل به، قال له ابنه عبد الله: (يا أبتِ إنّك كنت تقول: عجبًا لمن نزل به الموت، وعقله معه، كيف لا يصفه؟ فصِفْ لنا الموت، وعقلك معك)، فقال: (يا بُني! الموتُ أجلّ من أن يُوصف، ولكني سأصف لك منه شيئًا: أجدني كأنّ على عنقي جبال رَضْوَى، وأجدني كأن في جوفي شوكُ السُّلاَّء، وأجدني كأن نَفَسي يخرج من ثَقْب إبرة).
ولما كان عمرو عند الموت، دعا حَرَسه فقال: (أيُّ صاحبٍ كنتُ لكم ؟) قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْق، تُكرمنا، وتعطينا، وتفعل وتفعل، قال: (فإني إنما كنتُ أفعل ذلك لتمنعوني من الموت، وإن الموتَ ها هو ذا، قد نزل بي، فأغنوه عني)، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: والله! ما كنّا نَحْسَبُك تكلَّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبدِ الله، قد علمتَ أنا لا نُغني عنك من الموت شيئًا، فقال:(أما والله! لقد قُلْتُها، وإني لأعلمُ أنكم لا تُغنون عني من الموت شيئًا، ولكن والله لأَن أكون لم أتخذْ منكم رجلاً قطُّ يمنعني من الموت، أحبّ إليّ من كذا وكذا)... ثم قال: (اللهمّ لا بَريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، وإلا تدْركني برحمة أكن من الهالكين).
ولما احتضر جمع بنيه، فقال: (يا بَنِيّ! ما تغنون عني من أمر الله شيئًا ?) قالوا: يا أبانا، إنه الموت، ولو كان غيره لوقيناك بأنفسنا، فقال: (أسندوني)، فأسندوه، ثم قال: (اللهم إنّك أمرتني فلم أَأْتمر، وزجرتني فلم أزدجر، اللهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريء فأعتـــذر، ولا مستكبر بل مستغفر، أستغفرك وأتوب إليك، لا إله إلا أنت إني كنت من الظالمين).
وذكر عبد الله بن عمرو، أن أباه أوصاه، قال: (يا بُنيّ! إذا مِتُّ فاغسلني غَسلة بالماء، ثم جَفِّفني في ثوب، ثم اغسلني الثانية بماء قراح، ثم جَفّفني في ثوب، ثم اغسلني الثالثة بماء فيه شيء من كافور، ثم جفِّفني في ثوب، ثم إذا ألبستني الثياب، فأزِرَّ عليّ فإني مخاصم، ثم إذا أنت حملتني على السرير، فامشِ بي مشيًا بين المِشْيَتَيْن، وكَن خلفَ الجِنازة، فإنّ مُقدّمها للملائكة، وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتني في القبر، فَسُنّ عليّ التُراب سَنًّا)، ثم قال: (اللهمّ أمرتنا فركبْنا، ونهيتنا فأَضَعْنا، فلا بريء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكـــن لا إله إلا الله)، وما زال يقولها حتى مات.
وذرفت عيناه، فبكى، فقال له ابنه عبد الله: (يا أبت! ما كنتُ أخشى أن ينزل بك أمر من أمر الله، إلا صبرتَ عليه)، فقال: (يا بُنيّ! إنه نَزل بأبيك خلال ثلاث: أما أولاهنّ: فانقطاع عمله، وأما الثانية: فهَوْل المُطَّلَع، وأما الثالثة: ففراق الأحبة، وهي أيسرهنّ. اللهمّ أمرتَ فتوانيتُ، ونهيتَ فعصيتُ، اللهم فمِن شِيَمِك العفو والتجاوز).
