دراسات حول الفن : الجمال والحقيقة
دراسات حول الفن : الجمال والحقيقة
-) لم تفتصر الفلسفة النقدية على نقد العقل النظري ورسم حدود للمعرفة ، وبيان ما للعقل العملي من قدرة على تشريع الاوامر الاخلاقية ، وانما شمل النقد ايضا ملكة الحكم الجمالي وما ارتبط بذلك من نظر للفن ولمميزاته التي يختص بها عما سواه.يقول كانط :" الفن متميز عن الطبيعة تميز " العمل " عن " الحركة " او عن " الحدث"بصفة عامة ". ان الفن ميزة انسانية فهو تعبير عن انسانية الانسان من وعي وحرية وارادة يقول كانط : " وفي الحق لا ينبغي ان نطلق اسم الفن الا على ما نتج عن حرية ، أي بصفة اختيارية تجعل العقل اساسا لاعماله" لذلك لا يمكن ان نطلق على ما يقوم به النحل من عمل فنا اذ يقوم بذلك على وجه الطبيعة فهو نشاط غريزي لا يصدر عن العقل وغير مسبوق بفكرة او تمثل يقول كانط : " ان الجمال الطبيعي هو شئ جميل ، اما الجمال الفني فهو تمثل جميل للشئ " ان الفن تعبير عن تميز الانسان مثله مثل العلم او الاخلاق او التقنية لكنه يتميز عن هذه المجالات " لان الفن هوالعمل الوحيد الذي لا نملك مهارة صنعه حتى وان كنا نعرفه على وجهه الاكمل . وقد وصف كامبر ( طبيب وبيولوجي هولندي ) بدقة كيف ينبغي ان تُصنع احسن الاحذية ولكنه لم يكن قادرا على صنع حذاء واحد".الفن الجميل في رأي كانط هو فن العبقرية، والعبقرية هي موهبة (أو هبة طبيعية) تمنح القاعدة (أو القانون) للفن. والموهبة ملكة فطرية خاصة بالفنان وتنتمي بذاتها إلى الطبيعة. ومن ثم فإن العبقرية هي استعداد عقلي فطري تقوم من خلالها الطبيعة بإعطاء القاعدة أو القانون للفن.يقول كانط : " الفن الجميل هو فن العبقرية ".
-) يستدعي البحث في مقاصد الاثار الفنية الاهتمام بتقنيات القراءة الابداعية ومستلزمات تاويلها ولعل ذلك ما يبعث على التساؤل عن افاق الفن وابعاده سعيا الى بيان ما يربط بين الفن والحقيقة . لا أحد ينكر أن الحقيقة جميلة بذاتها، إذ «يوجد الحق إلى جانب الجميل و الخير كما كان ذلك بديهيا في العالم القديم» على حد قول غادامر لكن ما طبيعة العلاقة بيم الفن والحقيقة ؟ ما مدى مستطاع الفن على التعبير عن الحقيقة ؟ وهل الحقيقة قيمة مطلقة ام نسبية ؟
يقول أفلاطون في كتاب الجمهورية :" والآن لنبحث هذه المسالة : ما الهدف الذي يستهدفه الرسام بالنسبة الى كل شئ ؟ اهو محاكاة شئ حقيقي كما هو موجود او شئ ظاهر كما يظهر ؟ اهو يقلد المظهر ام الحقيقة ؟ تجدر الاشارة هنا الى ان الكاتب هاجم في الفصلين الثاني والثالث من كتاب الجمهورية نظرية المحاكاة في الشعر على وجه الخصوص ويستانف في هذا الاطار استهجانه للفن عامة متناولا بصفة خاصة الرسم .
ان الفن عموما هو”محاكاة للمظهر” و المحاكاة- يقول أفلاطون- بعيدة كل البعد عن الحقيقة، و يظهر أنها تتمكن من صنع جميع الأشياء لأنها تلمس جانبا صغيرا منها فقط، و ليس هذا الجانب إلا شبها منها: مثال ذلك أن المصور يرسم صانع الاسكافي أو النجار أو أي صانع آخر، مع أنه لا يعرف شيئا عن صنعتهم. و لكنه إذا كان فنانا بارعا استطاع أن يرسم النجار و يعرضه من بعيد فيخدع الصبيان و البسطاء حتى ليخيل إليهم أنهم يرون نجارا حقيقيا .
