عهد الشعوب وتحطيم الأصنام
عهد الشعوب وتحطيم الأصنام
إرث ثقيل
من قلب العفن تخرج الحياة
الالتفاف على المنجزات
ما يجري من تحركات عارمة منذ مطلع هذه السنة في بعض الدول العربية وعلى وجه الخصوص في تونس ومصر يبرز ثنائية الانسداد والتغيير بأفضل تجلياتها. إن زمن الثورات العربية قد أقبل مع تسارع وتيرة الحراك واستكمال سيرورتها بعدما حلت عقدة الخوف من الطغاة. لقد بدأ فعلاً العد العكسي لنموذج الرجل المريض (نفسياً وجسدياً) المتسلط على رقاب شعبه بعدما جرعه كأس الهوان حتى الثمالة.
والسؤال الذي يتبادر للذهن هو: ما مآل التحركات الشعبية التي حدثت مثلاً في الجزائر واليمن والأردن، وهل ستشهد تطوراً على غرار ما يحصل في تونس ومصر بعد إجهاض التحركات وهي في مهدها لاستمرار استقرار مستنقعي؟ ألا تضع التطورات المتسارعة علامات استفهام على مقولة أن المشكلة في الشعوب التي سمحت لسلاطينها أن تدوس على كراماتها وتنتهك حقوقها وهي صاغرة وصابرة على ضنك العيش طوال عقود؟
هل نحن أمام انتفاضات ستكبر ككرة الثلج عند جماهير كان قد غلب على أمرها من تضافر إرث استبداد الداخل ومطامع الخارج، أم أن العيون والآذان المتربصة من الجانبين لم تخسر جاهزيتها للانقضاض على الإنجازات وإجهاض الآمال بالتغيير والإصلاح الديمقراطي؟
إرث ثقيل
"
تراكم إرث مخيف من العسف والاستبداد واستشراء الفساد وانقضاض أقليات على حقوق الأكثرية في أوطان باتت أشبه بسجون يعم فيها الجهل والذل والتخلف والفقر والأمية
"
عوامل عديدة تشابكت خلال العقود المنصرمة، ليس أقلها الخارجية، لتفرض على المنطقة العربية وضعاً خانقاً بكل معنى الكلمة. تراكم إرث مخيف من العسف والاستبداد واستشراء الفساد وانقضاض أقليات على حقوق الأكثرية في أوطان باتت أشبه بسجون يعم فيها الجهل والذل والتخلف والفقر والأمية.
أتت بعد ذلك العشرية الماضية والتي أعقبت أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 لتحمل معها الكوارث والهزات الارتدادية التي لم تتوقف تأثيراتها حتى الساعة. فكان العبث بالقوانين الدولية وعولمة حالة الطوارئ وإغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية واستشراء المحاكم الاستثنائية والسجون السرية واستباحة حقوق المساجين بابتكار وسائل تعذيب أشد فتكاً وضراوة.
علاوة على توالي الكوارث البيئية وتتابع الانهيارات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والمجاعة وتشرد الملايين الإضافية، بما جعل مقولة إصلاح الحال من المحال أكثر راهنية. بلغت الأشياء حداً أصبحت معه قيم الشجاعة والكرامة والفضيلة واحترام الذات والحق بالاختلاف والتعددية وكل ما ينقل البشر من البربرية إلى الحضارة أشبه ما تكون بنكتة عند طوابير من البشر استباحتها جموع ممن سموا بمسؤولين دوليين وقادة محليين.
تحكم هؤلاء بالأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية على نسق ما تقوم به عصابات المافيا من استغلال للنفوذ وإذلال للشعوب وخيانة للأوطان وارتكاب جرائم تحت قشور من الطلاء الذي لا يخفي الرياء والفجور والنذالة والعمالة. فبات العلم والعقل نقمة والجهل نعمة في زمن إهدار الطاقات الخلاقة بالقمع الفظ أو بالنفي المجرم واستلاب جملة الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
وصل الأمر لبيع الأوطان من قبل طغاة لم تسجل حقبهم سوى المزيد من الكوارث والهزائم ولم يخلفوا عند من تحكموا بمصائرهم سوى الشعور بالإحباط وتعزيز ثقافة الخوف وعدم الثقة بالآخر وكره الذات. لا بل تخطى ذلك لاختفاء شريحة واسعة من المحكومين خلف نوع من الذات المزيفة التي عندما تبلغ حداً متقدماً تصبح شكلاً من الباتولوجيا، مثلما هي أشكال العصاب وتعدد مظاهر الشخصية والذهان والذي منه انفصام الشخصية والبارانويا وغيره من أمراض نفسية تعيش معنا وبيننا. لكن الطامة الكبرى عندما تعتلي أكتافنا لتتحكم بمصائرنا ونحن طائعين صاغرين.