وذكــر شهـود عيـان، شهـدوا احتضـار عمـرو، فـذكـر أحـدُهم ما رأى، فقال: (حضرنا عمرو بن العاص، وهو في سياقة الموت، فحوّل وجهه إلى الحائط، يبكي طويلاً، وابنه يقول له: ما يُبْكيك ؟ أما بشّرك رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا، أما بشّرك بكذا، وهو في ذلك يبكي، ووجهه إلى الحائط، ثم أقبل بوجهه إلينا فقال:(إنّ أفضل مما تَعُدّ عليّ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولكنني كنتُ على أطباق ثلاث: قد رأيتني ما من الناس من أحد أبغض إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أحب إليّ من أن أستمكن منه، فأقتله، ولو متُّ على تلك الطبقة، لكنتُ من أهل النار، ثم جعل ا$ُ الإسلام في قلبي، فأتيت رسولَ الله صلى الله عليه و سلم لأبايعه، فقلتُ: ابسط يمينك أبايعك يا رسول الله! فبسط يده، ثم إني قبضت يدي، فقال: (مالك يا عمرو ؟) فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: (تشترط ماذا ?) فقلتُ: أشترط أن يُغفر لي، فقال: (أما علمتَ يا عمرو، أن الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله، وأن الهجرةَ تَهْدِمُ ما كان قبلها، وأن الحجَّ يهدمُ ما كان قبله ؟) فقد رأيتنـــي، ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئلتُ أن أنْعَتَه، ما أطقتُ، لأني لم أكن أطيق أن أملأ عيني إجلالاً له، فلو مِتُ على تلك الطبقة، رجوتُ أن أكون من أهل الجنة. ثم ّ ولينا أشياء بعدُ، فلستُ أدري ما أنا فيها، أو ما حالي فيها، فإذا أنا متُ، فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسُنّوا عليّ التراب سَنًّا، فإذا فرغتم من قبري، فامكثوا عند قبري قدر ما يُنْحَرُ جَزور، ويُقْسَم لحمها، فإني أستأنس بكم، حتى أعلم ماذا أراجع به رُسلَ ربي).
وقال عمرو: (فوالله إني إن كنتُ لأشدّ الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ما ملأت عيني منه، ولا راجعته بما أريد، حتى لحق بالله، حياءً منه).
وعن عبد الله بن عمرو، أن أباه قال: (اللهم أمرتَ بأمورٍ، ونهيتَ عن أمور، فتركنا كثيرًا مما أمرت به، ووقعنا في كثير مما نهيت ، اللهم لا إله إلا أنت)، ثم أخذ بإبهامه، فلم يزل يُهلّل حتى تُوفي.
وكانت وفاة عمرو ليلة عيد الفطر، سنة ثلاث وأربعين الهجرية (664م) في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وقيل: توفي سنة ثنتين وأربعين الهجرية، وقيل: أربع وأربعين الهجرية، وقيل: إحدى وخمسين الهجرية، والأول أصح، لإجماع المصادر المعتمدة عليه دون استثناء.
ودُفن عمرو بجبل (المُقَطَّم) من ناحية (الفَجِّ)، وكان طريق النّاس يومئذ إلى الحجاز، وقد غَسَّلَه ابنهُ ُعبد الله بن عمرو ، ثم أخرجه حين صلّى الصبح، فوضعه بالمُصلّى في جامع عمرو، ثم جلس. حتى إذا رأى الناس قد انقطعوا من الطُرُق: الرجال والنساء، قام فصلّى عليه، ولم يبقَ أحد شهد العيد إلا صلى عليه، ثم صلّى العيد بالناس، وكان أبوه استخلفه على صلاة مصر وخراجها.
وقبل أن يُصَلِّي عبدُ الله بن عمـرو على أبيـه عمــــرو، قــال: (والله! ما أحب أن لي بأبي، أبا رجل من العرب، وما أحبّ أن الله يعلم أن عيني دمعت عليه جزعًا، وأنّ لي حُمْر النَّعَم)، ثم كبَّرللصلاة على الميت.
وليس من شك، أن عمرًا، كان يتمتع بمزايا متميّزة، تجعله في صفوف البارزين في تاريخ الشعوب، والباقين في أقوالهم وأعمالهم من ذوي المواهب الفذّة والعقول الرّاجحة.
