الشيخ سعيد جربوع رحمه الله
الشيخ سعيد جربوع(1)
المجاهـد والعـمدة.. آخر رفيق لعـمر المختار
د. فـرج نـجـم
كنت من بين المعزيين في الحاجة فاطمة بونجوى وهي آخر زوجة كانت للشيخ عمر المختار قبل استشهاده، ومن بعده اقترنت بابن أخيه المجاهد احمد محمد المختار. وإذا بي أمام الحاج محمد ابن الشهيد عمر المختار، وبعد تقديم التعازي وتجاذب أطراف
المجاهد سعـيد جربوع
عـن عـمر ناهز 95 سنة
الحديث سألته عن الشيخ سعيد جربوع فاخبرني بأنه حي يرزق في الوطن الشرقي.
وبعد رحلة شاقة في قمم الجبل الأخضر، وتحديداً بين مزارع بطة ودندخ وأخيراً بمنطقة بوقراوة التي تبعد 22كم شرقي المرج على الطريق الساحلي باتجاه مدينة البيضاء التي رجعنا منها قافلين، وإذا بنا نتوقف على بوابة أمن فرزوغة، ليسألنا الشرطي المناوب: "من أين أتينا وإلى أين نحن متجهون، فيجيبه سائقنا: بأننا بحّاثة وكنا في زيارة ميدانية لأحد المجاهدين وهو سعيد جربوع إن كان يعرفه ! فأجاب الرجل بنبرة مملؤة بالاحترام: ".. وقال: أي نعم أعرف الشيخ سعيد جربوع .. وتفضلوا بالسلامة".
وهكذا بسمعة هذا الرجل مررنا من البوابة لننقل سيرة آخر رفيق لعمر المختار مازال على قيد الحياة، الذي كم ابتهلت ودعوت الله تعالى أن يوفقني لأراه .. وبالفعل وفقت في ذلك، وكان في صحبتي كل من الرفيقين الباحث عبد العالي العوكلي والراوي عطية الله العرفي، كما رافقنا الحاج علي ابن المجاهد الكبير عصمان الشامي. وفي مزرعة ببوقراوة وجدنا شيخنا الذي تعذرت تلك السيدة البدوية لنا لعدم سماح صحته لمقابلتنا، ولكن إلحاح الأستاذ عبدالعالي وإخبارها بأننا قدمنا خصيصاً من بنغازي، وخاصة كاتب هذه السطور الذي أتى من لندن من أجل هذا الموضوع، وبعد الاستئذان لرؤيته والسلام عليه، قالت تلك السيدة: "أعطونا لحظات لكي نهيئه لكم كما ينبغي". وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى أذن لنا بالدخول إلى المربوعة (غرفة الضيوف) وإذا بشيخنا واقفٌ كالطود على قدميه مرحباً بنا بحرارة البدو المعتادة.
سئلت إذا كان بالإمكان إجراء مقابلة معه فقال الشيخ: "الصحة بالهون والعلل طويل .. ولكن قولي ايش تريد تعرف، وأنا إنشاء الله انقولك". عندها حان وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وإذا بالشيخ سعيد يقف معنا في الصف على رجليه، ويصلي معنا المغرب كما صليناه نحن من وقوف، وقمنا بعدها لصلاة العشاء قصراً وجمعاً مع المغرب فإذا بالشيخ سعيد ينفل معنا في صلاة العشاء جالساً.
الشيخ سعـيد جربوع في حديثه معـي ومن حولنا رفقائي وأحفاد الشيخ
وبعد صلاتنا دخل علينا أبناء الشيخ وخاصة محمد وعبد القادر والأحفاد ليلتم الشمل ومن ثم يأمر الشيخ بأن يجهز لنا وجبة العشاء ولكن رفقائي اعترضوا على ذلك، ولكن الشيخ أصر وكاد أن يقسم، حينها تدخلتُ وقلت له: "يا شيخ سعيد عندي شرطين إذا أردت أن تكرمنا، ثانيهما أشد من الأول". فقال: "تفضل". فقلت: "أن نأكل من الموجود وبدون كلفة، أما الثاني أن تستمر في حديثك معنا مادمنا نجلس معاً". فرد الشيخ موافقاً.
بدأت سؤالي مع الشيخ سعيد إذ كان مع عمر المختار عندما وقع في الأسر ؟ فقال: "عندما حوصرنا في وادي بوطاقة بعد زيارة قمنا بها إلى سيدي رافع، وكنا قرابة الخمسين فارساً، فحاصرنا الطليان في ذاك الوادي الضيق، وبدأ الرصاص يحصد رجالنا بعد نفاذ الذخيرة، طلبت من سيدي عمر المختار علف (ذحيرة)، فأعطاني 3 أمشاط، وبعد نفاذها رجعت فأعطاني 3 أمشاط أخر، وكنت حينها بصحبة كل من حسن العرج وعبد العاطي بوبعيدة وهما من قبيلة الحاسة". وأضاف الشيخ سعيد قائلاً: "عندما وقع سيدي عمر على الأرض كان بيني وبينه مسافة لا تزيد عن ثلاثة أمتار.
هذا وقد أصيب الشيخ سعيد في يده اليمنى، وقد عاينت جرحه بنفسي"، ثم استطرد قائلاً: "حيث حاولنا مع بقية الرفاق فك أسر سيدي عمر المختار ولكن بدون جدوى، وحاول البعض في ضباب المعركة فعل ما فعله مفتاح قويرش الحاسي، الذي رفض مغادرة سيدي عمر واهتزج مغنياً: "دمي رايب عند الشايب"(2) حتى سقط مضرّجاً في دمائه شهيداً، وقد سبقه إلى الشهادة مدافعاً عن عمر المختار عوينات العقوري، ليكون أول شهيد في تلك المعركة(3)".
