مجزرة ملوزة بني يلمان بالمسيلة بين الحقيقة والتزوير
-
بقلم عمران جعجاع
تكلم وكتب الكثير عن بني يلمان وهم لا يعرفون حتى موقعهم الجغرافي، فقط يتحدثون عن الواقعة التاريخية أثناء ثورة التحرير كما نسميها جميعا، لقد أطلق الاستعمار على لسان ضباطه يوم المجزرة اسم دوار ”ملوزة” وهو دوار مجاور، وكنا نظن أنها هفوة أو زلة لسان، لكن الصحافة العالمية التي كانت حاضرة سجلت الواقعة باسم ”ملوزة”، ثم ظهر لنا بعد الاستقلال أن التسمية كانت مقصودة وهادفة وبتواطؤ مع جهات وطنية أثناء الثورة وبعدها، وأن انتقام الاستعمار من بني يلمان كان رهيبا، وسيأتي تفصيل ذلك. توجد بلدية بني يلمان شمال غرب المسيلة بـ60 كلم وهي الولاية حاليا، وعن دائرة سيدي عيسى بـ40 كلم شرقا وشمالا.
يتربع دوار بني يلمان على مساحة حوالي 100 كلم مربع، كان يسكن سكانه مشات عند سفوح الجبال وعدد هذه المشاتي أو التجمعات السكنية 13 مشتة التي تكون الدوار منذ بداية القرن الماضي 1900 بينما كانت قصبة بني يلمان هي المجمع الأساسي للسكان من قبل وجود الأتراك، وقد شهدت القصبة مقاومة ضد الاستعمار الفرنسي أثناء ثورة المقراني وبومزراق، وبقي عدد من شبابها حين ذاك متمردين سماهم الاستعمار وعملاؤه ”منافقين” ينشرون الرعب بين عملائه حتى توفوا.
وقد حاول الاستعمار أن يبني لهم مدرسة في بداية القرن الماضي قرب القصبة كلف بها معلم جاؤوا به من القبائل يحمل على صدره الصليب، وقد حاول طويلا إقناع الناس بتسجيل أبنائهم، لكن اعتقاد الناس أن من تعلم الفرنسية فقد ارتد عن الإسلام، ولم يجد هذا المعلم المسيحي أو المتمسح مخرجا من خيبته غير الصعود إلى جبل خراط المشرف على القصبة ويلقي بنفسه منتحرا من قمة الجبل، غير أن الناس اعتادوا أن أولياء الله من سكان الأضرحة هم الذي ألقوا به، ومن عامها صار الناس يذبحون ثورا كل عام يطلقون عليه ”فرد خراط” ولم تنقطع هذه العادة إلا بعد الاستقلال بسنوات.
هاجر الشباب من بني يلمان بعد الحرب العالمية الثانية إلى أرض فرنسا وإلى الجزائر العاصمة بحثا عن العمل عند الفرنسيين هروبا من المجاعة وسنوات القحط، وقد انخرط الكثير منهم في الحركة الوطنية (حزب الشعب) وكان الكثير منهم معلقا بشخص مصالي الحاج إلى حد التقديس في انتظار الثورة والجهاد وفتح أبواب الجنة وساعة الانتقام من المستعمر.
الناس والثورة
بدأت تباشير الثورة تصل إلى أسماع الناس يأتي بها أناس يرتادون الأسواق أو بعض المدن في شكل قصص تكاد تكون أسطورية، ومن الخوارق التي ليس لها مثيل في عالم الواقع فمرة يرون المجاهدين وقد تحولوا إلى طيور جارحة تفتك بأعدائها فتكا، ومرة يتحولون عند حصارهم إلى قطيع من الغنم، كل هذه الأخبار تأتي من الأوراس قبل أن تصل تباشيرها إلى جرجرة ثم إلى جبل الأطلس الجنوبي، وما كان يمر شهران على اندلاع الثورة حسب المفهوم التاريخي المعروف بأول نوفمبر، لأن هذا التاريخ لم يعلم به الناس إلا أخيرا، فلم تكن هناك وسائل إعلام ولا منشورات مكتوبة ولا ذكر لتنظيم اسمه جبهة التحرير، فالتنظيم الذي يسمع به الشعب هو حزب الشعب الذي كان الناس ينتظرون منه الثورة، لأن الشعب لم يكن يعرف أو يسمع بغير حزب الشعب كحزب تحريري، أو جمعية العلماء للإصلاح الديني ومحاربة البدع والخرافات، كل ذلك كان يرد على صفحات جريدة ”البصائر” التي يقرأها طلبة القرآن بمفهومهم الخاص فيتقبلون بعض الآراء وينكرون البعض الآخر إذا تعلق الأمر بحرب الأولياء سكان الأضرحة، أما ما يتعلق باستبداد الحكام الفرنسيين وظلم عملائهم القياد فذاك شيء متفق عليه.
