عمر المختار
( عمر المختار)
من هو عمر المختار:
هو ابن المختار وابن عائلة من قبيلة المنفة عائلة فرحات من أكبر قبائل بادية برقة بليبيا ولد بالبطنان بمنطقة دفنة قرب مدينة طبرق سنة 1379هـ الموافق 1862م من أبوين عربيين وكفله أبوه وعني بتربيته فنشأ في بيت عز وكرم تحوطه شهامة العرب وحرية البادية وحوله مظاهر الفروسية ودواعي الاعتزاز بالنفس مما بعث في تلك النفس الكبيرة حب التضحية والانفة من الخضوع إلى من لم يجعل له دينه سلطاناً عليه.
ما كاد عمر المختار يبلغ السن التي تؤهله لحفظ القرآن حتى بعث به والده إلى زاوية الجغبوب التي كانت آنذاك من أكبر المراكز العلمية في شمال أفريقيا(1) بعد القاهرة، وبها مكتبة حوت ثمانية آلاف مجلد(2) في مختلف الموضوعات والعلوم مثل علم المنطق والتاريخ بالإضافة إلى العلوم الدينية واللغوية، كما تدرب فيها على بعض الفنون القتالية وأظهر براعته في ميدان الفروسية(3) كما وقد لفت المختار نظر معلميه لنجابته ورزانة عقله فصار موضع اهتمامهم وعنايتهم فما كاد يتم حفظ القرآن ودراسة بعض العلوم الأخرى حتى شاع ذكره وتناولته الألسن بالثناء واحترمه رؤساء القبائل العربية لمكانته العلمية والدينية بينهم ثم اشتغل بالتدريس. عندها ولاّه المهدي السنوسي شيخا على زاوية القصور الدينية بالجبل الأخضر فقام بتعليم أولاد المسلمين وأكرم كل من يأوي إلى تلك الزاوية من الفقراء وعابري السبيل، وفض المنازعات بين القبائل وسعى في مصالحها (4) مما جعل أفرادها يطيعون أمره وسار فيهم سيرة حسنة لفضله البادي في كل ناحية مما جعل المهدي السنوسي يثق فيه وخصّه بقيادة معركة واداي(5) ضد الفرنسيين في السودان وعينه نائباً عنه ليكون شيخاً لزاوية "أعين كلك" بالسودان وأسهم بدور فعال في نشر تعاليم الدين الاسلامي هناك مما زاد في شهرته داخل وخارج البلاد كما تمرّس أثناء الحروب ضد الفرنسيين (6) على أمور القتال وإدارة المعارك كما أن توليه لعدة مناصب دينية جعله يؤمن بعقيدته الإسلامية التي تحثه على الجهاد باعتباره فرض عين وأن حياة المسلم لا يعتد بها ما دامت حرماته ودينه ووطنه في خطر فيهون عليه كل مرتخص وغال في سبيل طرد الغزاة من البلاد ليستمتع بها أهلها في ظل حياة عربية إسلامية تحفها الطمأنينة والحرية.
كل هذا جعله يرفض الحلول الاستسلامية التي رضي بها إدريس السنوسي وارتمى في أحضان الطليان والانجليز ومما يوضح إيمان عمر المختار بحرية الانسان روده على مصرف المرج دودباشي "أما أعلم عنك أنك ارتكبت من الشدة مع الأهالي الخاضعين لكم ما دل على أنك رجل لا تريد الخير لهذا البلد" ورغم يقينه بأن المراسلات بينه وبين الطليان هي في الواقع بغرض الإيقاع به وليس بهدف الوصول إلى حل عادل ومناسب للقضية الوطنية ولكن نظار لتنشئته الدينية الروحية وإيمانه العميق بالله والوطن.
لبّى نداء الاجتماع مع الطليان ولكنه لم يفكر في التفريط بالقضية وكان دائما يدحض حجج المسؤولين الطليان ويحملهم مسؤولية فشل المفاوضات فقال "إنهم دائما يظهرون التشدد وفي كثير من الأحيان كانوا يخلفون وعودهم" وتأكيداً لصحة قول عمر المختار نجد أن المارشال بادوليو حاكم ليبيا العام في ذلك الوقت يخلف وعده بالرد الوقح حيث طلب مهلة ليحضر الموافقة على شروط بنود صلح سيدي ارحومة بالمرج سنة 1929م، كان الرد بقصف الطائرات للمجاهدين غير عابيء بشروط الهدنة ولا بأبسط الأمور الانسانية والأخلاقية ويرى المرء عقلية عمر المختار الناضجة وفكره المتفتح وحبه لوطنه ومواطنيه وأيضا فهمه العميق للنوايا والأهداف الحقيقية للاستعمار الإيطالي ووضوح في الرؤية والأهداف التي يقاتل من أجلها ويتضح ذلك من خلال رده على بادوليو الذي قال "لولا هذه الحرب لرأيت بلادك في حالة أخرى... فرد عمر المختار مستهزئاً به...
وهذا صحيح أن البلاد لولا هذه الحرب لما رأيت فيها عربيا يمشي على وجه هذه الأرض، بل رأيت فيها الإيطاليين وحدهم يحلون محل العرب في دورهم ومنازلهم وأراضيهم(7).
وتتمثل انسانية عمر المختار في أنه لا يكن العداء للشعب الإيطالي داخل الجزيرة الإيطالية بل أنه يمقت الفاشيست القتلة وهمجيتهم، ويقول في رسالة إلى أبناء وطنه: "ليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية... وها نحن الآن ندافع عن كياننا ونبذل دماءنا الزكية فداء للوطن وفي سبيل الوصول إلى غاياتنا المنشودة(8).
ومما تقدّم يتضح أن السيد عمر المختار في حركته وجهاده قد وضع لنفسه ولرفاقه في الجهاد برنامجاً متقدما للتضحية والفداء في سبيل القضية التي يدافعون عنها وهي قدسية الأرض وحق الليبيين في الحياة الكريمة على أرضهم وأنه قد نذر نفسه لهذ القضية وأن الإيمان "بالأرض والحرية" والجهاد في سبيلهما تستوي فيهما مسألة الموت والحياة إنما جاءت لابتلاء المؤمنين أيهم أكثر إيمانا بالحرية وأكثر ارتباطاً بالأرض وطلعاً للحياة الحرة السعيدة ولهذا كان السيد عمر المختار يردد دائماً "اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة"
وهكذا فإن حركة الجهاد الليبي كانت كفاحاً حقيقيا وأصيلاً شارك فيه الليبيون بنسب متفاوتة ولكنهم خاضوا بأصالة منذ بدايته الأولى وأن حركة الجهاد الليبي حركة تحمل مضامين اجماعية وسياسية وفكرية(9) جاعلة من الحرية ولا سيما تلك التي تتناقض مع وجود الاستعمار هدفا انسانيا نبيلا لها وهذا ما يفسر لماذا لم يضعف ولم يتردد السيد عمر المختار؟ أمام الهجوم الاستعماري العنيف على ليبيا ويكون في مقدمة من حملوا السلاح وقاوموا العدوان حتى النهاية وكما يبدو فإن إصدار عمر المختار على الكفاح يرجع إلى نشأته الدينية وثقافته العلمية(10) التي تؤمن بحرية الانسان فوق أرضه رغم تفاوت الموازين بين قوة المجاهدين والقوات الغازية.