علماء النفس هم أكثر من نبهوا لعواقب هذه الجرائم الفعلية والرمزية في قتل الروح البشرية الخلاقة والطاقة الحيوية التي تنتج الإبداع وروح التحدي وكل ما من شأنه المساهمة ببناء عالم متقدم (ليس فقط تقنياً وإنما أخلاقياً وقيمياً). عالم يفترض بنا تسليمه لأبنائنا ومن سيأتون بعدنا مثلما ورثناه من آبائنا، إن لم يكن أفضل وفقاً لمبدأ التطور والتراكم المعرفي.
من قلب العفن تخرج الحياة
من قلب العفن تخرج الحياة، مقولة أخرى للمتفائلين بالحياة والمتبصرين بمنطق التاريخ. فالشرفاء والأحرار والعظماء الذين لم تغير خاماتهم الأصيلة والمعطاءة انتهاكات الأشرار لحقوقهم وعبث سماسرة الأوطان بمصائرهم هم من جسدوا أحلام التغيير.
إنهم المقاومون من فلسطين إلى العراق ولبنان ومصر وتونس والجزائر واليمن وغيرها من بلدان عربية الذين تصدوا بعقولهم وصدورهم لتزوير الواقع المعاش ولطغيان الظلم والغباء وكل من تاجروا بكرامتهم وزيفوا التاريخ والحقائق مظهرين الهزيمة إنجازات والخيانة انتصارات.
"
الشرفاء والأحرار والعظماء الذين لم تغير خاماتهم الأصيلة والمعطاءة انتهاكات الأشرار لحقوقهم وعبث سماسرة الأوطان بمصائرهم هم من جسدوا أحلام التغيير
"
بعطائهم ودمائهم راكموا للتحولات الإيجابية في حياة شعوبهم في معارك مقاومة الظلم وانتزاع حق تقرير المصير. هذه النخب السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية خطت الطريق واختلطت اليوم بالشبيبة التي نزلت لأرض الميدان لتنتفض وتقول كفى للظلم واستباحة الكرامات مشرّعة صدورها للرصاص الحي دون وجل من دفع ضريبة الدم.
تحية إكبار لكل هؤلاء ورحمة على أرواح من قدموا حياتهم ليحيا الوطن وكانوا الشمعة التي أضاءت الظلمات وأشعلت فتيل الثورات، بثباتهم على أرض الميدان وإيمانهم بأن الحقوق والحريات لا تمنح بل تنتزع، حققوا قفزات اختصرت عمر المعاناة.
للحفاظ على بلدهم تصرفوا بنبل وحس وطني وتكافل اجتماعي ولم يستسلموا لأعمال النهب والتحطيم والتعرض للمنشآت الحكومية التي ألصقها بهم مشبوهون. لم يعتمدوا على الدول الغربية التي اعتادت أن تقدم دروساً بالديمقراطية، فهم يعلمون أنها لن تمارس سوى ضغوط شكلية بالدعوات لإصلاحات وللتهدئة وضبط النفس، ليس إلا لحفظ خط الرجعة بحال تبدلت الأحوال أو لحين أن تبدّل هي مسار الأحداث.
فهموا أن جمعاً من قادتها السياسيين ووسائل إعلامها المأجورة والبعيدة عن الموضوعية ما زالت تفرك عيونها لتبصر وتصدق أن الشبيبة قد حققت بلحظة خاطفة ما خال لها أن الشعوب العربية القاصرة غير قادرة على إنجازه.
وحيث أغمضوا عيونهم طويلاً عن الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم السياسية والاقتصادية من أجل مصالحهم، جاء خطابهم مرتبكاً وتأييدهم لتحركاتهم متأخراً وخجولاً. أيضاً لم يسمحوا لهذا الغرب أن يقسم صفوفهم بتصديق طغاتهم الذين استعملوا فزاعة الإسلام ليستمروا بالسلطة على حساب هنائهم.