لم ينتظر الناس طويلا ليروا هذه الأساطير تتحول إلى حقيقة، ففي شتاء 1995 وكان عاما أجدب لا زرع فيه إلا وريقات تشتكي الجفاف، كان الناس يتابعون عن بعد وصول طلائع المجاهدين من الشمال (القبائل) في اتجاه الجنوب، حتى حل فصيل مؤلف من خمسة وثلاثين رجلا، لم تكن الأخبار حين ذاك تنتقل سرا، فالإدارة الفرنسية لم يكن لها وجود، لا إدارية ولا أمنية إلا في المدن، تعلق بهم الناس، ولم يغادرهم الأعيان ليلا ونهارا، وتسابق المتيسرون لاستضافتهم، حتى الأطفال تركوا كتاتيبهم القرآنية وصاروا يحلون وراءهم أين ارتحلوا بين بيوت الأغنياء يتناولون بقية الطعام ويستمعون إلى الأناشيد الوطنية، بعد صلاة العشاء، وخاصة ”فداء الجزائر بروحي ومالي” وعلى مأساة سطيف وخراطة، لقد كانت أصواتا منسقة وحزينة تبكي الرجال، وتزغرد لها النساء من وراء الجدران، ويتسابق الأطفال في حفظها، لكن الذي كان يجذب الأطفال أكثر تلك السلاسل النحاسية لحمائل الذخيرة وتلك البنادق النصف آلية التي تسمى استاتي، وما كان يعجب الأطفال تلك الوقفة التي يقفها هؤلاء الجنود صفا واحدا ويتحركون في حركة واحدة وكأنهم رجل واحد، كان أكثر هؤلاء الجنود ملتحين، خاصة قائدهم القصير القامة ذو اللحية الطويلة التي أصبغت عليه هيبة ووقارا.
بقي هذا الفصيل، الذي يحمل شعار حزب الشعب وجيش التحرير، والنجمة والهلال مرسومة على القبعة، في الدوار وفي الدواوير المجاورة، حتى ملّ منهم أناس ولم يعد لهم ذلك الحماس، وعاد الأطفال إلى كتاتيبهم وألواحهم، ثم أشيع بين الناس أن ممثل مصالي وقائد جنوده قد وصل إلى الدوار رفقة كتيبة لجيش التحرير، إنه محمد بن لونيس، كان رجلا طويل القامة عريض الكتفين مملوء الوجه كثيف الشعر ذو شوارب تكاد تصل إلى أذنيه، لم يعرف عنه أنه ابتسم، لا يتكلم إلا نادرا تبدو عليه الصرامة والجد في كل كلمة يقولها.
