جامعة المسيلة تحيي تراث المقري بدعوته الى مدرجاتها ؟
احتضنت قاعة الدكتور عبد المجيد علاهم بجامعة محمد بوضياف بالمسيلة ملتقى دوليا حول " تراث المقري ، مشروع إعادة قراءة " امتد طيلة ثلاثة أيام كاملة من الثالث إلى الخامس من الشهر الجاري ، تحت الرعاية السامية للسيد والي ولاية المسيلة و إدارة السيد عميد الجامعة و بحضور شخصيات مدنية و عسكرية و دينية . و قد حضر أكثر من ستين مشاركا من المغرب الشقيق و تونس و ليبيا و سوريا و بلجيكا بالإضافة إلى مشاركين من اغلب الجامعات و المراكز الجامعية عبر الوطن . و قد اشرف على تنظيم هذا الملتقى جامعة المسيلة ممثلة بمعهد اللغة العربية و آدابها و مخبر الشعرية الجزائرية وبمساهمة تسع مؤسسات من داخل الولاية و خارجها.
و للإشارة فقد أعطى هذا التنوع و الكثافة في الحضور بعدا علميا و ثقافيا كبيرين للملتقى ، خاصة و أن الفريق الجامعي المشرف على تنظيم الملتقى تميز بالانسجام الكبير و التوزيع الجيد للمهام بحيث جرى الملتقى في جو من الرحابة و النقاش الهادف و الثري خاصة ما جرى على هامش الملتقى .
و بعد الكلمة الترحيبية للسيد عميد الجامعة تناول الكلمة كل من ممثل السيد الوالي و مدير مخبر الشعرية الجزائرية ، و مدير معهد اللغة العربية و آدابها، حيث توالت بعدها مداخلات المشاركين إذ أحيلت الكلمة للمشارك التونسي الدكتور جمعة شيخة الذي عرج بمداخلته على الحياة الفكرية و الدينية للعلامة المقري من خلال كتابه " نفح الطيب " لتليها مداخلة الأستاذ الدكتور صلاح عبد القادر ، فلسطيني يدرس بجامعة تيزي وزو إذ تعرض لعنصر الشعور و الإيقاع و تقاطعهما في شعر الحنين للمقري . و انتهت الجلسات الصباحية بمحاضرة الدكتور ضيف عبد المالك من جامعة المسيلة بعنوان : الحس الحضاري العربي الإسلامي في الخطاب الشعري للمقري ، مقاربة تأويلية .
أما في عشية اليوم الأول فقد توزع برنامج المداخلات و النقاش على ورشتين الأولى ضمتها قاعة د. عبد المجيد علاهم و الثانية احتضنتها قاعة المكتبة المركزية ، و استمرت الجلسات على هذا النمط حتى نهاية الملتقى . حيث تناول الأستاذ الدكتور محمد خاين من جامعة الشلف شخصية المقري من خلال رحلته إلى المغرب و المشرق ، المقري العلامة الذي كان بحوزته أكثر من عشرين إجازة علمية في مختلف العلوم و الفنون حسب ما عرف و تبين من مراسلاته مع أعلام عصره .
أما الدكتور عبد الرحمن تركي من جامعة وادي سوف فقد تناول حياة المقري و أعماله من خلال الكتابة التاريخية ، فهو الذي تولى الإمامة في جامع القرويين بالمغرب و بسبب الخلافات السياسية اضطر إلى هجرة المقري إلى تونس ثم إلى بلدان المشرق العربي كمصر و سوريا و ارض الحجاز ، حيث لقي الترحيب و حسن الاستقبال .
أما الأستاذة طانية حطاب من جامعة مستغانم فقد ركزت على اثر الرحلة في تشكيل شخصية المقري و هذا من خلال كتابه " نفح الطيب " حيث اعتبرت أن رحلته إلى المغرب و المشرق شكلت لديه شكلا من أشكال التعبير عن الأنا خاصة و انه جمع ثالوث حضارة الأندلس و فكر المغرب العربي و ثقافة المشرق .
أما مداخلة الأستاذة هندة كبوسي من جامعة تبسة فقد تناولت عنوان كتاب المقري " نفح الطيب من خلال غصن الأندلس الرطيب " بتحليل مقاربة في العنوان ، حيث غاصت في الكثير من الدلالات التي لامست بالفعل ما سمي بإعادة قراءة في مشروع تراث المقري .
و قد تناولت مداخلة الأستاذ عبابسي ميلود من المركز الجامعي بالمدية المعنونة ب : " خصائص السرد في أدب رحلة المقري " و مداخلة " الكتابة التاريخية عند احمد المقري " للأستاذ بونابي الطاهر و " آثار المقري " للأستاذة كتاب حياة و كلاهما من جامعة المسيلة . عملية التاريخ لرحلة المقري في عمومها و انعكاس الواقع السياسي آنذاك على توجهات الرجل الدينية و السياسية حيث أشارت هذه المداخلات إلى مالكية مذهبه و أشعرية توجهه .
أما مداخلة الدكتور مصطفى طوبي من جامعة المحمدية بالمغرب و الدكتور الطيب علي الشريف من جامعة الزاوية بليبيا فقد تناولتا العلامة المقري من خلال مخطوطاته التي تحويها الخزانة الحسنية بالمغرب ، إذ عرض بالعاكس الضوئي مجموعة من مخطوطات المقري وتناولها بالشرح و التحليل . أما المداخلة الثانية فقد تناولت المقري من خلال معاصريه عبر الرحلة و التغرب .
و قد خصصت للوفد المشارك زيارة ميدانية إلى الموقع الأثري " قلعة بني حماد " عشية الثلاثاء الرابع من مارس و الاطلاع على متحف بلدية المعاضيد الخاص بها .
و قد جاءت مداخلات الأستاذة بدرة فرخي من جامعة قسنطينة بعنوان " خصائص التركيب اللغوي في النصوص الشعرية للمقري و " اثر الرحلة في بعض كتابات المقري " للأستاذة زين حفيظة من جامعة المسيلة و " صورة النص المنقول في نفح الطيب " للأستاذ زرقان من جامعة جيجل و " تجليات العنصر الأندلسي في تراث المقري للأستاذ عادل بوفناز من جامعة عنابة و كذا مداخلة الدكتور محمد طاهر توات من جامعة الجزائر المعنونة ب " المقري و النص التاريخي الأدبي " تصب في مجملها في ما يعرف بمقاربات فكرية لامست تاريخ المقري و أدبه و رحلاته التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل شخصيته الدينية و الفكرية و العلمية . و للتذكير فان باقي المداخلات أتت بالدراسة و الملامسة التحليلية لآثار المقري المتمثلة بشكل واضح في كتابه " نفح الطيب " . خاصة منها مداخلة الأستاذ الدكتور جون شارل ديسان من الجامعة الحرة ببروكسل و المعنونة ب : " LA REPRESENTATION DE LANDALUS DANS LE NAFH AL-TIB DALMAQQARI : Sources et Structure " و الدكتور حجاب مخلوفي بمداخلته " Analyse des Travaux d'Ahmed Al-Maqqari par les Orientalistes " .
و مما تجدر الإشارة إليه أن اختلافا اصطلاحيا جوهريا حول تسمية " المقري " اعترى المناقشات و المداخلات طيلة أيام الملتقى إذ أصر البعض على تشديد قاف المقري و ذهب البعض الآخر إلى تسكينها و فتح ما قبلها إلى أن فكت الأستاذة زين حفيظة و الأستاذ عادل بوفناز هذا الإشكال بحيث ذهب الرأي الأول إلى أن " المقري " نسبة إلى مدينة " مقرة " و هي مدينة تابعة للولاية و على أساس انتساب المقري إليها انعقد هذا الملتقى ، و بالتالي فالنسب إلى المدينة ينفي لغويا تشديد القاف أما الرأي الثاني فقد حصر الإشكال في الاكتفاء بتسمية المقري و التعامل معه على أساس كنيته بابي العباس احمد المقري .
و قد كان من المفروض أن يبت في أمر هذا الاصطلاح و الاتفاق على استخدام اسم اصطلاحي واحد قبل بدء أشغال الملتقى ، بل و حول حتى بعض الأمور الإجرائية ذات العلاقة .
ومهما يكن من أمر فان الملتقى استطاع تحقيق الإجماع على نجاحه على كافة المستويات و هو ما يشكل دفعة قوية للملتقيات و الندوات و الورشات العلمية و الفكرية التي دأبت جامعة المسيلة على تنظيمها .
و كانت عشية الأربعاء ، الخامس من هذا الشهر موعدا مع حفل الاختتام حيث تليت توصيات الملتقى من طرف الدكتور التونسي جمعة شيخة و التي جاء فيها اقتراح انعقاد الملتقى القادم في جامعة تلمسان على اعتبار ان المقري ينسب كذلك الى تلمسان ، و اقتراح تسمية احد مدرجات جامعة المسيلة بمدرج أو قاعة المقري .
هذا بالإضافة إلى التأكيد على طبع جميع مداخلات الملتقى بعد تنقيحها و عرضها على لجنة مشرفة على ذلك .
انتهى الملتقى و انتهت معه أجمل ثلاثة أيام في عمر الأساتذة من داخل الوطن و خارجه ، حتى شد الجميع الحنين إلى ملتقى آخر و مع مقر آخر ومع مسيلة أخرى .
أصداء الملتقى :
• خرج المشاركون بانطباع جيد عن الانسجام الكبير و التفاهم الواضح على إنجاح الملتقى لدى جميع المشرفين بالجامعة ، و هو قليل في الكثيرات من جامعات الوطن حيث الانحيازات الشخصية على حسب ما ذكر لنا الكثير من المشاركين من مختلف الجامعات .
• أعجب المشاركون بالصرح العلمي الضخم المتمثل في جامعة المسيلة خاصة و أن هياكلها و منشآتها تتربع على مساحة شاسعة قد لا تتوفر حتى لجامعات ذات تخصصات اكبر . ناهيك عن أريحية المدرجات و الو رشات التي ضمت أعمال الملتقى .
• عميد جامعة المسيلة و مدير مخبر الشعرية الجزائرية و مدير معهد اللغة العربية و آدابها و رئيس لجنة التنظيم بن يحي عباس البشوش و الأستاذ الرزين المرن عمار بلقريشي و الكثير من الأسماء الأخرى ، أسماء كان لها دور كبير في إنجاح فعاليات الملتقى .
• اجمع الحاضرون على أن شخصية المقري موضوع الملتقى جمعت أعلام عصره عليه و هو حي و جمعت الأسرة الجامعية من مختلف أرجاء الوطن و هو ميت ، وهي شهادة للرجل على انه حي بأعماله و علمه و أدبه .
• الملتقى كان ناجحا إلى ابعد الحدود خاصة و أن تنفيذا حرفيا لبرنامج الملتقى قد تم ، بالإضافة إلى الانضباط الكبير الملاحظ فيما يتعلق بإطعام و إقامة المشاركين .
* الوقت المخصص للمداخلات كان قصيرا جدا حتى يستطيع الاساتذة توصيل مداخلاتهم ، و قدكان من المفروض اخذ جانب الكيف على الكم . • زيارة الوفد المشارك إلى الموقع الأثري لقلعة بني حماد أثار الكثير من الإعجاب بحضارة و قوة دولة بني حماد التي استقرت حصونها العسكرية على التخوم الشمالية للمسيلة و قيام حضارتها الراقية ببجاية . و في المقابل لاحظ الزوار غياب و تفريط وزارة الثقافة في الاعتناء بهذا المعلم التاريخي القائم بنفسه إلى حد الساعة ، حتى و أن كان هذا لا يعفي مسؤولي ولاية المسيلة بشكل عام .
• من مظاهر الإعجاب أيضا بعظمة بناة القلعة أن يفصح احد الزوار أن القلعة لو تهد بفعل زلزال أو بفعل فاعل ، لا قدر الله ، فلن تجد من يتقن و يرسم مخطط إعادة بنائها و الدليل غرز فرق ترميم القلعة لدعامة خرسانية بشكل " Y " لشد الأمتار العلوية بعد ترميمها و إعادة بنائها ، و قد نسي القائمون على ذلك أن هذا الحرف قد يعطي انطباعا أن الموقع الأثري هو موقع روماني .
• أبدى المشاركون إعجابهم بالفضاء الفسيح الذي تختص به مدينة المسيلة خاصة شوارعها الواسعة و طرقها المزدوجة .
• لاحظ المشاركون الغياب شبه الكلي لوسائل الإعلام اللهم شبه حضور محتشم حتى لإذاعة الحضنة خص به حفل الافتتاح ، و هو ما يؤكد شيئين اثنين احدهما أن القائمين على الملتقى لا يولون الاهتمام الكافي و الواعي للإعلام أو أن القائمين على وسائل الإعلام لا يهمهم المقري أو أية شخصية وطنية بقدر ما يهمهم حضور جون و جاك و بيير و غيرهم . و المفارقة العجيبة أن إذاعة الحضنة بدت بقسم ثقافي مبتور إذ لم تكلف نفسها حتى لحضور حفل الاختتام و إعلان توصيات الملتقى .
• لاحظ الجميع الحضور المكثف للطلبة و تعطشهم الكبير للمعرفة خاصة عندما يصنع لهم الحدث الذي يستفيدون منه.
• بدا ختيم عزوز بفكاهته و خرجاته الشعرية ، التي ما انفكت تخرج الحضور من رتابة المداخلات و تمنحهم نكهة خاصة ، نجم الملتقى .
• لاحظ الكثير من المشاركين الذين استغلوا بعض الفرص لزيارة المدينة ، كثرة و تنوع السلع فيها و الأثمان المعقولة و المنخفضة لبعض الأغراض خاصة الأدوات الكهرومنزلية و أجهزة و لواحق عتاد الإعلام الآلي .
• تمنى المشاركون لو أن هناك مقري آخر يجمعهم قريبا في المسيلة . خاصة و أن مغادرتهم بعد انتهاء الملتقى كانت بمثابة المغامرة بعد سقوط الثلوج و انقطاع الطرق و المسالك ، حيث تأجلت مناقشة رسالة دكتوراة بالعاصمة يرأس جلستها الدكتور صالح عبد القادر و تأجلت مغادرة المشاركين الليبيين و المشاركين المغربيين إلى وقت لاحق .
بعض مداخلات المشاركين في ملتقى " تراث المقري - مشروع اعادة قراءة " 1 / مداخلة الاستاذ : عبابسي ميلود / المركز الجامعي بالمدية خصائص السّرد في أدب الرّحلة عند المقّري مقدمة نشأة أدب الرحلة عند العرب وأهميته: "فن الرحلة لون أدبي، ذو طابع قصصي، فيه فائدة للمؤرخ مثل الباحث في الأدب والجغرافي وعالم الاجتماع وغيرهم، كما هو ضرب من السيرة الذاتية في مواجهة ظروف وأوضاع، وفي اكتشاف معالم وأقطار ووصفها، والحكم عليها...فهو في النهاية- وصف لكل ما انطبع من ذلك وسواه في ذهن الرحالة، عبر مسار رحلته وفي احتكاكه بالمحيط، يتآزر في ذلك الواقع والخيال...وأسلوب القص والحقائق العلمية..."[1]. تشير كتب المؤرخين إلى أن العرب منذ ما قبل الإسلام كانوا أصحاب أسفار برّية وبحريّة، بحكم نشاطهم التجاري المعروف[2]. وقد امتدت اتصالاتهم التجارية إلى إفريقيا غربا وإلى الهند وما وراءها شرقا، ودليل ذلك عند المؤرخين ما ورد في بعض المصادر "أن الإسكندر الأكبر عندما فكر في غزو شبه الجزيرة العربية ارتأى أن يتم ذلك عن طريق موانئها على الخليج العربي حتى يقطع صلاتها بأسواقها الرئيسية[3]. ولا أدلّ على ذلك كله من قوله تعالى في سورة قريش:?لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف?. إذن كان العرب أصحاب رحلات برية وبحرية والأدلة على ذلك كثيرة[4]، والسؤال المطروح هنا هو: هل دون العرب قبل الإسلام وبعده رحلاتهم؟ ومتى كان ذلك بالضبط؟ وبعبارة أدق متى ظهر أدب الرحلة عند العرب؟ يجمع الدارسون على أن أدب الرحلة لم يظهر بشكل واضح ومستقل إلا بداية من القرن الثالث الهجري أي القرن التاسع الميلادي وأشهر أعلام أدب الرحلة في هذا القرن: - اللغوي المؤرخ هشام الكلبي (ت206هـ) وأهم مؤلفاته: كتاب الأقاليم، "والبلدان الكبير" و"البلدان الصغير". - الأصمعي (216هـ) من خلال كتاب "الأنواء". - الجاحظ (255هـ) من خلال كتاب " الأمصار وعجائب البلدان". "ثم تلاهم مجموعة من الرحالة الذين حرصوا على ما حصلوا عليه من علم فأودعوه بطون الكتب، وهم يمثلون البداية الحقيقية لعلم البلدان... ومنهم: البلاذري، واليعقوبي..."[5]. ثم تشهد القرون الموالية ظهور رحالة بارزين كان لهم الأثر الواضح في أدب الرحلة وفي بقية العلوم المتصلة به. وأشهرهم من القرن الرابع الهجري: قدامة بن جعفر (ت337هـ) ابن حوقل (ت331هـ) المسعودي(ت346هـ) المقدسي(ت390هـ). ومن القرن الخامس الهجري نذكر: البيروني (ت440هـ) أما من القرن السادس الهجري فنذكر: أبو بكر العربي (ت543هـ) ترتيب الرحلة، الإدريسي (ت560هـ) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. ومن القرن السابع الهجري نذكر: البغدادي (ت629هـ) "الإفادة والاعتبار...". ياقوت الحموي (ت626هـ) معجم الأدباء، معجم البلدان. ومن القرن الثامن الهجري نذكر: ابن بطوطة(ت776هـ) تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ابن خلدون (ت808هـ) كتاب العبر وديوان المبتدأ الخبر في أيام الغرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. يذكر الدكتور فؤاد قنديل أن الرحلات العربية انحسرت بعد القرن الثامن الهجري أو كادت: "ولما كانت الرحلة العربية إحدى مزايا الحضارة العربية، فقد تقلصت نسبيا هي الأخرى خلال القرنين التاسع والعاشر...[6]، وقد ذكر لذلك أسبابا أهمها: - المشكلات السياسية والاقتصادية التي عمت العالم العربي. - النكوص الثقافي والحضاري العام. - زوال دولة الإسلام من إسبانيا. - بدء الكشوف الجغرافية الكبرى واكتشاف العالم الجديد في الأمريكيتين[7]. ثم يعود أدب الرحلة إلى التطور والازدهار مع مطلع القرن العشرين مع رحلات كل من: محمد عمر التونسي(1903م) ورفاعة الطهطاوي:"تلخيص الإبريز". بعد هذا العرض التاريخي لمسيرة أدب الرحلة عند العرب نتساءل أين تظهر أهمية هذا الفن الأدبي؟. أهمية أدب الرحلة: يقول أبو الحسن المسعودي: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه وإثارة كل نفيس من مكمنه". وقال الكاتب الفرنسي "سافاري": "إن الرحلة أكثر المدارس تثقيفا للإنسان". من خلال هذين القولين يمكننا إجمال أهم مظاهر أهمية أدب الرحلة فيما يلي: - لقد أسهم الرحالة العرب بقصد أو بغير قصد- في توفير معارف تاريخية وجغرافية وعلمية. - تقديم إسهامات كبرى لعلوم مختلفة مثل: الفلك، الاجتماع، النفس، الأدب وغيرها. - تقديم فرصة لاكتشاف الآخر والأخذ عنه والشعور بمنافسته ومن ثم الرغبة في التفوق عليه. - وتظهر أهمية أدب الرحلة في الأدب العربي بناء على رأي الدكتور شوقي ضيف: "خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها الأدب العربي، تهمة قصوره في فن القصة". خصائص السرد في أدب الرحلة عند "المقري": 1- علاقة أدب الرحلة عند المقري بالظروف السياسية التي أحاطت به: المعلوم أن أدب الرحلة من الفنون التي تجمع بين أبعاد الانتقال عبر الزمان والمكان، ويبلور ذلك كله التفاعل النفسي في إطار الزمان والمكان، وبذلك يحقق الأديب الرحالة ذاتيته واجتماعيته ولكنه من زاوية أخرى يسهم عن قصد أو غير قصد- في إعطاء صورة عن العصر الذي يعيشه بما في ذلك الظروف السياسية والاجتماعية والسؤال المطروح: هل قدم المقري صورة عن عصره (سياسيا) بطريقة أدبية(فنية) جمالية من خلال أدب الرحلة؟ الجواب: إن تتبع آثار المقري ممثلة في نصوص أدب رحلاته يقودنا إلى الوقوف على حقيقة الارتباط بين المقري وواقع حياته في جانبها السياسي، ويبدو ذلك من خلال أول نصوصه الرحلاتية [حنين إلى الوطن]. وفيه إشارة مختصرة إلى الأسباب والظروف التي دفعت به إلى الارتحال عن وطنه ومغادرته مكرها وهي في مجملها ظروف سياسية يقول مشيرا إلى ذلك:"إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد برحلتي من بلادي، ونقلتي من محل طارفي وتلادي، بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا، وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضمارا وقطعا ووقصا.[8] من خلال هذا النص نوجز تلك الأسباب والدوافع على الشكل التالي: · وفاة صاحب إمارة السعديين: المنصور بالله أبي أحمد المعروف بـ: الذهبي وصراع أبنائه بعده على الحكم. · اضطراب الحياة في مدينة فاس (مقره). · الغزو الإسباني والبرتغالي لبلاد المغرب. · اتهامه بالميل إلى قبيلة "شراقة" التلمسانية في فسادها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي. 2- الاستحضار (الاسترجاع): تظهر هذه التقنية كخاصية من خصائص السرد الرحلاتي عند المقري، من خلال وقوفه في مقدمة رحلاته- على أطلال الزمان والمكان مستحضرا بعض صور الماضي ويعرف ذلك في التحليل البنوي للسرد بـ: السرد اللاحق "la narration postérieure". وتظهر أهمية هذه التقنية في إبراز الفكرة وإظهار وجهة نظر صاحبها ونواياه "فكل ملفوظ يشترط باثا ومتلقيا وعند الأول هدف التأثير في الثاني بأية طريقة"[9]. ومن الأمثلة على ذلك قوله: - لم أنس تلك النواسم، التي أيامها للعمر مواسم، وثغورها بالسرور بواسيم، فصرت أشير إليها وقد زمت للرحيل القلص الرواسم[10]. وقوله: "...وأتمثل في تلك الحدائق التي حمائمها سواجع، بقول من جفونه من الهوى غير هواجع"[11]. وقوله أيضا: "وأتذكر تلك الأيام، التي مرت كالأحلام، فأتمثل بقوله بعض الأكابر الأعلام...". يا ديار السرور لا زال يبكي فيك إذ تضحـك الرياض غمام رب عيش صحبته فيك غض وعــيون الفــراق عنا نيام ويستمر الاستحضار (الاسترجاع) كتقنية سردية في باقي الرحلات وفيه إشارة إلى مدى ارتباط المقري ببيئته في مظهرها الطبيعي ومنه قوله عندما رحل إلى دمشق بعدما زار مصر وبيت المقدس للمرة الثانية: "...