وها هم يحطمون الصنم ليعيشوا على غرار المراهق الذي عليه أن يمر رمزياً على جسد أبيه كي ينتقل لمرحلة الرشد. لقد أقبل زمن الانتفاضات الشعبية والمقاومات المدنية، فإلى الأمام أيها الشباب، ويا شرفاء العالم العربي اتحدوا لبناء أنظمة سياسية جديرة بتسلم مقاليد أمورنا.
حيث الجميع يراقب بحذر ووجل التحركات المريبة لأعداء الثورة لتطويق وإجهاض الإنجازات التي حققت، شكلت الشبيبة في كل من تونس ومصر لجاناً لوضع رؤى لإنجاز الإصلاحات الكبرى.
فالفقر والجوع والمرض لم يولد وحده هذا الغضب العارم، بل العمالة والخيانة والتزوير الانتخابي والتآمر على الوطن والتفريط بوحدته ورهنه لمصالح العدو والدوس على الكرامات واستغناء عقول البشر. لقد اعتبروا أن كلمة "فهمتكم" لم تعد تكفي، وأن الوعود بالمراجعات والإصلاحات ليست سوى لكسب الوقت وإطالة أجل الانفجارات. وحيث إن تبديل بعض الأشخاص لا يغير الأنظمة وسياساتها، رأوا أن الدرب ما زال طويلاً قبل القضاء على مخلفات الاستعباد والاستبداد والفساد الذي امتد لعقود، وقبل إنجاز معركتي التنمية والديمقراطية.
"
الفقر والجوع والمرض لم يولد وحده الغضب العارم، بل العمالة والخيانة والتزوير الانتخابي والتآمر على الوطن والتفريط بوحدته ورهنه لمصالح العدو والدوس على الكرامات "
بعض ما طرحوه تجلى بوضع الرموز السياسية والأمنية وأفراد العائلة الحاكمة ومن نهب وانتهك حقوق الشعب تحت الإقامة الجبرية لإحالتهم للمحاكمة واسترداد الحقوق والتعويض على الممتلكات.
كذلك حل الحكومة والمجلس النيابي والحزب الحاكم، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني في سبيل إعادة الانتخابات النيابية، بعد تعديل الدستور وتغيير بعض القوانين بما فيها قانون الإرهاب. أيضاً رفع حالة الطوارئ، تطبيق العفو التشريعي العام، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ضمان حرية التعبير والرأي والتنظيم وتكوين الأحزاب والجمعيات، إلغاء القيود عن الصحافة ووسائل الإعلام والمطبوعات، احترام التعددية دون تمييز بين الفئات الاجتماعية، المحاسبة على هدر المال العام وتلقى الرشاوى، إصلاح المؤسسات التربوية والقضائية والأجهزة الأمنية، القضاء على البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب مع تحديد حد أدنى مناسب للأجور، توفير شروط العودة لمن أرادوا من الذين هجروا والعمل لربطهم بوطنهم.
الالتفاف على المنجزات
من المعلوم أن العيون الساهرة في الخارج لنجدة أدواتها في الداخل والحؤول دون تحقيق الشعوب أحلامها لن تعرف الراحة وهي التي تملك وسائل عديدة تستبدل بها الحروب التقليدية للوصول للمبتغى. من ذلك تفخيخ الأرضية وتفتيت المجتمعات وتقسيم الجغرافيا بدس السموم في النفوس والعقول وزرع الجواسيس والعملاء في الزوايا.
وهم إن خسروا حليفاً وصديقاً كبيراً من أمثال طاغية تونس -حيث علاقات تعاون كبير يصفوها بالمميزة والتاريخية في شتى المجالات وبالخصوص الأمنية كانت تربطهم به- فلن يتركوا الساحة بعد رحيله.
لا بل سيعملون ليحل محله أناس من صنفه منزوعو الإرادة يقايضون بقاءهم في سدة الحكم بتنفيذ ما يوكل لهم من تعليمات تصب في خدمة المشروع الصهيو أميركي والغربي في فلسطين وتحول دون نهوض الأمة العربية.
القلق على التحركات في مصر بنوع خاص كبير ومشروع كون هذا البلد يشكل حجر الزاوية للتغييرات المأمولة في المنطقة. فهو رغم توقيع معاهدة "السلام" والتطبيع مع الصهاينة مستهدف بعدة مؤامرات. لقد أبعد عن موقع الريادة العربية ليصبح ضعيفاً ويقبل بشروط "الشراكة" مع الاحتلال عندما يوكل له مثلاً مهمة خنق الشعب الفلسطيني في غزة.