يقول الشيخ: "رجعت إلى سيدي عمر المختار لأراه واستلهم منه الأوامر، فقال الشيخ لسعيد جربوع: "عدّوا يا ضناي هذا يومٌ لا لي ولا لكم"، وهذه الكلمات بمثابة الأوامر الأخيرة من عمر المختار لرجاله، كما روى الشيخ سعيد جربوع. وعندما سقط عمر المختار في الأسر كان حينها عمر الشيخ سعيد جربوع 20 سنة.
ولد الشيخ سعيد جربوع عبد الجليل سنة 1908م في تاكنس جنوب شرق المرج، وينتمي شيخنا إلى قبيلة العبيد بيت شعوه. كان أبوه (الشيخ جربوع عبد الجليل) مجاهداً وقع في الأسر ومن ثم نفى مع من نفي من الليبيين إلى إيطاليا لسنتين(4). وقبيلة العبيد غنية عن التعريف حيث كانت النواة لما اصطلح عليه بعد عام 1923م بحرب الأدوار. فكان دور العبيد الذي قاده عمر المختار الدور الرئيسي في القتال بالجبل الأخضر بعد انهيار أغلب المقاومة في ليبيا.
عين السيد المهدي السنوسي الشيخ عمر المختار شيخاً لزاوية القصور سنة 1885م الواقعة بين نجوع قبيلة العبيد ببرقة الحمراء. وعرف عن العبيد تمردهم وصعوبة مراسهم وعدم خضوعهم لأي سلطان، ولكن سرعان ما انصاعت هذه القبيلة ذات البأس الشديد للقيادة الروحية والتنظيمية للشيخ عمر المختار.
وبعد مشاركة الشيخ عمر المختار في الجهاد في تشاد ومن ثم عاد إلى أرض الوطن، عين مرة ثانية في مكانه في زاوية القصور سنة 1906م لإدارة شؤون قبيلة العبيد التي طالما قابلت طلب السلطات العثمانية في جباية الضرائب بالرصاص(5). والشيء بالشيء يذكر، فقد استطاع عمر المختار أن يقود قبيلة العبيد التي لعبت دوراً رئيسياً في الجهاد، وضحّت بكثير من شبابها وشيبها وفي مقدمتهم التواتي بوشعراية - شيخ قبيلة العبيد - شهيد معركة الرحيبة عام 1927م، الذي سقط ذبيحاً في مسيرة الجهاد الخالدة ليسطر له ولقبيلته تاريخاً في ليبيا(6).
عندما حارت إيطاليا في أمر هذه القبيلة التي وصفها غراتسياني قائلاً "قبيلتين: المغاربة في الغرب والعبيد في الشرق قد سببا لنا الكثير من المشاكل في برقة"، حينها قررت إيطاليا أن تجر هذه القبيلة وتلقي بها في معتقلات التهلكة التي أعدتها إيطاليا لإبادة بدو برقة(7).
فاق دور قبيلة العبيد الألفي رجل تحت إمرة الشيخ عمر المختار، ومن ثم نائبه الشهيد يوسف بورحيل المسماري(8) وخيرالله الشويخ العبيدي. وعندما بلغ شيخنا سن الحلم 15 عاماً التحق بدور قبيلته سنة 1923م، تلك السنة التي استلم فيها عمر المختار القيادة العامة لقوات المجاهدين في الجبل الأخضر. وأول مشاركة للشيخ سعيد كانت له في معركة يوم العيد، التي أهتزج فيها الشيخ عمر المختار وقال:
جيتو في عيد ويوم سعيد إن عشت سعيد وأن مت شهيد
كان حينها سعيد جربوع لم يتجاوز السادسة عشر من عمره. ويستطرد الشيخ: "عندما بدأ القادة يفوزون بالشهادة تباعاً؛ الفضيل بوعمر وعمر المختار ومن ثم يوسف بورحيل، فقرر بعض المجاهدين الهجرة، والبعض الآخر قرر البقاء على أرض الوطن رغم شح العتاد والزاد والوحشة، بعدما وضعت جل القبائل خلف الأسلاك الشائكة".
وبعد سجال وطراد بين المجاهدين والطليان من جهة، والجوع والعطش وقسوة الأحوال من جهة أخرى، غدى المجاهدون يقتاتون على الحشائش مع بهائمهم. فأكلوا الكراث والقعمول والخرشوف والجرابيع وصيد الليل (القنافذ البرية ذات الأشواك الحادة)، برغم حرمتها شرعاً، فاضطر المجاهدون إلى تقسيم أنفسهم إلى عدة فرق لتستفيد من قدرتها على سرعة التنقل بشيء من الاستقلالية الميدانية للقتال والغزو، فأمضوا الشهور والأيام في ظروف لا يتخيلها صاحب خيال، فتارة يحالفهم النصر وأخرى الكسر، ونال شيخنا نصيبه من الأذى، حيث أصيب خمس مرات في خمس معارك وقتلت تحته ثلاثة خيول، وبالرغم من هذا استمر في القتال والغزو دون التفكير في الاستسلام ولوى لبرهة. فالفرقة التي كان فيها الشيخ سعيد بعد التقسيم كانت تتكون من 85 فارساً أغلبهم من أبناء عمومته. ومن الغزوات الناجحة كانت تلك التي على سوق احداش في بنغازي، حيث غنموا مع المؤن الحبال وبعض الأردية وصابون السوسي. حينها قرروا الهجرة بعد سنة من إعدام الشيخ عمر المختار، لأنه اصبح من المستحيل الاستمرار بنفس النهج نظراً لتغير الظروف وتكاثر المصاعب أمامهم في برقة.