بقيت هذه الفصائل تنتقل بين الدواوير المجاورة، فلا معارك ولا اشتباكات ولا وجود للقوات الفرنسية، وصار الأمر عاديا بالنسبة للسكان، حتى حل بالدوار أحد القادة يسمى إبراهيم ويطلق عليه الناس إبراهيم البراق، لأنه كان إذا هدد شخصا بالقتل قال ”برقوا عنه”، كان يقود أكثر من مائتي جندي بأسلحة نصف آلية، وبنادق صيد بالإضافة إلى السيوف.. كان يختار جنوده من ذوي القوة البدنية، كان عنيفا في قوله وفعله، يحمل شعار حزب الشعب ولا يعترف بابن لونيس، سأل إن كانت توجد مصالح فرنسية بالدوار أو حولهم فأخبروه أن في دوار ملوزة مدرسة في طور الإنجاز، وفي دوار أولاد عبد الله مركز بريد به هاتف، فبعث جنودا ومدنيين لتدمير المنشأتين، وكان هناك سوق في اولاد مسلم جوار بني يلمان من الغرب، كان يأتي السوق القايد ولمخازنية وحراسه، فكان أن بعث جنودا فقتلوا القايد وبعض حراسه ولم يعمر السوق من يومها من بداية .1956
لم يبق إبراهيم ”البراق” طويلا في بني يلمان والمنطقة، فقد نشر الرعب والخوف الشديد، فهو يعاقب عن أي كلمة تصدر من شخص لا تعجبه، وكان يفرض غرامات وعقوبات جسيمة على متناولي التبغ بنوعيه، توجه هذا المغامر بجيشه الذي يتجاوز المئتي رجل في اتجاه الجنوب الغربي، وقضى على جنوده في مدة لا تتجاوز الشهرين في عمليات ارتجالية ومغامرات غير مدروسة، هذا ما أخبر به من نجوا، وهذا ما علمناه، حين ذاك من عبد الرحمان العائد إلى أهله.
وقد تعود الناس على جنود الحركة الوطنية التابعين لابن لونيس وقد أحبهم الناس لحسن سلوكهم وتواضعهم وتمسكهم بالدين وحسن المعاملة، فهم يتناولون من الطعام ما تيسر إحضاره، وينامون حيث وجدوا مكانا، ويجلسون بين الناس بتواضع وبساطة، وبما أنها لا توجد أهداف فرنسية يمكن مهاجمتها، ولم تتجرأ القوات الفرنسية للخروج من المدن لمهاجمتهم.
حتى كان يوم الإثنين 22 ماي 1956 حين شاهد الحارس المدني على قمة جبل سيدي جاد قرب قرية القصية، شاهد غبارا كثيفا قادما من مدينة المسيلة، فأخبر غيره عن طريق الصوت المباشر أن يخبر الجيش بما يحتمل أن تكون قوات فرنسية قادمة، فكان أن وضع الجيش وكان عدده يربو عن المئة والخمسين رجلا في حالة استنفار.
في انتظار وضوح اتجاه القافلة عند مفترق الطريق فقد تكون متوجهة إلى دوار ملوزة، لكن القافلة العسكرية عرجت غربا في اتجاه بني يلمان، ونظرا للبطء الذي تعاني منه في تحركها على طريق صعب غير معبد دون سفوح الجبال، حيث مشاتي السكان، هؤلاء السكان الذين تركوا بيوتهم وممتلكاتهم واختفوا بين الصخور في الجبال، في انتظار هدف هذه القوة الفرنسية، التي لم تتوقف وواصلت طريقها، غرب بني يلمان قرب حدود أولاد مسلم، وبناء على الاتصالات التي يجريها الحراس والتي تشير إلى اتجاه هذه القافلة فقد وضع الجيش لها كمينا على سهل بوخدي، وبدأ الاشتباك معها في حدود منتصف النهار إلى درجة الالتحام، وبعد قليل حضرت أربع طائرات حربية بدأت تلقي قنابلها ورشاشاتها في محيط المعركة ووسطها، وبعد ساعة أو أكثر حضرت طائرتا هيلوكوبتر فكانت تحط لتطير في اتجاه الشرق، وقد كانت تروح وتجيء حتى المساء في أربع رحلات، وفي هذه الملحمة وأثناءها كان شباب بني يلمان من المسبلين وقرب الجنود في ميدان المعركة يمدونهم بالماء، أو يسحبون الجرحى الذين غالبا ما يتوفون لقلة الإسعافات وبدائيتها.