إلا أن الطبيعة الاجتماعية للشعب الليبي كانت وراء صلابة وسرعة استجابته وقدرته على استيعاب التحدّي وأعطت الصحراء هذا الشعب الحرية اللامحدودة للحركة فامتزجت معطيات الحرية بمعطيات الشخصية وتكوينه وأصبح الدفاع عن الحرية يعني الدفاع عن الذات وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يضعف الانسان العربي في ليبيا أمام قوة الأعداء كما ارتبط النضال من أجل تحقيق حياة حرة في هذه الدنيا بالجهاد من أجل تأمين حياة خالدة في الحياة الآخرة بالاستشهاد في الدفاع عن الدين والوطن فكان الدفاع عن الدين والوطن السمة البارزة في حركة الجهاد الليبي حتى في حالة عدم توفر الوسائل الدفاعية الحديثة لمجابهة العدو وهذا ما أكده إصرار عمر المختار على موقفه الثابت لمواصلة الجهاد في حديث آه الذي وجهه إلى إدريس السنوسي وبعض المهاجرين الآخرين بمصر والذين حاولوا أن يثنوه عن عزمة في مواصلة الكفاح فقال: "... أي خير في أن أعيش مهاجراً ذليلاً على أن أعود إلى بلادي لأموت على ثراها فأودى آخر حق عليّ لله والوطن.."(11).
ولمّا أمعن ادريس السنوسي في محاولة إقناعه بأنه لا يستطيع المقاومة وعليه أن يترك الجبل الأخضر ويعود إلى ديار الهجرة بمصر فكان الرد القاطع بقوله: "لن أبرح الجبل الأخضر مدة حياتي ولن يستريح الطليان فيه حتى يواروا لحيتي في التراب.."(12). وصدق من قال أطلب الموت توهب لك الحياة فأين ذكر عمر المختار واستشهاده في سبيل الحرية؟
وموت أولئك المهاجرين الذين طوتهم صفحات النسيان واين أولئك الذين باعوا أنفسهم للشيطان واستلموا المرتبات والهدايا من المستعمرين(13) في حين أن عمر المختار رفض هدية بادوليو في سنة 1929م وكان قدرها مليون فرنك إيطالي وغير خاضعة لأي شروط ولكنه قال "بأنه ليس من طلاّب الهدايا ومن قابليها" وتجمع روايات المجاهدين على أنه بعد انتهاء مفاوضات الصلح في ذلك اليوم قدمت لعمر المختار وجبة غذائية في الدور وهي حبوب الشعير المقلية(14) فأين ذلك من الوجبات الدسمة التي كانوا يلتهمونها في قصور أسيادهم الفاشيست؟
----------
كفاحه ضد الغزاة الطليان:
منذ اللحظة الأولى للغزو الإيطالي هبّ عمر المختار للدفاع عن الوطن فكان في مقدمة المجاهدين الذين تصدّوا للعدوان الإيطالي واتخذ مركزه حول مرتفعات بنينه جنوبي بنغازي واشتبك مع الإيطاليين في عدة معارك وهاجمهم في بنغازي (159 وعقب وصول الضباط الأتراك إلى دور بنينه وجدوا عمر المختار أمامهم وقد واصل جهاده مع القوات التركية تحت إمرة القائد الجديد لدور بنينه عزيز علي المصري الذي سرعان ما ربطته بعمر المختار علاقات مودة وتقدير واستمر يلازمه حتى انتهت الحرب رسمياً بين تركيا وإيطاليا لصالح الأخيرة بموجب معاهدة أوشي لوزان في 18 أكتوبر 1912م والتي بمقتضاها انسحبت الحاميات التركية من طرابلس وبرقة وكما هو معلوم أن صلح لوزان قد وقع بدون مشورة العرب الليبيين بل بدون أن يعلموا به مما كان له تأثيرات سلبية على سير العمليات. فالقوة المعنوية للحرب كانت تعتمد على وجود العرب والترك متساندين في خندق واحد ضد عدو مشترك ولكن بعد المعاهدة يترك الليبيين يختارون لأنفسهم ما شاءوا وفي وقت لا يتسع(16
).
غير أن عمر المختار بخبرته الواسعة بشؤون المنطقة الممتدة من بنغازي غرباً وحتى تاكنس شرقاً ومعرفته بأهل هذه المنطقة جعل السيد أحمد الشريف يعيد تعيينه قائداً للدور الذي تكون غربي جردس الجراري وظل هذا الدور يقوم بوظيفته مع بقية الأدوار الأخرى التي أعاد بناءها أحمد الشريف كدور المدور وبشمال ودور جردس البراعصة ودور القطوفية جنوب بنغازي.
وهكذا استطاع عمر المختار استفزاز القبائل وقاد المجاهدين بصفته شيخاً لزاوية القصور الدينية وقائدا لدور جردس واستطاع أن يقود ويخطط للهجوم على الإيطاليين داخل مدينة بنغازي(17) واشترك مع المجاهدين يوم معركة السلاوي ضمن محاولات المجاهدين لإيقاف الإنزال الإيطالي بالمدينة كما ساعد في عمليات تجميع المجاهدين وإعداد المتطوعين لمقاومة جحافل الغزو واستمر كذلك حتى باشر أدريس السنوسي فتح باب المفاوضات مع الطليان والإنجليز ويقول غراتسياني: "... إن إدريس منذ أن تولى زعامة الحركة السنوسية حاول سياسة التقرب والتفاهم مع الإيطاليين... "(18).
وفعلا حدثت عدة مفاوضات بينه وبين الإيطاليين في الزويتينه 1916 وعكرمة 1917 ومن نتائجها أن تخلص إدريس من عمه، أحمد الشريف ونفاه إلى تركيا سنة 1918م(19). كما أن هذا الاتفاق مكن إيطاليا من تقليل جنودها المحليين أثناء الحرب العالمية الأولى وبالتالي ضغط المصروفات مما مكنها من العودة للحرب وهي أكثر قوة واستعداداً لملاقاة المجاهدين(20). ولم يكن عمر المختار إلا معارضا لتلك المفاوضات وبدأ يشن الحملات الدعائية ضد المستعمرين رغم تعرضه لإجراءات تحديد الإقامة من قبل ادريس السنوسي عندما أمره بالبقاء بعيدا بجالو حتى لا يعكر صفو المفاوضات(21).
كما اهتم عمر المختار في تلك الفترة الحرجة من تاريخ بلاده بقضية توحيد جبهات القتال بين المجاهدين في طرابلس وبرقة ضد العدو المشترك ويقول غراتسياني: "... في شهر يونيه 1922م قام بدعاية واسعة في عدة مناطق بالجبل الأخضر بخصوص وحدة ليبيا وحصل على توقيعات أكثر مشائخ القبائل وأعيان ووجهاء المدن والقرى على مضبطة لعرضها على زعماء طرابلس ومشائخها من أجل وحدة البلاد وتوحيد الصفوف لمحاربة إيطاليا والعمل سوياً، ثم طرد جيوشها من أجل وحدة البلاد وتوحيد الصفوف لمحاربة إيطالية والعمل سوياً، ثم طرد جيوشها من ليبيا..."(22).
