صعفان جارة القمر ..وحبيبة الوادي
الكاتب - عادل عبده بشر التاريخ : 14-06-2009
قد نجد الأرض الخضراء حيث تجري المياه في أكثر من مكان،ولكن قد لا تكون هذه المتعة الحقيقية لأرواحنا حيث نريد مصافحة السماء من أعالي الجبال الناعمة..صعفان حيث الضباب يعانق الجبال.. ما سر جمال تلك اللوحة..؟! ما سر بريقها؟ سؤال يجتاحنا عندما تتعلق أنظارنا بهذه اللوحة أو تلك..
هنا بين أيدينا..منظر طبيعي.. لم تمسه يد فنان.. ولم تزين ملامحه تلك الألوان الزيتية..بساط اخضر افترشته الارض..جبال شاهقة اخترقت السماء، وقصور منيعة اعتلت القمم.. لوحة أبدع الخالق جل شأنه تشكيلها، وأتقن صنعها، منظر طبيعي حي ، نفترش أرضه.. ونلتحف سماءه ونتدفأ بضياء شمسه.. نتنشق هواءه نحب.. وننام على صدره الحنون..
هناك في صعفان جارة القمر وحبيبة الوادي..!!
النافذة الأولى:
سر حبي فيك غامض
سر حبي ما انكشف
ايش اللي خلاني أعشق
والعشقة تلف
لاتعذبني وإلا سرت وتركت المكلا
إذا ما فيك معروف..!!
كانت الرحلة متجهة نحو المكلا - سيئون .. سر حب المحضار.. وملهمته كان الشوق واللهفة لرؤياها.. يسبقاني اليها.. الى ترابها.. وشاطئها.. وأسماكها..ونخلها .. الى كل شيء فيها.. يمكن أن يفسر .. لغز سر حب المحضار لهذه المنطقة .. وتغزله بها في اكثر قصائده الشعرية المغناة واجملها..؟!
باشل حبك معي بلقيه زادي
ومرافقي في السفر
وباتمتع بذكرك في بلادي
في مقيلي والسمر..
جارة القمر وحبيبة الوادي..
عندما يكون الغرض من الأسفار هو الترفيه عن النفس وتطهيرها من كل ماعلق بها من غبار الايام.. التي نعيشها كانت عبرصنعاء - الحديدة - عدن - حضرموت.
ونحن في طريقنا مساءً متجهين الى الحديدة غرباً نتتبع أثر الشمس الغائبة وسط امواج البحر.. التي هدأت بعد ان ألتهمت الشمس واطمأنت لمنامها.. في احشاء البحر..
في الثلث الاخير من الطريق.. الذي يرجع تاريخ سفلتته الى الخمسينات من القرن الماضي على ايدي الشركة الصينية.
لفت انظارنا.. ضوء خافت تلمع أشعته الباهتة من مكان مرتفع جداً.. اضواء كثيرة جاورت السماء لتكون مع النجوم الا انها قريبة نسبياً من الارض.. عندها علمنا ان مصدر هذا الضوء الذي شدنا إليه.. سرق من بين قلوبنا شوقنا للمكلا سر حب المحضار. «إنها صعفان جارة القمر».
في الطريق إلى السماء..!
بسم الله نصعد الجبل..
السايلة كانت الوحش الذي التهمنا لمدة نصف ساعة ثم سلمتنا الى الحبيب الجبل وبدأنا نتنفس الصعداء ونشعر بأنفسنا تصعد قليلا قليلاًً الى الاعلى..
ما أجمل أن تكون مرتفعاً والارض من تحتك.. تناجيك بخضرتها وجمال بساطها..لا شيء يعكر صفو الإبداع ولا شيء يغير من راحة النفس وأنت تتسلق السماء، تطلب «صعفان» غير تلك الطريق الوعرة التي تربط الجبال بالسهول رغم الجهود المبذولة حالياً لإصلاحها وتوسيعها لكنها منقطعة وأنفاس مجهدة.
السيارة الشاص بذلت اقصى جهدها لجعل الطريق سهلاً علينا حتى سائقها شعر بضيقنا من المطبات التي لا تنتهي فحدث نفسه بأن ما سيريحنا ليس الا شريطاً غنائياً من اللي هو..!
رغم عدم رؤيتي للمسجل إلا انني سمعت الصوت الغنائي ينبعث ولما سألته عن مصدر الصوت أشار إلى تحت المقعد ففهمت ان المسجل توجد تحت مقعد السواق ولم أستفسر عن السماعة فقد تكون في مكان آخر..!!
الفنان والراعية
الشريط نعم كان تراثياً جميلاً للحارثي وهو يتحدث مع الراعية:
سلام يا راعية والغرب شنّ
قالت عليك السلام لا شن شن
«الغرب» هو الإناء القديم المصنوع من الجلد والذي كان يستخدم لنقل الماء..