وكنت قبل رحلتي إليها والوفادة عليها كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ما يشوقني إلى رؤيتها ولقائهم..."[12]. ثم يفصح عن تأثير البيئة الطبيعية الشامية في نفسه فيقول مستحضرا: "...وقد تذكرت بلادي النائية، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه، فما شئت من أنهار ذات انسجام...وأزهار متوجّه للأدواح، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح..."[13]. ويؤكد المقري ذلك التعلق بموطنه من خلال استحضاره له دوما والإشارة إليه مرارا إلى حد التفاؤل بالعودة إليه يوما ما، فيقول: "...وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار، تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار..."[14]. ويختم بنتيجة ذلك التعلق بالموطن والشام معا فيقول مستحضرا: "...وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه، فصار القلب بعد ذلك مقسما بهواه. ولي بالحمى أهل وبالشعب جــيرة وفي حاجر خل وفي المنحنى صـحب تقسم ذا القلـب المتــيم بينـهم سألــتكم بالله هـل يقسم القــلب؟[15]. 3- جمالية الأسلوب: إنّ تفحص بنية نصوص أدب الرحلة عند المقري يفضي إلى استخلاص جملة من الخصائص الأسلوبية التي تخدم الدلالة المتوخاة، وأهمها: أ- دقة الوصف والتصوير: تعرض المقري في نصوصه الرحلاتية إلى وصف عوالم مختلفة أهمها (الجانب النفسي، الطبيعي والجغرافي)، ولم يكن وصفه لحالته النفسية سطحيا أو عابرا بل كان يغوص في أعماق نفسه محللا واصفا لما تعانيه نفسه في آلام الاغتراب ومشقة الانتقال. فيقول مثلا: " ولم أزل بعد انفصالي عن الغرب بقصد الشرق واتصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق: أحـــن إذا خلـوت إلى زمــان تقــضى لي بأفــنية الربـوع وأذكــر طيــب أيـام تـولـت لنا فـتـفيض من أسف دمـوعي.[16] لكنه سرعان ما يطوي صفحة التأثر والبكاء على الوطن، وينتقل إلى وصف جمال الطبيعة في كل البلاد التي حل بها ويقدم ذلك في صورة تفاعلية تكشف عن نفس مقرية رومنسية محبة للجمال متأثرة به والأمثلة في هذا الموقف كثيرة نكتفي منها بـ: "...ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، يقول ابن ناهض فيها: شاطئ مـصر جنة ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت بنيلها المطـرد[17] وكذلك كان شأنه عندما دخل مكة، وطيبة وبيت المقدس، وعندما يحل المقري بدمشق تثور في نفسه المشاعر ويتذكر الوطن المغادر، ويعترف بالسر في ذلك فيقول:"...إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار..."[18]. وقد أفاض المقري في وصف جمال دمشق وسحرها نثرا وشعرا ومن ذلك قوله فيها: "...ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنق في الخطاب وأطال في الوصف وأطاب، وإن ملأ من البلاغة الوطاب، كما قلت: محاسن الشام أجـلى من أن تسام بحد لولا حمى الشرع قلـنا ولم نقف عند حد كــأنها معــجزات مقرونة بالتحدي[19]. ب- السجع: تمتد خطبة الكتاب (نفح الطيب) مقدمة المؤلف من ص1 إلى 121، ويشغل أدب الرحلة فيها حيزا كبيرا إذ يبدأ من الصفحة 13 إلى 98، يشكل الشعر جزءا كبيرا فيها. أما باقي نصوص أدب الرحلة، فهي نثرية، وقد جاءت كلها مسجوعة، وبذلك يظهر حرص المقري على جمالية الشكل دون التفريط في المضمون، بل إن دراسة ظاهرة السجع في أدب الرحلة عند "المقري" من الوجهة الأسلوبية ينطوي على أهمية بالغة في الدلالة النهائية، ذلك أن التناغم الموسيقي الحاصل بموجب السجع يؤثر على المتلقي بشكل واضح ويبعد عنه الملل والكآبة ويؤهله لخوض رحلة تفاعلية مع المضمون، والشواهد على السجع كثيرة جدا نكتفي بالإشارة إلى بعضها فقط من مثل قوله: في نص رحلته إلى مصر "ثم جد بنا السير في البر أياما، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبالها وهياما، وكنا عن تفاعيل فضلها نياما، إلى أن ركبنا البحر، حللنا منه بين السحر النحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله، ما لا يعبر عنه، ولا يبلغ له كفه"[20]. ومن نص رحلته إلى مكة والمدينة: "ولما وقع بصري على البيت الشريف، كدت أغيب عن الوجود واستشعرت قول العارف بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود..."[21] "ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار، لطيبة التي لها الفضل على الأقطار، واستشعرت قول من أنشد وطبر عزمه عن أوكاره قد طار..."[22]. ومن نص رحلته إلى دمشق: "ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان، دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام والأدواح المتنوعة، والأرواح المتضوعة، حيث المشاهد المكرمة، والمعاهد المحترمة..."[23]. ملاحظة: قد يبدو للقارئ المستعجل أن السجع عند المقري أمر متكلف، والحقيقة إنه غير ذلك، فهو تلقائي ينساب انسيابا يزيد الوصف عذوبة وإشراقا ودليل ذلك: أ. لقد جاء سجع "المقري" ملائما لموقف الوصف. ب. هناك انسجام بين السجع في النثر والاستشهاد بالشعر وهو ما يجعل نص أدب الرحلة منسجما من حيث الشكل. ج. يظل المعنى مشرقا وعميقا رغم الاهتمام بالسجع الواضح. د. لم يخرج المقري عن عادة الرحالة العرب قبله الذين دأبوا على أن يكتبوا عن رحلاتهم كلاما مسجوعا، ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر: قدامة بن جعفر، المسعودي من القرن الرابع الهجري والبيروني من القرن الخامس الهجري[24]. 4- الحضور الشعري (استشهادا وإبداعا): إن الملفت للانتباه في جملة نصوص أدب الرحلة عند المقري هو طغيان الشعر على النثر، وسندرس هذه السمة الأسلوبية بالتركيز على ما يلي: - طبيعة الحضور الشعري في أدب الرحلة من حيث الاستشهاد والإبداع، وما دلالة ذلك؟. - حضر الشعر في أدب الرحلة عند المقري بشكل قوي وخاصة ما كان منه استشهادا وفي ذلك إشارة إلى قوة حافظته وقدرته على الاستشهاد و الاستحضار والاحتجاج، لأننا عندما نمعن النظر في الهدف من الاستشهاد نجده يحقق هدفين اثنين هما: § تأكيد الوصف والتصوير بالنصوص الشعرية التي قيلت في الموضوع ذاته أو هي مناسبة للمقام. § التأثير في المتلقي لأنها ذات هدف أو بعد حجاجي ظاهر. - أما فكرة تطويع الشعر لغرض أدب الرحلة، فهو فيها صاحب سبق ثم جاء أحمد شوقي في القرن 14هـ وطوع الشعر للمسرح على صعوبته، وهو ما يؤكد اقتدار المقري الأدبي*. وإن ورد في أدب بعض الرحالة العرب شعر فهو على وجه سبيل الاستشهاد لا على سبيل القالب الغالب[25] وهذا هو وجه التميز والانفراد عند المقري. ونظرا لطغيان القالب الشعري على جملة النصوص الرحلاتية المقرية نكتفي بالإشارة إلى ما يلي على سبيل التمثيل لا الحصر: يقول في مقدمة نصوصه الرحلاتية (الحنين إلى الوطن) مستشهدا بشعر ابن الزقاق على بن عطية الشاعر الأندلسي: وقفت على الربوع ولي حنين لساكنهن ليس إلى الربوع ولو أني حــننت إلى مغاني أحبائي حننت على ضلوعي. وفي رحلته إلى مصر يقول: "ثم وصلنا بعد خوض بحار ، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيرا من محاسنها تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، يقول ابن ناهض فيها: شاطئ مصر جـنة ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت بنـيلها المطـرد ومن شعره في رحلته إلى دمشق قوله: "...فكم لها من حسن ظاهر وكامن، كما قلت موطئا للبيت الثامن: أما دمشق فخضرة لعبت بألباب الخلائق هي بهجةالدنيا التي منها بديع الحسن فائق ومنه أيضا قوله: "وكما ارتجلت فيها أيضا: قال لي ما تقول في الشام حبر كلما لاح برق الحسن شامه قلت: ماذا أقول في وصف قطر هو في وجنة المحاسن شامه 5- حضور المتلقي في أدب الرحلة عند المقري: تحتل مقصدية المؤلف (المرسل) أهمية كبيرة في جميع أنواع الخطابات السردية ذلك أن البنية الزمنية المخططة سلفا من طرف السارد تسهم في إبراز الفكرة وتظهر وجهة نظر صاحبها ونواياه ومن هذا المنطلق "فكل ملفوظ يشترط باثا ومتلقيا، وعند الأول هدف التأثير في الثاني بأية طريقة"[26]. ومن ثم بات ضروريا وجود متلقي كونه محل مقصدية المؤلف وحوله تتركز أهداف المرسل المتمثلة في التأثير ويعرف هذا المتلقي بكونه: الطرف الآخر الذي يوجه إليه المرسل خطابه عمدا، فهو إذا حاضر في ذهن المرسل عند إنتاج الخطاب سواء كان حضورا علميا أم استحضارا ذهنيا[27]. ويبدو من خلال النصوص الرحلاتية المقرية أن المتلقي حاضر بشكل واضح وحضوره من النوع الثاني أي هو استحضار ذهني لأن المقري يفترض في بعض تعليقاته حضور المتلقي الذي يبدي ملاحظاته، ثم يبني المقري عليها خطاباته. والأمثلة التي نوردها أدناه تبرز ذلك الاستحضار الذهني للمتلقي في نفس المرسل ومنها قوله في مقدمة رحلاته: "ومن الغريب الذي ينكره غير الأريب أن الحادي إن سر القلب بكشف رين، فقد تسبب في اجتماع أمرين متنافيين متنافرين"[28]. ويقول أيضا: "وكأني بعاتب يقول: ماهذا التطويل؟ فأقول: جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل[29]. ومن رحلته إلى بيت المقدس قوله: "وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية: إلى متى وهذا الميدان تكل فيه فرسان البديهة والروية؟ فأنشده في الجواب قول بعض من أمّ نهج الصواب"[30]. و من رحلته الثانية إلى مصر قوله: "وقد امتد بنا الكلام وربما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام، فنرجع إلى ما كنا بصدده من إجابة المولى الشاهيني، أمده الله بمدده فأقول مستمدا من واهب العقول"[31]. إن ما عمد إليه المقري من استحضار ذهني للمرسل إليه (المتلقي) لم يكن مجرد استحضار ولم يكن مجرد مجاراة لأساليب القدامى من الرحالة العرب، بل إن هذه التقنية السردية هادفة إلى تحقيق فاعلية أكبر لخطابه، "إن هذا الشخوص هو ما يسهم في حركية الخطاب، بل ويسهم في قدرة المرسل التنويعية ويمنحه أفقا لممارسة استراتيجية خطابه"[32]. ومما يؤكد سعي المقري إلى تفعيل خطابه في أدب رحلاته رسمه لاستراتيجية مهمة تتمثل في ما اصطلح عليه الدارسون المحدثون اسم: الاستراتيجية التضامنية، "وهي الاستراتيجية التي يحاول المرسل بها أن يجسد درجة علاقته بالمرسل إليه ونوعها، وأن يعبر عن مدى احترامه لتلك العلاقة ورغبته في المحافظة عليها... أو هي محاولة التقرب من المرسل إليه وتقريبه"[33]. وهذا من شأنه أن يؤثر على المرسل إليه إيجابا ويجعله يتفاعل مع نص الرحلة المقرية، وليس للمقري في ذلك أغراض منفعية شخصية (ذاتية)، "وإنما هو عين التأدب في الخطاب"[34]. ويختتم المقري نصوصه الرحلاتية بمثالين يؤكدان هذه الحقيقة التواصلية بوضوح وهما: المثال الأول: قوله: "فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب المتجافي عن مذهب النقد والعتاب، كلمات سوانح، اختلست مع اشتعال الجوانح..." [35]. المثال الثاني: يأتي في خاتمة المقدمة (مقدمة الكتاب) يؤكد من خلاله المقري على سعيه إلى تحقيق الاستراتيجية التضامنية فيقول: "هذا وإني أسأل ممن وقف عليه أن ينظر بعين الإغضاء إليه، كما أطلب ممن كان السبب في تصنيفه والداعي إلى تأليفه وترصيفه، استنادا لركن الثقة، واعتمادا على الود والمقة، أن يصفح عما فيه من قصور ويسمح ويلاحظه بعين الرضى الكليلة ويلمح، إذ ركبت شكل منطقه والأشجان غالبة وقضية الغربة موجبة للكربة ولبعض الآمال سالبة..." [36]. 6- الوعي بفكرة البنية العامة أو التماسك النصي: بعد التأمل في طبيعة النصوص الرحلاتية المقرية من حيث علاقتها بعضها ببعض نتوصل إلى أن المقري كان واعيا جدا بفكرة البنية العامة للنص، والأدلة التي تؤيد الاستنتاج كثيرة وأهمها: - جاءت نصوص أدب الرحلة المقرية متصلة بعضها ببعض من خلال البنية الأسلوبية الظاهرة والتي يدل عليها: حرف العطف (ثم) الذي ورد رابطا بين جميع النصوص الرحلاتية مثلا بين مقدمة الرحلات ورحلته إلى مصر يقول: "ثم جدّ بنا السير في البر أيما..."، "ثم شمرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدة قليلة (رحلته إلى مكة والمدينة)"، "ثم عدت إلى مصر"، "ثم قصدت زيارة بيت المقدس". - اسم الإشارة (هذا) الذي يرد في خاتمة المقدمة وفيه إحالة إشارية قبلية تؤكد على ارتباط اللاحق بالسابق. 7- النضج المنهجي (الأكاديمي): إن التأمل في خطبة كتاب نفح الطيب (مقدمته) يؤدي إلى الحكم على صاحبه بالوعي المنهجي (العلمي المتميز)، فما حقيقة ذلك؟ تبدأ خطبة الكتاب من الصفحة 01 إلى الصفحة 121. استهلها بديباجة معروفة (الحمد والثناء + الصلاة على المصطفى+قصيدة شعرية). ثم سرد رحلاته التي جاءت معبرة في سياقها المنهجي عن أسباب ودوافع تأليف الكتاب، لأنه لولا تلك الرحلات التي قادته في النهاية إلى الشام ما كان لأهلها أن يعلموا منه أخبار لسان الدين بن الخطيب ولما طلبوا إليه التأليف في سيرته. وقد بدأ تأليف الكتاب ولا يزال رحالة (في مصر). ثم يشير إلى قضية منهجية مهمة جدا تتمثل في: منهجه في التأليف فقد قسم الكتاب إلى قسمية في كل قسم ثمانية أبواب وقد التعليل المناسب لذلك. وأشار خلال ذلك كله إلى العنوان، وكيف دعته الضرورة المنهجية إلى تغييره بحكم المادة المحتواة فيه فقد سماه من قبل: (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب). ثم عدل عن ذلك إلى تسميته بـنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب). وختم مقدمته بجملة من الملاحظات هي من صميم البحث الأكاديمي أهمها: - الاعتراف بالجميل لكل من وقف مساندا أو كان سببا. - الإشارة إلى صعوبة ظروف التأليف. - التواضع العلمي (وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه). * لا نقصد بالسبق في ورود الشعر في أدب الرحلة، فقد سبق المقري إلى ذلك من قبل الرحالة العرب وعلى سبيل المثال "الرحالة أبودلف مسعر بن مهلهل" رحالة من القرن الرابع الهجري، وإنما نقصد فكرة تطويع الشعر كقالب لأدب الرحلة أو الجمع بين الشعر والنثر. 2 / مداخلة الاستاذ وهراني قدور / جامعة وهران الشعور بالغربة والإحساس بالحنين إلى الوطن عند المقري. الأستاذ قـدور وهراني*. بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛ أساتذتي الأجلاء، أيها الحضور الكريم، إنه من دواعي فخري واعتزازي أن أقف في هذه المناسبة السعيدة لأتحدث عن كوكب أضاء الشرق والغرب بنور علمه، وخلد بكتاباته حضارة كُتب لها الزوال، وأحيِّ القائمين على هذا الملتقى، والذين منحونا فرصة تدارس تراث رجل من أغزر رجال جزائرنا العزيزة علما وأدبا. عاش المقري طول حياته متنقلا بين الأقطار مرتحلا بين الأوطان، حاملاً معه دائماً حبه لموطن الأجداد وحنينه لأرض الميلاد. وقد تجلى ذلك من خلال نصوص شعرية ونثرية مختلفة، تضمنتها مؤلفاته العديدة، فكان ذلك صراحة أحياناً و في ثنايا الكلام أحيانا أخرى؛ لذلك رأيت أن أناقش الاشكالية التالية: إذا كان حب المقري لتلمسان بهذه الدرجة فما هي دواعي خروجه منها؟ وما الأسباب التي دعته إلى تغيير مكان إقامته باستمرار والهجرة الدائمة؟ وهل وجد المقري في الأماكن التي استقر فيها مؤقتاً عوضا عن موطنه الأصلي؟ وما هي النصوص التي تدل على الشعور بالغربة والحنين إلى الوطن عند المقري؟ هل لاهتمام المقري بالأندلس علاقة بشعوره الغربة والحنين؟ وماذا يمثل لسان الدين بن الخطيب بالنسبة للمقَّري؟ هل فعلا عبَّـر المَقَّري عن نفسه من خلال حديثه عن ذي الوزارتين ومأساته؟ ولد المَقَّـري (1) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بمدينة تلمسان سنة 986هـ/1578م، في بيت عز وعلم، فهو قرشي الأصل، قَدِمَ جده الخامس إلى عاصمة الزيانيين بصحبة الشيخ أبي مدين، واستقر هناك فكان له ولعائله حظ وافـر من الثروة والعلم، وقد اشتهر من بين أفراد هذه العائلة المَقَّري الجد وهو أبو عبد الله محمد شيخ لسان الدين بن الخطيب وعبد الرحمن بن خلدون وقاضي الجماعة بفاس على عهد السلطان أبي عنان المريني، والعم وهو أبو عثمان سعيد المقَّـري، شيخ صاحب النفح ومربيه وعالم تلمسان ومفتيها ستين سنة(2)، و كما يقول الأستاذ محمد بن معمر:« فهو إذن ابن عائلة وابن مدينة»(3)، غير أن أبا العباس المقَّري لم يتمتع بثروة عائلته ومجدها المادي، فقد تراجع الحال ونقص المال، إلى حد أن أبا عبد الله جد المقري قال: «فهأنذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة، اتخذنا فصوله عيشا وأصوله حرمة»(4)، فقد كانت عائلة المقري قد فقدت ثروتها قبل مولده، ورغم ذلك كان كثير التباهي بهذه العائلة خاصة بجده أبي عبد الله حيث أفرد له جزءًا مهما من كتابه نفح الطيب. تميز عصر المقَّري بكثرة الاضطرابات والفتن وسقوط دول وظهور أخرى، فقد فقدت تلمسان مكانتها بسبب ضغط الدول عليها، وهذا شأن مرحلة أفول الدول، وقد عبَّـر المقَّري عن ذلك في معرض حديثه عن سبب مغادرته لتلمسان قائلاً: «إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رَدٌّ ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو رد برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضماراً وقطعًا ووقصًا».(5) فالمقري هو ابن عائلة فقدت مجدها المادي، ومدينة تراجعت أهميتها السياسية، وتبع ذلك تراجع في الحياة الحضارية بصفة عامة، هذه الصورة التي رسمها الواقع في ذهن وذاكرة المقري لعائلته ومدينته كان لها كامل الأثر على نفسيته، وكما يقال كلما زادت وطأة الحاضر ومشاكله، زاد الحنين إلى الماضي، فالمقري لم ينس وهو يعيش الغربة وفي أيامه الأخيرة في القاهرة أن يتحدث طويلاً عن مجد عائلته ومدينته في نفح الطيب، بل ذكر أنه كان قد عزم الكتابة عن مدينة تلمسان كتابا بعنوان "أنواء نيسان في أنباء تلمسان" وكتب بعضه ثم حالت بينه وبين ذلك العزم الأقدار وارتحل إلى حضرة فاس فشغل بأمور الإمامة والفتوى والخطابة ونسي الأمر»(6)، ولابد أن تأليفه لكتاب عن الأندلس عوض تلمسان له ما يفسره على المستوى النفسي لشخصية المقري. لقد كان للوضع الذي آلت إليه تلمسان كامل التأثير على الحياة العلمية فيها، فقد هجرها معظم علمائها مما أدى بأبي العباس إلى الهجرة متجها نحو فاس بناءً على نصيحة عمه وشيخه أبو عثمان سعيد المقَّـري وذلك للأخذ عن علمائها. وقد كان لخروج المقري مضطرًا من تلمسان أثر كبير في نفسه، فقد غادرها في سن الشبيبة بعد أن ألِـف العيش فيها وأمضى جزءاً مهما من أزهى فترات عمره بين شوارعها وبساتينها، إذا لم ينس وهو يُؤلف نفح الطيب أن يذكر هذه الحادثة بنوع من الأسى والحزن قائلا:« وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف»(7)، ويُؤكد نفس الفكرة ما ذكره في مقدمته لكتاب أزهار الرياض في أخبار عياض قائلاً: «إنه لمـَّا سبق القضاء وجرت الأقدار، بارتحالي عن الوطن المحبوب والقرار، بعد أن شممت عراره النجدي ولا أشجان ولا أكدار، في عشية لم يكن بعدها من عرار؛ ونزحت عن بلد به الوالد وما ولد محل قطع التمائم، وفتح الكمائم، سقى الله عهاده صوب الغنائم: بلـدٌ تحف بـه الرياض كأنـه وجـه جميـل والرياض عـذارهُ وكأنما واديـه مـعصم غـادةٍ ومـن الجسور المحكمـات سواره(8) ورغم أن المدة الزمنية بين تأليف المقري لأزهار الرياض ونفح الطيب طويلة فقد ألَّـف أزهار الرياض بين سنتي 1013 و1027 هـ وانتهى من تأليف نفح الطيب سنة 1039هـ إلا أن كلا الكتابين يتضمنان أفكارا وعبارات متشابهة فقد دعم مقدمتيهما بجمل وأبيات تحمل شحنة الحنين إلى الوطن، ومعنى ذلك أن شوقـه إلى بلده لم يفارقه طول مدة إقامته في المهجر، فهو في فاس كان يحن إلى تلمسان وفي مصر كان يحن إلى المغرب. ومن بين العبارات التي حفلت بها مقدمة أزهار الرياض حديثه عن حاله عند مغادرته لبلاده: «...