واستمر عمر المختار في توحيد الجهود الوطنية إلى أن قرر إدريس السنوسي مغادرة البلاد بحجة العلاج بمصر وفي الحقيقة بعد ذلك هروباً من الساحة التي شهدت من تلك الفترة التصعيد الفاشيستي للموقف بينما القوة الوطنية على ابواب إعلان وحدة الجهاد الوطني ضد العدو ترك إدريس أمور البلاد تلعب بها العواصف. وأمام مصير مجهول وأصبح المجاهدون يبحثون عن شخصية وطنية قوية ذات مراس شديد تستطيع أن تضمّد الجروح وتعيد ترميم البناء المنهار، فوقع اختيارهم على عمر المختار الذي حنكته الايام والسنون اثناء حروبه ضد الفرنسيين في كورو وكلك وبركو(23).
إن سفرياته المتعددة داخل الوطن وخارجه أكسبته خبرة بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة وجالوا وأوجلة في الداخل، هذا بالإضافة إلى العلاقات والصلات الحميدة وأواصر المحبة والصداقة التي كان يحرص على إنشائها مع الكثيرين من مشائخ القبائل والزوايا ورجال العلم مكنت تلك الظروف عمر المختار من أن يكون ملماً بشؤون البيئة الوسط الذي يعيش فيه واستثمر عمر المختار تلك الخبرة فيما بعد لدفع حركة الجهاد إلى الأمام واكسبها الصمود والاستمرارية حيث عرف كيف يستفيد مما ينقد في قلوب حمية المجاهدين من حمية وكيف يفجر ما لديهم من الطاقة المخزنة على النضال والكفاح.
فبدأ بالتعبئة الوطنية الشاملة وعقد الاجتماعات المطولة مع مشائخ القبائل وتدارس معهم أمور البلاد والمقاومة وكيفية التصدّي للهجمة الفاشيستية الشرسة. وأثار تخلّي القيادة السنوسية عنهم فاستقر رأيهم على ضرورة مواصلة القتال واعتمدوا استراتيجية حرب العصابات "اضرب واهرب" واتخذوا من الجبل الأخضر مركزاً لقيادة المقاومة المؤلفة من رؤساء القبائل وقادة حركة الجهاد. وهكذا أصبح عمر المختار على رأس الحركة الوطنية ورئيساً لمعسكرات المجاهدين بالجبل الأخضر يساعده مجلس استشاري مهمته أنه في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطواريء والاسهام في حل المشاكل التي قد تحدق بالأوار.
وفعلاً تحملت قيادة المجاهدين الجديدة عبء التمويل والتسليح والتجنيد فالتزمت كل قبيلة بتطبيق هذا المبدأ ووفرت السلاح والمؤن والمتطوعين من افرادها والذين بلغوا خلال سنتي (1924 1925) حوال ثلاثة آلاف متطوع وفي رأيي هذا ما يميز حركة الجهاد من غيرها من الحركات الأخرى حيث أن المجاهدين كانوا يعتمدون على أنفسهم في توفير سلاحهم ووسائل ركوبهم وتموينهم.
فمن الحق أن نسمي ذلك جهاداً في سبيل الله والوطن كما يرجع الفضل في وضع تلك الأسس إلى عمر المختار الذي يعد هو محي ومرتب الثورة ضد الطليان(24) عقب سقوط حكومة اجدابيا. وقد خاض عمر المختار أولى معارك عودة الكفاح الوطني عند بئر الغبي في 5 رمضان 1331 و.ر الموافق 10 أبريل 1924/ 1925، حيث تصدّى هو ومجموعته إلى قافلة من السيارات الإيطالية وانتصروا عليها ودمروا ثلاث مدرعات منها، وتعدّ معركة بئر الغبي ذات طابع خاص في حركة الجهاد الليبي ونقطة البداية لثورة عمر المختار وأول معارك الجهاد بعد سقوط كومة اجدابيا ومن نتائجها أنها كانت الحافز لجميع أبناء القبائل الذين هبّوا للانضمام إلى الادوار عند سماعهم نبأ الانتصار وكانت فاتحة خير حيث بدأ عمر المختار يفتتح أدوار جديدة كما أعاد تنظيم الأدوار السابقة التي كان قدتصدع نظامها على يد ادريس السنوسي. وهكذا أعاد عمر المختار بناء الأدوار وأعاد تنظيم قوة كان العنصر الرئيسي فيها مستمداً من تلك الأدوار التي استولى عليها الطليان عقب هجومهم الغادر على معسكرات المجاهدين في ديسمبر 1922م والتفت تلك القوة حول عمر المختار تشد من ازره بخطط ويعد لشن الغارات المتلاحقة على مراكز وتجمعات العدو حتى أن السفاح غراتسياني اعترف بنفسه أن عمر المختار قد خاض ضده مائتين وثلاثة وستين معركة [263](26) في مدة لا تتجاوز عشرين شهراً، هذا عدا ما خاضه عمر المختار من معارك خلال عشرين سنة قبلها كان السيد عمر المختار يحمل فيها علم الجهاد لنجد أن عدد المعارك قارب ألفا ضحىّ خلالها الشعب الليبي بنصف عدده ليكون من حق النصف الآخر أن يعتزّ بما بذلك في سبيل حريته وكرامته الانسانية كما أننا نعتبر عمر المختار مبدع حرب العصابات "الحرب الخاطفة" التي عرفت أخيرا في فيتنام وغيرها على أنها أنجح طرق المقاومة غير المتكافئة حيث الجيوش الإيطالية الجرارة والأعداد الهائلة من المعدات والاسلحة الأوتوماتيكية والمدافع والقنابل كما استخدمت الطائرات الحربية لأول مرة في تاريخ الحروب ضد بضعة من المؤمنين بحقهم في الحياة الكريمة على أرضهم يحملون أعتق أنواع الاسلحة اليدوية مكبّدين بها العدو افدح الخسائر لاعتمادهم فقط على عنصر المباغتة والكر والفر وأن يتفادوا حرب المواجهة مع عدو يفوقهم عددا وعدة مما جعلهم يقضون مضاجعهم ويعوقون تقدّمه كما اعترف غراتسياني نفسه [بأن عمر المختار صاحب فكر ثاقب وعقلية راجحة](27).