سلام ياراعية واصلش منين
قالت أنا من بلاد المشرقين
أغنيةحوارية في غاية الروعة شاعر وراعية بدأها بالسلام، وحاول أن يتعمق في كلامه بسؤاله عنها وعن بلادها وعن كل شيء حتى ضاق حاله منها وقال أنه سيخبر أباها بأن يطعنها «بالجنبية».
والله ياراعية لاقل لابوش
يطعنش بالجنبية..
حرف الشين هو المصاحب او المرافق لحرف الكاف لكنه باللهجة الشمالية.
الحب الأبدي..!!
بحمد الله وصلنا القمة جاورنا السماء وهناك فقط ولأول مرة نشعر بالهواء الذي نتنفسه.. لطيفاً ، عذباً نقياً.
يا الله! ما اقبحك أيتها المدينة وما أتعب العيش فيك، افترشنا الارض واستلقينا بأجسادنا عليها كانت حبات الحصى التي نحس بها في أجسادنا أنعم من ريش الحمام ومن غرفة النوم تلك التي قال صاحب «المعرض»: إن سعرها مجرد ستة آلاف دولار فقط لا غير!
يا الله! ما أغبى الأغنياء وما أبسط الفقراء، لا بل ما أبسط الناس الريفيين.
هناك وأنت في صعفان تشعر بالبساطة في كل شيء الناس هناك لا يحلمون بأكثر من الماء والخضرة والزرع والثمار لا شيء غير ذلك.
الارض هي كل شيء لدى الفلاح الاصيل هي الابن والاب والام هي كل شيء في حياته لا يستغني عنها مهما كانت الظروف ومهما ساءت الاحوال، حتى عندما يموت يوصي ابناءه بدفنه فيها يا لها من محبة الآن فقط استطيع ان اقول لكم بأني اكتشفت وعرفت سر حب المحضار للمكلا، إنه انسجام ذاتي وعلاقة روحية تربط الفلاح بالارض منبع الخير والحب والحنان..
خجل الشمس وغناء الطيور..
سرق النوم اعيننا قليلاً إن لم نقل استعارها منّا وأيقظتنا العصافير والطيور بغنائها في الصباح الباكر الذي لم ولن نعرفه في المدينة الديوك، الأغنام، الفلاحون الكل يستفيقون مبكرين قبل طلوع الشمس لأن الخير كما يقولون يتوزع في الصباح الباكر قبل ان تطلع الشمس والشخص السيء الحظ هو الذي ترتفع الشمس فوق سماء القرية وهو مازال نائماً!
ونحن في المدينة نستيقظ 8 صباحاً ليس للغرض الاول وانما خوفاً من الاقساط التي تنهال على اعقابنا إن تأخرنا قليلاً عن العمل يا سبحان الله ماهذه المفارقة وما أجمل هذا الصباح الباكر حتى الشمس تشرق من خلف ذاك الجبل «جبل شعيب» في حياء..خدودها حمراء وردية وأشعتها بيضاء صافية.. ترتسم خيوط طويلة تحيط بالقرية وتسكن أحشاءها..
كان صوت الفنان اليمني يصدح من كل نافذة.. ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع ما أحلاه وما اصفى هواه.. نعم ما أحلاه..
طقوس يومية سائدة، وعلوج..
في منطقة صعفان التي تقع إلى الجنوب الغربي من صنعاء.. طقوس يومية يؤديها اصحابها تتمثل في القات، المداعة، قهوة الصباح، الخروج الى الحقول يومياً صباحاً مصطحبين ما يملكون من الاغنام.
كذلك طقوس التجمعات المسائية بعد إكمال اعمالهم سواءً في ديوان أو في الحارة يستضيئون من ذلك الضوء الساقط، من نافذة الجيران أو في «المقايل» عند التخزين يتحدثون عن كل شيء. وفي كل شيء في أمور الزرع والمطر والحقول والبن والسياسة ايضاً، يتحدثون عن العلوج والامريكان والفلوجة والقدس، يتحدثون عن همجية بوش الابن، وغباوة الآخرين يتحدثون عن الغزو العثماني لليمن .. واحتلال نابليون لمصر.. وعهد الامامة، والثورة حكايا وقصص جميلة تنبع بين ثنايا الشيوخ الذين عاشوا زمناً طويلاً قبل أن نعرف نحن الحياة..
جبال ووديان وحصون..!
صعفان تمتاز بأنها تقع في محيط سلسلة جبلية زراعية جميلة ترتكز الحصون على رؤوس الجبال وتمتد الوديان بين احشائها من هذه الجبال جبل النبي (شعيب) وهو اكبر جبل في المنطقة بعد جبل (مسار) وجبل (عراف) وجبل (مدول) و (المغارب).
