حوار مع الروائي عبد القادر بن الحاج نصر
حوار مع الروائي عبد القادر بن الحاج نصر
التاريخ إضافة أو لا يكون
حاورته : هيام الفرشيشي تونس
hoferchichi@gmail.com
الروائي والقاص والسينياريست عبد القادر بن الحاج نصر غني عن التعريف ، فهو زاخر العطاء والإضافة ، يتميز بقدرة فنية هائلة على الابتكار والخلق وتشهد له بذلك إبداعاته الفنية العديدة والمتواترة ، والمبدع إذا كان كبيرا وتميز بزخم الكتابة فهو يعيش أوج لحظات التجلي واتضاح مسارب الإبداع ونضج القدرة على التخييل والتشكيل . عبد القادر بن الحاج نصر الحاصل على الدكتوراه في اللغة والآداب العربية من جامعة باريس 1979 والمتحصل على الجائزة التقديرية للآداب والعلوم الإنسانية 1997 يعمل بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية ـ فرع تونس ـ ، مجموعاته القصصية هي :
ـ صلعاء يا حبيبتي
ـ البرد
ـ أولاد الحفيانة
ـ زبد المياه المتسخة ـ عجائب زمن
ـ عجمية
رواياته :
ـ الزيتون لا يموت
ـ صاحبة الجلالة
ـ زقاق يأوي رجال ونساء
ـ الإثم
ـ إمرأة يغتالها الذئب
ـ قنديل باب المدينة
ـ مقهى الفن
ـ ساحة الطرميل
ـ جنان بنت الري
كتب للمسرح :
ـ كلاب فوق السطوح
ـ محاكمة الشيخ السفطي
ـ ولد الحفيانة .
كتب البحوث الأدبية أيضا :
ـ بعض مظاهر الرواية التونسية
ـ ملاحظات الزمن الرديء .
كتب للتلفزة مسلسلات :
ـ الحصاد ـ
الحمامة والصقيع
ـ الريحانة
ـ دروب المواجهة
ـ جمل جنات .
هو شخصية أدبية تتسم بالتواضع والجدية والهدوء . التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار:
الكاتب عامة ، هل هو معني بالكتابة عن بطولات الماضي وفتراته المشرقة أم أن عودته إلى التاريخ هي عودة إلى شروخه وفتراته المظلمة أيضا وذلك ما لاحظته في روايتك التاريخية الصادرة أخيرا " جنان بنت الري " ؟
الرجوع للتاريخ من نظرة موضوعية لأحداث التاريخ لا يتطلب موقفا أوليا مبنيا على استخراج كل ما هو مضيف في مرحلة ما من مراحل التاريخ للاعتزاز بها أو البحث عن العناصر السلبية أو الفترات المظلمة لإعادة تقديمها في شكل من الأشكال ، إنما يتطلب الأمر من الكاتب بأي نوع من الأنواع أن يعود إلى التاريخ برمته ليستقرئ أحداثه حتى إذا ما كتب إنتاجا ما به صبغة تاريخية يكون بمثابة الشهادة الموضوعية الحيادية على ما جرى في فترة من الفترات ، أما إذا كان الأمر يتعلق بالإبداع الأدبي أو المسرحي أو الشعري فإن المسألة تختلف لأن الأهم في العودة إلى التاريخ هو تقديم صورة من صور الأحداث دون أن نلتزم الواقعية الجافة أو لمنطق كتابة التاريخ مثلما يفعل المؤرخون ، وفي النهاية فإن ما يقدم في الحاضر اعتمادا على التاريخ قد يكون عبرة .