ان معضلة الفن تتمظهر من خلال تراوحه بين " الشئ كما هو موجود " و"الشئ كما يظهر" ، بين" المظهر" و"الجوهر" اذا تحدثنا بلغة اريك فروم فالفن حسب افلاطون " يحاكي شيئا ظاهريا " لذلك فهو لا يتصل بالاشياء الحقيقية وانما بمظاهر الاشياء وبالتالي فهو خلق للاوهام وليس للاشياء الحقيقة . ان هذه الممارسة البعيدة كل البعد عن الحقيقة " من الممكن الاتيان بها بسهولة ، حتى لو لم يكن المرء يعرف الحقيقة " ومن هنا وهم الابداع الفني اذ يعكس جهلا للحقيقة يقول افلاطون : " اذ انه يتعين على الشاعر المجيد ، اذا ما شاء ان يحسن تناول موضوعاته ، ان يعرفها اولا ، والا لما استطاع الكتابة عنها
ترى كيف يتصور أرسطو العمل الفني يقول أرسطو "إن المحاكاة غريزة في الإنسان تظهر فيه منذ الطفولة والإنسان يختلف عن سائل الحيوان في كونه أكثر استعدادا للمحاكاة. وبالمحاكاة يكتسب معارفة الأولية والشاهد على هذا مايجري في الواقع : فالكائنات التي حينما تقتحمها العين حينما تراه في الطبيعة تلذ لها مشاهدتها مصورة..." .
يؤكد أوسطو على أن المحاكاة غريزة في الإنسان بمعنى أنه الكائن الذي يكون لديه منذ ولادته استعدادا للمحاكاة. والعمل الفني حسب أوسطو هو محاكاة من طرف الفنان لما هو موجود قبلا في الطبيعة وفي الواقع، فالرسم مثلا هو محاكاة بالألوان لما هو موجود، والغناء محاكاة بالصوت، والشعر محاكاة بالإيقاع والوزن للأفعال البشرية التي تنقسم إلى دنيته ونبيلة أي الرذيلة والفضيلة .
لكن هذا التصور للفن يظل قابلا للنقد، فنحن نجد أعمالا قيمة عمل أشياء غير موجودة في الواقع (كمثال الإتجاه السريالي في الرسم) وهذا يدل على أن الفن. هو قدرة على خلق وإبداع عوالم أخرى.
كذلك إذا جعلنا من الفن مجرد محاكاة واستنساخ لما هو موجود مسبقا، فأية قيمة ستكون له ؟ ألن يكون الفنان مجرد مستنسخ ومقلد ؟ أليس المطلوب من الفنان حمل رسالة إلى الإنسان وفتح آفاق جديدة أمامه .
كلا من أفلاطون وأرسطو يقول ان الفن يحاكى الطبيعة ولكن ثمة فرق بين الموقفين فموقف أرسطو نرى فيه اتجاها إلى الواقع وأيضا إلى تقليد الواقع ولكن بتعديل تظهر فيه اثر الصنعة الفنية فكأنما ثمة تدخل لشخصية الفنان لكي يبرز الواقع بصورة اقرب إلى الجمال والكمال العقليين ..........إذا فالفرق بين أرسطو وأفلاطون ان موقف أفلاطون يمكن ان نطلق علية الموقف الموضوعي المثالي أما موقف أرسطو فنطلق علية الموقف الموضوعي الواقعي
مفهوم الفن عند نيتشة:
ما هو الحد الذي يعطيه نيتشة للفن؟ إن الفن صنع للمظاهر والمظهر عند نيتشه ليس تمثيلا للحياة، بل هو الحياة. المظهر هو الحقيقة لأنها لا يمكن أن تقوم سوى كمظهر. ليس المظهر زيفا أو وهما أو ظلا للحقيقة كما يذهب أفلاطون الذي أقصى الشعراء من جمهوريته. من هذا المنظور قام نيتشه بقلب الأفلاطونية، معيدا الاعتبار للحسي والجسدي بعدما تم اقصاءه لصالح المافوق حسي .إن الفن يتعدى كونه مجرد نشاط خاص بالفنان، ليتحول إلى منظار للحياة.فالفن تجاوزللميتافيزيقا القديمة التي قامت على نفيها لصالح ما يتجاوزها أي لصالح العدم وإرادة العدم أي إرادة إنكار ونفي الحياة. تقوم استراتيجية نيتشه على آلية القلب التي تعيد الاعتبار إلى ما تم نفيه: الحياة. فالغاية من قلب الأفلاطونية هي العودة إلى "المنسي": إلى الحسي والجسدي، في المصطلح النيتشوي تحيل الأفلاطونية والسقراطية والمسيحية إلى تشكلات لإرادة النفي. الفن يجعل الحياة ممكنة بل وجديرة بأن تعاش، إنه خلاص (Salut) ولكن ليس بالمعنى المسيحي طالما أنه ليس هروبا من رعب الوجود وعبثه: خلاص ليس بمعنى التعلق بحقيقة ما فوق الوجود الحسي وإنما بمعنى تحويل رعب الوجود وعبثه إلى مظاهر فنية يكون بموجبها هذا الرعب جميلا، وهذا العبث سخرية وضحكا، وهذا الألم انتشاء، (Ivresse).