وكان ذلك وغصن النشاط يانع، وبرد الشباب قشيب؛ وشمل النفس مجتمع دون مانع، وكأس الأنس مزج بتسنيم القرب والشيب، وفود الرأس غير خاضع و لا خانع، إذ لم تطرق ساحته ولم تجس خلاله جيوش المشيب»(09). وكان من بين ما يحرك عواطف المقري وهو بفاس الكتب التي ترده من حين لآخر من تلمسان، فهو يتحدث عن ذلك بألم: «ولم تزل كتب الأقارب والإخوان ترد عليَّ، وتثني عنان أعنتها إلي، وتتكرر وتتعدد، وتنتاب وتتردد، وتتنوع وتتجدد، فأرتاح إليها إرتياح الغصن عند هزته، وأحن إليها، حنين كُثَيِّرٍ إلى معاهد عزته: يا من يذكرني حديث أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث عليَّ من جنباته إن الحديـث عن الحبيب حبيب وهو يتحدث صراحة عن أثر هذه الرسائل في تحريك عواطفه: «وكثيراً ما يحرك ذلك مني كامن شوق، شبَّ عمره من الطوق، وأجد من لواعج الأورا ما وجده الفرزدق عند مباينة النوار.(10) كما يستهل حديثة عن الحنين على الوطن قائلاً: «وليس بمستنكر حنين الناب إلى عطنه، والمرء إلى محل نشأته ووطنه. كم من منزل يألفـه الفتى وحنينـه أبداً لأول منزل(11) وهو من بيت الغربة يبعث بتحية إلى تلمسان قائلاً: حيا تلمسان الحيا فربوعها صدفٌ بجود بدره المكنون ماشئت من فضل عميـم إن سقى أروى وليـس بالممنـون أو شئـت من دين إذا قدح الهدى أورى ودنيا لم تكن بالدون (12) وإلى الجزائر تحية أخرى قائلاً: بلـدُ الجزائر مـا أمر نواهـا كلـف الفؤاد بحبها وهواهـا يا عاذلي في حبها كـن عاذري يكفيك منها ماؤها وهواهـا(13) وقد حفل نفح الطيب كذلك بما يدل على ما يعبر عن الحنين إلى الوطن، فقد أورد عند الحديث عن تلمسان أبيات تأكد وجود هذا الشعور قائلاً على لسان ابن خفاجة: ما جنة الخُلـد إلا في منازلكم وهذه كنت لو خيرت أختـار لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقرًا فليس تدخـل بعد الجنة النـار (14) و يتحدث عن ذلك في موضع آخر قائلاً: محل فتح الكمائم ومسقط الرأس وقطع التمائم به كان الشباب اللدن غضا ودهري كله زمن الربيع ففرق بيننا زمن خؤون لـه شغف بتفريق الجميـع(15) لم أنس تلك النواسم التي أيامها للعمر مواسم وثغورها بالسرور بواسم فصرت أشير إليها وقد عزمت للرحيل القلص الرواسم: ولنا بهاتيك الديار مواسم كانت تقام لطيبها الأسواق فأباننا عنها الزمان بسرعة وغدت تعللنا بها الأشواق(16) وقد كان المقري حريصا على جمع ما قيل في جمال تلمسان من وصف عند مختلف الأدباء والمؤرخين وهي كما استهل تعريفه لها "من أحسن مدائن الغرب ماءً وهواءً، حسبما قال ابن مرزوق: «يكفيك منها ماؤها وهواؤها»... ويقال تلمشان وهو أيضا مركب من تلم ومعناه لها وشان أي لها شأن وهي مدينة عريقة في التمدن لذيذة الهواء عذبة الماء كريمة المنبت اقتعدت بسفح جبل... عروسا فوق منصة والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين ويطل منها على فحص أفيح معدٍ للفلاحة... وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة والصروح الشاهقة والبساتين الرائقة"(17). ولما كان خروج المقري من بلاده اضطرارياً، بحث في فاس عن الراحة والهدوء مقتدياً بما كان لجده قبله من مكانة في المغرب الأقصى؛ وبالفعل دخلها زمن السلطان أبي المعالي زيدان السعدي سنة 1013هـ (18)، وفكان له ما تمنى من حضوة، فقد ولي الإمامة والخطابة في لجامع القرويين بفاس وكان يعتبر أهم معلم ديني وثقافي في المغرب الإسلامي كله، ثم ترقى بعد ذلك إلى درجة الإفتاء. ويبدو أن المقري أحس بنوع من الاستقرار والراحة في بداية حياته بفاس حيث وصف ذلك بقوله: بلـد طاب لي بـه الأنس حينا وصفـا العود فيـه والإبـداء فسقت عهـده العهـاد وروَّت منـه تلـك النوادي الأنـداء (19). غير أن دوام الحال من المحال فقد تحول جو الهدوء إلى فتنة فلم يستطع المقري أن يبقى في المغرب الأقصى وقرر الرحيل إلى المشرق، دون أن تأثر فيه الأبيات الثلاثة التي قيلت فيه بغرض صرفه عن عزمه: أشمس الغرب حـقاً ما سمعنا بأنك قد سئمت من الإقامة؟ وأنك قد عزمت على طلـوع على سمـوت بـه علامـه؟ لقـد زلزلت منا كل قلـب بحـق الله لا تقـم القيامـه!(20) ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر على مغادرة المغرب اجتناباً لعواقب الفتن والدسائس المستمرة ومستفيدا من الخطأ الذي وقع فيه مثله الأعلى لسان الدين بن الخطيب، فاتجه إلى مصر باحثا عن الهدوء والراحة التي فقدها في المغرب، فبهرته معالمها ومحاسنها، وبحث فيها عن الاستقرار، فصاهر إحدى أسرها الكبيرة، لأن المصاهرة إحدى طرق تقوية العصبية، فاستقر بها مدة لازم فيها التدريس في الجامع الأزهر، بيد أن الأمور رغم ذلك لم تكن بالأمر الهين، فمصر كانت في ذلك الوقت تزخر بعلماء مرموقين وكانت المنافسة العلمية على أشدها، وقد تعرض المقري فيه لعدة امتحانات، فعمد علماؤها إلى مناقشته وسبر معارفه، فوجدوا بحرا لا ساحل له حيث تفوق وأثبت جدارته، وتبوَّأ مكانة مرموقة في مجتمع مصر العلمي (21)، وكان يمضي كثيراً من وقته في رواق المغاربة.( 22) غير أنه كان من سوء حظ المقري إخفاقه في حياته الزوجية مع السيدة الوفائية، فسارت الأمور على عكس ما اشتهى وأراد، فقد كان بيت السادة الوفائية بمصر من البيوت الكبيرة، وكان الناس يلتمسون من مصاهرتهم جاها وشوكة، لكن الأمور سارت بعكس ما أراد المقري.(23) تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ورضت النفس بالتجريـد زهدا وقلت لها عن العلياء صومي مخافة أن أرى بالحرص مـمن يكون زمانـه أحد الخصوم.(24) أمام هذه الأحداث التي عاشها المقري والتي جعلت حياته مليئة بالأحزان والمشاكل، وفقد الشعور بالاستقرار في القاهرة، بدأ البحث عن راحته النفسية، التي كلما وجدها عاد وفقدها حيث يقول: «...وها أنا ذا الآن في البلاد المصرية، وفي علم الغيب تعالى ما لا نعلم، والتسليم لأحكام الأقدار أسلم»(25)، فرأى في دمشق وجهته الجديدة، ووجد فيها حافزاً على العلم والإنتاج، فقد أثار فيه فضاؤها الثقافي وتفاعلها الاجتماعي لواعج النفس، فرأى فيها موطنه تلمسان (26)، وهذا ما عبر عنه بقوله: «لقد تذكرت بلادي النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه...»(27)، على أن نفح الطيب ما كان له أن يُؤلف لولا سفر المقري إلى الشام وتفاعله بوسطها، هذا التفاعل الذي خلق في نفسه استحضارا لجو الوطن الذي كان قد فقده في مصر بعد طلاقه. لقد بعثت ذكرى الأندلس في المقري من خلال ما سجله من أخبارها وما أورده من مآثرها وما ذكره من رجالها روحا جديدة وعزيمة قوية جعلته يتجاوز واقع غربته وينسى شجون أحزانه، بل دفعته إلى التفكير في تغيير أسلوب عيشه، وطريقة حياته، فاستقر على القدوم إلى دمشق، ومغادرة القاهرة، فعاد إلى مصر (1037هـ) وانكب على كتابة نفح الطيب (28)، فوجد في لسان الدين بن الخطيب مواساة لمؤساته بعدما كان قد وجد في القاضي عياض مواسيا له عند كتابته لأزهار الرياض في فاس، فكلاهما عاشا الغربة والحنين إلى الوطن بال عاشا النفي والاضطهاد بعيدا عنه. ففي أحد قصائد لسان الدين عن الوطن يبرز مكانة بلده عنده ومدى تعلقه به قائلاً: بلادي التي فيها عقـدت تمائمي وجم بها وفري وجل بها شـاني تحدثني عنها الشمـال فتنثـني وقد عرفت مني شمائل نشـوان وآمل أن لا أستفيق مـن الكرى إذا الحلم أوطاني بها تراب أوطاني تلون إخـواني علي وقد جنـت علي خطوب جمـة ذات ألـوان وما كنت أدري قبـل أن يتنكروا بأن خواني كـان مجمع خـواني وكانت وقد حم الفضـاء صنائعي علي بما لا أرتضي شر أعواني(29) هذه القصيدة التي نقلها لنا المقري والتي لا يمكن أن يحس بمعانيها سواه، فقد كان يرددها في نفسه، قبل أن يضمن مؤلفاته معانيها المفعمة بالشعور بالغربة والإحساس بالحنين إلى الوطن. وقد استبدل المقري تلمسان الواقع الذي فقده، بالأندلس الذكرى التي حلم بها، فأخرج لنا مؤلفاً يمكن وصفه بمدونة كبرى، بل أن كلا من تلمسان والأندلس يدلان على شيء مفقود في ذاكرة المقري، فقد كان قد شرع وهو في فاس في تأليف كتاب بعنوان "أنواء نيسان في أنباء تلمسان" ولم يتمه، بل كتب بدلا عنه مؤلفاً آخر عن الأندلس وهو "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب". ويمكن القول إن المقري من خلال حديثة عن تلمسان وحزنه لفراقها، ورثائه للأندلس وذكره لمجـدها المفقود قد ساهم في طرح فكرة الارتباط بالوطن بشكل جديد، ورغم أن تراث الأدب العربي لا يخلو من إسهامات خاصة بأدب الحنين إلى الوطن، إلا أنه لم يكن له من التأثير والالتزام والعمق ما يماثل إسهام المقري في هذا المجال، ولعل هذا ما يجعل المقري، مجددا فيما يتعلق بأدب الانتماء إلى الوطن، والتأكيد على عاطفة الارتباط به والانتساب إليه، هذا الانتماء وهذا الانتساب اللذين سوف تقوم عليهما في العصور الحديثة فكرة الوطنية ببُعدها السياسي ومفهومها الإيديولوجي(30)، خاصة إذا علمنا أن المرحلة التي جاء فيها المقري وهي بعد نهاية العصر الوسيط بقليل وفي بداية العصر الحديث. إن النقاد إذا كانوا قد تحدثوا في المرحلة المعاصرة من تاريخ الأدب العربي عن أدب المهجر وما قدمه للأدب العربي من جديد وللثقافة العربية من إبداع باقتبسه من النهضة العلمية والأدبية الغربية ومدارسها المختلفة من رومنسية ثم واقعية وغيرهما، فإن المقري كان في المرحلة التي عاشها رائد تيار هجرة العلماء المغاربة إلى المشرق، فكانت الهجرة التي تلت سقوط الأندلس وما تبعها من ظروف سياسية صعبة عاشتها منطقة المغرب الإسلامي(31)، سبب ظهور أدب جديد للهجرة، وضع أساسه ابن الخطيب ورفع أركانه المقري؛ ولا يمكن القول أن اختيار المقري لعناوين مرتبطة بالطبيعة كـ: "أزهار الرياض" و"غصن الأندلس الرطيب" و"أنواء النيسان" هي مودة ذلك العصر أو أن ضرورة السجع دعت إلى ذلك، بل هي صورة لأدب مهجر تلك المرحلة وما تميز به من رومنسية وارتباط بالطبيعة، مستمدة من أصالة المجتمع العربي الإسلامي. 3 / مداخلة الدكتور : عبد الرحمان تركي البريد الالكتروني : adab---39@hotmail.com المقري (حياته ومؤلفاته) في الكتابات التاريخية ( دراسة تحليلية ) أولا - الملخص : علامة الجزائر وأديبها الكبير ومفخرة المغرب العربي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني . تناول كثير من المؤرخين بالدراسة والتحليل حياته وأعماله وآثاره لاسيما كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) ، ودونوا إعجابهم وإشادتهم بهذا العالم الموسوعي الذي ألمّ بكثير من العلوم في عصره وتتلمذ على يديه كثير من أهل العلم . في مداخلتي تطرقت إلى ما كتبه المؤرخون حول حياة المقري ومؤلفاته ، وممن رجعت إليهم عبد الرحمان بن محمد الجيلالي في كتابه (تاريخ الجزائر العام / الجزء الثالث) وأبو القاسم سعد الله في كتابه (تاريخ الجزائر الثقافي / الجزء الثاني) ، وشكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية) ، والذي أشاد بكتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) والذي لا يزال من أعظم المراجع التي يعول عليها المحققون في أخبار الأندلس برغم ما فاته من مباحث ومسائل ، وذلك لأن صاحبه اتصل بكتب كثيرة لم يتيسر لغيره الاطلاع عليها ، وشافَهَ في الشرق والغرب عددا كبيرا من الجِلّة وحاضرهم ، وكان المقري نفسه مولعا بأخبار الأندلس ، متخصصا فيها حافظا الكثير من أنبائها وكلام علمائها ونظم شعرائها ، كما رجعت إلى أبي الحسن علي بن عبد الله النباهي المالقي الأندلسي في كتابه (تأريخ قضاة الأندلس أوكتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا) والذي كتب عن جد المقري أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني أحد القضاة بحضرة فاس أيام خلافة أبي عنان . ثانيا - حياة أبي العباس أحمد المقري (986هـ/1578م) (1041هـ/1632م) : علامة الجزائر وأديبها الكبير ومفخرة المغرب العربي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني(1) . ولد بمدينة تلمسان سنة 986هـ/1578م ، وأصل أسرته من قرية مقرّة - بفتح الميم وتشديد القاف وفتحها وفتح الراء إحدى قرى الزاب الجزائري المشهورة بجنوب جبال الحضنة ، ضبطها المترجم نفسه في أزهار الرياض بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة (مَقَّرة) ، وقيل بفتح الميم وسكون القاف وفي النسبة إليها مقري كبدري(2) . اشتهر بيت المقري بتلمسان منذ أن انتقل إليها أعضاء هذه الأسرة الأولون من مقرة أواخر القرن السادس الهجري أعني حين استقرت دولة بني زيان على عرش الجزائر ، واشتهر جده أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني كأحد القضاة بحضرة فاس أيام خلافة أبي عنان المريني(3) ، وكان هذا الفقيه في غزارة الحفظ وكثرة مادة العلم عبرة من العبر وآية من آيات الله الكبر ، قلّما تقع مسألة إلا ويأتي بجميع ما للناس فيها من الأقوال ويرجح ويعلل ، ويستدرك ويكمّل ، قاضيا ماضيا عدلا جذلا ، قرأ ببلده على المدرّس أبي موسى عمران المَشدالي وعلى غيره ، وقام بوظائف القضـاء أجمل قيام (4) . وفي تلمسان درج ونشأ وبها حفظ القرآن الكريم وتأدب وأخذ علمه عن مشائخها المشهورين في التاريخ وأخصهم عمه أبو عثمان سعيد مفتي تلمسان ستين سنة ، والذي أسهم في تكوينه تكوينا أدبيا موسوعيا بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة ، وكان أبو عثمان هذا إماما في العلوم العقلية حسابا ومنطقا وفرائض وهندسة وطبا ، حافظا للغة العرب والشعر والأمثال وأخبار الناس ومذاهبهم وأيام العرب وسيرها وحروبها (5) . ونظرا للفتن التي كانت بين سكان تلمسان والعثمانيين ارتحل المقري إلى المغرب الأقصى فدخل فاس سنة 1009هـ ولقي بها المشيخة ، ثم عاد إلى بلاده فمكث سنتين ثم غادرها إلى فاس ثانيا سنة 1013هـ وبها ألقى عصاه منقطعا إلى العلم والتعمق في البحث ودرس فيها الحديث الشريف وبرع في علوم الشريعة والأدب والتاريخ ، والتقى كثيرا من العلماء والمشائخ (6) . تولى المقري الوظائف السامية بالمغرب كالإمامة والخطابة بجامع القرويين بفاس سنة 1022هـ ، ثم الفتوى ، وهي وظائف العلماء البارزين المقدمين لدى السلطة (7) . ولما اختلت أحوال مملكة المغرب السياسية وكثرت الفتن وانقسمت الدولة السعدية إلى مملكتين أزمع المقري على الرحيل إلى المشرق تاركا المنصب والأهل والوطن والألف ، ويقال أن السبب في خروجه اتهامه بالميل إلى قبيلة (شراقة) في تحيزها لأحد الأطراف المتنازعين ، وكان المقري عالما طارئا عليها وكانت شراقة تلمسانية الموطن ، ويقال أنه حين أحس بأن الأمور تسير على غير ما يروم ادعى التوجه إلى الحج سنة 1027هـ ، وسجل معاصره عبد الكريم الفكون سبب هجرة المقري من المغرب فأرجعه إلى فساد فاس بتبدل دولها بين أولاد أميرها حتى تداعت للخراب (8) . استقر المقري بمدينة الجزائر سنة 1027هـ بعد أن مرّ بمسقط رأسه تلمسان ، واتصل في الجزائر بالعلماء وشرع في التدريس وخصوصا التفسير ، وتبادل مع كبير علماء الجزائر عندئذ وهو سعيد قدورة الألغاز والنكت والمعلومات ، ثم سافر من الجزائر إلى تونس بالبر أيضا ، ومنها إلى مصر ومنها بحرا إلى جدة فأدى العمرة سنة 1028هـ ثم فريضة الحج في السنة الموالية (9) . عاد إلى مصر سنة 1029هـ وتزوج بها ، وظل يتنقل بين مصر والحجاز ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق ، فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين ، وشاء الله أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن وطنه ، ذلك أن أجله قد وافاه سنة 1041هـ/1632م وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق (10) . في المشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي فقد ألّف معظم كتبه هناك ولاسيما موسوعته (نفح الطيب) ، وألّف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة مثل (فتح المتعال) ، واتصل بالوجهاء والعلماء ووجد تقديرا كبيرا ولاسيما من علماء الشام أمثال المفتي عبد الرحمان العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين ، وطارت شهرته كمدرّس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها (11) . ومكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام ، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله :تركت رسوم عزّي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ونفسـي عفتها بالذل فيها وقلت لها عن العلياء صومي وهذا يعود إلى إصابته ببعض النكبات في مصر ومنها وفاة والدته وابنته من زوجته المصرية بالإضافة إلى غربته عن أهله بالمغرب (12) . اعترف له العلماء وخصوصا علماء الشام بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل) ، ونذكر من هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمان العمادي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحي المحاسني ، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطُرف والهدايا والأشعار ، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس (13) وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب) (14) . ثالثا مؤلفاتـه : تميزت مؤلفات المقري بصفاء العبارة ونقاء الديباجة ووضوح المعنى وإشراقه ، وبالاستطراد الذي جعل النقاد يعدونه جاحظ المغرب ، وألّف معظم كتبه التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا عندما كان في المشرق ، وألّف معظم كتبه الدينية في الحجاز ، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق (15) . وعُرف عنه كثرة المحفوظ في مختلف العلوم والفنون وكثرة التأليف في الأدب والتاريخ والحديث ، وقد أخبر عبد الكريم الفكون أن المقري قد انتصب للتدريس في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر عندما أخرجته الظروف السياسية من المغرب ، وأن من جملة ما درّس هناك التفسير ، وكان مشهورا برواية الحديث الذي أخذه عن علماء المغرب والمشرق ، ومما أخذه عن عمّه سعيد المقـري بتلمسان سنده في الكتب الستة إلى القاضي عياض (16) . نُشر البعض من كتبه ولكن معظمها ما يزال مخطوطا أو مجهولا ، ومن أهم كتبه المطبوعة على الإطلاق موسوعته (نفح الطيب) الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه ، وبناء على ما ساقه المقري بنفسه فإنه ذهب إلى الشام سنة 1037هـ ، وفي نفس السنة عاد إلى مصر وشرع في الكتابة ، وجاء في خاتمة الكتاب أنه انتهى منه سنة 1038هـ بالقاهرة وزاد عليه في السنة الموالية بعض الإضافات (17) . وهذه أسماء بعض كتبه (18) : 1 - إتحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى ، وهو تكميل لشرح السنوسية في علم التوحيد . 