ولقد انطوت استراتيجية عمر المختار عقب توليه قيادة الحركة الوطنية هي الاعتماد على الذات والمصادر المحلية بالإضافة إلى ربط أهم الصلات بالأهالي المستسلمين ظاهرياً للسلطات الإيطالية في حين أنهم هم سند لحركة الجهاد يمدونها بالمال والمعلومات والأسلحة والذخيرة وهم بالتالي يساهمون في إلحاق الهزائم المنكرة بالأعداء
وعلى سبيل المثال تبرع المجندون الليبيون مع الطليان بجزء من مرتباتهم كمساعدة للمجاهدين كما أخفى البعض الآخر الذخيرة في التراب وجعلوا إشارة متفقاً عليها مع المجاهدين لتدلهم على مكان إخفاء الذخيرة كما أطلق بعضهم النار بالهواء ليوهم الإيطاليين بأنه يحارب إلى جانبهم وتعد حادثة معركة الرحيبة في مارس 1927م هي أصدق مثال على التعاون بين المجاهدين والمجندين مع الطليان حيث كانت الهزيمة الساحقة للقوات الإيطالية في حين أن الأقسام الليبيين كما تسميها المصادر الإيطالية لم تطلق إلا عيارات نارية قليلة في الهواء وهذا ما اشار إليه غراتسياني "أما الأقسام الليبية فلم تقم بالأعمال الموكلة لها لأن تأثير عمر المختار في حقوقهم كان كثيرا.."(29).
هذا بالإضافة إلى المساعدات التي كان يقدمها الأهالي من زكاة العشر عن مواشيهم وممتلكاتهم وما يقدمونه من تبرعات لحركة الجهاد في الخفاء بالإضافة إلى المعلومات حول تحركات العدو مما أفشل جل الخطط الإيطالية لمباغتة الأدوار. كل ذلك جعل القيادة الإيطالية تدرس بدقة عوامل صمود المقاومة الوطنية في ليبيا. واستعانت بالمخلصين لها من أبناء البلاد الذين أشاروا عليها بأن تقطع دابر الأهالي المستسلمين لها ظاهريا وأن تقطع كل صلة لهم بالمجاهدين.
وهكذا ابتلع الإيطاليون فكرة اعتقال جماهير الشعب الليبي لوضع فاصل من الأرض بين الأهالي المستسلمين بالمدن والقرى المحتلة وبين ذويهم من المجاهدين وبالتالي قطع كل وسائل الاتصال بين الجانبين وفعلاً ثم تطبيق الفكرة على يد السفاح غراتسياني ومع بداية سنة 1930م تم ترحيل الناس من جهة البطنان ومساعد والبردى وطبرق وضواحيها وحشروا بمعتقل عين الغزالة كمركز تجميع وأيضا نقل سكان الشريط الساحلي وبنغازي وضواحيها بمركز تجميع قمينس، وآخر الأمر صدرت التعليمات بحشرهم جميعاً في معسكرات اعتقال جماعية عرفت بالمقرون وسلوق والعقيلة والبريقة وشملت تلك المعسكرات حوالي 126 ألف نسمة(29) بقوا داخل أسلاك شائكة ووفق ممارسات لا انسانية من تعذيب وشنق وتجويع واستمرت المعتقلات تعجّ بالبشر طيلة أربع سنوات وفتكت أمراض المجاعة وسوء الرعاية الصحية والاهمال والتعذيب بحوالي 190 ألف نسمة.
ورجع الثلث الآخر إلى مواطنهم السابقة شبه موتى أو أنصاف أحياء يحملون معهم معاناة تلك السنوات المريرة من هزال وشلل وكساح وفقد البصر وفقدوا القدرة علىالعمل والانجاب وأحيطوا مرة ثانية بالأسلاك الشائكة بمراكز أمنية أخرى بمواطنهم الأصلية طيلة سسنتين حتى حدوث حرب الحبشة في سنة 1935م وذلك لاختبار جذوة الثورة بهم واشتغل البعض منهم موقود لتلك الحرب في الحبشة ويمكن حصر خسائر حرب التحرير الليبية بحوالي 750 ألف نسمة منهم من مات في المعتقلات ومنهم شهداء الحرب هذا بالإضافة إلى من مات بالحبشة ومن هاجر ولم يعد.
أما الخسائر المادية حيث قضي على ما يقارب من مليون رأس من الماشية(30)، وحرمان أبناء البلاد من أهم مصادر الرزق عندما استولت الشركات الإيطالية مثل الانبس والانتي على معظم الاراضي الصالحة للزراعة وتم استصلاحها وتسليمها للمستوطنين الطليان وأصبح أهل البلاد يبحثون عن قوتهم وسط جحيم الحروب أو في أقبية المطاعم الإيطالية كخدم منازل واضطر بعضهم الآخر إلى السفر إلى إيطاليا وفق الضغوط والاغراءات الإيطالية بتوفير العمل هناك ولم يعد العدد الكبير منهم حتى الوقت الحاضر(31).
--------
المحكمة الصورية:
بينما كان عمر المختار في سرية من المجاهدين تعد خمسين مجاهداً، أثناء عملية استكشافية لموقع العدو لرصد تحركاته وإذا به يفاجأ وهو في أحد الوديان بطلائع جيش العدو المكونة من أربعة فرق تحت قيادة أمهر القادة العسكريين الإيطاليين أمثال "ابياتي" والذين تعرفوا على مكان وجود عمر المختار عن طريق الجواسيس والمتعاونين معهم ووجد عمر المختار نفسه نطوقا من جميع الجهات فأمر أصحابه بالهجوم لفتح ثغرة في صفوف العدو ولكن دون جدوى. فالكثرة تغلب الشجاعة فكلما أبادوا فرقة اعترضتهم الأخرى حتى نفدت الذخيرة من المجاهدين واستشهد أغلبهم وقتل جواد عمر المختار وأصيب هو بعدة جروح وكسور في عظام اليد، فالتفت حوله جنود العدو واصبح منذ تلك اللحظة ذلك الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية في ليبيا(32)، أسيراً في أيدي القوات الإيطالية. علم السفّاح اغراتسياني بذلك في روما فقطع اجازته وجاء إلى ليبيا ليتفق مع بادوليو على اجراء محاكمة سريعة وخاطفة للحكم عليه بالإعدام وهذا ما اشارت به البرقية الموجهة من بادوليو إلى غراتسياني في تاريخ 14/9/1931م وبها يؤكد أن محاكمة الشهيد عمر المختار لا بدّ أن تنتهي بإصدار حكم الإعدام عليه وأنه يجب أن ينفد علنياً داخل أحد معسكرات التجميع والاعتقال(33). "إذن فهم يحكمون بالموت على الناس لكل شيء.."(34).
وطلب غراتسياني إحضار عمر المختار فأحضر إليه مكبلاً بالحديد رغم الجروح والكسور ويعترف غراتسياني: "... بأن هذا الوطني الذي يمثل أمامه هو رجل لا كالرجال..".
وسأله غراتسياني: لماذا تحارب دون هوادة الحكومة الفاشستية؟
فرد عمر المختار: دون وطني وديني.
ومن ردود عمر المختار على أسئلة غراتسياني أنه قال:
"... حربنا لكم فرض علينا لأنكم مغتصبون...".