مصر مستهدفة أيضاً عبر إحداث التوترات بين طوائفها الدينية، وما شهدناه في وقت سابق في الإسكندرية لم يكن سوى حلقة من خطة أشمل تكرر سيناريو العراق. أما استهداف السودان لفصل جنوبه عن شماله فقد أفضى ليس فقط لوضع اليد على ثرواته النفطية وإنما أيضا للاستيلاء على مياه النيل.
الأمر الذي يضمن محاصرة مصر تمهيداً لغزوها في وقت لاحق كما ذهب إليه بعض المحللين. وكان قد أعلن عن اتفاقية تقاسم مياه النيل وبناء السدود على منابعه تبعت التحركات المكوكية لوزير خارجية إسرائيل لدول حوض النيل.
إذا لم يتمكن التحالف الأميركي الإسرائيلي من إطالة أمد حكم مبارك، فسيعمل كل ما بوسعه لحرمان المصريين من اختيار من يحكمهم. التغيير ما زال في فترة مخاض والجرائم بحقه مستمرة من طرف رجال أمن وبلطجية وقناصة ومأجورين يطلقون النار على المتظاهرين ويضاعفون أعداد الضحايا البريئة.
قد يكون للانتقام وبث الذعر وبسط الفوضى كي يقبل المصريون بما يفرض عليهم رغم كل ما دفعوه من دماء طاهرة للتغيير. بكل الأحوال عبث الأيادي المجرمة هذه يلفت النظر لتشابه مع ما سبق وحصل في العراق أثناء الفوضى التي عمت مع تهاوي النظام السابق والتي كشف فيما بعد أنها كانت بتخطيط من أعداء الأمة الذين حضّروا المؤامرة بإتقان. فهؤلاء ليسوا عابئين إلا بإكمال تنفيذ المخططات التي أعدوا لها.
"
فات ميعاد العودة للوراء وبات المصريون "بعاد" عن إرادات الخونة والمتاجرين بأقدارهم وعن مبارك ومشيئته
"
في محاضرة له في سبتمبر/ أيلول 2008، نشرها الصحفي القدير محمد سيف الدولة أكثر من مرة، قال آفى ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي "من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن ومواجهة أية تطورات لا يحمد عقباها، أي حدوث تحولات مناقضة لتقديراتنا باستمرار الوضع في مصر على حاله بعد رحيل مبارك... عيوننا وعيون الولايات المتحدة ترصد وتراقب بل وتتدخل من أجل كبح مثل هذه السيناريوهات لأنها ستكون كارثة بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب... (لدينا) شراكة أمنية مع أقوى جهازين لحماية الأمن الداخلي مباحث أمن الدولة والداخلية والقوات الخاضعة لها وجهاز المخابرات العامة... (علينا) الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة في القاهرة وجاردن سيتى والجيزة والقاهرة (مصر الجديدة ) بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات والسيطرة على مراكز عصب الحياة في القاهرة... قررنا أن نعظم ونصعد من وتيرة تواجد ونشاط أجهزتنا التي تسهر على أمن الدولة وترصد التطورات داخل مصر الظاهرة منها والباطنة".
وكان مصطفى الفقي قد تحدث قبل سنة عن ضرورة الحصول على الموافقة الأميركية والقبول الإسرائيلي لأي رئيس مصري قادم.
لذا، يجد الشعب المصري نفسه اليوم وأكثر من أي وقت مضى مطالباً بالصمود لإفشال المخططات الرامية لإجهاض تحركاته من أجل تغيير حقيقي لنظامه الحالي.
كما أن الشرفاء في أرجاء الوطن العربي والعالم مدعوون لتشكيل لجان دعم وتضامن مع الشعب المصري (كما التونسي) هو بأشد الحاجة لها. لقد "فات ميعاد" العودة للوراء وبات المصريون بعيدين عن إرادات الخونة والمتاجرين بأقدارهم وعن مبارك ومشيئته.