وبعد غزوة ظافرة غنموا فيها 150 من (زوايل) الإبل، قرروا الهجرة، فأعطى المقيم حذائه ومركوبه لمن نوى الهجرة وقرروا الاتجاه شرقاً صوب الشبردق (الأسلاك الشائكة) على الحدود المصرية-الليبية في شهر رمضان المبارك. وكان شيخنا في كوكبة تتكون من 85 فارساً ومعهم الزوايل، ولم يذوقوا طعاماً أو ماءً لمدة خمسة أيام، وكاد العطش أن يفتك بهم وبهائمهم. فقد سقط اثنان منهم موتى نتيجة الظمأ في الطريق. حينها أيقن إمام الركب، الفقيه بوزينوبة، أن لا ملجأ ولا مفر من اللجوء إلى الله تعالى، فصلى بهم صلاة الاستسقاء لكي يُنجدهم فوراً حيث وصل حالهم إلى ما لا يتحمله إنسان ولا حيوان. ويقول الشيخ سعيد: "كنت أسمع بالكرامات حتى رأيتها في ذاك اليوم، وما هي إلا دقائق حتى جاءنا الغيث وأمطرت السماء، وكأنها تبكي حالنا، فشربنا وشرب الحيوانات. وقام الفقيه محمد بوزينوبة العبيدي فينا واعظاً فقال: لعل قدرنا أن نقتل على هذه الأرض ولا نصل مصر، فإذا ما ظفر بنا النصارى سينكّلون بنا، فاستعدوا يا رجال للموت. وأمر كل اثنين منا أن يغسلا بعضهما البعض كغسل الأموات. وبالفعل فعلنا ذلك حيث نظفنا أنفسنا وتلك اللحى التي وصلت السرة، والأظافر والشعر الذي أصبحت عائقاً لنا". وبعد ذلك التنعش، يقول الشيخ سعيد: "صلى بنا الشيخ بوزينوبة صلاة الجنازة على أرواحنا، لكي نكون قد بالفعل أتممنا ما علينا، والآن كلنا استعداد لساعة الحسم وملقاة الله تعالى على طُهر ويقين به سبحانه. ومن ثم ودّع بعضنا البعض، فتعانق رفاق الدرب وجند الإسلام عناق الوداع، الذي ربما لا لقاء بعده إلا في الجنة، وكم سالت من دموع لفراق الأحبة وللقاء أحبة أُخر سبقونا إلى فردوس أعلى."
وواصل ركب الاستشهاد طريقه إلى الشبردق فوجدوا امرأة وابنها من قبيلة العوّامة، وما أدراك ما العوّامة الأبطال، هائمين على وجهيهما في تلك الصحراء، فالتقطوهما واستمروا في رحلتهم. ومن الأدوات التي بعثها لهم اخوتهم المرابطون في مصر لقص تلك الأسلاك الوحشية مقصاً واحداً يحمله المجاهد عبد المولى الحويطي البرعصي. وعندما وصل الركب إلى الأسلاك مسك الشيخ سعيد إحدى ذراعي ذلك المقص والمجاهد عبد المولى الأخرى وشرعا بقص تلك الأسلاك، وما هي إلا دقائق حتى علم الطليان بهما، فسلطت عليهم الأضواء الكاشفة وهاجمهم حرس الحدود ولكن الفرسان كانوا لهم بالمرصاد، وبالفعل تمكنوا من صدهم بعد تحصنهم بالإبل، واستمر صاحبي المقص في مهمتهما رغم تطاير الرصاص من حولهم كالقلية على النار، وبفضل الله تعالى نجحا في فتح ثغرة في تلك الأسلاك الغليظة، وسرعان ما فاز كل من عبد الهادي بوجزينه العبيدي وعبد الطيف العوامي بالشهادة وقبض على بوصليل العبيدي، وقتلت معظم إبلهم وخيولهم، وفي تلك الليلة الدامسة استطاع قرابة 75 مجاهد من الدخول إلى مصر من بينهم خمسة جرحى وتلك المرأة وولدها(9).
كانت حالتهم لا توصف، حيث الأجساد المنهكة من الجوع والعطش، والمشلحة من السواتر، والمقطعة من الأسلاك في حالة يرثى لهم.
وفي الصباح الباكر وصل المجاهدون نجعاً لقبيلة الجرارة في الجانب المصري على الحدود، فأكرموا وفادتهم، وكانت الحالة حالة صيام، وسرعان ما قبضت عليهم السلطات المصرية التي أرادت مصادرة سلاحهم، وبعدها بعثت الحكومة المصرية وفداً للتفاوض مع المجاهدين المسلحين، وبعد تدخل الشيخ خليل السنيني في السلوم أحد شيوخ قبيلة أولاد علي الذي كان له الفضل في معاونة المجاهدين والمهاجرين الليبيين وعلى ضمانته سلّم المجاهدون سلاحهم وتفرقوا في مجموعات صغيرة تتكون كل واحدة منها من سبعة رجال.