وفي مساء اليوم ذاته الثلاثاء 15/9/1931م عقدت المحاكمة التي لم تستغرق سوى أقل من 75 دقيقة(35) وهو أمر لم يجر مثله في الاعراف الدولية ووجهت إليه تهمة الاعتداء على سلامة الدولة وعلى أمن البلاد تهمة قطع الطريق:
أجل عمر المختار القائد الوطني الشجاع العظيم
ها هو في نظر المستعمرين قاطع طريق مجرد اختلال في الموازين: المدافع عن وطنه ضد الغاصبين يصبح في قفص الاتهام معتدياً على سلامة الدولة الإيطالية وكأنه ذهب لمحاربتها في عقر دارها، ثم طلب النائب العام الإيطالي الحكم على عمر المختار بالإعدام وعندما سئل المحامي الإيطالي المنتدب للدفاع عنه وما الذي ينتظر منه كضابط تربى في مدرسة الاستعلاء الفاشيستي؟ وكيف يكون خصماً وحكماً عدواً ومحامياً؟
سئل المحامي ما إذا كان لديه ما يعلق به على كلام النائب العام بغرض الامعان في المهزلة التي نسجت خيوطها في أفكار الفاشيست الطليان لإيهام الرأي العام العالمي والعربي والاسلامي بأنه تم تكليف محام للدفاع عن عمر المختار في حين أن أعواد المشنقة قد نصبت بمدينة سلوق قبل ذلك بيوم أو اثنين ليشهد أبناء ليبيا إعدام عمر المختار إمعاناً في بث الرعب والخوف في قلوبهم وكان المحامي ممثلا بارعاً ولكنه حادت به انسانيته قليلاً عن أهداف الفاشيست فدافع بنوع من المنطقية والمعقولية حيث اشار إلى كبر سن عمر المختار الذي ناهز السبعين وطلب من المحكمة احترام شيخوخته وتبديل حكم الإعدام عليه بالسجن المؤبد كما اشار المحامي بأن عمر المختار رجل يدافع عن وطنه ودينه ومن حقّه أن قاوم لأن الطبيعة الانسانية منحته حق الدفاع عن أرضه ودينه، وهنا عرف الفاشيست بأن المحامي قد حاد عن مبادئهم التي تجيز القتل والدمار دون أدنى اعتبار للإنسانية، فارتفعت صيحات الغوغائيين الفاشيست مطالبة بطرد المحامي ورفعت الجلسة للمداولة، ثم أعلن القاضي الحكم على عمر المختار بالإعدام شنقاً حتى الموت وصعدت روح البطل إلى بارئها وأصبح منذ ذلك اليوم المشهود شيخاً للشهداء بعد أن قضى مدة اثنين وعشرين سنة شيخاً للمجاهدين وقد خلد ذكراه الشعراء والأدباء
فقد قال أحمد شوقي:
يـا ويحهم نصبوا منــاراً من دم يوحي إلى جيل الغـد البغضاء
جـرح يصبح على المدى وضحية تتلمس الحريـــة الحمـراء
وخاطب شوقي عمر المختار بقوله:
خيرت فاخترت المبيت على الطوى لم تبـن جاها أو تلم ثــراء
من هو عمر المختار:
هو ابن المختار وابن عائلة من قبيلة المنفة عائلة فرحات من أكبر قبائل بادية برقة بليبيا ولد بالبطنان بمنطقة دفنة قرب مدينة طبرق سنة 1379هـ الموافق 1862م من أبوين عربيين وكفله أبوه وعني بتربيته فنشأ في بيت عز وكرم تحوطه شهامة العرب وحرية البادية وحوله مظاهر الفروسية ودواعي الاعتزاز بالنفس مما بعث في تلك النفس الكبيرة حب التضحية والانفة من الخضوع إلى من لم يجعل له دينه سلطاناً عليه.
ما كاد عمر المختار يبلغ السن التي تؤهله لحفظ القرآن حتى بعث به والده إلى زاوية الجغبوب التي كانت آنذاك من أكبر المراكز العلمية في شمال أفريقيا(1) بعد القاهرة، وبها مكتبة حوت ثمانية آلاف مجلد(2) في مختلف الموضوعات والعلوم مثل علم المنطق والتاريخ بالإضافة إلى العلوم الدينية واللغوية، كما تدرب فيها على بعض الفنون القتالية وأظهر براعته في ميدان الفروسية(3) كما وقد لفت المختار نظر معلميه لنجابته ورزانة عقله فصار موضع اهتمامهم وعنايتهم فما كاد يتم حفظ القرآن ودراسة بعض العلوم الأخرى حتى شاع ذكره وتناولته الألسن بالثناء واحترمه رؤساء القبائل العربية لمكانته العلمية والدينية بينهم ثم اشتغل بالتدريس. عندها ولاّه المهدي السنوسي شيخا على زاوية القصور الدينية بالجبل الأخضر فقام بتعليم أولاد المسلمين وأكرم كل من يأوي إلى تلك الزاوية من الفقراء وعابري السبيل، وفض المنازعات بين القبائل وسعى في مصالحها (4) مما جعل أفرادها يطيعون أمره وسار فيهم سيرة حسنة لفضله البادي في كل ناحية مما جعل المهدي السنوسي يثق فيه وخصّه بقيادة معركة واداي(5) ضد الفرنسيين في السودان وعينه نائباً عنه ليكون شيخاً لزاوية "أعين كلك" بالسودان وأسهم بدور فعال في نشر تعاليم الدين الاسلامي هناك مما زاد في شهرته داخل وخارج البلاد كما تمرّس أثناء الحروب ضد الفرنسيين (6) على أمور القتال وإدارة المعارك كما أن توليه لعدة مناصب دينية جعله يؤمن بعقيدته الإسلامية التي تحثه على الجهاد باعتباره فرض عين وأن حياة المسلم لا يعتد بها ما دامت حرماته ودينه ووطنه في خطر فيهون عليه كل مرتخص وغال في سبيل طرد الغزاة من البلاد ليستمتع بها أهلها في ظل حياة عربية إسلامية تحفها الطمأنينة والحرية.
كل هذا جعله يرفض الحلول الاستسلامية التي رضي بها إدريس السنوسي وارتمى في أحضان الطليان والانجليز ومما يوضح إيمان عمر المختار بحرية الانسان روده على مصرف المرج دودباشي "أما أعلم عنك أنك ارتكبت من الشدة مع الأهالي الخاضعين لكم ما دل على أنك رجل لا تريد الخير لهذا البلد" ورغم يقينه بأن المراسلات بينه وبين الطليان هي في الواقع بغرض الإيقاع به وليس بهدف الوصول إلى حل عادل ومناسب للقضية الوطنية ولكن نظار لتنشئته الدينية الروحية وإيمانه العميق بالله والوطن.
لبّى نداء الاجتماع مع الطليان ولكنه لم يفكر في التفريط بالقضية وكان دائما يدحض حجج المسؤولين الطليان ويحملهم مسؤولية فشل المفاوضات فقال "إنهم دائما يظهرون التشدد وفي كثير من الأحيان كانوا يخلفون وعودهم" وتأكيداً لصحة قول عمر المختار نجد أن المارشال بادوليو حاكم ليبيا العام في ذلك الوقت يخلف وعده بالرد الوقح حيث طلب مهلة ليحضر الموافقة على شروط بنود صلح سيدي ارحومة بالمرج سنة 1929م، كان الرد بقصف الطائرات للمجاهدين غير عابيء بشروط الهدنة ولا بأبسط الأمور الانسانية والأخلاقية ويرى المرء عقلية عمر المختار الناضجة وفكره المتفتح وحبه لوطنه ومواطنيه وأيضا فهمه العميق للنوايا والأهداف الحقيقية للاستعمار الإيطالي ووضوح في الرؤية والأهداف التي يقاتل من أجلها ويتضح ذلك من خلال رده على بادوليو الذي قال "لولا هذه الحرب لرأيت بلادك في حالة أخرى... فرد عمر المختار مستهزئاً به...