تقييم:
0
0
إرث ثقيل
من قلب العفن تخرج الحياة
الالتفاف على المنجزات
ما يجري من تحركات عارمة منذ مطلع هذه السنة في بعض الدول العربية وعلى وجه الخصوص في تونس ومصر يبرز ثنائية الانسداد والتغيير بأفضل تجلياتها. إن زمن الثورات العربية قد أقبل مع تسارع وتيرة الحراك واستكمال سيرورتها بعدما حلت عقدة الخوف من الطغاة. لقد بدأ فعلاً العد العكسي لنموذج الرجل المريض (نفسياً وجسدياً) المتسلط على رقاب شعبه بعدما جرعه كأس الهوان حتى الثمالة.
والسؤال الذي يتبادر للذهن هو: ما مآل التحركات الشعبية التي حدثت مثلاً في الجزائر واليمن والأردن، وهل ستشهد تطوراً على غرار ما يحصل في تونس ومصر بعد إجهاض التحركات وهي في مهدها لاستمرار استقرار مستنقعي؟ ألا تضع التطورات المتسارعة علامات استفهام على مقولة أن المشكلة في الشعوب التي سمحت لسلاطينها أن تدوس على كراماتها وتنتهك حقوقها وهي صاغرة وصابرة على ضنك العيش طوال عقود؟
هل نحن أمام انتفاضات ستكبر ككرة الثلج عند جماهير كان قد غلب على أمرها من تضافر إرث استبداد الداخل ومطامع الخارج، أم أن العيون والآذان المتربصة من الجانبين لم تخسر جاهزيتها للانقضاض على الإنجازات وإجهاض الآمال بالتغيير والإصلاح الديمقراطي؟
إرث ثقيل
"
تراكم إرث مخيف من العسف والاستبداد واستشراء الفساد وانقضاض أقليات على حقوق الأكثرية في أوطان باتت أشبه بسجون يعم فيها الجهل والذل والتخلف والفقر والأمية
"
عوامل عديدة تشابكت خلال العقود المنصرمة، ليس أقلها الخارجية، لتفرض على المنطقة العربية وضعاً خانقاً بكل معنى الكلمة. تراكم إرث مخيف من العسف والاستبداد واستشراء الفساد وانقضاض أقليات على حقوق الأكثرية في أوطان باتت أشبه بسجون يعم فيها الجهل والذل والتخلف والفقر والأمية.
أتت بعد ذلك العشرية الماضية والتي أعقبت أحداث سبتمبر/ أيلول 2001 لتحمل معها الكوارث والهزات الارتدادية التي لم تتوقف تأثيراتها حتى الساعة. فكان العبث بالقوانين الدولية وعولمة حالة الطوارئ وإغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية واستشراء المحاكم الاستثنائية والسجون السرية واستباحة حقوق المساجين بابتكار وسائل تعذيب أشد فتكاً وضراوة.
علاوة على توالي الكوارث البيئية وتتابع الانهيارات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة والمجاعة وتشرد الملايين الإضافية، بما جعل مقولة إصلاح الحال من المحال أكثر راهنية. بلغت الأشياء حداً أصبحت معه قيم الشجاعة والكرامة والفضيلة واحترام الذات والحق بالاختلاف والتعددية وكل ما ينقل البشر من البربرية إلى الحضارة أشبه ما تكون بنكتة عند طوابير من البشر استباحتها جموع ممن سموا بمسؤولين دوليين وقادة محليين.
تحكم هؤلاء بالأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية على نسق ما تقوم به عصابات المافيا من استغلال للنفوذ وإذلال للشعوب وخيانة للأوطان وارتكاب جرائم تحت قشور من الطلاء الذي لا يخفي الرياء والفجور والنذالة والعمالة. فبات العلم والعقل نقمة والجهل نعمة في زمن إهدار الطاقات الخلاقة بالقمع الفظ أو بالنفي المجرم واستلاب جملة الحقوق السياسية والمدنية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
وصل الأمر لبيع الأوطان من قبل طغاة لم تسجل حقبهم سوى المزيد من الكوارث والهزائم ولم يخلفوا عند من تحكموا بمصائرهم سوى الشعور بالإحباط وتعزيز ثقافة الخوف وعدم الثقة بالآخر وكره الذات. لا بل تخطى ذلك لاختفاء شريحة واسعة من المحكومين خلف نوع من الذات المزيفة التي عندما تبلغ حداً متقدماً تصبح شكلاً من الباتولوجيا، مثلما هي أشكال العصاب وتعدد مظاهر الشخصية والذهان والذي منه انفصام الشخصية والبارانويا وغيره من أمراض نفسية تعيش معنا وبيننا. لكن الطامة الكبرى عندما تعتلي أكتافنا لتتحكم بمصائرنا ونحن طائعين صاغرين.