وقد أنصف عمرو نفسه، حين قسّم حياته إلى ثلاثة أدوار: دور الجاهلية، ودور الإسلام، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، والشيخين أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، والصّدر الأول من عهد عثمان بن عفان. ودور الإسلام بعد عزله عن مِصْر، في أيام عثمان حتى توفّاه الله.
وأرى أن شعور عمرو بالحزن، والأسى، والندم، وتأنيب الضمير، على ما فرّط في جنب الله، دليل عميق، على إيمانه الراسخ العميق، إذ لو لم يكن مؤمنًا حقًّا، لمَا أنَّبَ نفسه جهرًا أمام الناس قبل أن يؤنِّبَه غيرُه، لذلك قال النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في عمرو: (أسلم الناسُ، وآمن عمرو بن العاص)، وقال: (عمرو بن العاص من صالحي قريش)، وقال: (نِعْمَ أهلُ البيتِ، عبدُ الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله)، وقال عليه الصلاة والسلام، فيه وفي أخيه هشام: (ابنا العاص مؤمنان)، وفضائله ومناقبه كثيرة جدّا.
وحدّث ابنا العاص: هشام وعمرو، قالا: (ما جلسنا مجلسًا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم، كُنَّا به أشد اغتباطًا من مجلس جلسناه يومًا، جئنا فإذا أناس عند حُجَرِ رسول الله صلى الله عليه و سلم، يتراجعون في القرآن، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول الله صلى الله عليه و سلم خلف الحُجَر يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم، مُغْضَبًا، يُعْرَفُ الغَضبُ في وجهه، حتى وقف عليهم فقال: (أَيْ قومُ! بهذا ضَلَّت الأممُ قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربِهم الكتاب بَعْضَهُ ببعضٍ، إن القرآنَ لم يُنْزل لتضربوا بعضَهُ ببعضٍ، ولكن يُصدِّق بعضُه بعضًا، فما عَرَفْتُم منه فاعملوا به، وما تَشَابه عليكم فآمنوا به)، ثم التفت إليّ وإلى أخي، فغبطنا أنفسنا، أن لا يكون رآنا معهم).
وليس أدلّ على إيمانه من قوله على منبره: (لقد أصبحتم وأمسيتم، ترغبون فيما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يزهد فيها، والله ما أتتْ على رسول الله صلى الله عليه و سلم من دهره، إلا كان الذي عليه، أكثر مما له). ويقول: (واللهِ إنْ كنتُ لأشدّ الناس حياءً من رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما ملأتُ عينيّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا راجعته بما أريد، حتى لحق بالله عز وجل، حياءً منه).
فهل يمكن أن تصدر مثل هذه الأقوال، أو يشعر بهذا الشعور، إلا مؤمن قويّ الإيمان؟)
وقد عاش عمرو بعد عمر بن الخطاب عشرين سنة، لأنّ عُمَر تُوفي سنة ثلاث وعشرين الهجرية، وتُوفي عمرو سنة ثلاث وأربعين الهجرية، كما ذكرنا، وكان عُمْرُ عُمَرَ بن الخطاب ثلاثًا وستين سنة على الأصح، وكان عمرو يقول: (أذكر يوم وُلد عُمر بن الخطاب، فكان عُمُرُه لما وُلد عمر بن الخطاب سبع سنين، فعاش تسعين سنة، أي أنّه وُلد سنة سبع وأربعين قبل الهجرة (577م)، ومات سنة ثلاث وأربعين الهجرية (664م)، فعاش تسعين سنة قمرية، وسبعًا وثمانين سنة شمسية.
وبموته، انتهت حياة قائد، من أعظم قادة الفتح الإسلامي، وإداريّ من ألمع إداريّ البلاد الإسلامية، وداهية من أبرز دُهاة العرب والمسلمين.