واتجه الشيخ سعيد إلى عمه شعيب عبدا لجليل المقيم في سيدي براني للعيش معه. وكان حينها عمه في رحلة إلى واحة سيوة على ناقتين له، ولكن الفقر والعوز كانا في انتظار هؤلاء الأبطال. وبعدها اضطر شيخنا للاتجاه إلى البحيرة للبحث عن لقمة العيش، وقضى قرابة العام يشتغل عاملاً عند الفلاحين الفقراء بأجر زهيد لا يزيد عن خمسة تعريفات يومياً.
زادت قسوة العيش من تصميمهم على البقاء لكي تعود لهم الكرّة والانتقام من إيطاليا التي لم ينسوا فظائعها في أرضهم. وبالفعل هاجر كل من الشيخ سعيد وأعمامه كل من علي وعبدالونيس عبدا لجليل ومعهم رفاق الجهاد أمثال عيسى النفاقة وسعد ارحومة الرقيعي وحمد بن شعيب المغربي وعبد الله الفيل العرفي ومحمد الغايش(10) العرفي بتزكية من رجل ليبي يُدعى يادم غيث العرفي الذي كان حينها يعمل في البنك العربي، واستطاع أن يؤمّن لهم عملاً في مزرعة أحد أثرياء القدس يُدعى سعيد درويش. وبالفعل هاجر هؤلاء الرجال جميعهم إلى فلسطين، وشرعوا في العمل كخفر في مزارع الزيتون التي يملكها درويش. وكما يقول الشيخ سعيد: "لقد تغيرت أحوالنا وظروفنا المالية وتحسنت، وأصبحت علاقتنا مع صاحب المزرعة ممتازة لا سيما بعدما تصدينا للسطو المسلح على أملاك الرجل، وكدنا أن نُقتل جميعاً، ولكن بفضله تعالى وخبرتنا في الجهاد وتحمل المشاق استطعنا أن نردّ كيد اللصوص إلى نحورهم وأن نفوز بثقة الناس حتى ذاع صيتنا بين إخواننا في فلسطين، وساهمنا في قتال العصابات اليهودية أنا وعشرات من رفاقي الليبيين، ونتيجة لذلك قابلنا الشهيد عبد القادر الحسيني قائد المقاومة الفلسطينية وبقينا في فلسطين لمدة سنتين، ولكن سرعان ما اضطرنا الإنجليز لمغادرة فلسطين السليبة إلى الرجوع إلى مصر لتنفتح جروحنا مع إيطاليا التي لم تندمل بعد(11)."
عقد الليبيون العزم على تكوين جيش - الذي أصبح فيما بعد نواة الجيش الليبي وسمى بالقوة العربية الليبية لتعمل جنباً إلى جنب مع الفيلق الثامن الإنجليزي. وكان للشيخ سعيد جربوع دور متميز، حيث قام بتجنيد أبناء عمومته في صفوف العسكر، فبلغ من جندهم الشيخ سعيد قرابة 300 جندي وعشر ضباط من قبيلة العبيد فقط. وبالفعل قاتل هؤلاء البواسل قتال الأبطال للانتقام من إيطاليا وحليفتها ألمانيا ودخلوا ليبيا ظافرين سنة 1943.
وللتاريخ فأن للشيخ سعيد من الأولاد كل من محمد ورجب وعبد السلام وعبد القادر وأبوبكر وإبراهيم، وخمس بنات وهن رجعة وحليمة ومرضية ونجوى ومستورة.
نحن كلنا يقين أنه ليس هناك آنس ولا ألطف من الحديث مع من نعشق .. وعمّن نقدر ونُجلّ .. فحديث التاريخ لا يمل .. ولا يزال عندنا الكثير ليقال عن المجاهدين والأعلام .. وهذا ما سيكون بإذنه تعالى في لقاءات قادمة.
__________________
(1) هذا ملخص مقابلة طويلة دامت اكثر من ثلاث ساعات أجريتها مع الشيخ سعيد جربوع مساء يوم السبت الموافق 23 أغسطس 2003. نشرته جريدة العرب - لندن - يوم الأربعاء 10مارس 2004م، ونشرت في كتاب "تراجم ومقالات ليبية" للمؤلف.
(2) البرغثي، د. يوسف سالم - حركة المقاومة الوطنية بالجبل الأخضر 1927-1932م صـ 269.
(3) نفس المصدر.
(4) العوكلي، عبد العالي بوعجيلة - "عبد الجليل سويكر العبيدي"، أخبار بنغازي - 30 نوفمبر 2003م.
(5) البربار، د. عقيل عمر المختار صـ 27، 30، 41، 45، 50.
(6) العوكلي "يوم الرحيبة"، أخبار القبة 25 الربيع 1430م.
(7) البرعثي المعتقلات الفاشستية بليبيا صـ 118.
(8) العوكلي "يوسف بورحيل"، أخبار بنغازي - 19 سبتمبر 2002م.
(9) للمزيد راجع :
"نجم، د.فرج عبد العزيز - عبد الحميد العبار بحث تحت الإنجاز
"في الطريق إلى مصر " عبد العالي بو عجيلة العوكلي أخبار بنغازي - 9 ديسمبر 2001م.
(10) العوكلي "المجاهد محمد شعيب الغايش العرفي"، أخبار بنغازي 12 يونيو 2003م.
(11) العوكلي - "المجاهد عبد الله الفيل العرفي"، أخبار بنغازي 14 اغسطس 2003م.