2 - أزهار الرياض في أخبار عياض ، وهو أشبه كتبه بكتاب نفح الطيب ، وقد ألفه أثناء إقامته بفاس (1013هـ-1027هـ) . 3 - أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة ، وهو بحث في عمامة وملابس النبي صلى الله عليه وسلم . 4 - إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة ، وهو منظومة بدأ تأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة 1027هـ ، وأتمها في القاهرة سنة 1036هـ . 5 - حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي (19) . 6 - البدأة والنشأة ، وهو كتاب كله أدب ونظم . 7 - الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين ، وهو كتاب في الأسماء النبوية . 8 - روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس ، والكتاب عن حياته بالمغرب . 9 - عرف النشق في أخبار دمشق . 10 - الغث والسمين والرث والثمين . 11 - فتح المتعال في مدح النعال ، وهو كتاب صنفه في وصف نعال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ألفه في المدينة المنورة . 12 - قطف المهتصر في شرح المختصر ، وهو شرح على حاشية مختصر خليل في الفقه المالكي . 13 - أنواء نيسان في أنباء تلمسان ، وهو كتاب في تاريخ تلمسان وأهلها . 14 - الجمان في أخبار الزمان . 15 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب . 16 - مجموعة خطب منسوبة إليه ، ومجموعة قصائد في المديح النبوي قيلت بين سنتي 1033هـ و1037هـ أي بعد هجرته إلى المشرق . وبالنسبة لكتاب نفح الطيب : فهو من أهم الكتب في التاريخ العام ، قسم هذا الكتاب الموسوعي قسمين رئيسيين الأول في تاريخ الأندلس الإسلامية ، والثاني في حياة ابن الخطيب ، وقد اشترك المستشرقون (الهولندي دوزي والفرنسي دوجا والانجليزي وليم رايت والألماني كريل ) في نشر الجزأين الأولين منه بمقدمة فرنسية ضافية في ترجمة المؤلف وقيمة كتابه (ليدن 1855م) (20) . ولا يزال نفح الطيب من أعظم المراجع التي يعوّل عليها المحققون في أخبار الأندلس ، وذلك لأن صاحبه اتصل بكتب كثيرة لم يتيسر لغيره الاطلاع عليها ، وشافه في الشرق والغرب عددا كبيرا من الجِلّة وحاضرهم ، وكان المقري نفسه مولعا بأخبار الأندلس ، متخصصا فيها حافظا من أنبائها وكلام علمائها ونظم شعرائها ولاسيما من أقوال لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر الشهير بما يكاد يكون من المعجزات (21) . ولما كان قد رحل إلى المشرق انتهى في طوافه إلى دمشق الشام التي أخذت بمجامع فؤاده فألقى بها عصا التسيار وتعرف بكثير من علماء الشام وأدبائها ، فكان ذكر الأندلس أمامهم ملهج لسانه الدائم وغرام قلبه الملازم ، فأرادوه أولا على تأليف كتاب يتضمن مروياته عن لسان الدين بن الخطيب فصحت عزيمته على ذلك ، وبدأ بكتابة هذا الكتاب سنة 1039هـ ، هذا وقد كان تأليف المقري للنفح حينما كان مقيما بالشام (22) . ولأهمية الكتاب قيل فيه وكاد يلحق بالأمثال السائرة : (إنه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب ، الذي من لم يقرأه فليس بأديب) (23) ، كما قال فيه شكيب أرسلان : " لا أنكر أن كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للعلامة المقري هو من أوفى الكتب بأخبار الأندلس وآدابها : حقيبة أنباء وقِمَطرُ حوادث وخزانة آداب وكشكول لطائف وديوان أشعار ، وقد كان عهد تصنيفه على أثر النازلة الكبرى بباقي الأندلس وامتصاص سؤر الكاس وعفاء الأثر الأخير من سلطان المسلمين فيها ، بحيث أمكن صاحبه ذكر سقوط مملكة غرناطة واستيلاء الاسبانيول على الجميع وختم الدولة الإسلامية في تلك الديار .." (24) ، وقال أيضا : " ولم يشتهر عندنا في المشرق عن كارثة الأندلس غير نفح الطيب من متأخر التآليف" (25) . وأما بالنسبة لكتاب إضاءة الدجنة : فنقول أن المقري لما كان متدينا عن عقيدة وإيمان ، منبهرا عند رؤية الكعبة الشريفة وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحجّ حوالي خمس مرات وزار بيت المقدس حوالي سبع مرات ، ولما كان حافظا للسند مجيدا في تدريس التفسير وصحيح البخاري ، كان تأليف (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) ومجموعة من كتبه الدينية ، كما ترجم في (نفح الطيب) لأبي مدين وأطال في ذلك لأنه شيخ جدّه كما ذكر الكثير من كراماته ومناقبه (26) . وقد نالت (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) مكانة هامة في معرفة التوحيد ودراسته في الجزائر خلال العهد العثماني ، بحيث صارت تنافس عقيدة السنوسي في الأهمية (27) . كتب المقري (إضاءة الدجنة) نظما بلغ فيه حوالي 500 بيت تناول فيها أصول الدين وقضايا التوحيد ، وقام بتدريسها في مكة ومصر ودمشق ، وأجاز بها بعض العلماء الذين كانوا يحضرون درسه فيها ، ومنهم أحمد الشاهين بدمشق ، وقد لخص المقري كل ذلك في هذه الأبيات : وإنني كنت نظمت فيه لطالب عقيدة تكفيه سميتها (إضاءة الدجنة) وقد رجوت أن تكون جُنّة وبعد أن أقرأتها بمصر ومكة بعضا من أهل العصر درستها لما دخلت الشاما بجامع في الحسن لا يُسامى وقام بشرحها معجبا بصاحبها محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي ، واسم شرحه (فتوحات ذي الرحمة والمنّة في شرح إضاءة الدجنة) (28) . وإذا كان للمقري (إتحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى) و(حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي) فهو متأثر بالسنوسي في مجال علم الكلام والعقائد الإيمانية ، وللعلم أن السنوسي في (شرح أم البراهين في علم الكلام) متأثر بأبي حامد الغزالي وبإمام الحرمين أبي المعالي الجويني وبأبي بكر محمد بن العربي الاشبيلي ، وبالتالي فهو أشعري العقيدة ، وهو المذهب الذي ساد المغرب العربي بتأثير مؤلفات الغزالي العقائدية ، وهو المذهب الذي جابه أفكار المعتزلة والجبرية والفلاسفة والحشوية الذين تمسكوا في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة فقالوا بالتجسيم والتشبيه والجهة ، كما يتضح من كتاب شرح أم البراهين للسنوسي (29) . رابعا - خاتمة : نستخلص مما سبق أن المقري عالم تنوعت مواهبه وقدراته بين التاريخ والآداب وعلوم الشريعة والدين ، مفوه قادر على الحفظ والتبليغ والخطابة في زمن يُعد ضمن عصر الانحطاط وبداية جفاف ينابيع العلم والثقافة ، وتدلنا قائمة مؤلفاته على أنه كان أديبا مؤرخا فقيها متكلما ، وهي الميادين التي تضلع فيها علماء عصره ، كما كان مالكي المذهب أشعري العقائد . مداخلة الاستاة : طانية حطاب / جامعة مستغانم ------------- أثر الرحلة في تكوين الشخصية المقرية --------------- الحديث عن المقري إنما هو حديث عن احد أبرز أعلام القرن السادس عشر والسابع عشرين الميلاديين و أشهرهم على الإطلاق . إنه أبو العباس أحمد ابن محمد ابن العباس بن احمد بن يحي بن عبد الرحمان بن أبي العيش بن محمد ، الشهير بالمقري والملقب بشهاب الدين ، يرجع أصل سلفه إلى قرية مقرة بفتح الميم وتشديد القاف وفتحها وفتح الراء ولكنه تلمساني المولد والمنشأ والقراءة ، حيث يشير إلى ذلك في كتابه نفح الطيب :قائلا : ( وبها ولدت أنا وابي وجدي وجد جدي ) .1. لم يذكر تاريخ مولده ، فذكر الزركلي أنه ولد عام 992 هــ/1584 م . وذكر عبد الوهاب بن منصور محقق كتاب روضة الآس للمقري أنه ولد عام 986 هـ/1578 م . واعتمد حسان عباس على ابن منصور في هذا التاريخ . أما ليفي بروفسنال فقد حدد سنة 1000هـ/1591 م تاريخا لولادة المقري ، ولكنه تاريخ مشكك في صحته .2. والمقري مالكي الذهب . قرأ وحصل على يد عمه الجليل أبي عثمان سعيد بن أحمد المقري . مفتي تلمسان ستين سنة ، فحفظ القرآن الكريم وصحيح البخاري ، ودرس أيضا الأدب والفقه المالكي ، فكان بذلك أهلا للتدريس والتأليف لما حظي به من علم وافر . رحلاته : رحل المقري إلى فاس مرتين ، كانت المرة الأولى سنة 1009 هـ ، مضى فيها يطلب العلم على شيوخها وفي مقدمتهم الشيخ ألو عبد الله محمد بن قاسم القيسي ، مفتي فاس وخطيبها . وكانت المرة الثانية سنة 1013 هـ ، فزاد علمه وتحصيله و أصبح عالما ضليعا ، ولم يذكر المقري الأسباب التي جعلته يترك تلمسان ليستقر بفاس ، غير أن بعض الدراسات تؤكد أن الفتن التي عاشتها الجزائر في بداية العهد العثماني هي السبب في هجرة المقري نهائيا من تلمسان إلى فاس .3. حيث أهله تبحره في العلم من الاشتغال بمهنة الافتاء والقضاء والخطابة ، واتصل بالسلطان زيدان السعدي وحظي بمكانة عالية أيامها .وعلى الرغم من ذلك ، فإنه قرر مرة أخرى الرحيل إلى المشرق مشيرا إلى سبب ارتحاله إشارة بسيطة حين قال ( إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد ، ولا محيد عما شاءه سواه كره المرء أو رد ، برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي ، بقطر المغرب الأقصى ، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا ، وطما به البحر الأهواء (..) وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف ، تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف .) .4. فاتجه المقري إلى مصر التي لم يلق فيها ما كان يرجوه من حفاوة الاستقبال ، وتقدير لعلمه ومقامه ، فأنشد أبياتا قال فيها : .5. تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ونفسي عفتها بالذل فيـــــهـــا وقلت لها : عن العلياء صومي ولي عزم كحد السيف ماض ولكن الليالي من خــصـومي . ومن مصر توجه إلى الحجاز بحرا ليعتمر ويحج ويزور قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى القاهرة في محرم سنة 1029 هـ . وفي شهر ربيع الأول من السنة رحل لزيارة بيت المقدس وراح يتردد إلى مكة والمدينة ، فزار مكة خمس مرات والمدينة المنورة سبع مرات قاضيا وقته في العبادة والتدريس حتى وافته المنية سنة 1041 هــ/1632 م بالقاهرة . الرحلة عند المقري : من التجسد فعلا إلى التجسد كتابة : والواضح مما سبق ، أن الرحلة قد شغلت فضاء واسعا في حياة المقري ، إذ أمضى نصف حياته إن لم نقل أغلبها متنقلا بين مختلف البلدان والأمصار : تلمسان وفاس ومصر والحجاز وفلسطين والشام . والرحلة فعل إنساني عرفته البشرية في كل المراحل ، وبمختلف الأشكال .عبرت عن تجارب وخبرات امتزج فيها اليومي بالمتخيل . وربما تستر بعض الرحالة العرب ، ومنهم المقري عن ذكر الأسباب الحقيقية التي تدفعهم لذلك ، كالفرار من إحباطات شخصية ، أو من مضايقات سياسية أو خوف من مصير مجهول ، كل هذه الأسباب وغيرها يمكن أن يؤسس إلى فكرة الرحلة .6. ولن نحيد عن الصواب في هذا المقام ، إن قلنا إن المقري قد تمكن وببراعة شديدة من نقل هذه التجارب والخبرات التي اكتسبها عبر رحلاته إلى مجال الإبداع وتجسيدها كتابة قائمة بذاتها . فتحولت الرحلة عنده من كونها فعلا ماديا إلى فعل سردي منفتح على أشكال سردية أخرى خاض الكاتب غمارها من قبل . ولعل الرحلة من الأشكال التي تحتفل بالثراء والتنوع باعتمادها على السرد استكشافا لخبايا عوالم الحكي المشدود إلى تجارب وخيالات تنبني وترتسم سرديا.6. فمن خلال خطبة نفح الطيب مثلا يتحدث المقري عن محطات حياته المختلفة ، وعن رحلاته وتنقلاته بين عدة أقطار من الشرق والغرب ، مصورا كل ما شاهده فيها من مظاهر الحضارة ، راسما صورة كل ماوقعت عليه حواسه من جمال وسحر في الطبيعة . قال في زيارته إلى دمشق : ( ثم حدث لي في منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام ، والأدواح المتنوعة ، والأرواح المتضوعة ، حيث المشاهد المكرمة ، والمعاهد المحترمة ، والغوطة الغناء ، والحديقة ، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه ، والأظلال الوريفة ، والأفنان الوريقة ، والزهر الذي تخاله مبسما والندى ريقه ، والضبان الملد ، التي تشوق رائيها بجنة الخلد : بحيث الروض وضاح الثنايا أنيق الحسن مصقول الأديم .8. ووصف المقري لطبيعة دمشق وصف المحب لحبيبته ، فيه كثير من الرقة والإعجاب بجمالها الذي حباها الله به . وزيادة على وصف الطبيعة وبهائها ، يصور لنا المقري طبائع أهل دمشق الحسنة ومدى جودهم ونبلهم ، ومبلغ علمهم وثقافتهم . إذ يقول في أعيانها ( ولو تعرضت لأسمائهم وحلالهم ، أدام الله تعالى سؤددهم وعلاهم ، لضاق من ذلك النطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأي أسلوب ، أؤدي بعض حقهم المطلوب ؟ أم بأي لسان ، أثني على مزاياهم الحسان ؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقو الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب الحامد ملاء ؟ من المجد مطارف وملاء ، وحازوا المكارم ، وبدوا الموادد و المصارم ، سؤددا وعلاء ) .9. صورة الآخر وأبعاده عبر السرد الرحلاتي المقري : ونطرح هنا إشكالية هامة وهي صورة الآخر عبر السرد الرحلاتي ، إذ الرحلة عموما هي أولى الأشكال التعبيرية التي استعملت فيها الكتابة بضمير الأنا دون حرج ومن الأشكال التي تطرح فيها باستمرار صورة الآخر .10. فمن خلال هذا التصوير لأهل دمشق ، نلمح بوضوح صورة هذا الآخر الذي تعامل معه المقري وعايشه لبعض الوقت .وقارن بطريقة خفية بين الآخر العدو الجاهل المتخلف الذي لم يعطه حقه في بلده ، وبين الآخر صديق العالم المتحضر الذي قدر لعلمه وأحبه لشخصه . فقال في الأول : ( فكم من عدو منهم في ثياب صديق ، وحسود لنظره في نعم الله على عباده تحديق ، لا تخدعه المداراة ، ولا تردعه المماراة ، يتتبع العثرات ، ويقنع بألم البثرات ، ويبسم قلبه من الغل يتقسم ، ويتودد ، ومكايده تتجدد وتتعدد ..) .11. فكان هذا الآخر بحسده وكيده السبب في ترحاله عن وطنه واغترابه ، ويقول في الثاني الذي كرمه وقابله بالاحتفال والاحتفاء : ( فهم الذين نوهوا بقدري الخامل ، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل ، حسبما اقتضاه طبعهم العالي : فو شريت بعمري ساعة ذهبت من عيشتي معهم ما كان بالغالي فمتعين حقهم لا يترك ، وحبهم لا يخالط بغيره ولا يشرك ، وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك ) .12. واستدعاء الآخر في النص الرحلي إنما هو استدعاء لشخصياته التي تقوم بتأثيثه وتساهم في بنائه وتخليق حيويته .( ويشكل الآخر بالنسبة للراوي جزءا أساسيا في بناء الرحلة من مستويات كافة ، باعتبار أن السفر هو مرآة الأعاجيب ومرآة النفس التي لا ترى تفاصيلها إلا بالانتقال والاغتراب والاحتكاك مع آراء وسلوكات وتقاليد الغير ، والاصطدام ببعضها والتوافق مع البعض الآخر ، حيث رؤية الذات صافية عبر المقاربات المتعددة والقاسية أحيانا ، فيصبح اكتشاف الآخر ، هو نفس الآن اكتشافا للذات ، إنه تعديل يمس الخارج كما يمس الداخل .13. وهذا بالفعل ما حدث مع المقري ، فقد كان للترحال الأثر البالغ عليه ، إذ أصبح أكثر تفتحا وأوسع علما وأشد انتباها وحذرا من المحيطين به خاصة بعد الأذى الذي لحق به . والرحلة عنده ، ليست وصفا للطبيعة ونقلا لمشاهد البنيان والعمران فقط ، إنما هي مجال متفتح على مجالات عدة ، قنجد التاريخ والجغرافيا والسيرة والادب ، فيصعب بذاك تصنيفها أو تجنيسها ، ورغم الالتباس الذي يقع من خلال تجنيس الرحلات وتحديد انتسابها إلى التاريخ ، أو الجغرافيا ، أو إلى الأدب ، فإن التاريخ الرحلة العربية المكتوبة ، يميل إلى الأدبي بصفته حكيا يروي عن الذات وصفرها ، والذي يقترب مما هو شخصي ، سيري وبيوغرافي وتراجمي ، اعتمادا على تتويعات وصفية بأسلوب المؤرخ الهاوي والجغرافي والإثنوغرافي ، وتصبح الرحلة نصا وعلامة لعدة تقاطعات وشكلا دائريا منفتحا ، للوصف فيه قدرة على مزج الوعي التاريخي بالجغرافي وبالخيالي الاستيهامي من داخل دائرة الذات ، والغير ، والعمران ، ..للوقوف عند رصيد القيم وأشكالها ..14. أثر الرحلة في تكوين الشخصية المقرية : نجد المقري من خلال رحلاته قد كانت تتنازعه ثنائيتان ، طرفها الأول ( الرغبة ) وطرفها الثاني ( الرهبة) . ولكنه يخترقها مدفوعا برغبة التفوق ، ساعيا إلى إثبات مكانته بين جمهور علماء عصره عبر مختلف البلدان التي رحل إليها ، وعلى الرغم من تحقيقه لإنتصارات عدة ، فهو لا يخفي شعوره بالرهبة أما عالم الرحلة المجهول ، ويكفيه شعوره بالاغتراب الذي راوده عندما هاجر إلى بعض الأمصار كمصر مثلا .فقد كان راغبا وراهبا في الآن ذاته ، وهذا التردد والصراع لم يزده إلا عزما وبأسا وعلما لأنه أدرك يقينا أن التحصيل العلمي وحده الكفيل بأن يخرجه من رهن الغربة ويجعل منها عالما ضرب قصب السبق في كثير من المجالات . لقد علمت على بناء شخصية المقري العلمية بناء متكاملا ، وساهمت في جعله موسوعي الثقافة ، متعدد المشارب ، فبالإضافة إلى تفوقه ةفطنته وتقدمه على معاصريه ، فإنه استطاع من خلال رحلاته التي قام بها ، أن يجمع بين الفكر المغربي والأندلسي والمشرقي ، وأن يجسد كل ذلك في كتاباته المتنوعة ، فنفح الطيب مثلا هو مصدر للتاريخ والسيرة والجغرافيا والرحلة والأدب والشعر وغيرها من المعارف والعلوم . والقارئ لتراث المقري يلمس مدى تكامل جوانب شخصيته ، وكثرة تجاربه وخبراته ، ومبلغ علمه وموسوعيته ، فيدرك بحق أن هذا العالم الجليل كان ومازال ملتقى للثقافات المختلفة ، وصورة مشرقة من صور ذلك الزمان .
و للإشارة فقد أعطى هذا التنوع و الكثافة في الحضور بعدا علميا و ثقافيا كبيرين للملتقى ، خاصة و أن الفريق الجامعي المشرف على تنظيم الملتقى تميز بالانسجام الكبير و التوزيع الجيد للمهام بحيث جرى الملتقى في جو من الرحابة و النقاش الهادف و الثري خاصة ما جرى على هامش الملتقى .
و بعد الكلمة الترحيبية للسيد عميد الجامعة تناول الكلمة كل من ممثل السيد الوالي و مدير مخبر الشعرية الجزائرية ، و مدير معهد اللغة العربية و آدابها، حيث توالت بعدها مداخلات المشاركين إذ أحيلت الكلمة للمشارك التونسي الدكتور جمعة شيخة الذي عرج بمداخلته على الحياة الفكرية و الدينية للعلامة المقري من خلال كتابه " نفح الطيب " لتليها مداخلة الأستاذ الدكتور صلاح عبد القادر ، فلسطيني يدرس بجامعة تيزي وزو إذ تعرض لعنصر الشعور و الإيقاع و تقاطعهما في شعر الحنين للمقري . و انتهت الجلسات الصباحية بمحاضرة الدكتور ضيف عبد المالك من جامعة المسيلة بعنوان : الحس الحضاري العربي الإسلامي في الخطاب الشعري للمقري ، مقاربة تأويلية .
