ياسر على زاويه برمشا
الوفاء بالعهد ومنزلةُ بعضنا منه !!
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَ الصَلاةُ وَ السَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ، وَبَعْد:
قال الشيخ العثيمين رحمه الله تعالى في شرح رياض الصالحين:"
العهد: ما يعاهد الإنسان به غيره، و هو نوعان:
عهد مع الله عز وجل:
فإن الله سبحانه و تعالى قال في كتابه:{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا }[الأعراف:172]، فقد أخذ الله العهد على عباده جميعا أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا، لأنه ربهم و خالقهم.
و عهد مع عباد الله:
ومنه العهود التي تقع بين الناس؛ بين الإنسان و بين أخيه المسلم بين المسلمين و بين الكفار،و غير ذلك من العهود المعروفة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد فقال عز وجل: :{ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34]. يعني الوفاء بالعهد مسئول عنه الإنسان يوم القيامة، يسأل عن عهده هل وفى به أم لا؟"انتهى.
وبعد:
فقد مدح الله الموفين بعهدهم . .
، بل مدح بذلك أببياءه و رسله . .
، كما قال تعالى عن إسماعيل عليه السلام:{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنّهُ كَانَ صَادِقَ
الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً}
[مريم:54].
قال بن كثير رحمه الله:" هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام, وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد. قال ابن جريج: لم يعد ربه عدة إلا أنجزها, يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها وقال ابن جرير: حدثني يونس, أنبأنا ابن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه, فجاء ونسي الرجل, فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد, فقال: ما برحت من ههنا ؟ قال: لا. قال: إني نسيت قال: لم أكن أبرح حتى تأتيني, فلذلك {كان صادق الوعد}
وقال سفيان الثوري: يلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولاً حتى جاءه وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع مسكناً."
و قال ابن كثير أيضا:" فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا أؤتمن خان" ولما كانت هذه صفات المنافقين, كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين, ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله
إسماعيل بصدق الوعد ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد, وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به, وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب, فقال: "حدثني فصدقني, ووعدني فوفى لي" ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو بكر الصديق من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له, فجاء جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" يعني ملء كفيه, فلما جاء مال البحرين أمر الصديق جابراً فغرف بيديه من المال, ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها." انتهى.
قال السعدي رحمه الله:" أي : لا يعد وعدا ، إلا وفى به ، وهذا شامل للوعد الذي يعقده مع الله أو مع العباد . ولهذا لما وعد من نفسه الصبر على ذبح أبيه له قال : " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " وفى بذلك ومكن أباه من الذبح ، الذي هو أكبر مصيبة تصيب الإنسان "
و قال تعالى مادحا عباده المؤمنين المتقين:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[البقرة:177].
قال القرطبي رحمه الله:" قوله تعالى: "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" أي فيما بينهم وبين اللّه تعالى وفيما بينهم وبين الناس."
و قال بن كثير رحمه الله:" وقوله: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا}, كقوله: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان" وفي الحديث الاَخر: "وإذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر,وإذا خاصم فجر"
و يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بالعهود:
قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة:1]
قال ابن كثير:" قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود, وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك"
و قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا}[الإسراء:34].
قال بن كثير:" وقوله {وأوفوا بالعهد} أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم بها, فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه {إن العهد كان مسئولاً} أي عنه."
و قال السعدي رحمه الله:" " وأوفوا بالعهد "الذي عاهدتم الله عليه ، والذي عاهدتم الخلق عليه ." إن العهد كان مسؤولا " أي : مسؤولون عن الوفاء به . فإن وفيتم ، فلكم الثواب الجزيل ، وإن لم تفعلوا ، فعليكم الإثم العظيم ."انتهى.
و قال تعالى:{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }[النحل :91-92].
قال السعدي رحمه الله:" هذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه ، من العبادات والنذور ، والأيمان التي عقدها ، إذا كان بها برا . ويشتمل أيضا ، ما تعاقد عليه هو وغيره ، كالعهود بين المتعاقدين ، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره ، ويؤكده على نفسه ، فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة ، ولهذا نهى الله عن نقضها فقال : " ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها "بعقدها على اسم الله تعالى : " وقد جعلتم الله عليكم " أيها المتعاقدون " كفيلا ". فلا يحل لكم أن لا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلا ، فيكون في ذلك ترك تعظيم الله ، واستهانة به ، وقد رضي الآخر منك باليمين ، والتوكيد الذي جعلت الله فيه كفيلا . فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك ، فلتف له بما قلته وأكدته . " إن الله يعلم ما تفعلون " فيجازي كل عامل بعمله ، على حسب نيته ومقصده .