في اليوم التالي على وصولنا صعفان أحببنا ان نصعد الى قمةجبل شعيب ذلك الذي تشرق الشمس من ورائه وكأنه حارس عليها فنحن هناك تستطيع أن ترى كل شيء تحتك..تخيلوا انفسكم معي انتم اعلى شيء حتى السحاب تخضع لعزة الله وتقترب حتى ترتفع قمة الجبل عنها قليلاً..أخذت كاميرتي وبدأت بالصعود.. السماء كانت صافية والجو رائع.. فحدثتني نفسي بأني محظوظ وسألتقط العديد من الصور الرائعة من هناك.. ساعتان هي مقدار المسافة التي قطعتها مشياً وأنا أصعد جبل النبي (شعيب) إلى أن اقتربت القمة مني أو اقتربت انا منها..عندما هبت عاصفة من الضباب واحتلت نصف الجبل (يعني لم تحتل القمة بل جعلت القمة مرتفعة وهي تحتها بقليل الضباب فصلني عن الارض هكذا رأيت نفسي فلم أعد أرى شيئاً غير سماء واسعة تمتد تحتي شرقاً وغرباً عندها علمت أن الجبل تآمرعلي من السحاب حتى كامرتي هي الاخرى خدعتني.. وأفنت مافي جوف بطاريتها من طاقة..عندها لم اجد غير الرجوع الى القرية. لكن بعد ان قضيت ما استطعت من الوقت وانا اتربع فوق السحب ولم يعدني الى القرية غير (فراغ) بطني وزقزقة عصافيرها عند علمها بحلول الغداء.
الوديان في صعفان كثيرة وهي تسري فيها مسرى الدم.ولها اسماء متعددة مثل وادي (المعاين) ووادي (المجير) ووادي (الشرف) ووادي (السر) ويعتمد المزارع (الصعفاني) في حياته على محصول البن .. وكذلك محصول الشجرة اللعينة القات.
أما البن فهو كل شيء عندهم رغم شحة الثمار هذه السنوات لذلك تجدهم مستائين من هذا اضافة الى انخفاض سعر البن بمقدار كبير ايضاً بالرغم من قلة المحصول ولكن هذا يعود كما يقولون الى غزو البن الخارجي المستورد الأسواق اليمنية.. منافسة المنتج المحلي خاصة وانه يباع بأسعار رخيصة نسبياً.
المزارعون وتجار البن في (صعفان) يتساءلون .. لماذا نستورد من الخارج المحاصيل الزراعية وعلى رأسها (البن) قبل ان نتصرف في منتجاتنا؟! ولماذا نعمل على هدم المنتج المحلي بذلك الخارجي الذي لا نعلم عنه شيئاً؟!
حصون ومعالم أثرية شهيرة..
في صعفان معالم أثرية وحصون كثيرة يمتد تاريخ بنائها الى ايام العثمانيين والاتراك في اليمن.
من هذه الحصون حصن (متواح) وهو اشهرها، ويعد الآن مركزاً امنياً للمديرية..يرتكز هذا الحصن في رأس الجبل، ويطل على المديرية كاملةوكأنه قلعة حربية وذلك لما يحوي من سراديب ومغارات ومنافذ سرية كثيرة، إضافة إلى موقعه المنيع إنه يصلح أن يكون متحفاً تاريخياً رائعاً ويوجد هناك أيضاً (الشرف) وهو في الدرجة الثانية بعد الاول إنه حصن واحد، عندما تنظر اليه من بعيد تتخيله حصنين متجاورين وهو كذلك، لكن بناءهما واحد مرتبط..
يعود بناء هذا الحصن كما يقولون إلى العهد العثماني الأول في اليمن وهو مجهز تجهيزاً حربياً.. يوجد فيه البرك، والمدافن تحفظ الماء والقمح كما يوجد فيه ممر سري يمتد إلى أسفل الجبل، باب الحصن الخارجي كبير جداً يتوسطه باب صغير للدخول الفردي.
تستطيع أن تعيش في هذا الحصن ثلاثة الى اربعة أشهر ما دمت موفراً الغذاء والماء وكان يستخدم هكذا أيام الحروب والحصار، كما انه معد حربياً يوجد فيه فتحات صغيرة بين الأحجار تسمى (مشاوف) وتستخدم للبندقية عند الحرب، ايضاً هناك العديد من الحصون الاخرى التي على شاكلته فهناك حصن (الجبانة) وحصن (المغارب) وحصن (المغرب).