نلاحظ في هذه الرواية أن الشخصيات التي تحرك الأحداث هي شخصيات مبتكرة في حين أن الشخصيات التاريخية الواردة في هذا العمل الروائي لا تعد أقنعة تاريخية ؟
هناك مجموعتان من الشخصيات في الرواية : المجموعة الأولى هي المشير أحمد باي ومحمود بن عياد وزير الخزانة ومصطفى آغة ومصطفى خزندار، وهذه المجموعة هي شخصيات معروفة في التاريخ وفعلت في ذلك العصر في الأحداث ما فعلت ولكل منها مميزات وملامح إلا أنني عندما انطلقت في الكتابة كنت أعلم أنني لن أضيف شيئا جديدا في ما فعله محمود بن عياد مثلا عندما استولى على أموال الخزينة ، فأهل الذكر يعرفون ذلك أكثر مني ولكنها كانت وجوها لا بد منها ، أولا لحصر الفترة التاريخية ، ثم لتحديد ملامح المجتمع الذي وقعت فيه الأحداث . وهذه ترتبط ارتباطا وثيقا بمجرات الواقع ، أما المجموعة الثانية والأهم والتي تتكون من حسن التاجر الكبير الذي تدين له الخزينة بأموال كبيرة وابنته فاطمة التي تساعده في حسابات المتجر وزوجها سليمان المسؤول على فرقة من فرق الخيالة والذي ذهب في مهمة داخل البلاد لأخذ الجباية من المواطنين . هذه المجموعة الثانية التي تمثل الركيزة الأساسية في بناء الرواية وهي مستوحاة من الخيال الصرف وهي التي تتعرض لظلم محمود بن عياد الذي مارس عليها كل فنون السلب والإهانة والإذلال . وهي شخصيات خيالية وأحداث خيالية لكنني أعلم علم اليقين أن مثل هذه الشخصيات ومثل هذه الأحداث وقعت وقد وقع مثيل لها في تلك الحقبة التاريخية بل وقع ما أبشع منها . وأضيف إلى شخصيات المجموعة الثانية تلك المرأة التي التقى بها المشير أحمد باي في سجن دار جواد والتي أطلقت عليها إسم " صاحبة اللوبانة " لأنها كانت تتحدى المشير أحمد باي بتحريك اللوبانة بطريقة ما بين فكيها وهي التي دعت عليه بأن يصاب بالفالج فأصيب به .
في روايتك " ساحة الطرميل " اعتنيت كثيرا بتصوير ملامح الأمكنة وإن كان " حمام الطرميل " يوحي بالتطهر فإن تصوير المكان بطريقة حادة ومزرية ما يجعلنا نتساءل عن الخلفية المكانية للأحداث ؟
الأمكنة في العمل الإبداعي الروائي لها قيمتها الجمالية ولها قيمتها العاطفية والاجتماعية والمكان أحيانا يحدد ملامح الشخصية التي تتحرك ( تصنع الأحداث أو تتأثر بها ) ، وأعتقد أن الساحات التي ذكرتها في قفصة كساحة المسيلة وساحة الطرميل ووادي بياش والحارة وجبانة بن يعقوب ووادي الباي ونهج الكيلاني المطوي هي كلها تحمل طابع نوعية الأحداث التي مرت تاريخيا على هذه المنطقة . وكل الشخصيات التي جاءت في الرواية هي عجينة هذه الساحات وهذه الأحداث . وساحة الطرميل هي مكان محبوب ومنفر في نفس الوقت ، محبوب لأنه في الزمن القديم ( حتى الستينات من القرن الماصي ) كان عينا يجري منها ماء صاف متدفق يأتيه أهل المدينة من كل حدب وصوب ليغتسلوا فيه ويتطهروا . وكان هناك جناح خاص بالرجال وآخر خاص بالنساء ، وقبل الستينات كان هناك جناح خاص بالنساء اليهوديات . والآن هو مكان متعفن لأن الماء نضب وأضحى المكان شبه خرب لا يستريح الإنسان عند الجلوس إليه .
رغم تناول رواية " ساحة الطرميل " مأساة سقوط بغداد فإن تجذير الأحداث في مكان تونسي " قفصة " يجعل القارئ يستشف أن الرواية كتبت في فترة قريبة جدا من سقوط بغداد ، وأن توظيف ذلك الحدث السياسي الأليم جعل الأحداث تتخذ منعرجا حادا . فإلى أي مدى تؤثر الأحداث على منعرج البناء الروائي ؟
الكتابة الروائية هي فن استغلالالأحداثالروائيةالقديمة والحديثة ، المهم ليس الحدث في حد ذاته مهما كان عظيما وكبيرا وإنما إعادة صياغته بطريقة تتماشى ومتطلبات الكتابة السردية كما تتماشى مع اهتمامات المنشغلين بقراءة الإبداع الأدبي . عندما كتبت "ساحة الطرميل" كانت الهجمة على أشدها لاحتلال بغداد والمدن العراقية وليس مقبولا ولا واقعيا أن تتحرك الشخصيات على مسرح الأحداث في أي مدة كانت ساعة الغزو ولا تنشغل هذه الشخصيات بما يجري على ساحة بلد عربي هو بلد الخلافة العباسية وعلى ما يصيب أهله يوميا من إذلال وقهر وتهجير .. كيف يمكن لإمرأة أو رجل أو طفل أثناء ذلك الغزو الرهيب الذي لا يستهدف بغداد فقط وإنما كل العواصم العربية أن لا يفجع وأن لا ينبض قلبه حزنا ، وأن لا تنحدر دموعه أسفا . لذلك كان لا بد أن يكون إلى جانب الإطار الوطني الضيق هم في الإطار العربي .