وهذا صحيح أن البلاد لولا هذه الحرب لما رأيت فيها عربيا يمشي على وجه هذه الأرض، بل رأيت فيها الإيطاليين وحدهم يحلون محل العرب في دورهم ومنازلهم وأراضيهم(7).
وتتمثل انسانية عمر المختار في أنه لا يكن العداء للشعب الإيطالي داخل الجزيرة الإيطالية بل أنه يمقت الفاشيست القتلة وهمجيتهم، ويقول في رسالة إلى أبناء وطنه: "ليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية... وها نحن الآن ندافع عن كياننا ونبذل دماءنا الزكية فداء للوطن وفي سبيل الوصول إلى غاياتنا المنشودة(8).
ومما تقدّم يتضح أن السيد عمر المختار في حركته وجهاده قد وضع لنفسه ولرفاقه في الجهاد برنامجاً متقدما للتضحية والفداء في سبيل القضية التي يدافعون عنها وهي قدسية الأرض وحق الليبيين في الحياة الكريمة على أرضهم وأنه قد نذر نفسه لهذ القضية وأن الإيمان "بالأرض والحرية" والجهاد في سبيلهما تستوي فيهما مسألة الموت والحياة إنما جاءت لابتلاء المؤمنين أيهم أكثر إيمانا بالحرية وأكثر ارتباطاً بالأرض وطلعاً للحياة الحرة السعيدة ولهذا كان السيد عمر المختار يردد دائماً "اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة"
وهكذا فإن حركة الجهاد الليبي كانت كفاحاً حقيقيا وأصيلاً شارك فيه الليبيون بنسب متفاوتة ولكنهم خاضوا بأصالة منذ بدايته الأولى وأن حركة الجهاد الليبي حركة تحمل مضامين اجماعية وسياسية وفكرية(9) جاعلة من الحرية ولا سيما تلك التي تتناقض مع وجود الاستعمار هدفا انسانيا نبيلا لها وهذا ما يفسر لماذا لم يضعف ولم يتردد السيد عمر المختار؟ أمام الهجوم الاستعماري العنيف على ليبيا ويكون في مقدمة من حملوا السلاح وقاوموا العدوان حتى النهاية وكما يبدو فإن إصدار عمر المختار على الكفاح يرجع إلى نشأته الدينية وثقافته العلمية(10) التي تؤمن بحرية الانسان فوق أرضه رغم تفاوت الموازين بين قوة المجاهدين والقوات الغازية.
إلا أن الطبيعة الاجتماعية للشعب الليبي كانت وراء صلابة وسرعة استجابته وقدرته على استيعاب التحدّي وأعطت الصحراء هذا الشعب الحرية اللامحدودة للحركة فامتزجت معطيات الحرية بمعطيات الشخصية وتكوينه وأصبح الدفاع عن الحرية يعني الدفاع عن الذات وهذا ما يفسر لنا لماذا لم يضعف الانسان العربي في ليبيا أمام قوة الأعداء كما ارتبط النضال من أجل تحقيق حياة حرة في هذه الدنيا بالجهاد من أجل تأمين حياة خالدة في الحياة الآخرة بالاستشهاد في الدفاع عن الدين والوطن فكان الدفاع عن الدين والوطن السمة البارزة في حركة الجهاد الليبي حتى في حالة عدم توفر الوسائل الدفاعية الحديثة لمجابهة العدو وهذا ما أكده إصرار عمر المختار على موقفه الثابت لمواصلة الجهاد في حديث آه الذي وجهه إلى إدريس السنوسي وبعض المهاجرين الآخرين بمصر والذين حاولوا أن يثنوه عن عزمة في مواصلة الكفاح فقال: "... أي خير في أن أعيش مهاجراً ذليلاً على أن أعود إلى بلادي لأموت على ثراها فأودى آخر حق عليّ لله والوطن.."(11).
ولمّا أمعن ادريس السنوسي في محاولة إقناعه بأنه لا يستطيع المقاومة وعليه أن يترك الجبل الأخضر ويعود إلى ديار الهجرة بمصر فكان الرد القاطع بقوله: "لن أبرح الجبل الأخضر مدة حياتي ولن يستريح الطليان فيه حتى يواروا لحيتي في التراب.."(12). وصدق من قال أطلب الموت توهب لك الحياة فأين ذكر عمر المختار واستشهاده في سبيل الحرية؟
وموت أولئك المهاجرين الذين طوتهم صفحات النسيان واين أولئك الذين باعوا أنفسهم للشيطان واستلموا المرتبات والهدايا من المستعمرين(13) في حين أن عمر المختار رفض هدية بادوليو في سنة 1929م وكان قدرها مليون فرنك إيطالي وغير خاضعة لأي شروط ولكنه قال "بأنه ليس من طلاّب الهدايا ومن قابليها" وتجمع روايات المجاهدين على أنه بعد انتهاء مفاوضات الصلح في ذلك اليوم قدمت لعمر المختار وجبة غذائية في الدور وهي حبوب الشعير المقلية(14) فأين ذلك من الوجبات الدسمة التي كانوا يلتهمونها في قصور أسيادهم الفاشيست؟
----------
كفاحه ضد الغزاة الطليان:
منذ اللحظة الأولى للغزو الإيطالي هبّ عمر المختار للدفاع عن الوطن فكان في مقدمة المجاهدين الذين تصدّوا للعدوان الإيطالي واتخذ مركزه حول مرتفعات بنينه جنوبي بنغازي واشتبك مع الإيطاليين في عدة معارك وهاجمهم في بنغازي (159 وعقب وصول الضباط الأتراك إلى دور بنينه وجدوا عمر المختار أمامهم وقد واصل جهاده مع القوات التركية تحت إمرة القائد الجديد لدور بنينه عزيز علي المصري الذي سرعان ما ربطته بعمر المختار علاقات مودة وتقدير واستمر يلازمه حتى انتهت الحرب رسمياً بين تركيا وإيطاليا لصالح الأخيرة بموجب معاهدة أوشي لوزان في 18 أكتوبر 1912م والتي بمقتضاها انسحبت الحاميات التركية من طرابلس وبرقة وكما هو معلوم أن صلح لوزان قد وقع بدون مشورة العرب الليبيين بل بدون أن يعلموا به مما كان له تأثيرات سلبية على سير العمليات. فالقوة المعنوية للحرب كانت تعتمد على وجود العرب والترك متساندين في خندق واحد ضد عدو مشترك ولكن بعد المعاهدة يترك الليبيين يختارون لأنفسهم ما شاءوا وفي وقت لا يتسع(16
).