المجاهـد والعـمدة.. آخر رفيق لعـمر المختار
د. فـرج نـجـم
كنت من بين المعزيين في الحاجة فاطمة بونجوى وهي آخر زوجة كانت للشيخ عمر المختار قبل استشهاده، ومن بعده اقترنت بابن أخيه المجاهد احمد محمد المختار. وإذا بي أمام الحاج محمد ابن الشهيد عمر المختار، وبعد تقديم التعازي وتجاذب أطراف
المجاهد سعـيد جربوع
عـن عـمر ناهز 95 سنة
الحديث سألته عن الشيخ سعيد جربوع فاخبرني بأنه حي يرزق في الوطن الشرقي.
وبعد رحلة شاقة في قمم الجبل الأخضر، وتحديداً بين مزارع بطة ودندخ وأخيراً بمنطقة بوقراوة التي تبعد 22كم شرقي المرج على الطريق الساحلي باتجاه مدينة البيضاء التي رجعنا منها قافلين، وإذا بنا نتوقف على بوابة أمن فرزوغة، ليسألنا الشرطي المناوب: "من أين أتينا وإلى أين نحن متجهون، فيجيبه سائقنا: بأننا بحّاثة وكنا في زيارة ميدانية لأحد المجاهدين وهو سعيد جربوع إن كان يعرفه ! فأجاب الرجل بنبرة مملؤة بالاحترام: ".. وقال: أي نعم أعرف الشيخ سعيد جربوع .. وتفضلوا بالسلامة".
وهكذا بسمعة هذا الرجل مررنا من البوابة لننقل سيرة آخر رفيق لعمر المختار مازال على قيد الحياة، الذي كم ابتهلت ودعوت الله تعالى أن يوفقني لأراه .. وبالفعل وفقت في ذلك، وكان في صحبتي كل من الرفيقين الباحث عبد العالي العوكلي والراوي عطية الله العرفي، كما رافقنا الحاج علي ابن المجاهد الكبير عصمان الشامي. وفي مزرعة ببوقراوة وجدنا شيخنا الذي تعذرت تلك السيدة البدوية لنا لعدم سماح صحته لمقابلتنا، ولكن إلحاح الأستاذ عبدالعالي وإخبارها بأننا قدمنا خصيصاً من بنغازي، وخاصة كاتب هذه السطور الذي أتى من لندن من أجل هذا الموضوع، وبعد الاستئذان لرؤيته والسلام عليه، قالت تلك السيدة: "أعطونا لحظات لكي نهيئه لكم كما ينبغي". وبالفعل ما هي إلا دقائق حتى أذن لنا بالدخول إلى المربوعة (غرفة الضيوف) وإذا بشيخنا واقفٌ كالطود على قدميه مرحباً بنا بحرارة البدو المعتادة.
سئلت إذا كان بالإمكان إجراء مقابلة معه فقال الشيخ: "الصحة بالهون والعلل طويل .. ولكن قولي ايش تريد تعرف، وأنا إنشاء الله انقولك". عندها حان وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وإذا بالشيخ سعيد يقف معنا في الصف على رجليه، ويصلي معنا المغرب كما صليناه نحن من وقوف، وقمنا بعدها لصلاة العشاء قصراً وجمعاً مع المغرب فإذا بالشيخ سعيد ينفل معنا في صلاة العشاء جالساً.
الشيخ سعـيد جربوع في حديثه معـي ومن حولنا رفقائي وأحفاد الشيخ
وبعد صلاتنا دخل علينا أبناء الشيخ وخاصة محمد وعبد القادر والأحفاد ليلتم الشمل ومن ثم يأمر الشيخ بأن يجهز لنا وجبة العشاء ولكن رفقائي اعترضوا على ذلك، ولكن الشيخ أصر وكاد أن يقسم، حينها تدخلتُ وقلت له: "يا شيخ سعيد عندي شرطين إذا أردت أن تكرمنا، ثانيهما أشد من الأول". فقال: "تفضل". فقلت: "أن نأكل من الموجود وبدون كلفة، أما الثاني أن تستمر في حديثك معنا مادمنا نجلس معاً". فرد الشيخ موافقاً.
بدأت سؤالي مع الشيخ سعيد إذ كان مع عمر المختار عندما وقع في الأسر ؟ فقال: "عندما حوصرنا في وادي بوطاقة بعد زيارة قمنا بها إلى سيدي رافع، وكنا قرابة الخمسين فارساً، فحاصرنا الطليان في ذاك الوادي الضيق، وبدأ الرصاص يحصد رجالنا بعد نفاذ الذخيرة، طلبت من سيدي عمر المختار علف (ذحيرة)، فأعطاني 3 أمشاط، وبعد نفاذها رجعت فأعطاني 3 أمشاط أخر، وكنت حينها بصحبة كل من حسن العرج وعبد العاطي بوبعيدة وهما من قبيلة الحاسة". وأضاف الشيخ سعيد قائلاً: "عندما وقع سيدي عمر على الأرض كان بيني وبينه مسافة لا تزيد عن ثلاثة أمتار.
هذا وقد أصيب الشيخ سعيد في يده اليمنى، وقد عاينت جرحه بنفسي"، ثم استطرد قائلاً: "حيث حاولنا مع بقية الرفاق فك أسر سيدي عمر المختار ولكن بدون جدوى، وحاول البعض في ضباب المعركة فعل ما فعله مفتاح قويرش الحاسي، الذي رفض مغادرة سيدي عمر واهتزج مغنياً: "دمي رايب عند الشايب"(2) حتى سقط مضرّجاً في دمائه شهيداً، وقد سبقه إلى الشهادة مدافعاً عن عمر المختار عوينات العقوري، ليكون أول شهيد في تلك المعركة(3)".