في " ساحة الطرميل " وفي " جنان بنت الري " تبدو لنا المرأة جميلة التصوير لكنها مضطهدة ، كما نلاحظ أن ردة فعلها تقوم على التحدي وعلى كشف المستور ، فهل تعود مأساتها إلى مجتمع ذكوري ، وهل ثمة إقرار بأن المرأة قادرة على التطهر من خلال فطرتها الكامنة في أصلها البشري ؟
المرأة التي عملت على تقديمها في رواياتي هي ليست إمرأة عادية وإنما هي مثال للمرأة الطموح التي تحاول أن تثور على وضعها الاجتماعي وتتجاوزه إلى وضع تكون فيه سيدة نفسها وتملك حرية الحركة والمبادرة والفعل ، لكن هذا لا ينجح أبدا إلا من خلال صراع مستميت ضد الرجل إذا كان الرجل مضطهدا لها وضد الإدارة إذا كانت الإدارة مكبلة لمواهبها وضد عادات وتقاليد المجتمع إذا كانت هذه العادات والتقاليد عائقا في مسيرتها ، كل امرأة في رواياتي متميزة بالمغامرة ومحاولة التجاوز لأوضاع معينة ، أما الجانب الفطري في المرأة فهي المرأة التي بطبيعتها غير مستكينة وغير راضية خاصة على الوضع الذي يفرض عليها من طرف عادات المجتمع ، هي امرأة لديها إرادة تعود إليها حين تقهر لتأخذ منها القوة والخلاص .
أثار مسلسل " دروب المواجهة " الذي كتبته للتلفزة منذ سنتين بعض الانتقاد بسبب الشخصية "مها" هل سبب ذلك أن البعض لا يدرك طبيعة العمل الصحفي في كشف الحقائق بكل السبل ؟ أم أن المشاهد يبحث عن الواقع الجاهز في حين أن الكاتب يسعى نحو البديل ؟
هناك فرق بين المشاهد والكاتب وبين الواقع وطموحات الكاتب ، فإذا رأى الكاتب أن الواقع غير صحي بالنسبة للشريحة المتواجدة فيه ، ونأخذ مثالا على ذلك وضعية الصحفية " مها " داخل الجريدة . هناك أمران أمامها : إما أن تظل آداة طيعة في يد رئيس التحرير ومؤسسة الجريدة فتعمل وتتحرك طبقا للأوامر الموجهة إليها وبذلك لن تضيف شيئا ولن تغير شيئا في الواقع الصحفي ، وإما أن تتحدى واقعها إيمانا منها بأن مهمة الصحفي ودوره الأساسي هو أن يعطي للجريدة الإضافة وأن يجعل من الصحيفة مؤسسة رأي وفكر وتطوير وتجديد ومواكبة للأحداث الفردية والعالمية . وما قامت به " مها " من تحد لواقعها الصحفي هو الهم الذي يراود الكاتب في أن يرى الصحافة فاعلة قريبة من هموم المجتمع وقضايا الناس وأن يستخدم الصحفي مواهبه وكفاءاته للوصول إلى الحقيقة ، لذلك قلبت الصحفية مها المعطيات والواقع ودخلت في صراع للوصول للحقيقة .
هل تفكر في كتابة سيرة ذاتية ؟
السيرة الذاتية عودة للوراء ، الحد الفاصل بين الكتابة ونهاية الكتابة ، بين الإنتاج ونضوب الإنتاج ، هي توقف للخيال والقدرة على الإبداع فيعود الكاتب إلى ما هو موجود ومخزون لاسترجاعه ، إنها إفلاس إبداعي .