واستمر الاشتباك حتى المساء يقوى ويضعف، وأثناء الليل كان ميدان المعركة تحت القنابل المضيئة، والقذائف الطائشة في اتجاه القصبة التي تبعد عن الميدان بحوالي 4 كلم. تفصلها عن الميدان منحدرات حادة وأودية صعبة، كان ابن لونيس يراقب الميدان من القصبة عبر منظار من وراء الصخور العاتية، عاد الجنود أو نصفهم جماعات صغيرة قبل منتصف الليل وبعده إلى قرية القصبة منهوكي القوى يعانون من التعب والجوع والعطش، وملابس وأحذية ممزقة فاستقبلهم الرجال واستقبلتهم النساء بالزغاريد وما تيسر من طعام، وتضميد للأرجل المتورمة، وتحدث الناس عن المعركة وبالغوا واختلقوا قصصا، بين خصمين غير متكافئين لا في العدد ولا في العتاد، ولكن الشيء المتفق عليه، أن هؤلاء الجنود قد اكتسبوا احترام الناس وحقت فيهم كلمة مجاهدين وجيش التحرير بعد أن ملّ الناس رؤيتهم من غير جهاد ولا حرب، دفن الناس الشهداء في شعاب متفرقة على عجل، وتحصلت القوات الفرنسية على سبع جثث حملتها معها إلى مدينة المسيلة وفي طريق العودة وجدت المسعود بن عزوز فقتلته وتركته.
أما الشهداء فوضعتهم القوات الفرنسية في ساحة ترابية، وجمعت الشعب لرؤية (الفلا?ة) المتمردين، وبما أنها أول معركة في المنطقة وأول شهداء يشهدهم الناس، يحكى وقتها أن سكان مدينة المسيلة باتوا ليلتهم في حداد فلا ضوء في البيوت ولا عشاء، بينما أبدى اليهود الذين كانوا يعيشون بين السكان لا يختلفون عنهم في شيء إلا عطلة السبت، قلت أبدى اليهود في تلك الليلة تشفيهم وإبداء سعادتهم فباتوا محتفلين يغنون ويمرحون، لكن هذه الليلة كانت نهاية تواجدهم في المسيلة، وقد كانوا معززين مكرمين، ففي الصباح وجد عدد منهم مطعونين بالسكاكين أمام محلاتهم التجارية. فما كان من القوات الفرنسية إلا أن أجلتهم نهائيا.
ودفن الشهداء في تلك الساحة، وسموها الناس ساحة الشهداء قبل الاستقلال، لكن السيد مسؤول جهاز الحزب في السنوات الأولى من الاستقلال أبت عليه نفسه النضالية أن يكون الشهداء من غير جبهة التحرير ومن غير دواره، فاستخرج جثامين أموات من قريته ودفنهم في ساحة المسيلة ليطلق عليها ساحة الشهداء بصفة رسمية، بينما بقيت عشرات الجثث في أماكنها تجرفها السيول، لأن منظمة المجاهدين تأبى عليها كرامتها أن يكون المجاهد أو الشهيد من غير ختم جبهة التحرير ولا يسمح للشعب أن يدفن قتيل الاستعمار من غير موافقة منظمة المجاهدين!
لم تعد القوات البرية إلى بني يلمان، وعم الهدوء تتخلله من حين لآخر حضور الطائرات المفاجئ، فالطائرة الصفراء كما كانت تسمى طائرة مزعجة فأزيز محركها يشبه طلقات زخات رشاشها، فلا تعرف إن كان صوت المحرك أو طلقات رصاص، فهي أتت ثلاث مرات، في إحداها فاجأت لخضر بن التومي يركب بغله ويحمل فأسه أمامه فأطلقت عليه وابلا فقتلته وبغله.
وعادت الطائرتان مرة أخرى فوجدت بحرية تحمل ابنها الصبي ذا الأشهر دون الستة فأطلقت عليه وابلا أسقطه من يدي أمه قتيلا دون أن تصاب أمه، وكأن الطيار يراهن على إصابة الهدف دون غيره.
وعادت مرة أخرى في عملية مسح للجبل دون قمته وهي تقترب من جنباته تطارد قطيع الماعز المتسلق وراء الشجيرات التي يرعى عليها، فراح الطيار يرهبه ويزعجه بطلقاته الرشاشة وصوت المحرك فتفرق القطيع، غير أن لمنيعي راعي القطيع خرج من وراء الصخرة التي اختفى وراءها ووضع حجرا مناسبا في (معقاله) وانتظر الطائرة لتعود، فلما كانت دونه لوى معقاله وهو يرى الطيار دونه وراء غطائه الزجاجي ورماه بالحجر فأصابه في الزجاج وكاد الطيار أن يفقد صوابه ويصطدم بالجبل من المفاجأة ثم ارتفعت الطائرتان وذهبتا، وشعر الشاب الراعي يومها أن إسقاط الطائرة ليس بالأمر الصعب.