إن نظرية نيتشه في الفن تتعارض مطلقا مع وجهة النظر الرومانسية (Romantisme) فهو لا يجد أساسا للفن في ذاتة الفنان وهو ما درجنا على تسميته بالإبداع والخلق إن استبعاد الذاتية ضرورة تفترضها مجاوزة الميتافيزيقا، لأن الميتافيزيقا، قائمة على مبدإ الذاتية. من يبدع في الفن ليس الفنان، بل هو الحياة نفسها، ولكن ليس الحياة المنحطة المتقهقرة، بل الحياة القوية وجوهرها إرادة القوة التي تخترق الفنان، فينطق بلسانها. كلما نأي الفنان عن ذاتيته، وذاب في فوران الحياة واندفاع إرادة القوة صار أقرب إلى المفهوم الحقيقي للفن، فالرومانسية قد تتطلب من الفنان تقمص الطبيعة، والتغني بها، ولكنه في هذا التقمص وهذا التغني لا يفارق ذاتيته. فالفن الذي تحركه إرادة القوة هو الأقرب إلى روح المأساة (l’Esprit tratigique)، وهنا يعود نيتشه إلى المأساة الإغريفية من حيث إنها التمثيل الأسمى للفن، وكان ازدهار روح المأساة عند الإغريق قبل مجيء السقراطية التي وأدت المأساة لصالح الجدل (Dialectique)، فالجدل هو أول أعراض المرض الذي بدأ ينخر عظام الثقافة اليونانية. ومثل طبيب يقوم بتشخيص الأعراض يقابل نيتشه بين الصحة والمرض، بين القوة والانحطاط. إن الجدل في السقراطية (Socratisme) عرض وإرهاص للأمراض التي بدأت تدب في جسد الثقافة اليونانية، وتراجع لمظاهر الصحة والعافية المتجسدة في المأساة. الجدل تعالي على الحياة، وتوحيد لأضدادها، وحل لتناقضاتها، أما المأساة فإثبات لرعب الوجود، وتعميق لتناقضات الحياة، وإذكاء لمفارقاتها، الجدل نفي للحياة، ووهن لقوتها، أما المأساة فإثبات للحياة وشهويتها.