غير أن عمر المختار بخبرته الواسعة بشؤون المنطقة الممتدة من بنغازي غرباً وحتى تاكنس شرقاً ومعرفته بأهل هذه المنطقة جعل السيد أحمد الشريف يعيد تعيينه قائداً للدور الذي تكون غربي جردس الجراري وظل هذا الدور يقوم بوظيفته مع بقية الأدوار الأخرى التي أعاد بناءها أحمد الشريف كدور المدور وبشمال ودور جردس البراعصة ودور القطوفية جنوب بنغازي.
وهكذا استطاع عمر المختار استفزاز القبائل وقاد المجاهدين بصفته شيخاً لزاوية القصور الدينية وقائدا لدور جردس واستطاع أن يقود ويخطط للهجوم على الإيطاليين داخل مدينة بنغازي(17) واشترك مع المجاهدين يوم معركة السلاوي ضمن محاولات المجاهدين لإيقاف الإنزال الإيطالي بالمدينة كما ساعد في عمليات تجميع المجاهدين وإعداد المتطوعين لمقاومة جحافل الغزو واستمر كذلك حتى باشر أدريس السنوسي فتح باب المفاوضات مع الطليان والإنجليز ويقول غراتسياني: "... إن إدريس منذ أن تولى زعامة الحركة السنوسية حاول سياسة التقرب والتفاهم مع الإيطاليين... "(18).
وفعلا حدثت عدة مفاوضات بينه وبين الإيطاليين في الزويتينه 1916 وعكرمة 1917 ومن نتائجها أن تخلص إدريس من عمه، أحمد الشريف ونفاه إلى تركيا سنة 1918م(19). كما أن هذا الاتفاق مكن إيطاليا من تقليل جنودها المحليين أثناء الحرب العالمية الأولى وبالتالي ضغط المصروفات مما مكنها من العودة للحرب وهي أكثر قوة واستعداداً لملاقاة المجاهدين(20). ولم يكن عمر المختار إلا معارضا لتلك المفاوضات وبدأ يشن الحملات الدعائية ضد المستعمرين رغم تعرضه لإجراءات تحديد الإقامة من قبل ادريس السنوسي عندما أمره بالبقاء بعيدا بجالو حتى لا يعكر صفو المفاوضات(21).
كما اهتم عمر المختار في تلك الفترة الحرجة من تاريخ بلاده بقضية توحيد جبهات القتال بين المجاهدين في طرابلس وبرقة ضد العدو المشترك ويقول غراتسياني: "... في شهر يونيه 1922م قام بدعاية واسعة في عدة مناطق بالجبل الأخضر بخصوص وحدة ليبيا وحصل على توقيعات أكثر مشائخ القبائل وأعيان ووجهاء المدن والقرى على مضبطة لعرضها على زعماء طرابلس ومشائخها من أجل وحدة البلاد وتوحيد الصفوف لمحاربة إيطاليا والعمل سوياً، ثم طرد جيوشها من أجل وحدة البلاد وتوحيد الصفوف لمحاربة إيطالية والعمل سوياً، ثم طرد جيوشها من ليبيا..."(22).
واستمر عمر المختار في توحيد الجهود الوطنية إلى أن قرر إدريس السنوسي مغادرة البلاد بحجة العلاج بمصر وفي الحقيقة بعد ذلك هروباً من الساحة التي شهدت من تلك الفترة التصعيد الفاشيستي للموقف بينما القوة الوطنية على ابواب إعلان وحدة الجهاد الوطني ضد العدو ترك إدريس أمور البلاد تلعب بها العواصف. وأمام مصير مجهول وأصبح المجاهدون يبحثون عن شخصية وطنية قوية ذات مراس شديد تستطيع أن تضمّد الجروح وتعيد ترميم البناء المنهار، فوقع اختيارهم على عمر المختار الذي حنكته الايام والسنون اثناء حروبه ضد الفرنسيين في كورو وكلك وبركو(23).
إن سفرياته المتعددة داخل الوطن وخارجه أكسبته خبرة بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة وجالوا وأوجلة في الداخل، هذا بالإضافة إلى العلاقات والصلات الحميدة وأواصر المحبة والصداقة التي كان يحرص على إنشائها مع الكثيرين من مشائخ القبائل والزوايا ورجال العلم مكنت تلك الظروف عمر المختار من أن يكون ملماً بشؤون البيئة الوسط الذي يعيش فيه واستثمر عمر المختار تلك الخبرة فيما بعد لدفع حركة الجهاد إلى الأمام واكسبها الصمود والاستمرارية حيث عرف كيف يستفيد مما ينقد في قلوب حمية المجاهدين من حمية وكيف يفجر ما لديهم من الطاقة المخزنة على النضال والكفاح.
فبدأ بالتعبئة الوطنية الشاملة وعقد الاجتماعات المطولة مع مشائخ القبائل وتدارس معهم أمور البلاد والمقاومة وكيفية التصدّي للهجمة الفاشيستية الشرسة. وأثار تخلّي القيادة السنوسية عنهم فاستقر رأيهم على ضرورة مواصلة القتال واعتمدوا استراتيجية حرب العصابات "اضرب واهرب" واتخذوا من الجبل الأخضر مركزاً لقيادة المقاومة المؤلفة من رؤساء القبائل وقادة حركة الجهاد. وهكذا أصبح عمر المختار على رأس الحركة الوطنية ورئيساً لمعسكرات المجاهدين بالجبل الأخضر يساعده مجلس استشاري مهمته أنه في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطواريء والاسهام في حل المشاكل التي قد تحدق بالأوار.
وفعلاً تحملت قيادة المجاهدين الجديدة عبء التمويل والتسليح والتجنيد فالتزمت كل قبيلة بتطبيق هذا المبدأ ووفرت السلاح والمؤن والمتطوعين من افرادها والذين بلغوا خلال سنتي (1924 1925) حوال ثلاثة آلاف متطوع وفي رأيي هذا ما يميز حركة الجهاد من غيرها من الحركات الأخرى حيث أن المجاهدين كانوا يعتمدون على أنفسهم في توفير سلاحهم ووسائل ركوبهم وتموينهم.