علماء النفس هم أكثر من نبهوا لعواقب هذه الجرائم الفعلية والرمزية في قتل الروح البشرية الخلاقة والطاقة الحيوية التي تنتج الإبداع وروح التحدي وكل ما من شأنه المساهمة ببناء عالم متقدم (ليس فقط تقنياً وإنما أخلاقياً وقيمياً). عالم يفترض بنا تسليمه لأبنائنا ومن سيأتون بعدنا مثلما ورثناه من آبائنا، إن لم يكن أفضل وفقاً لمبدأ التطور والتراكم المعرفي.
من قلب العفن تخرج الحياة
من قلب العفن تخرج الحياة، مقولة أخرى للمتفائلين بالحياة والمتبصرين بمنطق التاريخ. فالشرفاء والأحرار والعظماء الذين لم تغير خاماتهم الأصيلة والمعطاءة انتهاكات الأشرار لحقوقهم وعبث سماسرة الأوطان بمصائرهم هم من جسدوا أحلام التغيير.
إنهم المقاومون من فلسطين إلى العراق ولبنان ومصر وتونس والجزائر واليمن وغيرها من بلدان عربية الذين تصدوا بعقولهم وصدورهم لتزوير الواقع المعاش ولطغيان الظلم والغباء وكل من تاجروا بكرامتهم وزيفوا التاريخ والحقائق مظهرين الهزيمة إنجازات والخيانة انتصارات.
"
الشرفاء والأحرار والعظماء الذين لم تغير خاماتهم الأصيلة والمعطاءة انتهاكات الأشرار لحقوقهم وعبث سماسرة الأوطان بمصائرهم هم من جسدوا أحلام التغيير
"
بعطائهم ودمائهم راكموا للتحولات الإيجابية في حياة شعوبهم في معارك مقاومة الظلم وانتزاع حق تقرير المصير. هذه النخب السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية خطت الطريق واختلطت اليوم بالشبيبة التي نزلت لأرض الميدان لتنتفض وتقول كفى للظلم واستباحة الكرامات مشرّعة صدورها للرصاص الحي دون وجل من دفع ضريبة الدم.
تحية إكبار لكل هؤلاء ورحمة على أرواح من قدموا حياتهم ليحيا الوطن وكانوا الشمعة التي أضاءت الظلمات وأشعلت فتيل الثورات، بثباتهم على أرض الميدان وإيمانهم بأن الحقوق والحريات لا تمنح بل تنتزع، حققوا قفزات اختصرت عمر المعاناة.
للحفاظ على بلدهم تصرفوا بنبل وحس وطني وتكافل اجتماعي ولم يستسلموا لأعمال النهب والتحطيم والتعرض للمنشآت الحكومية التي ألصقها بهم مشبوهون. لم يعتمدوا على الدول الغربية التي اعتادت أن تقدم دروساً بالديمقراطية، فهم يعلمون أنها لن تمارس سوى ضغوط شكلية بالدعوات لإصلاحات وللتهدئة وضبط النفس، ليس إلا لحفظ خط الرجعة بحال تبدلت الأحوال أو لحين أن تبدّل هي مسار الأحداث.
فهموا أن جمعاً من قادتها السياسيين ووسائل إعلامها المأجورة والبعيدة عن الموضوعية ما زالت تفرك عيونها لتبصر وتصدق أن الشبيبة قد حققت بلحظة خاطفة ما خال لها أن الشعوب العربية القاصرة غير قادرة على إنجازه.
وحيث أغمضوا عيونهم طويلاً عن الانتهاكات الجسيمة لحقوقهم السياسية والاقتصادية من أجل مصالحهم، جاء خطابهم مرتبكاً وتأييدهم لتحركاتهم متأخراً وخجولاً. أيضاً لم يسمحوا لهذا الغرب أن يقسم صفوفهم بتصديق طغاتهم الذين استعملوا فزاعة الإسلام ليستمروا بالسلطة على حساب هنائهم.