حاورته : هيام الفرشيشي
الملحق الثقافي لجريدة الصحافة التونسية ، 27 جانفي 2006 ، العدد 519 ، ص 3
القرية التي تدخلها تكون قد وطأتها حين ترى الأشجار الكالاتوس تحف الطريق المؤدي اليها من الجهتين ثم تنعرج نحو طبربة وهو تمر على جسر وادي مجردة ، وقبالة الجسر يوجد مصنع الشاشية الوحيد في تونس هذه القرية التي يحدها البرج وهو ذلك المبنى الأثري الذي يربى فيه الجواد البربري ، لها مدخل أشبه بباب الولوج اليها منه يحط القادمين والمغادرين ... وتصطف المقاهي هل جانبي الطريق وروادها يراقبون الغادي والراحل ....
كان باب حوش عمتي شبه مفتوح ولكن لا أحد بالداخل ، الأكيد أنهم في الضيعة الجبلية ... لم يبق في هذا الحوش غير صور الذاكرة بدورها ...على يمين المدخل يوجد الاسطبل وككل مدخل هناك حكاية تستثير قشعريرة الخوف .. تتحدث عمتي عن الرهبان الذي يسكن اصطبل الحوش . هو أسود اللون ، كبير الرأس ، ضخم الجثة . برز لها صيفا حين بقيت ساهرة بمفردها وسط الدار . خرج من الاسطبل وغادر من الباب الخارجي وحين لحقت لتطل عليه وجدته أمام عربة الحصان ، حاول الهجوم عليها لكنها صرخت فهب زوجها وأولادها ، وحين هموا بالالتحاق به لم يعثروا له على أثر . الشباب الساهرون تحت الجدران لم يروه يمر . هو رهبان وقد ذاب ، نعم ذاب صاحب الجثة الضخمة . وكنت أسائل عمتي : "لماذا لحقت به ؟" ، فترد "لأن الرهبان صنفان : صنف مؤذي وصنف يثري . لو كان كريما لصافحني بيده اليمنى ولما استغنيت ، لكني حظي النكد شاء أن يكون الرهبان فقيرا .." في قرارة نفسي كنت هلعة وفي ذات الوقت كان ذهني الذي طالما طالع القصص البوليسية والألغاز يرى في ذلك الرهبان مجرد لص تسلل إلي اسطبل البقر المسالم . قطيع البقر الذي يتكون من عشرات البقرات يعود بمفرده في المساء من الضيعة إلى الحوش ويكون ابن عمتي يتبعه من الخلف ودون أي توجيه يعرف الطريق ، ويجد الباب الخارجي مفتوحا ويدخل إلى الاصطبل . مرة كنت في السقيفة وشعرت بجسد يلتصق برأسي ، التفت فوجدت البقرة التي تتقدم القطيع واقفة ورائي وكانها تدعوني بتلك الحركة أن ازيح لها الطريق بينما البقر وراءها واقف ينتظر أن ابتعد ...
جلست وسط الحوش قرب حوض النعناع والاكليل .. قرب هذا الحوش تفرش عمتي المرقوم وتضع الشعير على الأرض وتدوسه بقدميها . تتجمع نسوة العائلة ينقين الحبوب ويفرزنها ، وتحمل الحبوب إلى الطاحونة ، وتصير دقيقا يوضع في براميل كبيرة ، ويتجمع النسوة من جديد ليكسكسن كسكسي العولة ، ولكل واحدة منهن غربالها الخاص ولكل واحدة دورها ، ويقضين ثلاثة أيام في الغربلة وتحويل الدقيق إلى الكسكسي و يتدفق الحديث وتعلو الضحكات ، فيما تعتكف ابنة عمتي فضيلة على طبخ كسكسي العولة ، وكل من يدخل عليهن عليه أن يذهب للدكان القريب ويشتري ما يبارك له للعولة . فبعد حصد القمح والشعير تحت الشمس المتوهجة التي تغزل أحلام الأطفال في حضور موسم الحصيدة ، تحيك النسوة أغنيات جميلة عندما ينتهين من العولة ..