أما في عشية اليوم الأول فقد توزع برنامج المداخلات و النقاش على ورشتين الأولى ضمتها قاعة د. عبد المجيد علاهم و الثانية احتضنتها قاعة المكتبة المركزية ، و استمرت الجلسات على هذا النمط حتى نهاية الملتقى . حيث تناول الأستاذ الدكتور محمد خاين من جامعة الشلف شخصية المقري من خلال رحلته إلى المغرب و المشرق ، المقري العلامة الذي كان بحوزته أكثر من عشرين إجازة علمية في مختلف العلوم و الفنون حسب ما عرف و تبين من مراسلاته مع أعلام عصره .
أما الدكتور عبد الرحمن تركي من جامعة وادي سوف فقد تناول حياة المقري و أعماله من خلال الكتابة التاريخية ، فهو الذي تولى الإمامة في جامع القرويين بالمغرب و بسبب الخلافات السياسية اضطر إلى هجرة المقري إلى تونس ثم إلى بلدان المشرق العربي كمصر و سوريا و ارض الحجاز ، حيث لقي الترحيب و حسن الاستقبال .
أما الأستاذة طانية حطاب من جامعة مستغانم فقد ركزت على اثر الرحلة في تشكيل شخصية المقري و هذا من خلال كتابه " نفح الطيب " حيث اعتبرت أن رحلته إلى المغرب و المشرق شكلت لديه شكلا من أشكال التعبير عن الأنا خاصة و انه جمع ثالوث حضارة الأندلس و فكر المغرب العربي و ثقافة المشرق .
أما مداخلة الأستاذة هندة كبوسي من جامعة تبسة فقد تناولت عنوان كتاب المقري " نفح الطيب من خلال غصن الأندلس الرطيب " بتحليل مقاربة في العنوان ، حيث غاصت في الكثير من الدلالات التي لامست بالفعل ما سمي بإعادة قراءة في مشروع تراث المقري .
و قد تناولت مداخلة الأستاذ عبابسي ميلود من المركز الجامعي بالمدية المعنونة ب : " خصائص السرد في أدب رحلة المقري " و مداخلة " الكتابة التاريخية عند احمد المقري " للأستاذ بونابي الطاهر و " آثار المقري " للأستاذة كتاب حياة و كلاهما من جامعة المسيلة . عملية التاريخ لرحلة المقري في عمومها و انعكاس الواقع السياسي آنذاك على توجهات الرجل الدينية و السياسية حيث أشارت هذه المداخلات إلى مالكية مذهبه و أشعرية توجهه .
أما مداخلة الدكتور مصطفى طوبي من جامعة المحمدية بالمغرب و الدكتور الطيب علي الشريف من جامعة الزاوية بليبيا فقد تناولتا العلامة المقري من خلال مخطوطاته التي تحويها الخزانة الحسنية بالمغرب ، إذ عرض بالعاكس الضوئي مجموعة من مخطوطات المقري وتناولها بالشرح و التحليل . أما المداخلة الثانية فقد تناولت المقري من خلال معاصريه عبر الرحلة و التغرب .
و قد خصصت للوفد المشارك زيارة ميدانية إلى الموقع الأثري " قلعة بني حماد " عشية الثلاثاء الرابع من مارس و الاطلاع على متحف بلدية المعاضيد الخاص بها .
و قد جاءت مداخلات الأستاذة بدرة فرخي من جامعة قسنطينة بعنوان " خصائص التركيب اللغوي في النصوص الشعرية للمقري و " اثر الرحلة في بعض كتابات المقري " للأستاذة زين حفيظة من جامعة المسيلة و " صورة النص المنقول في نفح الطيب " للأستاذ زرقان من جامعة جيجل و " تجليات العنصر الأندلسي في تراث المقري للأستاذ عادل بوفناز من جامعة عنابة و كذا مداخلة الدكتور محمد طاهر توات من جامعة الجزائر المعنونة ب " المقري و النص التاريخي الأدبي " تصب في مجملها في ما يعرف بمقاربات فكرية لامست تاريخ المقري و أدبه و رحلاته التي كان لها الأثر الكبير في تشكيل شخصيته الدينية و الفكرية و العلمية . و للتذكير فان باقي المداخلات أتت بالدراسة و الملامسة التحليلية لآثار المقري المتمثلة بشكل واضح في كتابه " نفح الطيب " . خاصة منها مداخلة الأستاذ الدكتور جون شارل ديسان من الجامعة الحرة ببروكسل و المعنونة ب : " LA REPRESENTATION DE LANDALUS DANS LE NAFH AL-TIB DALMAQQARI : Sources et Structure " و الدكتور حجاب مخلوفي بمداخلته " Analyse des Travaux d'Ahmed Al-Maqqari par les Orientalistes " .
و مما تجدر الإشارة إليه أن اختلافا اصطلاحيا جوهريا حول تسمية " المقري " اعترى المناقشات و المداخلات طيلة أيام الملتقى إذ أصر البعض على تشديد قاف المقري و ذهب البعض الآخر إلى تسكينها و فتح ما قبلها إلى أن فكت الأستاذة زين حفيظة و الأستاذ عادل بوفناز هذا الإشكال بحيث ذهب الرأي الأول إلى أن " المقري " نسبة إلى مدينة " مقرة " و هي مدينة تابعة للولاية و على أساس انتساب المقري إليها انعقد هذا الملتقى ، و بالتالي فالنسب إلى المدينة ينفي لغويا تشديد القاف أما الرأي الثاني فقد حصر الإشكال في الاكتفاء بتسمية المقري و التعامل معه على أساس كنيته بابي العباس احمد المقري .
و قد كان من المفروض أن يبت في أمر هذا الاصطلاح و الاتفاق على استخدام اسم اصطلاحي واحد قبل بدء أشغال الملتقى ، بل و حول حتى بعض الأمور الإجرائية ذات العلاقة .
ومهما يكن من أمر فان الملتقى استطاع تحقيق الإجماع على نجاحه على كافة المستويات و هو ما يشكل دفعة قوية للملتقيات و الندوات و الورشات العلمية و الفكرية التي دأبت جامعة المسيلة على تنظيمها .
و كانت عشية الأربعاء ، الخامس من هذا الشهر موعدا مع حفل الاختتام حيث تليت توصيات الملتقى من طرف الدكتور التونسي جمعة شيخة و التي جاء فيها اقتراح انعقاد الملتقى القادم في جامعة تلمسان على اعتبار ان المقري ينسب كذلك الى تلمسان ، و اقتراح تسمية احد مدرجات جامعة المسيلة بمدرج أو قاعة المقري .
هذا بالإضافة إلى التأكيد على طبع جميع مداخلات الملتقى بعد تنقيحها و عرضها على لجنة مشرفة على ذلك .
انتهى الملتقى و انتهت معه أجمل ثلاثة أيام في عمر الأساتذة من داخل الوطن و خارجه ، حتى شد الجميع الحنين إلى ملتقى آخر و مع مقر آخر ومع مسيلة أخرى .
أصداء الملتقى :
• خرج المشاركون بانطباع جيد عن الانسجام الكبير و التفاهم الواضح على إنجاح الملتقى لدى جميع المشرفين بالجامعة ، و هو قليل في الكثيرات من جامعات الوطن حيث الانحيازات الشخصية على حسب ما ذكر لنا الكثير من المشاركين من مختلف الجامعات .
• أعجب المشاركون بالصرح العلمي الضخم المتمثل في جامعة المسيلة خاصة و أن هياكلها و منشآتها تتربع على مساحة شاسعة قد لا تتوفر حتى لجامعات ذات تخصصات اكبر . ناهيك عن أريحية المدرجات و الو رشات التي ضمت أعمال الملتقى .
• عميد جامعة المسيلة و مدير مخبر الشعرية الجزائرية و مدير معهد اللغة العربية و آدابها و رئيس لجنة التنظيم بن يحي عباس البشوش و الأستاذ الرزين المرن عمار بلقريشي و الكثير من الأسماء الأخرى ، أسماء كان لها دور كبير في إنجاح فعاليات الملتقى .
• اجمع الحاضرون على أن شخصية المقري موضوع الملتقى جمعت أعلام عصره عليه و هو حي و جمعت الأسرة الجامعية من مختلف أرجاء الوطن و هو ميت ، وهي شهادة للرجل على انه حي بأعماله و علمه و أدبه .
• الملتقى كان ناجحا إلى ابعد الحدود خاصة و أن تنفيذا حرفيا لبرنامج الملتقى قد تم ، بالإضافة إلى الانضباط الكبير الملاحظ فيما يتعلق بإطعام و إقامة المشاركين .
* الوقت المخصص للمداخلات كان قصيرا جدا حتى يستطيع الاساتذة توصيل مداخلاتهم ، و قدكان من المفروض اخذ جانب الكيف على الكم . • زيارة الوفد المشارك إلى الموقع الأثري لقلعة بني حماد أثار الكثير من الإعجاب بحضارة و قوة دولة بني حماد التي استقرت حصونها العسكرية على التخوم الشمالية للمسيلة و قيام حضارتها الراقية ببجاية . و في المقابل لاحظ الزوار غياب و تفريط وزارة الثقافة في الاعتناء بهذا المعلم التاريخي القائم بنفسه إلى حد الساعة ، حتى و أن كان هذا لا يعفي مسؤولي ولاية المسيلة بشكل عام .
• من مظاهر الإعجاب أيضا بعظمة بناة القلعة أن يفصح احد الزوار أن القلعة لو تهد بفعل زلزال أو بفعل فاعل ، لا قدر الله ، فلن تجد من يتقن و يرسم مخطط إعادة بنائها و الدليل غرز فرق ترميم القلعة لدعامة خرسانية بشكل " Y " لشد الأمتار العلوية بعد ترميمها و إعادة بنائها ، و قد نسي القائمون على ذلك أن هذا الحرف قد يعطي انطباعا أن الموقع الأثري هو موقع روماني .
• أبدى المشاركون إعجابهم بالفضاء الفسيح الذي تختص به مدينة المسيلة خاصة شوارعها الواسعة و طرقها المزدوجة .
• لاحظ المشاركون الغياب شبه الكلي لوسائل الإعلام اللهم شبه حضور محتشم حتى لإذاعة الحضنة خص به حفل الافتتاح ، و هو ما يؤكد شيئين اثنين احدهما أن القائمين على الملتقى لا يولون الاهتمام الكافي و الواعي للإعلام أو أن القائمين على وسائل الإعلام لا يهمهم المقري أو أية شخصية وطنية بقدر ما يهمهم حضور جون و جاك و بيير و غيرهم . و المفارقة العجيبة أن إذاعة الحضنة بدت بقسم ثقافي مبتور إذ لم تكلف نفسها حتى لحضور حفل الاختتام و إعلان توصيات الملتقى .
• لاحظ الجميع الحضور المكثف للطلبة و تعطشهم الكبير للمعرفة خاصة عندما يصنع لهم الحدث الذي يستفيدون منه.
• بدا ختيم عزوز بفكاهته و خرجاته الشعرية ، التي ما انفكت تخرج الحضور من رتابة المداخلات و تمنحهم نكهة خاصة ، نجم الملتقى .
• لاحظ الكثير من المشاركين الذين استغلوا بعض الفرص لزيارة المدينة ، كثرة و تنوع السلع فيها و الأثمان المعقولة و المنخفضة لبعض الأغراض خاصة الأدوات الكهرومنزلية و أجهزة و لواحق عتاد الإعلام الآلي .
• تمنى المشاركون لو أن هناك مقري آخر يجمعهم قريبا في المسيلة . خاصة و أن مغادرتهم بعد انتهاء الملتقى كانت بمثابة المغامرة بعد سقوط الثلوج و انقطاع الطرق و المسالك ، حيث تأجلت مناقشة رسالة دكتوراة بالعاصمة يرأس جلستها الدكتور صالح عبد القادر و تأجلت مغادرة المشاركين الليبيين و المشاركين المغربيين إلى وقت لاحق .
بعض مداخلات المشاركين في ملتقى " تراث المقري - مشروع اعادة قراءة " 1 / مداخلة الاستاذ : عبابسي ميلود / المركز الجامعي بالمدية خصائص السّرد في أدب الرّحلة عند المقّري مقدمة نشأة أدب الرحلة عند العرب وأهميته: "فن الرحلة لون أدبي، ذو طابع قصصي، فيه فائدة للمؤرخ مثل الباحث في الأدب والجغرافي وعالم الاجتماع وغيرهم، كما هو ضرب من السيرة الذاتية في مواجهة ظروف وأوضاع، وفي اكتشاف معالم وأقطار ووصفها، والحكم عليها...فهو في النهاية- وصف لكل ما انطبع من ذلك وسواه في ذهن الرحالة، عبر مسار رحلته وفي احتكاكه بالمحيط، يتآزر في ذلك الواقع والخيال...وأسلوب القص والحقائق العلمية..."[1]. تشير كتب المؤرخين إلى أن العرب منذ ما قبل الإسلام كانوا أصحاب أسفار برّية وبحريّة، بحكم نشاطهم التجاري المعروف[2]. وقد امتدت اتصالاتهم التجارية إلى إفريقيا غربا وإلى الهند وما وراءها شرقا، ودليل ذلك عند المؤرخين ما ورد في بعض المصادر "أن الإسكندر الأكبر عندما فكر في غزو شبه الجزيرة العربية ارتأى أن يتم ذلك عن طريق موانئها على الخليج العربي حتى يقطع صلاتها بأسواقها الرئيسية[3]. ولا أدلّ على ذلك كله من قوله تعالى في سورة قريش:?لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف?. إذن كان العرب أصحاب رحلات برية وبحرية والأدلة على ذلك كثيرة[4]، والسؤال المطروح هنا هو: هل دون العرب قبل الإسلام وبعده رحلاتهم؟ ومتى كان ذلك بالضبط؟ وبعبارة أدق متى ظهر أدب الرحلة عند العرب؟ يجمع الدارسون على أن أدب الرحلة لم يظهر بشكل واضح ومستقل إلا بداية من القرن الثالث الهجري أي القرن التاسع الميلادي وأشهر أعلام أدب الرحلة في هذا القرن: - اللغوي المؤرخ هشام الكلبي (ت206هـ) وأهم مؤلفاته: كتاب الأقاليم، "والبلدان الكبير" و"البلدان الصغير". - الأصمعي (216هـ) من خلال كتاب "الأنواء". - الجاحظ (255هـ) من خلال كتاب " الأمصار وعجائب البلدان". "ثم تلاهم مجموعة من الرحالة الذين حرصوا على ما حصلوا عليه من علم فأودعوه بطون الكتب، وهم يمثلون البداية الحقيقية لعلم البلدان... ومنهم: البلاذري، واليعقوبي..."[5]. ثم تشهد القرون الموالية ظهور رحالة بارزين كان لهم الأثر الواضح في أدب الرحلة وفي بقية العلوم المتصلة به. وأشهرهم من القرن الرابع الهجري: قدامة بن جعفر (ت337هـ) ابن حوقل (ت331هـ) المسعودي(ت346هـ) المقدسي(ت390هـ). ومن القرن الخامس الهجري نذكر: البيروني (ت440هـ) أما من القرن السادس الهجري فنذكر: أبو بكر العربي (ت543هـ) ترتيب الرحلة، الإدريسي (ت560هـ) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق. ومن القرن السابع الهجري نذكر: البغدادي (ت629هـ) "الإفادة والاعتبار...". ياقوت الحموي (ت626هـ) معجم الأدباء، معجم البلدان. ومن القرن الثامن الهجري نذكر: ابن بطوطة(ت776هـ) تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار ابن خلدون (ت808هـ) كتاب العبر وديوان المبتدأ الخبر في أيام الغرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. يذكر الدكتور فؤاد قنديل أن الرحلات العربية انحسرت بعد القرن الثامن الهجري أو كادت: "ولما كانت الرحلة العربية إحدى مزايا الحضارة العربية، فقد تقلصت نسبيا هي الأخرى خلال القرنين التاسع والعاشر...[6]، وقد ذكر لذلك أسبابا أهمها: - المشكلات السياسية والاقتصادية التي عمت العالم العربي. - النكوص الثقافي والحضاري العام. - زوال دولة الإسلام من إسبانيا. - بدء الكشوف الجغرافية الكبرى واكتشاف العالم الجديد في الأمريكيتين[7]. ثم يعود أدب الرحلة إلى التطور والازدهار مع مطلع القرن العشرين مع رحلات كل من: محمد عمر التونسي(1903م) ورفاعة الطهطاوي:"تلخيص الإبريز". بعد هذا العرض التاريخي لمسيرة أدب الرحلة عند العرب نتساءل أين تظهر أهمية هذا الفن الأدبي؟. أهمية أدب الرحلة: يقول أبو الحسن المسعودي: "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار من إقليمه كمن قسم عمره على قطع الأقطار، ووزع بين أيامه تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه وإثارة كل نفيس من مكمنه". وقال الكاتب الفرنسي "سافاري": "إن الرحلة أكثر المدارس تثقيفا للإنسان". من خلال هذين القولين يمكننا إجمال أهم مظاهر أهمية أدب الرحلة فيما يلي: - لقد أسهم الرحالة العرب بقصد أو بغير قصد- في توفير معارف تاريخية وجغرافية وعلمية. - تقديم إسهامات كبرى لعلوم مختلفة مثل: الفلك، الاجتماع، النفس، الأدب وغيرها. - تقديم فرصة لاكتشاف الآخر والأخذ عنه والشعور بمنافسته ومن ثم الرغبة في التفوق عليه. - وتظهر أهمية أدب الرحلة في الأدب العربي بناء على رأي الدكتور شوقي ضيف: "خير رد على التهمة التي طالما اتهم بها الأدب العربي، تهمة قصوره في فن القصة". خصائص السرد في أدب الرحلة عند "المقري": 1- علاقة أدب الرحلة عند المقري بالظروف السياسية التي أحاطت به: المعلوم أن أدب الرحلة من الفنون التي تجمع بين أبعاد الانتقال عبر الزمان والمكان، ويبلور ذلك كله التفاعل النفسي في إطار الزمان والمكان، وبذلك يحقق الأديب الرحالة ذاتيته واجتماعيته ولكنه من زاوية أخرى يسهم عن قصد أو غير قصد- في إعطاء صورة عن العصر الذي يعيشه بما في ذلك الظروف السياسية والاجتماعية والسؤال المطروح: هل قدم المقري صورة عن عصره (سياسيا) بطريقة أدبية(فنية) جمالية من خلال أدب الرحلة؟ الجواب: إن تتبع آثار المقري ممثلة في نصوص أدب رحلاته يقودنا إلى الوقوف على حقيقة الارتباط بين المقري وواقع حياته في جانبها السياسي، ويبدو ذلك من خلال أول نصوصه الرحلاتية [حنين إلى الوطن]. وفيه إشارة مختصرة إلى الأسباب والظروف التي دفعت به إلى الارتحال عن وطنه ومغادرته مكرها وهي في مجملها ظروف سياسية يقول مشيرا إلى ذلك:"إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد برحلتي من بلادي، ونقلتي من محل طارفي وتلادي، بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا، وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضمارا وقطعا ووقصا.[8] من خلال هذا النص نوجز تلك الأسباب والدوافع على الشكل التالي: · وفاة صاحب إمارة السعديين: المنصور بالله أبي أحمد المعروف بـ: الذهبي وصراع أبنائه بعده على الحكم. · اضطراب الحياة في مدينة فاس (مقره). · الغزو الإسباني والبرتغالي لبلاد المغرب. · اتهامه بالميل إلى قبيلة "شراقة" التلمسانية في فسادها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي. 2- الاستحضار (الاسترجاع): تظهر هذه التقنية كخاصية من خصائص السرد الرحلاتي عند المقري، من خلال وقوفه في مقدمة رحلاته- على أطلال الزمان والمكان مستحضرا بعض صور الماضي ويعرف ذلك في التحليل البنوي للسرد بـ: السرد اللاحق "la narration postérieure". وتظهر أهمية هذه التقنية في إبراز الفكرة وإظهار وجهة نظر صاحبها ونواياه "فكل ملفوظ يشترط باثا ومتلقيا وعند الأول هدف التأثير في الثاني بأية طريقة"[9]. ومن الأمثلة على ذلك قوله: - لم أنس تلك النواسم، التي أيامها للعمر مواسم، وثغورها بالسرور بواسيم، فصرت أشير إليها وقد زمت للرحيل القلص الرواسم[10]. وقوله: "...وأتمثل في تلك الحدائق التي حمائمها سواجع، بقول من جفونه من الهوى غير هواجع"[11]. وقوله أيضا: "وأتذكر تلك الأيام، التي مرت كالأحلام، فأتمثل بقوله بعض الأكابر الأعلام...". يا ديار السرور لا زال يبكي فيك إذ تضحـك الرياض غمام رب عيش صحبته فيك غض وعــيون الفــراق عنا نيام ويستمر الاستحضار (الاسترجاع) كتقنية سردية في باقي الرحلات وفيه إشارة إلى مدى ارتباط المقري ببيئته في مظهرها الطبيعي ومنه قوله عندما رحل إلى دمشق بعدما زار مصر وبيت المقدس للمرة الثانية: "...وكنت قبل رحلتي إليها والوفادة عليها كثيرا ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم ما يشوقني إلى رؤيتها ولقائهم..."[12]. ثم يفصح عن تأثير البيئة الطبيعية الشامية في نفسه فيقول مستحضرا: "...وقد تذكرت بلادي النائية، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه، فما شئت من أنهار ذات انسجام...وأزهار متوجّه للأدواح، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح..."[13]. ويؤكد المقري ذلك التعلق بموطنه من خلال استحضاره له دوما والإشارة إليه مرارا إلى حد التفاؤل بالعودة إليه يوما ما، فيقول: "...وعند رؤيتي لتلك الأقطار الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار، تفاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار ذات العرف المعطار..."[14]. ويختم بنتيجة ذلك التعلق بالموطن والشام معا فيقول مستحضرا: "...وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعا بالوطن لا سواه، فصار القلب بعد ذلك مقسما بهواه. ولي بالحمى أهل وبالشعب جــيرة وفي حاجر خل وفي المنحنى صـحب تقسم ذا القلـب المتــيم بينـهم سألــتكم بالله هـل يقسم القــلب؟[15]. 3- جمالية الأسلوب: إنّ تفحص بنية نصوص أدب الرحلة عند المقري يفضي إلى استخلاص جملة من الخصائص الأسلوبية التي تخدم الدلالة المتوخاة، وأهمها: أ- دقة الوصف والتصوير: تعرض المقري في نصوصه الرحلاتية إلى وصف عوالم مختلفة أهمها (الجانب النفسي، الطبيعي والجغرافي)، ولم يكن وصفه لحالته النفسية سطحيا أو عابرا بل كان يغوص في أعماق نفسه محللا واصفا لما تعانيه نفسه في آلام الاغتراب ومشقة الانتقال. فيقول مثلا: " ولم أزل بعد انفصالي عن الغرب بقصد الشرق واتصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق: أحـــن إذا خلـوت إلى زمــان تقــضى لي بأفــنية الربـوع وأذكــر طيــب أيـام تـولـت لنا فـتـفيض من أسف دمـوعي.[16] لكنه سرعان ما يطوي صفحة التأثر والبكاء على الوطن، وينتقل إلى وصف جمال الطبيعة في كل البلاد التي حل بها ويقدم ذلك في صورة تفاعلية تكشف عن نفس مقرية رومنسية محبة للجمال متأثرة به والأمثلة في هذا الموقف كثيرة نكتفي منها بـ: "...ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيرا من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، يقول ابن ناهض فيها: شاطئ مـصر جنة ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت بنيلها المطـرد[17] وكذلك كان شأنه عندما دخل مكة، وطيبة وبيت المقدس، وعندما يحل المقري بدمشق تثور في نفسه المشاعر ويتذكر الوطن المغادر، ويعترف بالسر في ذلك فيقول:"...إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار..."[18]. وقد أفاض المقري في وصف جمال دمشق وسحرها نثرا وشعرا ومن ذلك قوله فيها: "...ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنق في الخطاب وأطال في الوصف وأطاب، وإن ملأ من البلاغة الوطاب، كما قلت: محاسن الشام أجـلى من أن تسام بحد لولا حمى الشرع قلـنا ولم نقف عند حد كــأنها معــجزات مقرونة بالتحدي[19]. ب- السجع: تمتد خطبة الكتاب (نفح الطيب) مقدمة المؤلف من ص1 إلى 121، ويشغل أدب الرحلة فيها حيزا كبيرا إذ يبدأ من الصفحة 13 إلى 98، يشكل الشعر جزءا كبيرا فيها. أما باقي نصوص أدب الرحلة، فهي نثرية، وقد جاءت كلها مسجوعة، وبذلك يظهر حرص المقري على جمالية الشكل دون التفريط في المضمون، بل إن دراسة ظاهرة السجع في أدب الرحلة عند "المقري" من الوجهة الأسلوبية ينطوي على أهمية بالغة في الدلالة النهائية، ذلك أن التناغم الموسيقي الحاصل بموجب السجع يؤثر على المتلقي بشكل واضح ويبعد عنه الملل والكآبة ويؤهله لخوض رحلة تفاعلية مع المضمون، والشواهد على السجع كثيرة جدا نكتفي بالإشارة إلى بعضها فقط من مثل قوله: في نص رحلته إلى مصر "ثم جد بنا السير في البر أياما، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حبالها وهياما، وكنا عن تفاعيل فضلها نياما، إلى أن ركبنا البحر، حللنا منه بين السحر النحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله، ما لا يعبر عنه، ولا يبلغ له كفه"[20]. ومن نص رحلته إلى مكة والمدينة: "ولما وقع بصري على البيت الشريف، كدت أغيب عن الوجود واستشعرت قول العارف بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود..."[21] "ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار، لطيبة التي لها الفضل على الأقطار، واستشعرت قول من أنشد وطبر عزمه عن أوكاره قد طار..."[22]. ومن نص رحلته إلى دمشق: "ثم حدث لي منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان، دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام والأدواح المتنوعة، والأرواح المتضوعة، حيث المشاهد المكرمة، والمعاهد المحترمة..."[23]. ملاحظة: قد يبدو للقارئ المستعجل أن السجع عند المقري أمر متكلف، والحقيقة إنه غير ذلك، فهو تلقائي ينساب انسيابا يزيد الوصف عذوبة وإشراقا ودليل ذلك: أ. لقد جاء سجع "المقري" ملائما لموقف الوصف. ب. هناك انسجام بين السجع في النثر والاستشهاد بالشعر وهو ما يجعل نص أدب الرحلة منسجما من حيث الشكل. ج. يظل المعنى مشرقا وعميقا رغم الاهتمام بالسجع الواضح. د. لم يخرج المقري عن عادة الرحالة العرب قبله الذين دأبوا على أن يكتبوا عن رحلاتهم كلاما مسجوعا، ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر: قدامة بن جعفر، المسعودي من القرن الرابع الهجري والبيروني من القرن الخامس الهجري[24]. 4- الحضور الشعري (استشهادا وإبداعا): إن الملفت للانتباه في جملة نصوص أدب الرحلة عند المقري هو طغيان الشعر على النثر، وسندرس هذه السمة الأسلوبية بالتركيز على ما يلي: - طبيعة الحضور الشعري في أدب الرحلة من حيث الاستشهاد والإبداع، وما دلالة ذلك؟. - حضر الشعر في أدب الرحلة عند المقري بشكل قوي وخاصة ما كان منه استشهادا وفي ذلك إشارة إلى قوة حافظته وقدرته على الاستشهاد و الاستحضار والاحتجاج، لأننا عندما نمعن النظر في الهدف من الاستشهاد نجده يحقق هدفين اثنين هما: § تأكيد الوصف والتصوير بالنصوص الشعرية التي قيلت في الموضوع ذاته أو هي مناسبة للمقام. § التأثير في المتلقي لأنها ذات هدف أو بعد حجاجي ظاهر. - أما فكرة تطويع الشعر لغرض أدب الرحلة، فهو فيها صاحب سبق ثم جاء أحمد شوقي في القرن 14هـ وطوع الشعر للمسرح على صعوبته، وهو ما يؤكد اقتدار المقري الأدبي*. وإن ورد في أدب بعض الرحالة العرب شعر فهو على وجه سبيل الاستشهاد لا على سبيل القالب الغالب[25] وهذا هو وجه التميز والانفراد عند المقري. ونظرا لطغيان القالب الشعري على جملة النصوص الرحلاتية المقرية نكتفي بالإشارة إلى ما يلي على سبيل التمثيل لا الحصر: يقول في مقدمة نصوصه الرحلاتية (الحنين إلى الوطن) مستشهدا بشعر ابن الزقاق على بن عطية الشاعر الأندلسي: وقفت على الربوع ولي حنين لساكنهن ليس إلى الربوع ولو أني حــننت إلى مغاني أحبائي حننت على ضلوعي. وفي رحلته إلى مصر يقول: "ثم وصلنا بعد خوض بحار ، يدهش فيها الفكر ويحار، وجوب فياف مجاهل يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيرا من محاسنها تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، يقول ابن ناهض فيها: شاطئ مصر جـنة ما مثلها في بلد لا سيما مذ زخرفت بنـيلها المطـرد ومن شعره في رحلته إلى دمشق قوله: "...فكم لها من حسن ظاهر وكامن، كما قلت موطئا للبيت الثامن: أما دمشق فخضرة لعبت بألباب الخلائق هي بهجةالدنيا التي منها بديع الحسن فائق ومنه أيضا قوله: "وكما ارتجلت فيها أيضا: قال لي ما تقول في الشام حبر كلما لاح برق الحسن شامه قلت: ماذا أقول في وصف قطر هو في وجنة المحاسن شامه 5- حضور المتلقي في أدب الرحلة عند المقري: تحتل مقصدية المؤلف (المرسل) أهمية كبيرة في جميع أنواع الخطابات السردية ذلك أن البنية الزمنية المخططة سلفا من طرف السارد تسهم في إبراز الفكرة وتظهر وجهة نظر صاحبها ونواياه ومن هذا المنطلق "فكل ملفوظ يشترط باثا ومتلقيا، وعند الأول هدف التأثير في الثاني بأية طريقة"[26]. ومن ثم بات ضروريا وجود متلقي كونه محل مقصدية المؤلف وحوله تتركز أهداف المرسل المتمثلة في التأثير ويعرف هذا المتلقي بكونه: الطرف الآخر الذي يوجه إليه المرسل خطابه عمدا، فهو إذا حاضر في ذهن المرسل عند إنتاج الخطاب سواء كان حضورا علميا أم استحضارا ذهنيا[27]. ويبدو من خلال النصوص الرحلاتية المقرية أن المتلقي حاضر بشكل واضح وحضوره من النوع الثاني أي هو استحضار ذهني لأن المقري يفترض في بعض تعليقاته حضور المتلقي الذي يبدي ملاحظاته، ثم يبني المقري عليها خطاباته. والأمثلة التي نوردها أدناه تبرز ذلك الاستحضار الذهني للمتلقي في نفس المرسل ومنها قوله في مقدمة رحلاته: "ومن الغريب الذي ينكره غير الأريب أن الحادي إن سر القلب بكشف رين، فقد تسبب في اجتماع أمرين متنافيين متنافرين"[28]. ويقول أيضا: "وكأني بعاتب يقول: ماهذا التطويل؟ فأقول: جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل[29]. ومن رحلته إلى بيت المقدس قوله: "وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية: إلى متى وهذا الميدان تكل فيه فرسان البديهة والروية؟ فأنشده في الجواب قول بعض من أمّ نهج الصواب"[30]. و من رحلته الثانية إلى مصر قوله: "وقد امتد بنا الكلام وربما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام، فنرجع إلى ما كنا بصدده من إجابة المولى الشاهيني، أمده الله بمدده فأقول مستمدا من واهب العقول"[31]. إن ما عمد إليه المقري من استحضار ذهني للمرسل إليه (المتلقي) لم يكن مجرد استحضار ولم يكن مجرد مجاراة لأساليب القدامى من الرحالة العرب، بل إن هذه التقنية السردية هادفة إلى تحقيق فاعلية أكبر لخطابه، "إن هذا الشخوص هو ما يسهم في حركية الخطاب، بل ويسهم في قدرة المرسل التنويعية ويمنحه أفقا لممارسة استراتيجية خطابه"[32]. ومما يؤكد سعي المقري إلى تفعيل خطابه في أدب رحلاته رسمه لاستراتيجية مهمة تتمثل في ما اصطلح عليه الدارسون المحدثون اسم: الاستراتيجية التضامنية، "وهي الاستراتيجية التي يحاول المرسل بها أن يجسد درجة علاقته بالمرسل إليه ونوعها، وأن يعبر عن مدى احترامه لتلك العلاقة ورغبته في المحافظة عليها... أو هي محاولة التقرب من المرسل إليه وتقريبه"[33]. وهذا من شأنه أن يؤثر على المرسل إليه إيجابا ويجعله يتفاعل مع نص الرحلة المقرية، وليس للمقري في ذلك أغراض منفعية شخصية (ذاتية)، "وإنما هو عين التأدب في الخطاب"[34]. ويختتم المقري نصوصه الرحلاتية بمثالين يؤكدان هذه الحقيقة التواصلية بوضوح وهما: المثال الأول: قوله: "فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب المتجافي عن مذهب النقد والعتاب، كلمات سوانح، اختلست مع اشتعال الجوانح..." [35]. المثال الثاني: يأتي في خاتمة المقدمة (مقدمة الكتاب) يؤكد من خلاله المقري على سعيه إلى تحقيق الاستراتيجية التضامنية فيقول: "هذا وإني أسأل ممن وقف عليه أن ينظر بعين الإغضاء إليه، كما أطلب ممن كان السبب في تصنيفه والداعي إلى تأليفه وترصيفه، استنادا لركن الثقة، واعتمادا على الود والمقة، أن يصفح عما فيه من قصور ويسمح ويلاحظه بعين الرضى الكليلة ويلمح، إذ ركبت شكل منطقه والأشجان غالبة وقضية الغربة موجبة للكربة ولبعض الآمال سالبة..." [36]. 6- الوعي بفكرة البنية العامة أو التماسك النصي: بعد التأمل في طبيعة النصوص الرحلاتية المقرية من حيث علاقتها بعضها ببعض نتوصل إلى أن المقري كان واعيا جدا بفكرة البنية العامة للنص، والأدلة التي تؤيد الاستنتاج كثيرة وأهمها: - جاءت نصوص أدب الرحلة المقرية متصلة بعضها ببعض من خلال البنية الأسلوبية الظاهرة والتي يدل عليها: حرف العطف (ثم) الذي ورد رابطا بين جميع النصوص الرحلاتية مثلا بين مقدمة الرحلات ورحلته إلى مصر يقول: "ثم جدّ بنا السير في البر أيما..."، "ثم شمرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدة قليلة (رحلته إلى مكة والمدينة)"، "ثم عدت إلى مصر"، "ثم قصدت زيارة بيت المقدس". - اسم الإشارة (هذا) الذي يرد في خاتمة المقدمة وفيه إحالة إشارية قبلية تؤكد على ارتباط اللاحق بالسابق. 7- النضج المنهجي (الأكاديمي): إن التأمل في خطبة كتاب نفح الطيب (مقدمته) يؤدي إلى الحكم على صاحبه بالوعي المنهجي (العلمي المتميز)، فما حقيقة ذلك؟ تبدأ خطبة الكتاب من الصفحة 01 إلى الصفحة 121. استهلها بديباجة معروفة (الحمد والثناء + الصلاة على المصطفى+قصيدة شعرية). ثم سرد رحلاته التي جاءت معبرة في سياقها المنهجي عن أسباب ودوافع تأليف الكتاب، لأنه لولا تلك الرحلات التي قادته في النهاية إلى الشام ما كان لأهلها أن يعلموا منه أخبار لسان الدين بن الخطيب ولما طلبوا إليه التأليف في سيرته. وقد بدأ تأليف الكتاب ولا يزال رحالة (في مصر). ثم يشير إلى قضية منهجية مهمة جدا تتمثل في: منهجه في التأليف فقد قسم الكتاب إلى قسمية في كل قسم ثمانية أبواب وقد التعليل المناسب لذلك. وأشار خلال ذلك كله إلى العنوان، وكيف دعته الضرورة المنهجية إلى تغييره بحكم المادة المحتواة فيه فقد سماه من قبل: (عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب). ثم عدل عن ذلك إلى تسميته بـنفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب). وختم مقدمته بجملة من الملاحظات هي من صميم البحث الأكاديمي أهمها: - الاعتراف بالجميل لكل من وقف مساندا أو كان سببا. - الإشارة إلى صعوبة ظروف التأليف. - التواضع العلمي (وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم أقف له على نظير أتعلق بأسبابه). * لا نقصد بالسبق في ورود الشعر في أدب الرحلة، فقد سبق المقري إلى ذلك من قبل الرحالة العرب وعلى سبيل المثال "الرحالة أبودلف مسعر بن مهلهل" رحالة من القرن الرابع الهجري، وإنما نقصد فكرة تطويع الشعر كقالب لأدب الرحلة أو الجمع بين الشعر والنثر. 2 / مداخلة الاستاذ وهراني قدور / جامعة وهران الشعور بالغربة والإحساس بالحنين إلى الوطن عند المقري. الأستاذ قـدور وهراني*. بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛ أساتذتي الأجلاء، أيها الحضور الكريم، إنه من دواعي فخري واعتزازي أن أقف في هذه المناسبة السعيدة لأتحدث عن كوكب أضاء الشرق والغرب بنور علمه، وخلد بكتاباته حضارة كُتب لها الزوال، وأحيِّ القائمين على هذا الملتقى، والذين منحونا فرصة تدارس تراث رجل من أغزر رجال جزائرنا العزيزة علما وأدبا. عاش المقري طول حياته متنقلا بين الأقطار مرتحلا بين الأوطان، حاملاً معه دائماً حبه لموطن الأجداد وحنينه لأرض الميلاد. وقد تجلى ذلك من خلال نصوص شعرية ونثرية مختلفة، تضمنتها مؤلفاته العديدة، فكان ذلك صراحة أحياناً و في ثنايا الكلام أحيانا أخرى؛ لذلك رأيت أن أناقش الاشكالية التالية: إذا كان حب المقري لتلمسان بهذه الدرجة فما هي دواعي خروجه منها؟ وما الأسباب التي دعته إلى تغيير مكان إقامته باستمرار والهجرة الدائمة؟ وهل وجد المقري في الأماكن التي استقر فيها مؤقتاً عوضا عن موطنه الأصلي؟ وما هي النصوص التي تدل على الشعور بالغربة والحنين إلى الوطن عند المقري؟ هل لاهتمام المقري بالأندلس علاقة بشعوره الغربة والحنين؟ وماذا يمثل لسان الدين بن الخطيب بالنسبة للمقَّري؟ هل فعلا عبَّـر المَقَّري عن نفسه من خلال حديثه عن ذي الوزارتين ومأساته؟ ولد المَقَّـري (1) شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بمدينة تلمسان سنة 986هـ/1578م، في بيت عز وعلم، فهو قرشي الأصل، قَدِمَ جده الخامس إلى عاصمة الزيانيين بصحبة الشيخ أبي مدين، واستقر هناك فكان له ولعائله حظ وافـر من الثروة والعلم، وقد اشتهر من بين أفراد هذه العائلة المَقَّري الجد وهو أبو عبد الله محمد شيخ لسان الدين بن الخطيب وعبد الرحمن بن خلدون وقاضي الجماعة بفاس على عهد السلطان أبي عنان المريني، والعم وهو أبو عثمان سعيد المقَّـري، شيخ صاحب النفح ومربيه وعالم تلمسان ومفتيها ستين سنة(2)، و كما يقول الأستاذ محمد بن معمر:« فهو إذن ابن عائلة وابن مدينة»(3)، غير أن أبا العباس المقَّري لم يتمتع بثروة عائلته ومجدها المادي، فقد تراجع الحال ونقص المال، إلى حد أن أبا عبد الله جد المقري قال: «فهأنذا لم أدرك من ذلك إلا أثر نعمة، اتخذنا فصوله عيشا وأصوله حرمة»(4)، فقد كانت عائلة المقري قد فقدت ثروتها قبل مولده، ورغم ذلك كان كثير التباهي بهذه العائلة خاصة بجده أبي عبد الله حيث أفرد له جزءًا مهما من كتابه نفح الطيب. تميز عصر المقَّري بكثرة الاضطرابات والفتن وسقوط دول وظهور أخرى، فقد فقدت تلمسان مكانتها بسبب ضغط الدول عليها، وهذا شأن مرحلة أفول الدول، وقد عبَّـر المقَّري عن ذلك في معرض حديثه عن سبب مغادرته لتلمسان قائلاً: «إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رَدٌّ ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو رد برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي بقطر المغرب الأقصى الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضماراً وقطعًا ووقصًا».(5) فالمقري هو ابن عائلة فقدت مجدها المادي، ومدينة تراجعت أهميتها السياسية، وتبع ذلك تراجع في الحياة الحضارية بصفة عامة، هذه الصورة التي رسمها الواقع في ذهن وذاكرة المقري لعائلته ومدينته كان لها كامل الأثر على نفسيته، وكما يقال كلما زادت وطأة الحاضر ومشاكله، زاد الحنين إلى الماضي، فالمقري لم ينس وهو يعيش الغربة وفي أيامه الأخيرة في القاهرة أن يتحدث طويلاً عن مجد عائلته ومدينته في نفح الطيب، بل ذكر أنه كان قد عزم الكتابة عن مدينة تلمسان كتابا بعنوان "أنواء نيسان في أنباء تلمسان" وكتب بعضه ثم حالت بينه وبين ذلك العزم الأقدار وارتحل إلى حضرة فاس فشغل بأمور الإمامة والفتوى والخطابة ونسي الأمر»(6)، ولابد أن تأليفه لكتاب عن الأندلس عوض تلمسان له ما يفسره على المستوى النفسي لشخصية المقري. لقد كان للوضع الذي آلت إليه تلمسان كامل التأثير على الحياة العلمية فيها، فقد هجرها معظم علمائها مما أدى بأبي العباس إلى الهجرة متجها نحو فاس بناءً على نصيحة عمه وشيخه أبو عثمان سعيد المقَّـري وذلك للأخذ عن علمائها. وقد كان لخروج المقري مضطرًا من تلمسان أثر كبير في نفسه، فقد غادرها في سن الشبيبة بعد أن ألِـف العيش فيها وأمضى جزءاً مهما من أزهى فترات عمره بين شوارعها وبساتينها، إذا لم ينس وهو يُؤلف نفح الطيب أن يذكر هذه الحادثة بنوع من الأسى والحزن قائلا:« وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة تسع وألف»(7)، ويُؤكد نفس الفكرة ما ذكره في مقدمته لكتاب أزهار الرياض في أخبار عياض قائلاً: «إنه لمـَّا سبق القضاء وجرت الأقدار، بارتحالي عن الوطن المحبوب والقرار، بعد أن شممت عراره النجدي ولا أشجان ولا أكدار، في عشية لم يكن بعدها من عرار؛ ونزحت عن بلد به الوالد وما ولد محل قطع التمائم، وفتح الكمائم، سقى الله عهاده صوب الغنائم: بلـدٌ تحف بـه الرياض كأنـه وجـه جميـل والرياض عـذارهُ وكأنما واديـه مـعصم غـادةٍ ومـن الجسور المحكمـات سواره(8) ورغم أن المدة الزمنية بين تأليف المقري لأزهار الرياض ونفح الطيب طويلة فقد ألَّـف أزهار الرياض بين سنتي 1013 و1027 هـ وانتهى من تأليف نفح الطيب سنة 1039هـ إلا أن كلا الكتابين يتضمنان أفكارا وعبارات متشابهة فقد دعم مقدمتيهما بجمل وأبيات تحمل شحنة الحنين إلى الوطن، ومعنى ذلك أن شوقـه إلى بلده لم يفارقه طول مدة إقامته في المهجر، فهو في فاس كان يحن إلى تلمسان وفي مصر كان يحن إلى المغرب. ومن بين العبارات التي حفلت بها مقدمة أزهار الرياض حديثه عن حاله عند مغادرته لبلاده: «...