مفهوم الفن عند هيدجر:
إن الفكر والشعر (أو الفن) -حسب هيدجر- مدعوان لمجاوزة الميتافيزيقا التي عرفت اكتمالها وبالأحرى نهايتها مع نيتشه وبات مطروحا سلوك طريق آخر لتصور العالم غير طريق الميتافيزيقا، وخاصة ميتافيزيقا الذاتية التي تأسست على يد ديكارت، والتي تقدم تصورا للوجود بناء على تمثله كموضوع قابل للتملك (Appropriation). ويعتبر هذا التصور الخلفية المؤسسة للتقنية الحديثة. لقد قادتنا الميتافيزيقا إلى نسيان الوجود ولعل الفن يعيدنا إلى مسكن الوجود.فما مفهوم الفن عند هيدجر؟ وما الذي يمنحه هذه القدرة على تجاوز الميتافيزيقا وتلافي نسيان الوجود؟ الفن انكشاف لحقيقة الوجود، وترك الوجود يوجد (Laisser-Venir) وتحويل الاختفاء إلى تحجب (Aleteia). إن ماهية الفن هي ما يجعل الوجود يظهر، والحقيقة تلتمع وتسطع. إذا كانت ماهية الفن هي ترك الوجود يوجد، والحقيقة تستطع، فهذا لا يعني قطعا مطابقة الواقع ومحاكاته. لا ينبغي البحث عن حقيقة الفن خارج الفن، أي في الواقع. إن حقيقة الفن ترقد داخله، أي داخل حضوره وانفتاحه. الفن انبجاس (Emergence) وظهور (Apparition) لعالم هو عالمه (Welt) ولحقيقة هي حقيقته. فالفن هو راعي الوجود وحارسه. والفنان لا يعمل سوى على المتح مما يدخره الوجود، والامتثال، لما يمليه عليه نداؤه، وينزع منه ما يقدر عليه بواسطة هذا الخط (Reissen) ما بين العالم والأرض. الفن توتر ما بين هذين القطبين. الفنان لا يبدع شيئا من عنده، بل يجد اللغة المناسبة لنداء الوجود.ومن ثم كانت اللغة الأصلية ذاتها شعرا، والشعر بمعناه الواسع فنا. فما يكشفه الفن لا يمكن أن موضوع تمثل (Re-présentation) فلا دخل للحساب والذاتية في الفن. إن ما يكشفه هو من إملاء الوجود ووحيه.
موقف فرويد :
يجري فرويـــد مقارنة بين الفنان و العصابي يقول فرويد « ينسحب الفنان كالعصابي من واقع لا يرضي إلى دنيا الخـــــــيال و لكنه على خلاف العصابي يعرف كيف يقفل منه راجعا ليجد مقاما راسخا في الواقع » هكذا يجد الخلــــق الفني أصوله في التصعيد أي في الإشباع التعويضي غير المباشر للرغبات اللاشعورية المكــــــــبوتـــــــــة يقول فرويد « ان الإبداعات و الآثار الفنية هي إشباع خيالي لرغبات لا شعورية شأنها شأن الأحلام, فهي محاولات توفيق ينبغي عليها ان تتفادى أي صراع مكشوف مع قوى الكبت » ان الخلق الفني لا يغير علاقتنا بالواقــع باعتباره يوفق بين مبدأ اللذة و مبدأ الواقع, فالفنان يبدع ليشبع في الخيال رغبات لا شعورية حـــــــتى يتمكن من الهروب من العلاقات الصراعية مع الواقع .
ان الفن لا يغير إذن علاقتنا بالواقع بان يجعلنا نعتقد في حقيقة استشباحية وهمية و ما ينطبق هنا على الفنــــــــان ينطبق أيضا على المتلقي. لذلك يميز فرويد بين الأعمال الفنية و الحلم « فعلى خلاف الصبغة غير الاجتمــــاعية و النرجسية للحلم يراهن العمل الفني على تعاطف المشاهد باعتباره قادرا على إيقاظ و إشباع نفس الرغــــبات اللاشعورية التي لديهم » ان الفن يمكننا من المحافظة على علاقتنا بالواقع اليومي و في نفس الوقت يشـــبع رغباتنا المكبوتة الجنسية غالبا التي لو تحققت كما هي في الواقع لكانت مرفوضة اجتماعيا.