لم يكن الرهبان هو الهاجس المخيف الوحيد أيام الطفولة ، ما طفقت إبنة عمتي روضة تحدثني عن سيرة الأشباح والعفاريت ، فبئر "دار حماني " مسكون ، لا يقتربون منه ليلا لأن الجنية ذات الشعر الأشعث تقف على حافة البئر ليلا وتصدر صوتا كالعويل يخافة أهل الدار والجيران من حولهم ، وتلك العجوز خيرة التي تعيش بمفردها بعدما تزوج أولادها جنت لأن دارها مسكونة ، وتلك النخلة الباسقة في منزل الجيران ، النخلة الوحيدة التي زرعت في القرية تسكنها ارواح الجنود الفرنسيين الذي قتلهم الفلاقة وردموهم تحت النخلة أيام الحرب ، ووراء أشجار الصبار تنجلي الأرواح وتسمع ضحكات الجنود الذين كانوا يسكرون ويعربدون مع المعمرين فصوب نحوهم الفلاقة الرصاص . وعجبت من قدرة هؤلاء الفلاقة ، لكن الجنود ما طفقوا ينبرون كأرواح تصفع الطمانينة . كنت أشعر بالرعب كلما مررت من هذه الأماكن بمفردي ... وخاصة في القيلولة فهناك الرجل القصير الذي يخرج عندما تصبح عين الشمس حمراء ويطول ويتسامق إلى أن يناطح السماء . وتلك الأصوات التي تندفع من القناة التي ابتعلت الكثير من شبان القرية ، إنهم يتجمعون مساء ويلتقون ويتحدثون ويسكرون أيضا ..
في تلك الحكايات المرعبة كنت أتمتع بحرية الاستماع والاكتشاف ، لم أكن تلك الطفلة التي يمنهعا والداها من مشاهدة فلم مرعب ، فتلك القصص المرعبة هي تمثال وقناع ، تضع تلك الحكايات القناع وراء القناع ليسير الإنسان نحو هوة بلا قاع ، يبحث عن الطمانينة فلا يجدها ، لو كان الحاكي ممثلا مهرجا ، بائع كلام يشعل الخضوع في حيرة الأطفال ويحطم السلم الداخلي على صخرة الخداع . تمثل تلك الارواح الشريرة كل أدوار الغطرسة ، تنبري كالظلال وراء ستار القرية الملتحفة بالأشجار ، تتحرك وراء الأشجار وتنبري في القيلولة كظلال تتمدد وتطول وتقصر وتصدر أصواتا في الليل ... لكنني أرى الآن القرية هادئة ، آمنة ومبتهجة ، ولم تستنزف الخرافات بهجتها ...
كنا نتجه إلى مشارف الجبل ونستسمح عم الرفلات حارس الغابة بالتجول هناك ، وقد كان رجلا طريفا ، خفيف الظل ، صاحب نكتة ساخرة ، ثم نمشي فوق قنوات الماء " السيفونة " لنتجه إلى مشارف الجبل باحثين عن فتاة اسمها حليمة ، تسكن وراء الجبل ويتسنى لها القدوم لتشاركنا اللعب ولتحدثنا عن مغاور الجبل ونحن نتجول بين السهول ، ونشد أغاني الأطفال . ألاحق خيالي إلى تلك المغارة وأختلي بنفسي هناك ، وأنسج تفاصيل فتاة غجرية في أسطورة قديمة ، ويتجول خيالي بي ا إلى الدروب التي أريد اكتشافها و يناديني لولوجها ، ويحلق الخيال في لحظة جنون إلى المنطق الخطرة ، إلى تلك الرموز المبتورة الكامنة في مغارة ، أو بيت أعلى الجبل .
المرور تحت القنطرة أمر عسير بالنسبة إلي خاصة إذا اضطررنا لتنكيس الرؤوس والانبطاح تحت القنطرة وكأننا نسجد لها وأرجلنا التي تتمرغ بالوحل تخشى الانزلاق في تلك اللحظات الحذرة ، ويتحول الوحل إلى شيطان يهدد بجرفنا إلى حيث لعنة الحمإ الآسن . كنت أمقت القنطرة وأتمنى أن نقطع جسر القنطرة عوض هذا العناء ، ولكنهم كانوا يرون طريق الجسر يتطلب المشي لأميال فيعزفون عنه . وكنت أحبذ أن أذهب على العربة للحقل لكي يوقع الحصان حركاته الخببية ، وفي الوقت نفسه كنت أنظر لماء القناة بحذر خشية انقلاب العربة أو سقوط الجسر ، أما ركوب الدراجة فأراه الأيسر عند العبور لأن الدراجة خفيفة وتمر بسرعة ولا تحدث ايقاعا عند شق الجسر . وعند انتهاء الجسر والعبور للطريق المؤدي للضيعة يتفتح الحلم باللعب والركض والاغتسال في ماء السيفونة ، وشرب الماء من البرميل في "العشة" المبنية بالقش والتبن والمسيجة بالأسلاك الحديدية وقد يحلو للواحد منا أن يتمدد على الفراش كلما أنهكه التعب . أما الوجود عن انفراد في تلك الضيعة فمعناه تعكر مزاجي الطفولي ، فما معنى أن أبقى جالسة لوحدي وجسدي يحلق في سماء اللعب ، أخير المغادرة إثر إحساسي بالضيق ، رغم مشقة الطريق ومخاوفه ....