يقول الشيخ: "رجعت إلى سيدي عمر المختار لأراه واستلهم منه الأوامر، فقال الشيخ لسعيد جربوع: "عدّوا يا ضناي هذا يومٌ لا لي ولا لكم"، وهذه الكلمات بمثابة الأوامر الأخيرة من عمر المختار لرجاله، كما روى الشيخ سعيد جربوع. وعندما سقط عمر المختار في الأسر كان حينها عمر الشيخ سعيد جربوع 20 سنة.
ولد الشيخ سعيد جربوع عبد الجليل سنة 1908م في تاكنس جنوب شرق المرج، وينتمي شيخنا إلى قبيلة العبيد بيت شعوه. كان أبوه (الشيخ جربوع عبد الجليل) مجاهداً وقع في الأسر ومن ثم نفى مع من نفي من الليبيين إلى إيطاليا لسنتين(4). وقبيلة العبيد غنية عن التعريف حيث كانت النواة لما اصطلح عليه بعد عام 1923م بحرب الأدوار. فكان دور العبيد الذي قاده عمر المختار الدور الرئيسي في القتال بالجبل الأخضر بعد انهيار أغلب المقاومة في ليبيا.
عين السيد المهدي السنوسي الشيخ عمر المختار شيخاً لزاوية القصور سنة 1885م الواقعة بين نجوع قبيلة العبيد ببرقة الحمراء. وعرف عن العبيد تمردهم وصعوبة مراسهم وعدم خضوعهم لأي سلطان، ولكن سرعان ما انصاعت هذه القبيلة ذات البأس الشديد للقيادة الروحية والتنظيمية للشيخ عمر المختار.
وبعد مشاركة الشيخ عمر المختار في الجهاد في تشاد ومن ثم عاد إلى أرض الوطن، عين مرة ثانية في مكانه في زاوية القصور سنة 1906م لإدارة شؤون قبيلة العبيد التي طالما قابلت طلب السلطات العثمانية في جباية الضرائب بالرصاص(5). والشيء بالشيء يذكر، فقد استطاع عمر المختار أن يقود قبيلة العبيد التي لعبت دوراً رئيسياً في الجهاد، وضحّت بكثير من شبابها وشيبها وفي مقدمتهم التواتي بوشعراية - شيخ قبيلة العبيد - شهيد معركة الرحيبة عام 1927م، الذي سقط ذبيحاً في مسيرة الجهاد الخالدة ليسطر له ولقبيلته تاريخاً في ليبيا(6).
عندما حارت إيطاليا في أمر هذه القبيلة التي وصفها غراتسياني قائلاً "قبيلتين: المغاربة في الغرب والعبيد في الشرق قد سببا لنا الكثير من المشاكل في برقة"، حينها قررت إيطاليا أن تجر هذه القبيلة وتلقي بها في معتقلات التهلكة التي أعدتها إيطاليا لإبادة بدو برقة(7).
فاق دور قبيلة العبيد الألفي رجل تحت إمرة الشيخ عمر المختار، ومن ثم نائبه الشهيد يوسف بورحيل المسماري(8) وخيرالله الشويخ العبيدي. وعندما بلغ شيخنا سن الحلم 15 عاماً التحق بدور قبيلته سنة 1923م، تلك السنة التي استلم فيها عمر المختار القيادة العامة لقوات المجاهدين في الجبل الأخضر. وأول مشاركة للشيخ سعيد كانت له في معركة يوم العيد، التي أهتزج فيها الشيخ عمر المختار وقال:
جيتو في عيد ويوم سعيد إن عشت سعيد وأن مت شهيد
كان حينها سعيد جربوع لم يتجاوز السادسة عشر من عمره. ويستطرد الشيخ: "عندما بدأ القادة يفوزون بالشهادة تباعاً؛ الفضيل بوعمر وعمر المختار ومن ثم يوسف بورحيل، فقرر بعض المجاهدين الهجرة، والبعض الآخر قرر البقاء على أرض الوطن رغم شح العتاد والزاد والوحشة، بعدما وضعت جل القبائل خلف الأسلاك الشائكة".
وبعد سجال وطراد بين المجاهدين والطليان من جهة، والجوع والعطش وقسوة الأحوال من جهة أخرى، غدى المجاهدون يقتاتون على الحشائش مع بهائمهم. فأكلوا الكراث والقعمول والخرشوف والجرابيع وصيد الليل (القنافذ البرية ذات الأشواك الحادة)، برغم حرمتها شرعاً، فاضطر المجاهدون إلى تقسيم أنفسهم إلى عدة فرق لتستفيد من قدرتها على سرعة التنقل بشيء من الاستقلالية الميدانية للقتال والغزو، فأمضوا الشهور والأيام في ظروف لا يتخيلها صاحب خيال، فتارة يحالفهم النصر وأخرى الكسر، ونال شيخنا نصيبه من الأذى، حيث أصيب خمس مرات في خمس معارك وقتلت تحته ثلاثة خيول، وبالرغم من هذا استمر في القتال والغزو دون التفكير في الاستسلام ولوى لبرهة. فالفرقة التي كان فيها الشيخ سعيد بعد التقسيم كانت تتكون من 85 فارساً أغلبهم من أبناء عمومته. ومن الغزوات الناجحة كانت تلك التي على سوق احداش في بنغازي، حيث غنموا مع المؤن الحبال وبعض الأردية وصابون السوسي. حينها قرروا الهجرة بعد سنة من إعدام الشيخ عمر المختار، لأنه اصبح من المستحيل الاستمرار بنفس النهج نظراً لتغير الظروف وتكاثر المصاعب أمامهم في برقة.
