الجمهورية الرابعة للرئيس السايق
الجمهورية الرابعة
بقلم: أحمد المسلماني
مثلت ثورة اللوتس في 25 يناير 2011 نهايةالجمهورية الرابعة وبداية الجمهورية الخامسة في مصر . كانت الجمهورية الأولي محدودة في الزمان ومحدودة في التأثير .. وهي الجمهورية الوليدة في عهد الرئيس محمد نجيب ,
ثم جاءت الجمهورية الثانية كثيفة في الزمان شاسعة في التأثير ويمثلهاعصر الرئيس جمال عبدالناصر , وكان علي الجمهورية الثالثة أن تخوض امتحانا شاقا بالسلاح وبالسياسة من أجل تحرير سيناء وبحث الطريق الي النهضة .. لكن الرئيس السادات الذي قاد الحرب والسلام .. لم يكن محظوظا في موعد الاغتيال , حيث غادرمنصة الاحتفال في اكتوبر عام 1981 قبل ستة أشهر من عودة سيناء في ابريلعام ..1982 وانتهت الجمهورية الثالثة علي مشاهد متفرقة .. دماء علي المنصة .. ومتمردون في أسيوط ومعتقلون في السجون وغاضبون في كل مكان !
جاء الرئيس مبارك علي رأس الجمهورية الرابعة موفور الحظ بما لم يحدث مع حاكم مصري في العصرالحديث .. جاء مبارك ليجني عائد السلام دون أن يدفع الثمن .. ولينعم بهدوء دامثلاثين عاما دون أن تلتصق به اتهامات الخيانة والعمالة وأقاصيص كامب ديفيد , ثمانه ورث الانجازات الأسطورية لحرب اكتوبر المجيدة دون أن يشاركه أحد .
كان الفريق الشاذلي رئيس أركان الحرب وبطلها الأشهر يقضي حياته في المنفي ثم في السجن ثم في المنزل .. في ست سنوات كئيبة بليدة .. وفيما يشبه سينما الخيال .. غادرالفريق الشاذلي الحياة يوم غادر الرئيس مبارك الرئاسة .. واختلطت جموع الذين حضرواجنازة الفريق الشاذلي مع جموع الذين أقاموا حفل رحيل الرئيس مبارك .. كانت جنازةالوداع وحفل الرحيل في يوم واحد !
لم تكن حياة المشير الجمسي ( القائد التالي للفريق الشاذلي ) أكثر حضورا من سابقه .. وقد قضي جميع سنواته في عصر مبارك متريضا في نادي هليوبوليس .. ليس أمامه إلا رواية أحداث اكتوبر أمام أعضاءالنادي .. كأنها حيلة ذكية لقتل الوقت .
لم يسمع أحد بالمشير الجمسي طيلة عصرالرئيس مبارك .. ولقد ظن كثير من الناس أن المشير الجمسي قد مات في عهد الرئيس السادات !
لا شيء أيضا عن المشير محمد علي فهمي .. ذلك القائد الجليل الذي يعد واحدا من أعظم قادة الدفاع الجوي علي مستوي العالم .. شأنه شأن المشير الجمسي .. اسم مغمور ووجه مجهول .. لا يعرفه الناس اسما ولا رسما , وربما لم يأت ذكره فيعهد الرئيس مبارك سوي مرات معدودة .. لم يلتقطها أحد , ولقد روي لي الكاتب الراحل الأستاذ محمود عوض عن مذكرات صوتية قام بتسجيلها مع المشير محمد علي فهمي .. وقد انتظر الأستاذ محمود عوض حتي يرحل الرئيس مبارك لكي ينشرها .. ثم شاء القدر أن يرحل الكاتب والمشير قبل أن يرحل الرئيس !