وها هم يحطمون الصنم ليعيشوا على غرار المراهق الذي عليه أن يمر رمزياً على جسد أبيه كي ينتقل لمرحلة الرشد. لقد أقبل زمن الانتفاضات الشعبية والمقاومات المدنية، فإلى الأمام أيها الشباب، ويا شرفاء العالم العربي اتحدوا لبناء أنظمة سياسية جديرة بتسلم مقاليد أمورنا.
حيث الجميع يراقب بحذر ووجل التحركات المريبة لأعداء الثورة لتطويق وإجهاض الإنجازات التي حققت، شكلت الشبيبة في كل من تونس ومصر لجاناً لوضع رؤى لإنجاز الإصلاحات الكبرى.
فالفقر والجوع والمرض لم يولد وحده هذا الغضب العارم، بل العمالة والخيانة والتزوير الانتخابي والتآمر على الوطن والتفريط بوحدته ورهنه لمصالح العدو والدوس على الكرامات واستغناء عقول البشر. لقد اعتبروا أن كلمة "فهمتكم" لم تعد تكفي، وأن الوعود بالمراجعات والإصلاحات ليست سوى لكسب الوقت وإطالة أجل الانفجارات. وحيث إن تبديل بعض الأشخاص لا يغير الأنظمة وسياساتها، رأوا أن الدرب ما زال طويلاً قبل القضاء على مخلفات الاستعباد والاستبداد والفساد الذي امتد لعقود، وقبل إنجاز معركتي التنمية والديمقراطية.
"
الفقر والجوع والمرض لم يولد وحده الغضب العارم، بل العمالة والخيانة والتزوير الانتخابي والتآمر على الوطن والتفريط بوحدته ورهنه لمصالح العدو والدوس على الكرامات "
بعض ما طرحوه تجلى بوضع الرموز السياسية والأمنية وأفراد العائلة الحاكمة ومن نهب وانتهك حقوق الشعب تحت الإقامة الجبرية لإحالتهم للمحاكمة واسترداد الحقوق والتعويض على الممتلكات.
كذلك حل الحكومة والمجلس النيابي والحزب الحاكم، وتشكيل حكومة إنقاذ وطني في سبيل إعادة الانتخابات النيابية، بعد تعديل الدستور وتغيير بعض القوانين بما فيها قانون الإرهاب. أيضاً رفع حالة الطوارئ، تطبيق العفو التشريعي العام، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، ضمان حرية التعبير والرأي والتنظيم وتكوين الأحزاب والجمعيات، إلغاء القيود عن الصحافة ووسائل الإعلام والمطبوعات، احترام التعددية دون تمييز بين الفئات الاجتماعية، المحاسبة على هدر المال العام وتلقى الرشاوى، إصلاح المؤسسات التربوية والقضائية والأجهزة الأمنية، القضاء على البطالة وإيجاد فرص عمل للشباب مع تحديد حد أدنى مناسب للأجور، توفير شروط العودة لمن أرادوا من الذين هجروا والعمل لربطهم بوطنهم.
الالتفاف على المنجزات
من المعلوم أن العيون الساهرة في الخارج لنجدة أدواتها في الداخل والحؤول دون تحقيق الشعوب أحلامها لن تعرف الراحة وهي التي تملك وسائل عديدة تستبدل بها الحروب التقليدية للوصول للمبتغى. من ذلك تفخيخ الأرضية وتفتيت المجتمعات وتقسيم الجغرافيا بدس السموم في النفوس والعقول وزرع الجواسيس والعملاء في الزوايا.
وهم إن خسروا حليفاً وصديقاً كبيراً من أمثال طاغية تونس -حيث علاقات تعاون كبير يصفوها بالمميزة والتاريخية في شتى المجالات وبالخصوص الأمنية كانت تربطهم به- فلن يتركوا الساحة بعد رحيله.
لا بل سيعملون ليحل محله أناس من صنفه منزوعو الإرادة يقايضون بقاءهم في سدة الحكم بتنفيذ ما يوكل لهم من تعليمات تصب في خدمة المشروع الصهيو أميركي والغربي في فلسطين وتحول دون نهوض الأمة العربية.
القلق على التحركات في مصر بنوع خاص كبير ومشروع كون هذا البلد يشكل حجر الزاوية للتغييرات المأمولة في المنطقة. فهو رغم توقيع معاهدة "السلام" والتطبيع مع الصهاينة مستهدف بعدة مؤامرات. لقد أبعد عن موقع الريادة العربية ليصبح ضعيفاً ويقبل بشروط "الشراكة" مع الاحتلال عندما يوكل له مثلاً مهمة خنق الشعب الفلسطيني في غزة.