وكان ذلك وغصن النشاط يانع، وبرد الشباب قشيب؛ وشمل النفس مجتمع دون مانع، وكأس الأنس مزج بتسنيم القرب والشيب، وفود الرأس غير خاضع و لا خانع، إذ لم تطرق ساحته ولم تجس خلاله جيوش المشيب»(09). وكان من بين ما يحرك عواطف المقري وهو بفاس الكتب التي ترده من حين لآخر من تلمسان، فهو يتحدث عن ذلك بألم: «ولم تزل كتب الأقارب والإخوان ترد عليَّ، وتثني عنان أعنتها إلي، وتتكرر وتتعدد، وتنتاب وتتردد، وتتنوع وتتجدد، فأرتاح إليها إرتياح الغصن عند هزته، وأحن إليها، حنين كُثَيِّرٍ إلى معاهد عزته: يا من يذكرني حديث أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث عليَّ من جنباته إن الحديـث عن الحبيب حبيب وهو يتحدث صراحة عن أثر هذه الرسائل في تحريك عواطفه: «وكثيراً ما يحرك ذلك مني كامن شوق، شبَّ عمره من الطوق، وأجد من لواعج الأورا ما وجده الفرزدق عند مباينة النوار.(10) كما يستهل حديثة عن الحنين على الوطن قائلاً: «وليس بمستنكر حنين الناب إلى عطنه، والمرء إلى محل نشأته ووطنه. كم من منزل يألفـه الفتى وحنينـه أبداً لأول منزل(11) وهو من بيت الغربة يبعث بتحية إلى تلمسان قائلاً: حيا تلمسان الحيا فربوعها صدفٌ بجود بدره المكنون ماشئت من فضل عميـم إن سقى أروى وليـس بالممنـون أو شئـت من دين إذا قدح الهدى أورى ودنيا لم تكن بالدون (12) وإلى الجزائر تحية أخرى قائلاً: بلـدُ الجزائر مـا أمر نواهـا كلـف الفؤاد بحبها وهواهـا يا عاذلي في حبها كـن عاذري يكفيك منها ماؤها وهواهـا(13) وقد حفل نفح الطيب كذلك بما يدل على ما يعبر عن الحنين إلى الوطن، فقد أورد عند الحديث عن تلمسان أبيات تأكد وجود هذا الشعور قائلاً على لسان ابن خفاجة: ما جنة الخُلـد إلا في منازلكم وهذه كنت لو خيرت أختـار لا تتقوا بعدها أن تدخلوا سقرًا فليس تدخـل بعد الجنة النـار (14) و يتحدث عن ذلك في موضع آخر قائلاً: محل فتح الكمائم ومسقط الرأس وقطع التمائم به كان الشباب اللدن غضا ودهري كله زمن الربيع ففرق بيننا زمن خؤون لـه شغف بتفريق الجميـع(15) لم أنس تلك النواسم التي أيامها للعمر مواسم وثغورها بالسرور بواسم فصرت أشير إليها وقد عزمت للرحيل القلص الرواسم: ولنا بهاتيك الديار مواسم كانت تقام لطيبها الأسواق فأباننا عنها الزمان بسرعة وغدت تعللنا بها الأشواق(16) وقد كان المقري حريصا على جمع ما قيل في جمال تلمسان من وصف عند مختلف الأدباء والمؤرخين وهي كما استهل تعريفه لها "من أحسن مدائن الغرب ماءً وهواءً، حسبما قال ابن مرزوق: «يكفيك منها ماؤها وهواؤها»... ويقال تلمشان وهو أيضا مركب من تلم ومعناه لها وشان أي لها شأن وهي مدينة عريقة في التمدن لذيذة الهواء عذبة الماء كريمة المنبت اقتعدت بسفح جبل... عروسا فوق منصة والشماريخ مشرفة عليها إشراف التاج على الجبين ويطل منها على فحص أفيح معدٍ للفلاحة... وبها للملك قصور زاهرات اشتملت على المصانع الفائقة والصروح الشاهقة والبساتين الرائقة"(17). ولما كان خروج المقري من بلاده اضطرارياً، بحث في فاس عن الراحة والهدوء مقتدياً بما كان لجده قبله من مكانة في المغرب الأقصى؛ وبالفعل دخلها زمن السلطان أبي المعالي زيدان السعدي سنة 1013هـ (18)، وفكان له ما تمنى من حضوة، فقد ولي الإمامة والخطابة في لجامع القرويين بفاس وكان يعتبر أهم معلم ديني وثقافي في المغرب الإسلامي كله، ثم ترقى بعد ذلك إلى درجة الإفتاء. ويبدو أن المقري أحس بنوع من الاستقرار والراحة في بداية حياته بفاس حيث وصف ذلك بقوله: بلـد طاب لي بـه الأنس حينا وصفـا العود فيـه والإبـداء فسقت عهـده العهـاد وروَّت منـه تلـك النوادي الأنـداء (19). غير أن دوام الحال من المحال فقد تحول جو الهدوء إلى فتنة فلم يستطع المقري أن يبقى في المغرب الأقصى وقرر الرحيل إلى المشرق، دون أن تأثر فيه الأبيات الثلاثة التي قيلت فيه بغرض صرفه عن عزمه: أشمس الغرب حـقاً ما سمعنا بأنك قد سئمت من الإقامة؟ وأنك قد عزمت على طلـوع على سمـوت بـه علامـه؟ لقـد زلزلت منا كل قلـب بحـق الله لا تقـم القيامـه!(20) ولا ريب أن المقري لم ترقه هذه الحياة المضطربة، وأنه اضطر على مغادرة المغرب اجتناباً لعواقب الفتن والدسائس المستمرة ومستفيدا من الخطأ الذي وقع فيه مثله الأعلى لسان الدين بن الخطيب، فاتجه إلى مصر باحثا عن الهدوء والراحة التي فقدها في المغرب، فبهرته معالمها ومحاسنها، وبحث فيها عن الاستقرار، فصاهر إحدى أسرها الكبيرة، لأن المصاهرة إحدى طرق تقوية العصبية، فاستقر بها مدة لازم فيها التدريس في الجامع الأزهر، بيد أن الأمور رغم ذلك لم تكن بالأمر الهين، فمصر كانت في ذلك الوقت تزخر بعلماء مرموقين وكانت المنافسة العلمية على أشدها، وقد تعرض المقري فيه لعدة امتحانات، فعمد علماؤها إلى مناقشته وسبر معارفه، فوجدوا بحرا لا ساحل له حيث تفوق وأثبت جدارته، وتبوَّأ مكانة مرموقة في مجتمع مصر العلمي (21)، وكان يمضي كثيراً من وقته في رواق المغاربة.( 22) غير أنه كان من سوء حظ المقري إخفاقه في حياته الزوجية مع السيدة الوفائية، فسارت الأمور على عكس ما اشتهى وأراد، فقد كان بيت السادة الوفائية بمصر من البيوت الكبيرة، وكان الناس يلتمسون من مصاهرتهم جاها وشوكة، لكن الأمور سارت بعكس ما أراد المقري.(23) تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ورضت النفس بالتجريـد زهدا وقلت لها عن العلياء صومي مخافة أن أرى بالحرص مـمن يكون زمانـه أحد الخصوم.(24) أمام هذه الأحداث التي عاشها المقري والتي جعلت حياته مليئة بالأحزان والمشاكل، وفقد الشعور بالاستقرار في القاهرة، بدأ البحث عن راحته النفسية، التي كلما وجدها عاد وفقدها حيث يقول: «...وها أنا ذا الآن في البلاد المصرية، وفي علم الغيب تعالى ما لا نعلم، والتسليم لأحكام الأقدار أسلم»(25)، فرأى في دمشق وجهته الجديدة، ووجد فيها حافزاً على العلم والإنتاج، فقد أثار فيه فضاؤها الثقافي وتفاعلها الاجتماعي لواعج النفس، فرأى فيها موطنه تلمسان (26)، وهذا ما عبر عنه بقوله: «لقد تذكرت بلادي النائية بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه...»(27)، على أن نفح الطيب ما كان له أن يُؤلف لولا سفر المقري إلى الشام وتفاعله بوسطها، هذا التفاعل الذي خلق في نفسه استحضارا لجو الوطن الذي كان قد فقده في مصر بعد طلاقه. لقد بعثت ذكرى الأندلس في المقري من خلال ما سجله من أخبارها وما أورده من مآثرها وما ذكره من رجالها روحا جديدة وعزيمة قوية جعلته يتجاوز واقع غربته وينسى شجون أحزانه، بل دفعته إلى التفكير في تغيير أسلوب عيشه، وطريقة حياته، فاستقر على القدوم إلى دمشق، ومغادرة القاهرة، فعاد إلى مصر (1037هـ) وانكب على كتابة نفح الطيب (28)، فوجد في لسان الدين بن الخطيب مواساة لمؤساته بعدما كان قد وجد في القاضي عياض مواسيا له عند كتابته لأزهار الرياض في فاس، فكلاهما عاشا الغربة والحنين إلى الوطن بال عاشا النفي والاضطهاد بعيدا عنه. ففي أحد قصائد لسان الدين عن الوطن يبرز مكانة بلده عنده ومدى تعلقه به قائلاً: بلادي التي فيها عقـدت تمائمي وجم بها وفري وجل بها شـاني تحدثني عنها الشمـال فتنثـني وقد عرفت مني شمائل نشـوان وآمل أن لا أستفيق مـن الكرى إذا الحلم أوطاني بها تراب أوطاني تلون إخـواني علي وقد جنـت علي خطوب جمـة ذات ألـوان وما كنت أدري قبـل أن يتنكروا بأن خواني كـان مجمع خـواني وكانت وقد حم الفضـاء صنائعي علي بما لا أرتضي شر أعواني(29) هذه القصيدة التي نقلها لنا المقري والتي لا يمكن أن يحس بمعانيها سواه، فقد كان يرددها في نفسه، قبل أن يضمن مؤلفاته معانيها المفعمة بالشعور بالغربة والإحساس بالحنين إلى الوطن. وقد استبدل المقري تلمسان الواقع الذي فقده، بالأندلس الذكرى التي حلم بها، فأخرج لنا مؤلفاً يمكن وصفه بمدونة كبرى، بل أن كلا من تلمسان والأندلس يدلان على شيء مفقود في ذاكرة المقري، فقد كان قد شرع وهو في فاس في تأليف كتاب بعنوان "أنواء نيسان في أنباء تلمسان" ولم يتمه، بل كتب بدلا عنه مؤلفاً آخر عن الأندلس وهو "نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب". ويمكن القول إن المقري من خلال حديثة عن تلمسان وحزنه لفراقها، ورثائه للأندلس وذكره لمجـدها المفقود قد ساهم في طرح فكرة الارتباط بالوطن بشكل جديد، ورغم أن تراث الأدب العربي لا يخلو من إسهامات خاصة بأدب الحنين إلى الوطن، إلا أنه لم يكن له من التأثير والالتزام والعمق ما يماثل إسهام المقري في هذا المجال، ولعل هذا ما يجعل المقري، مجددا فيما يتعلق بأدب الانتماء إلى الوطن، والتأكيد على عاطفة الارتباط به والانتساب إليه، هذا الانتماء وهذا الانتساب اللذين سوف تقوم عليهما في العصور الحديثة فكرة الوطنية ببُعدها السياسي ومفهومها الإيديولوجي(30)، خاصة إذا علمنا أن المرحلة التي جاء فيها المقري وهي بعد نهاية العصر الوسيط بقليل وفي بداية العصر الحديث. إن النقاد إذا كانوا قد تحدثوا في المرحلة المعاصرة من تاريخ الأدب العربي عن أدب المهجر وما قدمه للأدب العربي من جديد وللثقافة العربية من إبداع باقتبسه من النهضة العلمية والأدبية الغربية ومدارسها المختلفة من رومنسية ثم واقعية وغيرهما، فإن المقري كان في المرحلة التي عاشها رائد تيار هجرة العلماء المغاربة إلى المشرق، فكانت الهجرة التي تلت سقوط الأندلس وما تبعها من ظروف سياسية صعبة عاشتها منطقة المغرب الإسلامي(31)، سبب ظهور أدب جديد للهجرة، وضع أساسه ابن الخطيب ورفع أركانه المقري؛ ولا يمكن القول أن اختيار المقري لعناوين مرتبطة بالطبيعة كـ: "أزهار الرياض" و"غصن الأندلس الرطيب" و"أنواء النيسان" هي مودة ذلك العصر أو أن ضرورة السجع دعت إلى ذلك، بل هي صورة لأدب مهجر تلك المرحلة وما تميز به من رومنسية وارتباط بالطبيعة، مستمدة من أصالة المجتمع العربي الإسلامي. 3 / مداخلة الدكتور : عبد الرحمان تركي البريد الالكتروني : adab---39@hotmail.com المقري (حياته ومؤلفاته) في الكتابات التاريخية ( دراسة تحليلية ) أولا - الملخص : علامة الجزائر وأديبها الكبير ومفخرة المغرب العربي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني . تناول كثير من المؤرخين بالدراسة والتحليل حياته وأعماله وآثاره لاسيما كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) ، ودونوا إعجابهم وإشادتهم بهذا العالم الموسوعي الذي ألمّ بكثير من العلوم في عصره وتتلمذ على يديه كثير من أهل العلم . في مداخلتي تطرقت إلى ما كتبه المؤرخون حول حياة المقري ومؤلفاته ، وممن رجعت إليهم عبد الرحمان بن محمد الجيلالي في كتابه (تاريخ الجزائر العام / الجزء الثالث) وأبو القاسم سعد الله في كتابه (تاريخ الجزائر الثقافي / الجزء الثاني) ، وشكيب أرسلان في كتابه (الحلل السندسية في الأخبار والآثار الأندلسية) ، والذي أشاد بكتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) والذي لا يزال من أعظم المراجع التي يعول عليها المحققون في أخبار الأندلس برغم ما فاته من مباحث ومسائل ، وذلك لأن صاحبه اتصل بكتب كثيرة لم يتيسر لغيره الاطلاع عليها ، وشافَهَ في الشرق والغرب عددا كبيرا من الجِلّة وحاضرهم ، وكان المقري نفسه مولعا بأخبار الأندلس ، متخصصا فيها حافظا الكثير من أنبائها وكلام علمائها ونظم شعرائها ، كما رجعت إلى أبي الحسن علي بن عبد الله النباهي المالقي الأندلسي في كتابه (تأريخ قضاة الأندلس أوكتاب المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا) والذي كتب عن جد المقري أبي عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني أحد القضاة بحضرة فاس أيام خلافة أبي عنان . ثانيا - حياة أبي العباس أحمد المقري (986هـ/1578م) (1041هـ/1632م) : علامة الجزائر وأديبها الكبير ومفخرة المغرب العربي أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني(1) . ولد بمدينة تلمسان سنة 986هـ/1578م ، وأصل أسرته من قرية مقرّة - بفتح الميم وتشديد القاف وفتحها وفتح الراء إحدى قرى الزاب الجزائري المشهورة بجنوب جبال الحضنة ، ضبطها المترجم نفسه في أزهار الرياض بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة (مَقَّرة) ، وقيل بفتح الميم وسكون القاف وفي النسبة إليها مقري كبدري(2) . اشتهر بيت المقري بتلمسان منذ أن انتقل إليها أعضاء هذه الأسرة الأولون من مقرة أواخر القرن السادس الهجري أعني حين استقرت دولة بني زيان على عرش الجزائر ، واشتهر جده أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني كأحد القضاة بحضرة فاس أيام خلافة أبي عنان المريني(3) ، وكان هذا الفقيه في غزارة الحفظ وكثرة مادة العلم عبرة من العبر وآية من آيات الله الكبر ، قلّما تقع مسألة إلا ويأتي بجميع ما للناس فيها من الأقوال ويرجح ويعلل ، ويستدرك ويكمّل ، قاضيا ماضيا عدلا جذلا ، قرأ ببلده على المدرّس أبي موسى عمران المَشدالي وعلى غيره ، وقام بوظائف القضـاء أجمل قيام (4) . وفي تلمسان درج ونشأ وبها حفظ القرآن الكريم وتأدب وأخذ علمه عن مشائخها المشهورين في التاريخ وأخصهم عمه أبو عثمان سعيد مفتي تلمسان ستين سنة ، والذي أسهم في تكوينه تكوينا أدبيا موسوعيا بعد أن قرأ عليه سنوات طويلة ، وكان أبو عثمان هذا إماما في العلوم العقلية حسابا ومنطقا وفرائض وهندسة وطبا ، حافظا للغة العرب والشعر والأمثال وأخبار الناس ومذاهبهم وأيام العرب وسيرها وحروبها (5) . ونظرا للفتن التي كانت بين سكان تلمسان والعثمانيين ارتحل المقري إلى المغرب الأقصى فدخل فاس سنة 1009هـ ولقي بها المشيخة ، ثم عاد إلى بلاده فمكث سنتين ثم غادرها إلى فاس ثانيا سنة 1013هـ وبها ألقى عصاه منقطعا إلى العلم والتعمق في البحث ودرس فيها الحديث الشريف وبرع في علوم الشريعة والأدب والتاريخ ، والتقى كثيرا من العلماء والمشائخ (6) . تولى المقري الوظائف السامية بالمغرب كالإمامة والخطابة بجامع القرويين بفاس سنة 1022هـ ، ثم الفتوى ، وهي وظائف العلماء البارزين المقدمين لدى السلطة (7) . ولما اختلت أحوال مملكة المغرب السياسية وكثرت الفتن وانقسمت الدولة السعدية إلى مملكتين أزمع المقري على الرحيل إلى المشرق تاركا المنصب والأهل والوطن والألف ، ويقال أن السبب في خروجه اتهامه بالميل إلى قبيلة (شراقة) في تحيزها لأحد الأطراف المتنازعين ، وكان المقري عالما طارئا عليها وكانت شراقة تلمسانية الموطن ، ويقال أنه حين أحس بأن الأمور تسير على غير ما يروم ادعى التوجه إلى الحج سنة 1027هـ ، وسجل معاصره عبد الكريم الفكون سبب هجرة المقري من المغرب فأرجعه إلى فساد فاس بتبدل دولها بين أولاد أميرها حتى تداعت للخراب (8) . استقر المقري بمدينة الجزائر سنة 1027هـ بعد أن مرّ بمسقط رأسه تلمسان ، واتصل في الجزائر بالعلماء وشرع في التدريس وخصوصا التفسير ، وتبادل مع كبير علماء الجزائر عندئذ وهو سعيد قدورة الألغاز والنكت والمعلومات ، ثم سافر من الجزائر إلى تونس بالبر أيضا ، ومنها إلى مصر ومنها بحرا إلى جدة فأدى العمرة سنة 1028هـ ثم فريضة الحج في السنة الموالية (9) . عاد إلى مصر سنة 1029هـ وتزوج بها ، وظل يتنقل بين مصر والحجاز ثم أضاف إلى ذلك بيت المقدس ودمشق ، فحج حوالي خمس مرات وسافر إلى القدس عدة مرات وذهب إلى الشام على الأقل مرتين ، وشاء الله أن يقيم المقري اثني عشرة سنة أخرى من حياته بعيدا عن وطنه ، ذلك أن أجله قد وافاه سنة 1041هـ/1632م وهو في مصر يستعد للعودة إلى دمشق (10) . في المشرق عاش المقري حياة حافلة بالنشاط العقلي فقد ألّف معظم كتبه هناك ولاسيما موسوعته (نفح الطيب) ، وألّف عددا من كتبه الدينية في المدينة المنورة مثل (فتح المتعال) ، واتصل بالوجهاء والعلماء ووجد تقديرا كبيرا ولاسيما من علماء الشام أمثال المفتي عبد الرحمان العمادي والوجيه أحمد بن الشاهين ، وطارت شهرته كمدرّس في الأزهر والجامع الأموي فهرع إليه علماء كل بلد وأعيانها (11) . ومكانته في مصر لم تصل إلى المكانة التي تمتع بها في الشام ، فبينما مدح الشام بكل جميل عاتب مصر بأبيات مرة وتأسف فيها على حاله :تركت رسوم عزّي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ونفسـي عفتها بالذل فيها وقلت لها عن العلياء صومي وهذا يعود إلى إصابته ببعض النكبات في مصر ومنها وفاة والدته وابنته من زوجته المصرية بالإضافة إلى غربته عن أهله بالمغرب (12) . اعترف له العلماء وخصوصا علماء الشام بما هو أهل له من الحفظ والأدب والظرف لذلك أكثر من ذكرهم في (نفح الطيب) قائلا عنهم (نوهوا بقدري الخامل) ، ونذكر من هؤلاء أحمد بن الشاهين وعبد الرحمان العمادي ومحمد بن يوسف الكريمي ومحمد بن علي القاري ويحي المحاسني ، فقد تبادل معهم الإجازات والتقاريظ والمدائح والطُرف والهدايا والأشعار ، وكان إلحاح علماء الشام عليه في تعريفهم بلسان الدين بن الخطيب وبتاريخ الأندلس (13) وأخبارها هو الذي دفعه إلى كتابة موسوعته الأندلسية (نفح الطيب) (14) . ثالثا مؤلفاتـه : تميزت مؤلفات المقري بصفاء العبارة ونقاء الديباجة ووضوح المعنى وإشراقه ، وبالاستطراد الذي جعل النقاد يعدونه جاحظ المغرب ، وألّف معظم كتبه التي بلغت ثمانية وعشرين تأليفا عندما كان في المشرق ، وألّف معظم كتبه الدينية في الحجاز ، بينما اشتغل بالأدب والتاريخ وهو في القاهرة ودمشق (15) . وعُرف عنه كثرة المحفوظ في مختلف العلوم والفنون وكثرة التأليف في الأدب والتاريخ والحديث ، وقد أخبر عبد الكريم الفكون أن المقري قد انتصب للتدريس في الجامع الأعظم بمدينة الجزائر عندما أخرجته الظروف السياسية من المغرب ، وأن من جملة ما درّس هناك التفسير ، وكان مشهورا برواية الحديث الذي أخذه عن علماء المغرب والمشرق ، ومما أخذه عن عمّه سعيد المقـري بتلمسان سنده في الكتب الستة إلى القاضي عياض (16) . نُشر البعض من كتبه ولكن معظمها ما يزال مخطوطا أو مجهولا ، ومن أهم كتبه المطبوعة على الإطلاق موسوعته (نفح الطيب) الذي ألفه بوحي وبإلحاح من أعيان الشام وعلمائه ، وبناء على ما ساقه المقري بنفسه فإنه ذهب إلى الشام سنة 1037هـ ، وفي نفس السنة عاد إلى مصر وشرع في الكتابة ، وجاء في خاتمة الكتاب أنه انتهى منه سنة 1038هـ بالقاهرة وزاد عليه في السنة الموالية بعض الإضافات (17) . وهذه أسماء بعض كتبه (18) : 1 - إتحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى ، وهو تكميل لشرح السنوسية في علم التوحيد . 