ان النظرية التحليلية تعتبر ان مصدر الاثر الفني هو اللاشعور وان الدوافع الغريزية المكبوتة التي لا تتمكن من الاشباع تصبح صورا جمالية وتبرز في لوحات ورسوم الفنان . ولا يمثل الابداع الفني حسب هذه النظرية الا نوعا من الاعلاء او التسامي وهكذا اتجه فرويد نحو تحليل اعمال ليوناردو دا فنشي بالبحث في مذكراته ولوحاته الفنية وكتاباته الشخصية مع الاعتماد على بعض الوثائق التاريخية ليصل الى أن أحداث طفولة الفنان هي المسؤولة عن التجائه الى الفن وانتاجه لبعض اللوحات مثل الموناليزا .لكن ما يميز هذه الدراسة العلمية للاثر الفني هو عدم تضمنها لاي تحليل للاثر في حد ذاته
موقف برغسون:
نص برغسون
"لو كان للواقع أن ينفذ إلى حواسنا ووعينا مباشرة، ولو استطعنا أن نكون على اتصال مباشرة، بالأشياء وبأنفسنا، لأصبح الفن في اعتقادي غير ذي جدوى، أو لكنا بالأحرى جميعا فنانين ، لان أنفسنا ستهتز ساعتها اهتزازا متجاوبا باستمرار مع الطبيعة. ولسوف تعمد عيوننا، ترفدها ذاكرتنا، إلى أن تقتطع في الفضاء لوحات لا مثيل لها. تثبتها في الزّمان ولسوف يدرك بصرنا أثناء ذلك شذرات تمثال منحوتة في الرخام الحي للجسد البشري تضاهي في جمالها ما كان يصنع منها قديما. لسوف نستمع في أعماق أنفسنا إلى لحن حياتنا الداخليّة الموصول . نغما موسيقيا مرحا حينا، ومتأوها أحيانا، وأصيلا دائما ".
كل ذلك محيط بنا، كل ذلك قائم فينا، ومع ذلك فإننا لا نتبيّن منه شيئا بوضوح . فما بين الطبيعة وبيننا، بل قل ما بيننا وبين وعينا، يقوم حجاب، هو لدى عامة الناس حجاب سميك وهو لدى الفنان و الشاعر حجاب رقيق يكاد يكون شفّافا. فأية ساحرة نسجت هذا الحجاب ؟ أتراها نسجته مكرا أم مودة ؟ لقد كان علينا أن نعيش ، والحياة تقتضي أن نتناول الأشياء من حيث علاقتها بحاجاتنا. فأن نحيا هو أن نفعل ، أن نحيا هو ألا نقبل من الأشياء إلا ما تتركه فينا من الانطباع المفيد، حتى نستجيب لها بما يناسبها من ردود الفعل . أما الانطباعات الأخرى فان عليها أن تغيب عنا أو ألا تصل إلينا إلا مبهمة. إني أنظر وأظن أني أرى، وأنصت وأظن أني أسمع وأدرس نفسي وأظن أني أقرأ في أعماق قلبي . ولكن ما أراه وما أسمعه من العالم الخارجي إنما هو فقط ما تستخلصه منه حواسي إنارة لسلوكي . فما أعرفه عن نفسي إنما هو ما يطفو على السطح ، وما يساهم في الفعل ، وإن حواسي ووعيي لا تعطيني من الواقع إلا مختصرا عمليّا، فتمحي ، في الرؤية التي توفرها لي عن الأشياء وعن نفسي ، الفروق التي لا تنفع الناس ، و تبرز التشابهات التي تنفعهم ، و تمدّ لي ، من قبل أن أبدأ، سُبل ينتهجها فعلي ، هذه السبل هي تلك التي مرّت منها الإنسانية جمعاء قبلي أنا.
و سواء أكان الفن رسما أو نحتا أو شعرا أو موسيقى فليس من هدف له إلا استبعاد الرموز المفيدة عمليا و العموميات المقبولة اصطلاحا واجتماعيّا، وأخيرا استبعاد كل ما يحجب عنا الحقيقة والواقع لكي نكون وجها لوجه مع الواقع ذاته . فعن سوء فهم حول هذه النقطة بالذات نتج الجدل بين الواقعية والمثالية في الفن . فالفن بالتأكيد ليس إلا روية أكثر مباشرة للواقع ، ولكن هذا النقاء في الإدراك يقتضي قطيعة مع الاصطلاح المفيد، كما يقتضي عدم اهتمام فطري ، لامبالاة بالحس أو بالوعي وأخيرا نوعا من اللامادية في الحياة وهو ما سمي دائما بالمثالية. بحيث يمكن القول دون اللعب إطلاقا على معنى الكلمات إن الواقعية تكون في الإنتاج في الوقت الذي تكون فيه المثالية في الروح وإنه فقط بقدر ما نرتقي في المثالية نسترجع الاتصال بالواقع ." بالاستناد الى هذا النص يمكن ان نصل الى الافكار التالية حول علاقة الفن بالحقيقة:
انقطاع الإنسان عن الواقع:
المستوى الأوّل: يعتبر برغسون أنّ هناك قطيعة بين الإنسان و الواقع الخارجي. فبيننا و بين الأشياء الخارجيّة يقوم جدار سميك بحيث يصحّ القول أنّنا نحيا بمعزل عن الأشياء و عن الواقع.