قرى ومشاهير وعلماء
أما بالنسبة للقرى فمديرية صعفان تحتلها الكثير من القرى المنتشرة في رؤوس الجبال، ولها اسماء مختلفة منها: قرية الجرواح، قرية الرباط، اسخن الجبانة ، الزعلاء، وفيها اسواق كثيرة: سوق الثلوث سوق الاحد الخ..أما قرية الشرف فهي تبدو جميلة للغاية الحصنان أعلى شيء فيها متجاوران كأب وأم تزاوجا فأنجبا العديد من البيوت الصغيرة والكبيرة التي تنتشر أمامها..
اشتهر في صعفان العديد من العلماء والفقهاء على مر العصور والازمان نذكر منهم العلامة محمد بن علي الزكي.. والعلامة «الشارقي» الذي اسس مدرسة لدراسة القرآن والعلوم الدينية سميت مدرسة الشارقي.. والعلامة الحيوي.. وابن زكي وابو قعشة..
ويحل المساء من جديد
ما زال صوت الفنان يصدح في كل مكان نتجه اليه في صعفان من كلمات عاشق الأرض الشاعر مطهر الارياني الذي تفنن بالريف وجماله وتغزل بالبن واشجاره والحقول والليل والنجوم يحل المساء على صوته وهو يردد: طاب اللقاء والسمر على قران الثريا قران تشرين ثاني الف مرحب وحيا..
اليوم طاب السمر
على طلوع القمر
طاب الجنا في الشجر
وافتر ثغر الزمان
وفي كل عام يحل فيه موسم البن على المزارع وتسقط الأمطار الغزيرة وتسيل الوديان مكونة شلالات رائعة في الجبال سبحان من ابدع صنعها وتوجها بهذا التاج الاخضر الذي تتزين فيه الجبال وتنبسط الارض فارشة تحت اقدام السماء بساطا اخضر تقول يا هلا بالخير مرحبا بالحب أهلا بعزة الله.
في هذا الوقت الاخضر يبشر الشاعر مطهر الارياني المزارع بقدوم الخير والحب قائلاً:
يا حارس البن بشراك موسم البن داني
ما للعصافير سكرى بين خضر الجنان
هل ذاقت الكأس الأول من رحيق المجاني
واسترسلت تطرب الأكوان باحلى المغاني
كلا ايها الشاعر، انها الخضرة ابداع الخالق، هي من اسكرت العصافير وجعلتها تغرد وتغني وتتبادل العشق اشكالاً والوانا.
النافذة الأخيرة
انتهت فترة اقامتنا المسموح بها في الريف، فهناك في المدينة أحكام وقوانين (دوام) سلطة على رقابنا لست أدري أي حظ سيء قادني الى المدينة وأي حظ اسوأ جعل الوقت يمر هكذا سريعاً حزمنا حياتنا القليلة التي قضيناها هناك في «صعفان» السهول والجبال الخضرة والحب والحنان، حزمنا كل شيء قلناه فيها وسمعناه عنها ورأيناه بأم أعيننا وحملناه معنا الى المدينة نحيا به هناك كلما ضاق بنا الجو وتاقت أنفسنا إلى الهواء الطلق والحرية..طبعا لم ننس حبات البن التي أخذناها معنا لنهديها إلى أصدقائنا واحبائنا في المدينة علهم يشمون رائحة الحياة البسيطة الجميلة الوديعة حياة الريف ويخرجون قليلاً من اسوار (الاتيكيت) و(البرستيج) الذي يفرضونه على أنفسهم قليلاً من قهوة الصباح، ليذوق قليلا من السمن والعسل البلدي عند الفطور بدلاً من حبات (الخمير) المغموسة في الزيت الاسود..تركنا صعفان الريف والحضارة وعدنا من حيث قدمنا لكننا لم نعد بالمكلا وزيارتها أو حتى في البحث بين شوارعها عن المحضار والذي وضعه فيها.
فلقد اصبح لدينا نحن ايضا سر ليس كمثله سر انه سر حب صعفان الذي اكتمه في صدري كما فعل المحضار بل سأنشره في أجواء المدينة واحدث به كل احبابي بل وكل من ألاقيه في صنعاء وخارجها.
رحلنا صباحا وصوت فيروز ينبعث من بطن الوادي مردداً سألتك حبيبي لوين رايحين!
لوين رايحين؟ يا لهذا السؤال الصعب لم نجد إجابة عليه غير الصمت والرحيل بهدوء دون ان نزعج أحداً.
الطيور وحدها هي من أحست بما يدور في خلجات انفسنا فعمدت إلى مداعبتنا في الطريق والتغريد بصوتها العذب الشجي ورقصاتها البديعة، عينان فقط هي من كانت تراقب رحيلنا بصمت ايضا من وراء حجاب وهي التي تحالفت علينا مع (صعفان) ليسرقا قلوبنا ويجبرانا على العودة مرة أخرى وربما طال الغياب إن شاء الله.
المصدر صحيفة 26 سبتمبر