وبعد غزوة ظافرة غنموا فيها 150 من (زوايل) الإبل، قرروا الهجرة، فأعطى المقيم حذائه ومركوبه لمن نوى الهجرة وقرروا الاتجاه شرقاً صوب الشبردق (الأسلاك الشائكة) على الحدود المصرية-الليبية في شهر رمضان المبارك. وكان شيخنا في كوكبة تتكون من 85 فارساً ومعهم الزوايل، ولم يذوقوا طعاماً أو ماءً لمدة خمسة أيام، وكاد العطش أن يفتك بهم وبهائمهم. فقد سقط اثنان منهم موتى نتيجة الظمأ في الطريق. حينها أيقن إمام الركب، الفقيه بوزينوبة، أن لا ملجأ ولا مفر من اللجوء إلى الله تعالى، فصلى بهم صلاة الاستسقاء لكي يُنجدهم فوراً حيث وصل حالهم إلى ما لا يتحمله إنسان ولا حيوان. ويقول الشيخ سعيد: "كنت أسمع بالكرامات حتى رأيتها في ذاك اليوم، وما هي إلا دقائق حتى جاءنا الغيث وأمطرت السماء، وكأنها تبكي حالنا، فشربنا وشرب الحيوانات. وقام الفقيه محمد بوزينوبة العبيدي فينا واعظاً فقال: لعل قدرنا أن نقتل على هذه الأرض ولا نصل مصر، فإذا ما ظفر بنا النصارى سينكّلون بنا، فاستعدوا يا رجال للموت. وأمر كل اثنين منا أن يغسلا بعضهما البعض كغسل الأموات. وبالفعل فعلنا ذلك حيث نظفنا أنفسنا وتلك اللحى التي وصلت السرة، والأظافر والشعر الذي أصبحت عائقاً لنا". وبعد ذلك التنعش، يقول الشيخ سعيد: "صلى بنا الشيخ بوزينوبة صلاة الجنازة على أرواحنا، لكي نكون قد بالفعل أتممنا ما علينا، والآن كلنا استعداد لساعة الحسم وملقاة الله تعالى على طُهر ويقين به سبحانه. ومن ثم ودّع بعضنا البعض، فتعانق رفاق الدرب وجند الإسلام عناق الوداع، الذي ربما لا لقاء بعده إلا في الجنة، وكم سالت من دموع لفراق الأحبة وللقاء أحبة أُخر سبقونا إلى فردوس أعلى."
وواصل ركب الاستشهاد طريقه إلى الشبردق فوجدوا امرأة وابنها من قبيلة العوّامة، وما أدراك ما العوّامة الأبطال، هائمين على وجهيهما في تلك الصحراء، فالتقطوهما واستمروا في رحلتهم. ومن الأدوات التي بعثها لهم اخوتهم المرابطون في مصر لقص تلك الأسلاك الوحشية مقصاً واحداً يحمله المجاهد عبد المولى الحويطي البرعصي. وعندما وصل الركب إلى الأسلاك مسك الشيخ سعيد إحدى ذراعي ذلك المقص والمجاهد عبد المولى الأخرى وشرعا بقص تلك الأسلاك، وما هي إلا دقائق حتى علم الطليان بهما، فسلطت عليهم الأضواء الكاشفة وهاجمهم حرس الحدود ولكن الفرسان كانوا لهم بالمرصاد، وبالفعل تمكنوا من صدهم بعد تحصنهم بالإبل، واستمر صاحبي المقص في مهمتهما رغم تطاير الرصاص من حولهم كالقلية على النار، وبفضل الله تعالى نجحا في فتح ثغرة في تلك الأسلاك الغليظة، وسرعان ما فاز كل من عبد الهادي بوجزينه العبيدي وعبد الطيف العوامي بالشهادة وقبض على بوصليل العبيدي، وقتلت معظم إبلهم وخيولهم، وفي تلك الليلة الدامسة استطاع قرابة 75 مجاهد من الدخول إلى مصر من بينهم خمسة جرحى وتلك المرأة وولدها(9).
كانت حالتهم لا توصف، حيث الأجساد المنهكة من الجوع والعطش، والمشلحة من السواتر، والمقطعة من الأسلاك في حالة يرثى لهم.
وفي الصباح الباكر وصل المجاهدون نجعاً لقبيلة الجرارة في الجانب المصري على الحدود، فأكرموا وفادتهم، وكانت الحالة حالة صيام، وسرعان ما قبضت عليهم السلطات المصرية التي أرادت مصادرة سلاحهم، وبعدها بعثت الحكومة المصرية وفداً للتفاوض مع المجاهدين المسلحين، وبعد تدخل الشيخ خليل السنيني في السلوم أحد شيوخ قبيلة أولاد علي الذي كان له الفضل في معاونة المجاهدين والمهاجرين الليبيين وعلى ضمانته سلّم المجاهدون سلاحهم وتفرقوا في مجموعات صغيرة تتكون كل واحدة منها من سبعة رجال.