مصر مستهدفة أيضاً عبر إحداث التوترات بين طوائفها الدينية، وما شهدناه في وقت سابق في الإسكندرية لم يكن سوى حلقة من خطة أشمل تكرر سيناريو العراق. أما استهداف السودان لفصل جنوبه عن شماله فقد أفضى ليس فقط لوضع اليد على ثرواته النفطية وإنما أيضا للاستيلاء على مياه النيل.
الأمر الذي يضمن محاصرة مصر تمهيداً لغزوها في وقت لاحق كما ذهب إليه بعض المحللين. وكان قد أعلن عن اتفاقية تقاسم مياه النيل وبناء السدود على منابعه تبعت التحركات المكوكية لوزير خارجية إسرائيل لدول حوض النيل.
إذا لم يتمكن التحالف الأميركي الإسرائيلي من إطالة أمد حكم مبارك، فسيعمل كل ما بوسعه لحرمان المصريين من اختيار من يحكمهم. التغيير ما زال في فترة مخاض والجرائم بحقه مستمرة من طرف رجال أمن وبلطجية وقناصة ومأجورين يطلقون النار على المتظاهرين ويضاعفون أعداد الضحايا البريئة.
قد يكون للانتقام وبث الذعر وبسط الفوضى كي يقبل المصريون بما يفرض عليهم رغم كل ما دفعوه من دماء طاهرة للتغيير. بكل الأحوال عبث الأيادي المجرمة هذه يلفت النظر لتشابه مع ما سبق وحصل في العراق أثناء الفوضى التي عمت مع تهاوي النظام السابق والتي كشف فيما بعد أنها كانت بتخطيط من أعداء الأمة الذين حضّروا المؤامرة بإتقان. فهؤلاء ليسوا عابئين إلا بإكمال تنفيذ المخططات التي أعدوا لها.
"
فات ميعاد العودة للوراء وبات المصريون "بعاد" عن إرادات الخونة والمتاجرين بأقدارهم وعن مبارك ومشيئته
"
في محاضرة له في سبتمبر/ أيلول 2008، نشرها الصحفي القدير محمد سيف الدولة أكثر من مرة، قال آفى ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي "من مصلحة إسرائيل الحفاظ على الوضع الراهن ومواجهة أية تطورات لا يحمد عقباها، أي حدوث تحولات مناقضة لتقديراتنا باستمرار الوضع في مصر على حاله بعد رحيل مبارك... عيوننا وعيون الولايات المتحدة ترصد وتراقب بل وتتدخل من أجل كبح مثل هذه السيناريوهات لأنها ستكون كارثة بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة والغرب... (لدينا) شراكة أمنية مع أقوى جهازين لحماية الأمن الداخلي مباحث أمن الدولة والداخلية والقوات الخاضعة لها وجهاز المخابرات العامة... (علينا) الاحتفاظ بقوة تدخل سريع من المارينز في النقاط الحساسة في القاهرة وجاردن سيتى والجيزة والقاهرة (مصر الجديدة ) بإمكانها الانتشار خلال بضع ساعات والسيطرة على مراكز عصب الحياة في القاهرة... قررنا أن نعظم ونصعد من وتيرة تواجد ونشاط أجهزتنا التي تسهر على أمن الدولة وترصد التطورات داخل مصر الظاهرة منها والباطنة".
وكان مصطفى الفقي قد تحدث قبل سنة عن ضرورة الحصول على الموافقة الأميركية والقبول الإسرائيلي لأي رئيس مصري قادم.
لذا، يجد الشعب المصري نفسه اليوم وأكثر من أي وقت مضى مطالباً بالصمود لإفشال المخططات الرامية لإجهاض تحركاته من أجل تغيير حقيقي لنظامه الحالي.
كما أن الشرفاء في أرجاء الوطن العربي والعالم مدعوون لتشكيل لجان دعم وتضامن مع الشعب المصري (كما التونسي) هو بأشد الحاجة لها. لقد "فات ميعاد" العودة للوراء وبات المصريون بعيدين عن إرادات الخونة والمتاجرين بأقدارهم وعن مبارك ومشيئته.
تقييم:
0
0