2 - أزهار الرياض في أخبار عياض ، وهو أشبه كتبه بكتاب نفح الطيب ، وقد ألفه أثناء إقامته بفاس (1013هـ-1027هـ) . 3 - أزهار الكمامة في أخبار العمامة ونبذة من ملابس المخصوص بالإسراء والإمامة ، وهو بحث في عمامة وملابس النبي صلى الله عليه وسلم . 4 - إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة ، وهو منظومة بدأ تأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة 1027هـ ، وأتمها في القاهرة سنة 1036هـ . 5 - حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي (19) . 6 - البدأة والنشأة ، وهو كتاب كله أدب ونظم . 7 - الدر الثمين في أسماء الهادي الأمين ، وهو كتاب في الأسماء النبوية . 8 - روض الآس العاطر الأنفاس في ذكر من لقيته من علماء مراكش وفاس ، والكتاب عن حياته بالمغرب . 9 - عرف النشق في أخبار دمشق . 10 - الغث والسمين والرث والثمين . 11 - فتح المتعال في مدح النعال ، وهو كتاب صنفه في وصف نعال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ألفه في المدينة المنورة . 12 - قطف المهتصر في شرح المختصر ، وهو شرح على حاشية مختصر خليل في الفقه المالكي . 13 - أنواء نيسان في أنباء تلمسان ، وهو كتاب في تاريخ تلمسان وأهلها . 14 - الجمان في أخبار الزمان . 15 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب . 16 - مجموعة خطب منسوبة إليه ، ومجموعة قصائد في المديح النبوي قيلت بين سنتي 1033هـ و1037هـ أي بعد هجرته إلى المشرق . وبالنسبة لكتاب نفح الطيب : فهو من أهم الكتب في التاريخ العام ، قسم هذا الكتاب الموسوعي قسمين رئيسيين الأول في تاريخ الأندلس الإسلامية ، والثاني في حياة ابن الخطيب ، وقد اشترك المستشرقون (الهولندي دوزي والفرنسي دوجا والانجليزي وليم رايت والألماني كريل ) في نشر الجزأين الأولين منه بمقدمة فرنسية ضافية في ترجمة المؤلف وقيمة كتابه (ليدن 1855م) (20) . ولا يزال نفح الطيب من أعظم المراجع التي يعوّل عليها المحققون في أخبار الأندلس ، وذلك لأن صاحبه اتصل بكتب كثيرة لم يتيسر لغيره الاطلاع عليها ، وشافه في الشرق والغرب عددا كبيرا من الجِلّة وحاضرهم ، وكان المقري نفسه مولعا بأخبار الأندلس ، متخصصا فيها حافظا من أنبائها وكلام علمائها ونظم شعرائها ولاسيما من أقوال لسان الدين بن الخطيب وزير بني الأحمر الشهير بما يكاد يكون من المعجزات (21) . ولما كان قد رحل إلى المشرق انتهى في طوافه إلى دمشق الشام التي أخذت بمجامع فؤاده فألقى بها عصا التسيار وتعرف بكثير من علماء الشام وأدبائها ، فكان ذكر الأندلس أمامهم ملهج لسانه الدائم وغرام قلبه الملازم ، فأرادوه أولا على تأليف كتاب يتضمن مروياته عن لسان الدين بن الخطيب فصحت عزيمته على ذلك ، وبدأ بكتابة هذا الكتاب سنة 1039هـ ، هذا وقد كان تأليف المقري للنفح حينما كان مقيما بالشام (22) . ولأهمية الكتاب قيل فيه وكاد يلحق بالأمثال السائرة : (إنه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب ، الذي من لم يقرأه فليس بأديب) (23) ، كما قال فيه شكيب أرسلان : " لا أنكر أن كتاب (نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب) للعلامة المقري هو من أوفى الكتب بأخبار الأندلس وآدابها : حقيبة أنباء وقِمَطرُ حوادث وخزانة آداب وكشكول لطائف وديوان أشعار ، وقد كان عهد تصنيفه على أثر النازلة الكبرى بباقي الأندلس وامتصاص سؤر الكاس وعفاء الأثر الأخير من سلطان المسلمين فيها ، بحيث أمكن صاحبه ذكر سقوط مملكة غرناطة واستيلاء الاسبانيول على الجميع وختم الدولة الإسلامية في تلك الديار .." (24) ، وقال أيضا : " ولم يشتهر عندنا في المشرق عن كارثة الأندلس غير نفح الطيب من متأخر التآليف" (25) . وأما بالنسبة لكتاب إضاءة الدجنة : فنقول أن المقري لما كان متدينا عن عقيدة وإيمان ، منبهرا عند رؤية الكعبة الشريفة وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحجّ حوالي خمس مرات وزار بيت المقدس حوالي سبع مرات ، ولما كان حافظا للسند مجيدا في تدريس التفسير وصحيح البخاري ، كان تأليف (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) ومجموعة من كتبه الدينية ، كما ترجم في (نفح الطيب) لأبي مدين وأطال في ذلك لأنه شيخ جدّه كما ذكر الكثير من كراماته ومناقبه (26) . وقد نالت (إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة) مكانة هامة في معرفة التوحيد ودراسته في الجزائر خلال العهد العثماني ، بحيث صارت تنافس عقيدة السنوسي في الأهمية (27) . كتب المقري (إضاءة الدجنة) نظما بلغ فيه حوالي 500 بيت تناول فيها أصول الدين وقضايا التوحيد ، وقام بتدريسها في مكة ومصر ودمشق ، وأجاز بها بعض العلماء الذين كانوا يحضرون درسه فيها ، ومنهم أحمد الشاهين بدمشق ، وقد لخص المقري كل ذلك في هذه الأبيات : وإنني كنت نظمت فيه لطالب عقيدة تكفيه سميتها (إضاءة الدجنة) وقد رجوت أن تكون جُنّة وبعد أن أقرأتها بمصر ومكة بعضا من أهل العصر درستها لما دخلت الشاما بجامع في الحسن لا يُسامى وقام بشرحها معجبا بصاحبها محمد بن المختار بن الأعمش العلوي الشنقيطي ، واسم شرحه (فتوحات ذي الرحمة والمنّة في شرح إضاءة الدجنة) (28) . وإذا كان للمقري (إتحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى) و(حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي) فهو متأثر بالسنوسي في مجال علم الكلام والعقائد الإيمانية ، وللعلم أن السنوسي في (شرح أم البراهين في علم الكلام) متأثر بأبي حامد الغزالي وبإمام الحرمين أبي المعالي الجويني وبأبي بكر محمد بن العربي الاشبيلي ، وبالتالي فهو أشعري العقيدة ، وهو المذهب الذي ساد المغرب العربي بتأثير مؤلفات الغزالي العقائدية ، وهو المذهب الذي جابه أفكار المعتزلة والجبرية والفلاسفة والحشوية الذين تمسكوا في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة فقالوا بالتجسيم والتشبيه والجهة ، كما يتضح من كتاب شرح أم البراهين للسنوسي (29) . رابعا - خاتمة : نستخلص مما سبق أن المقري عالم تنوعت مواهبه وقدراته بين التاريخ والآداب وعلوم الشريعة والدين ، مفوه قادر على الحفظ والتبليغ والخطابة في زمن يُعد ضمن عصر الانحطاط وبداية جفاف ينابيع العلم والثقافة ، وتدلنا قائمة مؤلفاته على أنه كان أديبا مؤرخا فقيها متكلما ، وهي الميادين التي تضلع فيها علماء عصره ، كما كان مالكي المذهب أشعري العقائد . مداخلة الاستاة : طانية حطاب / جامعة مستغانم ------------- أثر الرحلة في تكوين الشخصية المقرية --------------- الحديث عن المقري إنما هو حديث عن احد أبرز أعلام القرن السادس عشر والسابع عشرين الميلاديين و أشهرهم على الإطلاق . إنه أبو العباس أحمد ابن محمد ابن العباس بن احمد بن يحي بن عبد الرحمان بن أبي العيش بن محمد ، الشهير بالمقري والملقب بشهاب الدين ، يرجع أصل سلفه إلى قرية مقرة بفتح الميم وتشديد القاف وفتحها وفتح الراء ولكنه تلمساني المولد والمنشأ والقراءة ، حيث يشير إلى ذلك في كتابه نفح الطيب :قائلا : ( وبها ولدت أنا وابي وجدي وجد جدي ) .1. لم يذكر تاريخ مولده ، فذكر الزركلي أنه ولد عام 992 هــ/1584 م . وذكر عبد الوهاب بن منصور محقق كتاب روضة الآس للمقري أنه ولد عام 986 هـ/1578 م . واعتمد حسان عباس على ابن منصور في هذا التاريخ . أما ليفي بروفسنال فقد حدد سنة 1000هـ/1591 م تاريخا لولادة المقري ، ولكنه تاريخ مشكك في صحته .2. والمقري مالكي الذهب . قرأ وحصل على يد عمه الجليل أبي عثمان سعيد بن أحمد المقري . مفتي تلمسان ستين سنة ، فحفظ القرآن الكريم وصحيح البخاري ، ودرس أيضا الأدب والفقه المالكي ، فكان بذلك أهلا للتدريس والتأليف لما حظي به من علم وافر . رحلاته : رحل المقري إلى فاس مرتين ، كانت المرة الأولى سنة 1009 هـ ، مضى فيها يطلب العلم على شيوخها وفي مقدمتهم الشيخ ألو عبد الله محمد بن قاسم القيسي ، مفتي فاس وخطيبها . وكانت المرة الثانية سنة 1013 هـ ، فزاد علمه وتحصيله و أصبح عالما ضليعا ، ولم يذكر المقري الأسباب التي جعلته يترك تلمسان ليستقر بفاس ، غير أن بعض الدراسات تؤكد أن الفتن التي عاشتها الجزائر في بداية العهد العثماني هي السبب في هجرة المقري نهائيا من تلمسان إلى فاس .3. حيث أهله تبحره في العلم من الاشتغال بمهنة الافتاء والقضاء والخطابة ، واتصل بالسلطان زيدان السعدي وحظي بمكانة عالية أيامها .وعلى الرغم من ذلك ، فإنه قرر مرة أخرى الرحيل إلى المشرق مشيرا إلى سبب ارتحاله إشارة بسيطة حين قال ( إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد ، ولا محيد عما شاءه سواه كره المرء أو رد ، برحلتي من بلادي ونقلتي عن محل طارفي وتلادي ، بقطر المغرب الأقصى ، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا ، وطما به البحر الأهواء (..) وذلك في أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف ، تاركا المنصب والأهل والوطن والإلف .) .4. فاتجه المقري إلى مصر التي لم يلق فيها ما كان يرجوه من حفاوة الاستقبال ، وتقدير لعلمه ومقامه ، فأنشد أبياتا قال فيها : .5. تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسي الرسوم ونفسي عفتها بالذل فيـــــهـــا وقلت لها : عن العلياء صومي ولي عزم كحد السيف ماض ولكن الليالي من خــصـومي . ومن مصر توجه إلى الحجاز بحرا ليعتمر ويحج ويزور قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى القاهرة في محرم سنة 1029 هـ . وفي شهر ربيع الأول من السنة رحل لزيارة بيت المقدس وراح يتردد إلى مكة والمدينة ، فزار مكة خمس مرات والمدينة المنورة سبع مرات قاضيا وقته في العبادة والتدريس حتى وافته المنية سنة 1041 هــ/1632 م بالقاهرة . الرحلة عند المقري : من التجسد فعلا إلى التجسد كتابة : والواضح مما سبق ، أن الرحلة قد شغلت فضاء واسعا في حياة المقري ، إذ أمضى نصف حياته إن لم نقل أغلبها متنقلا بين مختلف البلدان والأمصار : تلمسان وفاس ومصر والحجاز وفلسطين والشام . والرحلة فعل إنساني عرفته البشرية في كل المراحل ، وبمختلف الأشكال .عبرت عن تجارب وخبرات امتزج فيها اليومي بالمتخيل . وربما تستر بعض الرحالة العرب ، ومنهم المقري عن ذكر الأسباب الحقيقية التي تدفعهم لذلك ، كالفرار من إحباطات شخصية ، أو من مضايقات سياسية أو خوف من مصير مجهول ، كل هذه الأسباب وغيرها يمكن أن يؤسس إلى فكرة الرحلة .6. ولن نحيد عن الصواب في هذا المقام ، إن قلنا إن المقري قد تمكن وببراعة شديدة من نقل هذه التجارب والخبرات التي اكتسبها عبر رحلاته إلى مجال الإبداع وتجسيدها كتابة قائمة بذاتها . فتحولت الرحلة عنده من كونها فعلا ماديا إلى فعل سردي منفتح على أشكال سردية أخرى خاض الكاتب غمارها من قبل . ولعل الرحلة من الأشكال التي تحتفل بالثراء والتنوع باعتمادها على السرد استكشافا لخبايا عوالم الحكي المشدود إلى تجارب وخيالات تنبني وترتسم سرديا.6. فمن خلال خطبة نفح الطيب مثلا يتحدث المقري عن محطات حياته المختلفة ، وعن رحلاته وتنقلاته بين عدة أقطار من الشرق والغرب ، مصورا كل ما شاهده فيها من مظاهر الحضارة ، راسما صورة كل ماوقعت عليه حواسه من جمال وسحر في الطبيعة . قال في زيارته إلى دمشق : ( ثم حدث لي في منتصف شعبان ، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر فضلها وبان ، دمشق الشام ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام ، والأدواح المتنوعة ، والأرواح المتضوعة ، حيث المشاهد المكرمة ، والمعاهد المحترمة ، والغوطة الغناء ، والحديقة ، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه ، والأظلال الوريفة ، والأفنان الوريقة ، والزهر الذي تخاله مبسما والندى ريقه ، والضبان الملد ، التي تشوق رائيها بجنة الخلد : بحيث الروض وضاح الثنايا أنيق الحسن مصقول الأديم .8. ووصف المقري لطبيعة دمشق وصف المحب لحبيبته ، فيه كثير من الرقة والإعجاب بجمالها الذي حباها الله به . وزيادة على وصف الطبيعة وبهائها ، يصور لنا المقري طبائع أهل دمشق الحسنة ومدى جودهم ونبلهم ، ومبلغ علمهم وثقافتهم . إذ يقول في أعيانها ( ولو تعرضت لأسمائهم وحلالهم ، أدام الله تعالى سؤددهم وعلاهم ، لضاق من ذلك النطاق ، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق ، فليت شعري بأي أسلوب ، أؤدي بعض حقهم المطلوب ؟ أم بأي لسان ، أثني على مزاياهم الحسان ؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقو الفضائل ولاء ، وتعاطوا أكواب الحامد ملاء ؟ من المجد مطارف وملاء ، وحازوا المكارم ، وبدوا الموادد و المصارم ، سؤددا وعلاء ) .9. صورة الآخر وأبعاده عبر السرد الرحلاتي المقري : ونطرح هنا إشكالية هامة وهي صورة الآخر عبر السرد الرحلاتي ، إذ الرحلة عموما هي أولى الأشكال التعبيرية التي استعملت فيها الكتابة بضمير الأنا دون حرج ومن الأشكال التي تطرح فيها باستمرار صورة الآخر .10. فمن خلال هذا التصوير لأهل دمشق ، نلمح بوضوح صورة هذا الآخر الذي تعامل معه المقري وعايشه لبعض الوقت .وقارن بطريقة خفية بين الآخر العدو الجاهل المتخلف الذي لم يعطه حقه في بلده ، وبين الآخر صديق العالم المتحضر الذي قدر لعلمه وأحبه لشخصه . فقال في الأول : ( فكم من عدو منهم في ثياب صديق ، وحسود لنظره في نعم الله على عباده تحديق ، لا تخدعه المداراة ، ولا تردعه المماراة ، يتتبع العثرات ، ويقنع بألم البثرات ، ويبسم قلبه من الغل يتقسم ، ويتودد ، ومكايده تتجدد وتتعدد ..) .11. فكان هذا الآخر بحسده وكيده السبب في ترحاله عن وطنه واغترابه ، ويقول في الثاني الذي كرمه وقابله بالاحتفال والاحتفاء : ( فهم الذين نوهوا بقدري الخامل ، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل ، حسبما اقتضاه طبعهم العالي : فو شريت بعمري ساعة ذهبت من عيشتي معهم ما كان بالغالي فمتعين حقهم لا يترك ، وحبهم لا يخالط بغيره ولا يشرك ، وإن أطلت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك ) .12. واستدعاء الآخر في النص الرحلي إنما هو استدعاء لشخصياته التي تقوم بتأثيثه وتساهم في بنائه وتخليق حيويته .( ويشكل الآخر بالنسبة للراوي جزءا أساسيا في بناء الرحلة من مستويات كافة ، باعتبار أن السفر هو مرآة الأعاجيب ومرآة النفس التي لا ترى تفاصيلها إلا بالانتقال والاغتراب والاحتكاك مع آراء وسلوكات وتقاليد الغير ، والاصطدام ببعضها والتوافق مع البعض الآخر ، حيث رؤية الذات صافية عبر المقاربات المتعددة والقاسية أحيانا ، فيصبح اكتشاف الآخر ، هو نفس الآن اكتشافا للذات ، إنه تعديل يمس الخارج كما يمس الداخل .13. وهذا بالفعل ما حدث مع المقري ، فقد كان للترحال الأثر البالغ عليه ، إذ أصبح أكثر تفتحا وأوسع علما وأشد انتباها وحذرا من المحيطين به خاصة بعد الأذى الذي لحق به . والرحلة عنده ، ليست وصفا للطبيعة ونقلا لمشاهد البنيان والعمران فقط ، إنما هي مجال متفتح على مجالات عدة ، قنجد التاريخ والجغرافيا والسيرة والادب ، فيصعب بذاك تصنيفها أو تجنيسها ، ورغم الالتباس الذي يقع من خلال تجنيس الرحلات وتحديد انتسابها إلى التاريخ ، أو الجغرافيا ، أو إلى الأدب ، فإن التاريخ الرحلة العربية المكتوبة ، يميل إلى الأدبي بصفته حكيا يروي عن الذات وصفرها ، والذي يقترب مما هو شخصي ، سيري وبيوغرافي وتراجمي ، اعتمادا على تتويعات وصفية بأسلوب المؤرخ الهاوي والجغرافي والإثنوغرافي ، وتصبح الرحلة نصا وعلامة لعدة تقاطعات وشكلا دائريا منفتحا ، للوصف فيه قدرة على مزج الوعي التاريخي بالجغرافي وبالخيالي الاستيهامي من داخل دائرة الذات ، والغير ، والعمران ، ..للوقوف عند رصيد القيم وأشكالها ..14. أثر الرحلة في تكوين الشخصية المقرية : نجد المقري من خلال رحلاته قد كانت تتنازعه ثنائيتان ، طرفها الأول ( الرغبة ) وطرفها الثاني ( الرهبة) . ولكنه يخترقها مدفوعا برغبة التفوق ، ساعيا إلى إثبات مكانته بين جمهور علماء عصره عبر مختلف البلدان التي رحل إليها ، وعلى الرغم من تحقيقه لإنتصارات عدة ، فهو لا يخفي شعوره بالرهبة أما عالم الرحلة المجهول ، ويكفيه شعوره بالاغتراب الذي راوده عندما هاجر إلى بعض الأمصار كمصر مثلا .فقد كان راغبا وراهبا في الآن ذاته ، وهذا التردد والصراع لم يزده إلا عزما وبأسا وعلما لأنه أدرك يقينا أن التحصيل العلمي وحده الكفيل بأن يخرجه من رهن الغربة ويجعل منها عالما ضرب قصب السبق في كثير من المجالات . لقد علمت على بناء شخصية المقري العلمية بناء متكاملا ، وساهمت في جعله موسوعي الثقافة ، متعدد المشارب ، فبالإضافة إلى تفوقه ةفطنته وتقدمه على معاصريه ، فإنه استطاع من خلال رحلاته التي قام بها ، أن يجمع بين الفكر المغربي والأندلسي والمشرقي ، وأن يجسد كل ذلك في كتاباته المتنوعة ، فنفح الطيب مثلا هو مصدر للتاريخ والسيرة والجغرافيا والرحلة والأدب والشعر وغيرها من المعارف والعلوم . والقارئ لتراث المقري يلمس مدى تكامل جوانب شخصيته ، وكثرة تجاربه وخبراته ، ومبلغ علمه وموسوعيته ، فيدرك بحق أن هذا العالم الجليل كان ومازال ملتقى للثقافات المختلفة ، وصورة مشرقة من صور ذلك الزمان .