" ولا تكونوا "في نقضكم للعهود بأسوإ الأمثال وأقبحها وأدلها على صفة متعاطيها . وذلك " كالتي " تغزل غزلا قويا ، فإذا استحكم ، وتم ما أريد منه " نقضت غزلها من بعد قوة " فجعلته " أنكاثا " فتعبت على الغزل ، ثم على النقض ، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء ، وسفاهة العقل ، ونقص الرأي ، فكذلك من نقض ما عاهد عليه ، فهو ظالم جاهل سفيه ، ناقص الدين والمروءة . وقوله : " تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة " ، أي : لا تنبغي هذه الحالة منكم ، تعقدون الأيمان المؤكدة ، وتنتظرون فيها الفرص ، فإذا كان العاقد لها ضعيفا ، غير قادر على الآخر ، أتمها ، لا لتعظيم العقد واليمين ، بل لعجزه .
وإن كان قويا ، يرى مصلحته الدنيوية في نقضها ، نقضها غير مبال بعهد الله ويمينه . كل ذلك دورانا مع أهوية النفوس ، وتقديما لها على مراد الله منكم ، وعلى المروءة الإنسانية ، والأخلاق المرضية لأجل أن تكون أمة أكثر عددا وقوة من الأخرى . وهذا " إنما يبلوكم الله به "امتحانا حيث قبض لعباده من أسباب المحن ما يمتحن به الصادق الوفي ، من الفاجر الشقي . " وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون " فيجازي كلا بعمله ، ويخزي الغادر ."
وفي السنة أيضا:
قال البخاري رحمه الله:
- حدثنا سليمان أبو الربيع قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر قال: حدثنا نافع بن مالك بن أبي عامر أبو سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
- حدثنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).
و قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الفضائل:
حدثنا عمرو الناقد. حدثنا سفتان بن عيينة عن ابن المنكدر؛ أنه سمع جابر بن عبدالله. ح وحدثنا إسحاق. أخبرنا سفيان عن ابن المنكدر، عن جابر، وعن عمرو، عن محمد بن علي، عن جابر. أحدهما يزيد على الآخر. ح وحدثناابن أبي عمر (واللفظ له) قال: قال سفيان: سمعت محمد بن المنكدر يقول: سمعت جابر بن عبدالله. قال سفيان: وسمعت أيضا عمرو بن دينار يحدث عن محمد بن علي. قال: سمعت جابر بن عبدالله.
وزاد أحدهما على الآخر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" وقال بيديه جميعا. فقبض النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يجيء مال البحرين. فقدم على أبي بكر بعده. فأمر مناديا فنادى: من كانت له على النبي صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأت. فقمت فقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لو قد جاءنا مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا" فحثى أبو بكر مرة. ثم قال لي: عدها. فعددتها فإذا هي خمسمائة. فقال خذ مثليها.اهـ
و على هذا، فينبغي أن يكون المسلم عامة و طالب العلم السلفي خاصة، من أبعد الناس عن تلك الخصلة
السيئة، و أن يكون مثالاً يحتذى في الوفاء بالوعد . .
و العجيب أن بعض إخواننا -هداهم الله- يتهاونون في هذا الأمر ولا يهتمون به ولا يبالون: هل وفوا بعهدهم أم أخلفوا ؟!!
و الأعجب من ذلك أن الجاهليين كانوا يعدّون إخلاف الوعد من عظائم الأمور!
قال عوف بن نعمان:
"في الحاهلية الجهلاء: أن يموت الرجل عطشاً خير له من أن يكون مخلافا لموعد"
[أداب الإملاء و الإستملاء ص 41]
و أما الآثار في ذم إخلاف الوعد فكثيرة، منها:
ما روي عن سليمان بن داود عليهما السلام أنه قال لابن له:"يا نبي، إذا واعدت فلا تخلف، فتستبدل بالمودة بغضا" [نفس المصدر السابق]
و قال عبد الله بن أحمد بن حنبل:"حدتني هارون بن سفيان المستملي قال: قلت لأبيك أحمد بن حنبل: كيف تعرف الكذابين؟ قال بمواعيدهم."
و كانوا يتحاشون الموعد خشية الإخلاف..
قال محمد بن إدريس الحنظلي:" قلت لقبيصة: تعدني؟ فقال: إذا جئتني فرأيتني لقيتني"
و من جميل ما قيل في الموعد من الشعر:
و إلا فقلْ لا واسترح و أرح بها### لئــلا يقول الناسُ إنـــك كاذبُ
و قال الآخر:
إذا اجتمع الآفات فالبخل شرها### و شرُّ من البخل المواعد و المطلُ
فلا خيرَ في قولٍ إذا كان كاذباً### ولا خير في قولٍ إذا لم يكن فـــعلُ
و الله أسأل أن يصلحنا و يصلح لنا و يصلح بنا إنه ولي ذلك و القادر عليه
و صَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِهِ وَ صَحْبِهِ وَ سَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.م
مع تحيات
ياسرعلى ابوعمار
زاوية برمشا
تقييم:
0
0