واتجه الشيخ سعيد إلى عمه شعيب عبدا لجليل المقيم في سيدي براني للعيش معه. وكان حينها عمه في رحلة إلى واحة سيوة على ناقتين له، ولكن الفقر والعوز كانا في انتظار هؤلاء الأبطال. وبعدها اضطر شيخنا للاتجاه إلى البحيرة للبحث عن لقمة العيش، وقضى قرابة العام يشتغل عاملاً عند الفلاحين الفقراء بأجر زهيد لا يزيد عن خمسة تعريفات يومياً.
زادت قسوة العيش من تصميمهم على البقاء لكي تعود لهم الكرّة والانتقام من إيطاليا التي لم ينسوا فظائعها في أرضهم. وبالفعل هاجر كل من الشيخ سعيد وأعمامه كل من علي وعبدالونيس عبدا لجليل ومعهم رفاق الجهاد أمثال عيسى النفاقة وسعد ارحومة الرقيعي وحمد بن شعيب المغربي وعبد الله الفيل العرفي ومحمد الغايش(10) العرفي بتزكية من رجل ليبي يُدعى يادم غيث العرفي الذي كان حينها يعمل في البنك العربي، واستطاع أن يؤمّن لهم عملاً في مزرعة أحد أثرياء القدس يُدعى سعيد درويش. وبالفعل هاجر هؤلاء الرجال جميعهم إلى فلسطين، وشرعوا في العمل كخفر في مزارع الزيتون التي يملكها درويش. وكما يقول الشيخ سعيد: "لقد تغيرت أحوالنا وظروفنا المالية وتحسنت، وأصبحت علاقتنا مع صاحب المزرعة ممتازة لا سيما بعدما تصدينا للسطو المسلح على أملاك الرجل، وكدنا أن نُقتل جميعاً، ولكن بفضله تعالى وخبرتنا في الجهاد وتحمل المشاق استطعنا أن نردّ كيد اللصوص إلى نحورهم وأن نفوز بثقة الناس حتى ذاع صيتنا بين إخواننا في فلسطين، وساهمنا في قتال العصابات اليهودية أنا وعشرات من رفاقي الليبيين، ونتيجة لذلك قابلنا الشهيد عبد القادر الحسيني قائد المقاومة الفلسطينية وبقينا في فلسطين لمدة سنتين، ولكن سرعان ما اضطرنا الإنجليز لمغادرة فلسطين السليبة إلى الرجوع إلى مصر لتنفتح جروحنا مع إيطاليا التي لم تندمل بعد(11)."
عقد الليبيون العزم على تكوين جيش - الذي أصبح فيما بعد نواة الجيش الليبي وسمى بالقوة العربية الليبية لتعمل جنباً إلى جنب مع الفيلق الثامن الإنجليزي. وكان للشيخ سعيد جربوع دور متميز، حيث قام بتجنيد أبناء عمومته في صفوف العسكر، فبلغ من جندهم الشيخ سعيد قرابة 300 جندي وعشر ضباط من قبيلة العبيد فقط. وبالفعل قاتل هؤلاء البواسل قتال الأبطال للانتقام من إيطاليا وحليفتها ألمانيا ودخلوا ليبيا ظافرين سنة 1943.
وللتاريخ فأن للشيخ سعيد من الأولاد كل من محمد ورجب وعبد السلام وعبد القادر وأبوبكر وإبراهيم، وخمس بنات وهن رجعة وحليمة ومرضية ونجوى ومستورة.
نحن كلنا يقين أنه ليس هناك آنس ولا ألطف من الحديث مع من نعشق .. وعمّن نقدر ونُجلّ .. فحديث التاريخ لا يمل .. ولا يزال عندنا الكثير ليقال عن المجاهدين والأعلام .. وهذا ما سيكون بإذنه تعالى في لقاءات قادمة.
__________________
(1) هذا ملخص مقابلة طويلة دامت اكثر من ثلاث ساعات أجريتها مع الشيخ سعيد جربوع مساء يوم السبت الموافق 23 أغسطس 2003. نشرته جريدة العرب - لندن - يوم الأربعاء 10مارس 2004م، ونشرت في كتاب "تراجم ومقالات ليبية" للمؤلف.
(2) البرغثي، د. يوسف سالم - حركة المقاومة الوطنية بالجبل الأخضر 1927-1932م صـ 269.
(3) نفس المصدر.
(4) العوكلي، عبد العالي بوعجيلة - "عبد الجليل سويكر العبيدي"، أخبار بنغازي - 30 نوفمبر 2003م.
(5) البربار، د. عقيل عمر المختار صـ 27، 30، 41، 45، 50.
(6) العوكلي "يوم الرحيبة"، أخبار القبة 25 الربيع 1430م.
(7) البرعثي المعتقلات الفاشستية بليبيا صـ 118.
(8) العوكلي "يوسف بورحيل"، أخبار بنغازي - 19 سبتمبر 2002م.
(9) للمزيد راجع :
"نجم، د.فرج عبد العزيز - عبد الحميد العبار بحث تحت الإنجاز
"في الطريق إلى مصر " عبد العالي بو عجيلة العوكلي أخبار بنغازي - 9 ديسمبر 2001م.
(10) العوكلي "المجاهد محمد شعيب الغايش العرفي"، أخبار بنغازي 12 يونيو 2003م.
(11) العوكلي - "المجاهد عبد الله الفيل العرفي"، أخبار بنغازي 14 اغسطس 2003م.