المستوى الثّاني: غير أنّ القول بانفصال الإنسان عن الواقع و عن العالم لا يجب أن يوقعنا في وهم الاعتقاد بأنّ هذه القطيعة انّما هي نابعة عن تقوقع الإنسان على ذاته، و استتباعا للمعرفة الدّقيقة التّي يكوّنها هذا الأخير عن نفسه.
تفسير هذا الانقطاع:
الحاجة هي ما يربطنا بالعالم:
الأشياء موضوعات لحاجاتنا البيولوجيّة:
انّ الإنسان، شأنه في ذلك شأن بقيّة الكائنات الحيوانيّة، محكوم في وجوده بجملة من الغرائز و الحاجات التّي تتأصّل في تركيبة هذا الأخير الفيزيولوجيّة و البيولوجيّة. فالإنسان تابع للواقع بسبب هذه الضّرورات الحيويّة بالذّات.قبل أن يكون الواقع موضوعا لمعرفة نظريّة خالصة، فهو أوّلا و بالأساس موضوعا لرغباتنا و حاجاتنا.انّ مفهوم الحاجة هو ما يمكّن من الإقرار بوجود علاقة ضروريّة و تلازميّة بين الإنسان و الطّبيعة.
الحجة توجيه للإدراك:
انّ تجربة الإنسان الادراكيّة للعالم، حسب برغسون، ليست تجربة مباشرة و عفويّة بقدر ما هي تجربة موجّهة و محدّدة. فنحن لا نرى الاّ ما تطلبه غرائزنا و دوافعنا، و نحن لا نهتمّ في هذا العالم الاّ بحاجتنا الأوّليّة. يقول الكاتب: " لقد كان علينا أن نعيش، و الحياة تقتضي أن نتناول الأشياء من حيث علاقتها بحاجاتنا ".الحاجة هي التّي تملي شروط إدراكنا للعالم.
و هذا ما يؤدّي إلى نوع من الاختزال في مجهود الفهم الذّي يكوّنه الإنسان عن عالمه.
الإدراك منطلق للفعل:
ليس إدراك الأشياء الخارجيّة غاية في حدّ ذاته، بل هدفه الأساسي هو تهيئة فسحة للفعل و للممارسة في هذا العالم. فنحن لا نقوم بالانتباه إلى ما في وجود العالم الاّ لكي نكون أقدر على الفعل و على الممارسة.و بذلك يتّضح أنّه لا يمكن الفصل بين النّشاط الادراكي و نشاط الفعل الإنساني.انّ العلاقة مع أشياء العالم هي علاقة نفعيّة.الأشياء هي أفق عمل المشاهد. الحاجة هي ما يفصلنا في نفس الوقت عن العالم:
لم تعد المعرفة ( مهما كانت أشكالها ) هي التّي تحدّد علاقة الإنسان بالواقع. فما يجمع الإنسان بالطّبيعة انّما هو أوّلا الحاجة و الرّغبة. و قد أدّت هذه الفكرة إلى نشوء اعتقاد سائد مفاده أنّ ارتباط الإنسان بالأشياء عن طريق حاجته إليها هو ما يقود حتما إلى تكوين معرفة دقيقة عنها.
فالأصحّ هو أن نقول أنّ الإنسان يفلت من نظرته و من رؤيته الواقع حين يختزله في إطار هذه العلاقة النّفعيّة. فنحن لا نهتمّ بالعالم الاّ من حيث أنّه بالإمكان إخضاعه لإرادتنا ( فالطّقس ليس جميلا في حدّ ذاته، بل هو جميل لأنّه سيمكّنني اليوم من الخروج في مهمّة معيّنة، و الجبل ليس شاهقا الاّ لأنّه يستحيل عليّ تسلّقه، و المسافة ليست بعيدة الاّ لأنّني أقوم بعمليّة السّير ). توقعنا حاجاتنا في نظرة اختزاليّة للعالم لا تتفطّن إلى ثرائه و إلى تنوّعه.
عمل فردي وربط بين جملة من الدراسات المأخوذة من الانترنات .