هل العرب يشترون الحضارة و......التاريخ ؟
كان المفكر الجزائري مالك بن نبي قد كتب منذ ما يربو على نصف قرن من الزمان، أن من أسباب إخفاق النهضة العربية مطلع القرن المنصرم، تركيز الناهضين على “استعارة أشياء” الحضارة الأوربية بدل التركيز على ترسيخ المثل التي أنتجت تلك الأشياء. ويُمثل لذلك بأنهم بدل أن يركزوا على الحصول على آلية إنتاج منتج معين، فهم يشترونه ويستوردونه جاهزا في عجز واضح عن الإبداع أو محاولة الإبداع، مما حولهم إلى مستهلكين بدل منافسين، وإلى زبناء بدل أن يكونوا صُنّاع نهضة أو رُوّاد عمران.
تذكرت فكرة مالك قبل أعوام وأنا أقرأ تقريرا مطولا لمجلة نيوزويك الأميركية. فقد نشرت بالعنوان العريض: ” شراء الثقافة: أبو ظبي تسعى لأن تكون مركزا ثقافيا عن طريق شراء فروع من لوفرالفرنسي ويال الأمريكية”.(نيوز ويك/ 06/ أغسطس 2007). والمشروع والقول للمجلة- سيكون عبارة عن جزيرة تدعى جزيرة سعاديات تبلغ مساحتها 27 كيلو مترا مربعا، وسيكلف بناؤها 29 بليون دولار أميركي من أجل أن تكون هذه الجزويرة مهوى أفئدة الباحثين عن الفنون والعلوم في الشرق الأوسط.
الثقافة لاتباع لركاب الجمال
هذه الجزيرة التي “ستكون جاهزة لاستقبال الزوار عام 2012 ستحتوي على 29 فندقا من أرقى ما يُتخيل، كما ستحتوي على فروع لأعرق جامعات العالم، وسيشرف على تصميم هذه المؤسسات معماريا فريق من أشهر المهندسين المعماريين في العالم مثل: فرانك كهري و زها حديد وجين نوفل”.
وتُضيف المجلة بأن “الإمراتيين يريدون من خلال هذا المشروع أن تكون إمارة أبوظبي عاصمة السياحة في الشرق الأوسط”.
وذكرت المجلة أن أبو ظبي ستدفع لفرنسا 540 مليون دولار أمريكي من أجل “استعارة” اسم متحف “لوفر” لمدة 30 سنة فقط، كما أنها ستدفع مبلغ 740 مليون مستحقات لبعض المستشارين وثمنا لاستعارة بعض اللوحات!
لكن ثقافة “الاستراد” المسعورة للتسوق المفتوح هذه لم تقابل بالترحاب من طرف الفرنسيين. بل إن إدارة المتحف الفرنسي انزعجت من طلب الإمارات واعتبرت أن هؤلاء العرب “يحاولون “شراء روح فرنسا” كما يشترون الحقائب لزوجاتهم من محلات اكرستيان ديور”.
لكن للسيولة سحرا لا يقاوم. فرغم الازدراء الذي تلقى به الفرنسيون العرض، إلا أنهم لم يتمكنوا من رفضه نتيجة المال المهول الذي سيجنون من ورائه.
وقد علقت المجلة على المشروع بأنه هو “أضخم مشروع يمكن تخيله”.
لكنك عندما تمعن النظر في ردود أفعال الفرنسيين على مقترح المشروع تصدم بمدى الاحتقار الذي قوبل به هؤلاء المتسوقون الذين تعودوا على ثقافة “الاستيراد”، لا على ثقافة الإبداع.
فقد تساءل رئيس جامعة السربون السيد جين روبي- بمرارة: “هل يمكننا حقا أن نبيع هذه الفنون لركاب الجمال وصناع السجادّ”؟
ولعمري إننا لنستحق هذا الاستخفاف من طرف الفرنسيين. ف”الثقافة” كل لا يتجزأ والمتاحف لا تشترى ولاتباع، إنما تنبع من حضارة قوم فتعبر عنهم وعن تاريخهم، أما أن تستورد المتاحف ويستورد التاريخ فإن ذلك قمة الصبيانية الثقافية.
إن الإبداع ليس في استعارة جلد الغير ولبسه، ولافي ليِّ اللسان وتعويجه برطانة الأعاجم، بل في بناء مؤسسات محلية صلبة نابعة من ثقافة البلد ومتصلة بحضارته، ومع مرور
الوقت تكتسب الصبغة التاريخية والفنية كمعلم حضاري عريق، أما “الشراء” و”التسوق” فهما يدلان على العجزلا غير!.
بدل أن تنفق الإمارات كل هذه الأموال على مشروع هذه “الجزيرة”، لماذا لم تبدع مشروعا مشابها لـ”جزيرة” قطر مثلا. فقد أبدعت قطر إبداعا ذاتيا عندما فتحت قناة الجزيرة، وزرعت في العالم العربي- وبين مضارب عبس وذبيان- واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية وأوسعها صيتا في عالم اليوم، حتى أصبحت قطر وهي الدولة المتقاربة الأجزاء- عاصمة تتجمع فيها العقول من كل حدب وصوب، وكعبة تهفوا إليها أفئدة أهل الثقافة، وصار لحكومة قطر وزنا أهم من وزن معظم الدول العربية… ذلكم هو الإبداع.
الثقافة ..لاتباع ولاتعار
ليس كل شيء قابلا للتسوق. وهناك بعض القيم والنتائج الحتمية لتراكم ثقافي وتاريخي لايمكن أن يُقفز عليها لتُشترى بالمال. وقد قال بن نبي: “إن بعض القيم لا تباع ولا
تشترى ولا تكون في حوزة من يتمتع بها إلا كثمرة جهد متواصل….إن الحضارة ليست شيئا يأتي به سائح في حقيبته لبلد متخلف، كما يأتي بائع الملبوسات البالية”.( مقال “باعة الحضارة” لمالك بن نبي- مجلة العربي، كانون الأول 1980 ص 43)
رحم الله مالك بن نبي فقد حذر قبل فترة طويلة من أن الأشياء قد تكون جاهزة للاستعمال مثل متحف لوفر- لكن القيم المصاحبة لها قد تكون قابلة للمناقشة وعليه فإن استيرادها بهذه الطريقة البلهاء فيه الكثير من الإسفاف والصبيانية. ومن المؤسف أن نفس الأمراض الثقافية التي تحدث عنها الرجل قبل أكثر من نصف قرن، هي نفسها التي نعاني منها اليوم، مما يعني أن سفينتنا الثقافية قد تكون تتدحرج إلى الوراء. يقول مالك: “إذا كانت الأشياء قابلة للاستعمال فإن قيم هذه الأشياء قابلة للمناقشة، ومن ثم وجدنا المسلم لا يكترث بمعرفة كيف تم إبداع هذه الأشياء ، بل قنع بمعرفة طرق الحصول عليها”( وجهة العام الإسلامي- دار الفكر المعاصر- ص 65)
إن من المصائب أن يقنع أغنياؤنا الذين عليهم المعول في بناء المدارس وتثقيف الأجيال ب”شراء” كلما تقع عليه أعينهم حتى التاريخ والقيم والحضارات.
فمتى سيستيقظ إخوتنا ويعلمون أن الحضارة نموٌّ داخليٌّ مطَّرد، يتصالح مع أعراف البلد وأعراقه وتقاليده، لا سلعة تشترى وسط ازدراء البائع ونهمه وسخريته.