جلست على حافة القناة بعدما خلعت حذائي وتركت الماء يداعب رجلي وأصابعي . حين كنت طفلة لم أجرأ على الجلوس على حافة الوادي ، فالشيطان سيدفعنا إلى الماء لنغرق ، حتى أعتى سباحيي القرية فقد غرقوا في هذه القناة ، فالوحل هو العالق في قاعه وكلما غطس السابح نحو الأسفل التصق جسده هناك ولم يعد قادرا على الصعود . وحده ابن عمتي لم يكن يبالي بتلك التحذيرات وكان يسبح في ماء القناة بزهو ، وأحيانا يجذب معه السمك الكبير الذي تحسن عمتي " تفويحه " بكل البهارات وتقليه ... مازالت تلك الروائح تنبعث إلى أنفي ونكهة سمك الوادي تدفع في شهية الأكل ... وأرى ظلي في ظل الذكريات وفي هذه القناة ....وجهت بصري نحو الماء أبث له دواخلي وأنشد مواساته إذذاك لمحت خيال صورتي في الماء . وجهت نحوها الكاميرا وشعرت أن شخصا مختلفا يعيش داخلي لم أكن قادرة على فهمه وتحليله ، ولكنني الآن أحل عقدي وحبكتها وحيرة فؤادي . وجدت نفسي كتابا مسطورا من اليسير علي قراءته وفك رموزه المعقدة وطلاسمه الغامضة . فحين أتساءل : من أنا ؟ تجيبني أنت من آمن ببعث الإنسان من فطرته الجميلة ، فهذه الطبيعة التي رسمتها في نفسك لوحات مثخنة بالحب ، مجسدة بالفن .. هي صور تعبر وتتحرك وتكبر ، فيكبر الحب ويبعث أسرار الأنا . غمرني سيل من الحيوية وشعرت بتدفق الحياة في شراييني وأعضائي وخلايا جسدي . أحسست بأنني بصدد اكتشاف معاني الحب ، ذلك الحب الذي قرأت عنه في الكتب المقدسة ودواوين الشعر العربية وصور لي الجسد كطائر متحرر من قانون الجاذبية .
كم كان ينتابني الإحساس بالانطلاق في هذا الطريق الذي يؤدي إلى الضيعة حيث يخضب الهواء نفسي ويشع الجمال تحت مساماتي . وأجد أن الشعر مجرد لحن حي لا تعزفه اللغة ، والماء الفضي المترقرق في القناة لا تعكسه أي ألوان مائية على لوحة معلقة على إحدى الجدران . ربما وزن الشعر هنا في ايقاع حركة المزارعين وهم يهوون على الأرض يحرثونها ويزرعونها ويجتثون الأعشاب الطفيلية ويجنون ثمراتها و في تفاصيل أغانيهم عند المساء ، ومن حيث لا أدري أشحن بتلك الطاقة التي تريد أن تسطر وتهرب الكلمات بعيدا وتبقى عالقة في ذهني كالارتسامات التي تتحول إلى خطوط أكثر بروزا على جبيني كلما تقدم بي الزمن . وكنت أشعر أن ما يعوزني هو الحبر الكافي الأشبه بعرق القرويين ، وأن جهدا كبيرا ينتظرني لأمسح العرق على خطوط جبيني وأرى كم من الجهد اقترفت لألامس خطوط جبيني .
