عام الحزن
عام الحزن
أطلق في السيرة على العام العاشر من البعثة عام الحزن , لما أصاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من محن وشدائد تذوب لها القلوب وتدمع لها العيون وهو صابر محتسب واثق بربه – عز وجل - , ففي هذا العام توفي عمه أبو طالب وتوفيت زوجه خديجة – رضي الله عنها - , وقد كان بين وفاة أبي طالب ووفاة زوجه خديجة شهر وخمسة أيام إذ مات
أبو طالب ولم تلبث خديجة أن ماتت على أثره .
وأصبح رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأول مرة في مواجهة أعدائه بنفسه , فقد كان أبو طالب حصنا حصينا يرد أذى أهل مكة عن ابن أخيه
وربيب بيته – محمد عليه الصلاة والسلام – فيدفع عنه كثيرا من الضر والأذى , ويقدر الأعداء وجود أبي طالب زعيم قومه وسيد بني هاشم بين ظهرانيهم , وكانت خديجة سكنه الذي يأوي إليه فيجد فيه الراحة والفرح والفرج والعزاء , ولما انهدم ذلك الحصن بوفاة أبي طالب تجرأ المشركون على رسول – صلى الله عليه وسلم - , وثقل عليه ذلك منهم أن انضوى هذا السكن إذ توفيت خديجة - رضي الله عنها – في رمضان من العام العاشر ولها خمس وستون سنة . ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ ذاك في الخمسين من عمره , بعد أن ظلت شريكة حياته حلوها ومرها على مدى ربع قرن من الزمان تواسيه بنفسها ومالها وتؤازره وتخفف عنه .
لذا كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول فيها ( والله ما أبدلني الله خيرا منها آمنت بي حين كفر الناس وصدقتني حين كذبني الناس وواستني بنفسها ومالها حين حرمني الناس ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء ).
ولم لا وهي أول من آمن برسالته من البشر على اتفاق؟ إذ عاد إليها من الغار خائفا يتصبب عرقا ويقول ( زملوني زملوني ), ولما هدأ روعه وحكى لها ماحدث معه بالغار قالت له ( أبشر يا ابن عم والله لايخزيك الله أبدا أنت تحمل الكل وتصدق القول وتكرم الضيف وتحفظ الأمانة وتعين على نوائب الدهر ) .
ثم ثبتته على مايرى ووثقته منه إذ مضت بصحبته إلى ابن عمها ورقة بن نوفل والذي كان شيخا كبيرا طاعنا في سنه وكان يومها قد تنصر يقرأ الكتاب العبراني .
روى أبو هريرة قال ( أتى جبريل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال " يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب " القصب : اللؤلؤ.
قال ابن إسحق : لما مات أبو طالب نالت قريش من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياته . حتى اعترضه سفيه من سفهائهم فنثر التراب على رأسه , حتى دخل بيته والتراب على رأسه فقامت إحدى بناته تنفض التراب عن رأسه وهي تبكي فيقول لها ( لا تبكي بنية إن الله مانع أباك ).
وكان كلما زاد به الأذى ازداد صبرا واحتمالا و هو يردد دائما ( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون )
وقد وضع أحدهم سلى الجزور على رأسه وهو ساجد , وتنافسوا في إلقاء الأذى والأقذار أمام داره , وهو يخرج عليهم كل يوم فيقول ( يا بني عبد مناف أي جوار هذا ؟)
لذا قال – صلى الله عليه وسلم – ( ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ).
ولى أبوك عن الدنيا ولم تره وأنت مرتهن لا زلت في الرحم
وماتت الأم لما أن أنست بها ولم تكن حين ولت بالغ الحلم
ومات جدك من بعد الولوع به فصرت من بعدهم في ذروة اليتم
فجاء عمك حصنا تستكن به فاختاره الموت والأعداء في الأجم
أما خديجة من أعطتك مهجتها وألبستك رداء العطف والكرم
ولت إلى جنة الباري ورحمته فأسلمتك لجرح غير ملتئم
تؤذى وترمى بأنواع الشرور فما رئيت في ثوب جبار ومنتقم
حتى على كتفيك الطاهرين رموا سلى الجزور بكف المشرك القسم
ورغم تلك الرزايا والخطوب وما رأيت من لوعة كبرى ومن ألم
ما كنت تحمل إلا قلب مصطبر في عزم متقد في وجه مبتسم
.........