إن واحدا من أعظم قادة العسكريةالمصرية وواحدا من أعظم قادة المدفعية في التاريخ العسكري .. وهو المشير محمدعبدالحليم أبوغزالة .. لم يتمكن شعبنا من الاحتفاء به قائدا ومفكرا , وقد أخرجهالرئيس مبارك من السلطة بطريقة لا تليق بمقام القادة ولا قامة الأبطال , وراح نظام الرئيس مبارك يغطي علي العبقرية الاستراتيجية للمشير أبوغزالة لصالح قصص صفراء عن مكالمات وغراميات .. وبدلا من أن يكون موقع المشير في أعلي مستويات الفكر العسكريوالعقل الاستراتيجي أصبح المشير أبوغزالة ضيفا دائما علي أحاديث النميمة وعناوين الصحف الصفراء !
هكذا أصبحت أبرز انجازات الجمهورية الرابعة هي تفريغ مصر ليبقي مبارك وحده بلا شركاء .. ثم تجريف الوطن من القادة المدنيين والعسكريين .. ثماطفاء جميع النجوم ودفع كل الرؤوس الي أسفل .
ثمة من كانوا يقولون للرئيس مباركانه الأفضل منذ محمد علي باشا وثمة من زادوا علي ذلك وقالوا منذ صلاح الدين وثمة منكانوا أكثر خيالا وابداعا فقالوا إنه الأفضل منذ عهد الفراعنة !
كان المذهل فيكل ذلك أن الرئيس السابق لم يكن متأكدا أن ذلك ضرب من هوس النفاق وجنون التزلف والانسحاق .. بل كان الأمر يختلط عليه .. والأغلب أنه ظن لبعض الوقت أنه حقا الأفضل منذ عصر اخناتون !
لقد كان مبارك محظوظا في معركة تفريغ مصر .. فقد كان القدر حليفا قويا .. مات كبار قادة حرب أكتوبر .. من رموز القوة الصلبة , وماتمعهم كبار قادة العقل المصري .. من رموز القوة الناعمة .. رحل عبدالوهاب وبليغ , وسكتت شادية ونجاة , رحل عبدالرحمن بدوي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود , ورحل لويس عوض وحسين فوزي , رحل نجيب محفوظ ويوسف ادريس كما رحل يحيي حقي وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي واحسان عبدالقدوس , رحل الشعراوي والغزالي والباقوري ورحل جمال حمدان ومصطفي محمود , كأن إعصارا عنيفا باغت بلادنا .. انتهي تسعون بالمائة من القوة الناعمة لمصر في سنوات محدودة .. ليبقي مبارك وحيدا وسط الخلاء !
لم يعد المصريون يتناقشون في المناظرة بين الشيخ الغزالي وخصومه .. ولا معارك اليسارالمصري مع توفيق الحكيم .. لم يعد المصريون يسمعون عن الانحناءات الفكرية لعبدالرحمن الشرقاوي , ولا الجلبة الفكرية ليوسف ادريس , ولا الصخب الفلسفي لعبدالرحمن بدوي , ولا الدعوة الفلسفية الرقراقة لزكي نجيب محمود .. ولا المجالس الوقورة للشيخ الشعراوي .. ولا الأطروحات الضخمة لجمال حمدان .. أصبح المصريون حرافيش بلا محفوظ , ومتمردين بلا إدريس , ورومانسيين بلا إحسان ! وأصبح الرئيس مبارك هو العالم والمفكر والفيلسوف .. أو هو الرئيس دون احتياج لعلم أو فكر أوفلسفة ! سوف يتوقف التاريخ طويلا أمام حسني مبارك .. كيف أمكن لهذا الرجل أن يمضي مع رجاله فوق أسطول من الجرافات .. قطعت ثلاثين سنة من الإزالة البطيئة المتواصلة .. لنجد مصر في يناير2011 مليون متر مكعب من الأرض الفضاء !
ظهرت مصر كلها ساخطة علي الجمهورية الرابعة ورئيسها .. الشباب والشيوخ , الأطباء والصيادلة .. المهندسون والمعلمون .. القضاة والصحفيون .. شركات البترول والبنوك .. المترو والسكة الحديد .. بولاق وروتاري أكت .. كل مصر ضد حسني مبارك !