كانت ابنة عمتي روضة الأكبر مني بثلاث سنوات تحدثني عن الجمال الذي ينتابها كلما تجولنا في طريق الضيعة عشية تقول لي : وأفتن بالذات الكامنة في . أعشقها ، أشكو لها همومي فتواسيني ، وتمدني ببلسم الشفاء حين أحس بالأمان والدفء . وأود لو أستعير من هذا العالم الجميل الكتابة المستقاة من جمال الكون ، أتحسس منابع العطاء وتلتحم أعماقي بجمال الطبيعة ، وتختلط ألوان الماء وألوان الطبيعة الخضراء بكل الألوان المشعة .. وتنبري صور زاهية بجمال الجبال والهضاب الممتدة والروابي المتراكمة والسهول المغطاة بالعشب الأخضر و قد تمايلت عليهاالأشجار اليافعة التي حركها الهواء اللطيف .. أتمنى في قرارة نفسي أن انصهر في عالم الجمال لأحلم وأتخيل للأبد ..أنعتق في تلك اللحظات من كل شيء .. لك أكن قادرة على ايجاد اللغة لأخرج الإحساس الكامن بل أنظر إلى الماء الجاري الذي انعكست عليه أشعة الشمس فينساب لماعا في منظر يخطف الألباب من مواقعها ...
وعندما أهم بدخول الضيعة تنبري صورة ذلك الفلوس ذي الساق المقلوبة الذي شاهدنا أنا وابنة عمتي روضة موته ، لقد قدم غراب أسود من وراء الجبل وانقض عليه دون غيره من الفراخ ، الغربان هنا تأتي من وراء الجبل وتنقض على الفراخ لكن ما حز في نفسي أن الفرخ الذي يمشي بصعوبة أتاه الموت من عالم غريب آلم الأرض وأحزن الصخر ، فبكت السماء في ذلك اليوم وبكى الحجر ، تلاقح الماء المالح على وجوهنا بماء السماء العذب ، كانت الرؤية مجنونة ، بقينا واقفتين أمام الكوري . حين انجلى موت الفلوس كالكابوس والحلم في آن . وكأن النفس ترهص باحساسات صاخبة وهستيرية ، أقوى من أحكام العقل وطقوس العبادة . لم تكن السماء تترك السانية لمشاعر الحزن والعزاء وشقاء الموت . جلت بنظري نحو تلك القطعة الارضية التي حصدت فيها السنابل فبدت كأنها قاحلة وميتة بعدما جفت السنابل وانتزعت . بلا روح يشقى الأمل . تخترق صور تلك اللحظة ذاكرتي متلاحقة وتمضي : الحقيقة ، الذاكرة ، الحلم ، اطلالة صدمات الزمن ، سمفونية المطر كروح تأبى الفناء . سكنني هاجس المطر والسنابل التي تنبري كالقمر تعيد سرد حكايات أيام العرب . أما روضة فلم تجد غير كلمة المكتوب تصف فيها ما حصل بعدما باغتتها الصدمة وجف نبع كلامها . اخترقت مسحة المكتوب آفاق لوحة السانية هذه المرة ، وانجلى الغراب كلحظة عبث سوداء لطخ بها الغراب اللوحة عنوة . أما عمتي التي حدثناها عن الغراب الذي انقض على الفلوس المعوق فقد كانت تغمس الخبز في زيت الزيتون فتسري ارتعاشة ضلوعها في صورتها الصامتة أين تكمن كلمة المكتوب ، المكتوب تلك القناعة الراسخة في اقوالها ، وتلفنها بناتها ، المكتوب حقيقة آتية . طالما جلست وسط الدار وهي تحدث الصبايا عن المكتوب حين تأخذ حفنة الشعير و قطعة الفحم وتدير الغربال وهي تحدثهن عن المكتوب . تبتسم إحداهن وهي تحلم بحبيبها سيقدم لها باقة عنبر وعرعار يوم الخطوبة حين تخبرها عمتي أنه مكتوبها ذلك الشخص ، ويتخضب وجهها الندي بالحلم ، وتذرف أخرى دموع الأسى وهي تترقب عودة خطيبها الذي سافر نحو مدينة النور ولم تسمع عنه نبأ ، تضنيها كلمة المكتوب حين ترى عمة أنه تزوج بشقراء ، اما ابنة عمتي فضيلة المخطوبة التي لا تكل عن العمل فتمخض اللبن في الزير وهي تجابه الصبايا بكلمة المكتوب ..........
في حين أن قريبتي توقع كلماتها الشاعرية بلحن الماء و صور الاشتغال على الأرض . النوار وشقائق النعمان تغطي حافة الوادي وتزركش الضيعات في الربيع وترسم بألوانها لوحاتها الموشاة . والأشجار المتجذرة في التراب تأوي فراخ الحجل والطيور