فمن الحق أن نسمي ذلك جهاداً في سبيل الله والوطن كما يرجع الفضل في وضع تلك الأسس إلى عمر المختار الذي يعد هو محي ومرتب الثورة ضد الطليان(24) عقب سقوط حكومة اجدابيا. وقد خاض عمر المختار أولى معارك عودة الكفاح الوطني عند بئر الغبي في 5 رمضان 1331 و.ر الموافق 10 أبريل 1924/ 1925، حيث تصدّى هو ومجموعته إلى قافلة من السيارات الإيطالية وانتصروا عليها ودمروا ثلاث مدرعات منها، وتعدّ معركة بئر الغبي ذات طابع خاص في حركة الجهاد الليبي ونقطة البداية لثورة عمر المختار وأول معارك الجهاد بعد سقوط كومة اجدابيا ومن نتائجها أنها كانت الحافز لجميع أبناء القبائل الذين هبّوا للانضمام إلى الادوار عند سماعهم نبأ الانتصار وكانت فاتحة خير حيث بدأ عمر المختار يفتتح أدوار جديدة كما أعاد تنظيم الأدوار السابقة التي كان قدتصدع نظامها على يد ادريس السنوسي. وهكذا أعاد عمر المختار بناء الأدوار وأعاد تنظيم قوة كان العنصر الرئيسي فيها مستمداً من تلك الأدوار التي استولى عليها الطليان عقب هجومهم الغادر على معسكرات المجاهدين في ديسمبر 1922م والتفت تلك القوة حول عمر المختار تشد من ازره بخطط ويعد لشن الغارات المتلاحقة على مراكز وتجمعات العدو حتى أن السفاح غراتسياني اعترف بنفسه أن عمر المختار قد خاض ضده مائتين وثلاثة وستين معركة [263](26) في مدة لا تتجاوز عشرين شهراً، هذا عدا ما خاضه عمر المختار من معارك خلال عشرين سنة قبلها كان السيد عمر المختار يحمل فيها علم الجهاد لنجد أن عدد المعارك قارب ألفا ضحىّ خلالها الشعب الليبي بنصف عدده ليكون من حق النصف الآخر أن يعتزّ بما بذلك في سبيل حريته وكرامته الانسانية كما أننا نعتبر عمر المختار مبدع حرب العصابات "الحرب الخاطفة" التي عرفت أخيرا في فيتنام وغيرها على أنها أنجح طرق المقاومة غير المتكافئة حيث الجيوش الإيطالية الجرارة والأعداد الهائلة من المعدات والاسلحة الأوتوماتيكية والمدافع والقنابل كما استخدمت الطائرات الحربية لأول مرة في تاريخ الحروب ضد بضعة من المؤمنين بحقهم في الحياة الكريمة على أرضهم يحملون أعتق أنواع الاسلحة اليدوية مكبّدين بها العدو افدح الخسائر لاعتمادهم فقط على عنصر المباغتة والكر والفر وأن يتفادوا حرب المواجهة مع عدو يفوقهم عددا وعدة مما جعلهم يقضون مضاجعهم ويعوقون تقدّمه كما اعترف غراتسياني نفسه [بأن عمر المختار صاحب فكر ثاقب وعقلية راجحة](27).
ولقد انطوت استراتيجية عمر المختار عقب توليه قيادة الحركة الوطنية هي الاعتماد على الذات والمصادر المحلية بالإضافة إلى ربط أهم الصلات بالأهالي المستسلمين ظاهرياً للسلطات الإيطالية في حين أنهم هم سند لحركة الجهاد يمدونها بالمال والمعلومات والأسلحة والذخيرة وهم بالتالي يساهمون في إلحاق الهزائم المنكرة بالأعداء
وعلى سبيل المثال تبرع المجندون الليبيون مع الطليان بجزء من مرتباتهم كمساعدة للمجاهدين كما أخفى البعض الآخر الذخيرة في التراب وجعلوا إشارة متفقاً عليها مع المجاهدين لتدلهم على مكان إخفاء الذخيرة كما أطلق بعضهم النار بالهواء ليوهم الإيطاليين بأنه يحارب إلى جانبهم وتعد حادثة معركة الرحيبة في مارس 1927م هي أصدق مثال على التعاون بين المجاهدين والمجندين مع الطليان حيث كانت الهزيمة الساحقة للقوات الإيطالية في حين أن الأقسام الليبيين كما تسميها المصادر الإيطالية لم تطلق إلا عيارات نارية قليلة في الهواء وهذا ما اشار إليه غراتسياني "أما الأقسام الليبية فلم تقم بالأعمال الموكلة لها لأن تأثير عمر المختار في حقوقهم كان كثيرا.."(29).
هذا بالإضافة إلى المساعدات التي كان يقدمها الأهالي من زكاة العشر عن مواشيهم وممتلكاتهم وما يقدمونه من تبرعات لحركة الجهاد في الخفاء بالإضافة إلى المعلومات حول تحركات العدو مما أفشل جل الخطط الإيطالية لمباغتة الأدوار. كل ذلك جعل القيادة الإيطالية تدرس بدقة عوامل صمود المقاومة الوطنية في ليبيا. واستعانت بالمخلصين لها من أبناء البلاد الذين أشاروا عليها بأن تقطع دابر الأهالي المستسلمين لها ظاهريا وأن تقطع كل صلة لهم بالمجاهدين.
وهكذا ابتلع الإيطاليون فكرة اعتقال جماهير الشعب الليبي لوضع فاصل من الأرض بين الأهالي المستسلمين بالمدن والقرى المحتلة وبين ذويهم من المجاهدين وبالتالي قطع كل وسائل الاتصال بين الجانبين وفعلاً ثم تطبيق الفكرة على يد السفاح غراتسياني ومع بداية سنة 1930م تم ترحيل الناس من جهة البطنان ومساعد والبردى وطبرق وضواحيها وحشروا بمعتقل عين الغزالة كمركز تجميع وأيضا نقل سكان الشريط الساحلي وبنغازي وضواحيها بمركز تجميع قمينس، وآخر الأمر صدرت التعليمات بحشرهم جميعاً في معسكرات اعتقال جماعية عرفت بالمقرون وسلوق والعقيلة والبريقة وشملت تلك المعسكرات حوالي 126 ألف نسمة(29) بقوا داخل أسلاك شائكة ووفق ممارسات لا انسانية من تعذيب وشنق وتجويع واستمرت المعتقلات تعجّ بالبشر طيلة أربع سنوات وفتكت أمراض المجاعة وسوء الرعاية الصحية والاهمال والتعذيب بحوالي 190 ألف نسمة.
ورجع الثلث الآخر إلى مواطنهم السابقة شبه موتى أو أنصاف أحياء يحملون معهم معاناة تلك السنوات المريرة من هزال وشلل وكساح وفقد البصر وفقدوا القدرة علىالعمل والانجاب وأحيطوا مرة ثانية بالأسلاك الشائكة بمراكز أمنية أخرى بمواطنهم الأصلية طيلة سسنتين حتى حدوث حرب الحبشة في سنة 1935م وذلك لاختبار جذوة الثورة بهم واشتغل البعض منهم موقود لتلك الحرب في الحبشة ويمكن حصر خسائر حرب التحرير الليبية بحوالي 750 ألف نسمة منهم من مات في المعتقلات ومنهم شهداء الحرب هذا بالإضافة إلى من مات بالحبشة ومن هاجر ولم يعد.
أما الخسائر المادية حيث قضي على ما يقارب من مليون رأس من الماشية(30)، وحرمان أبناء البلاد من أهم مصادر الرزق عندما استولت الشركات الإيطالية مثل الانبس والانتي على معظم الاراضي الصالحة للزراعة وتم استصلاحها وتسليمها للمستوطنين الطليان وأصبح أهل البلاد يبحثون عن قوتهم وسط جحيم الحروب أو في أقبية المطاعم الإيطالية كخدم منازل واضطر بعضهم الآخر إلى السفر إلى إيطاليا وفق الضغوط والاغراءات الإيطالية بتوفير العمل هناك ولم يعد العدد الكبير منهم حتى الوقت الحاضر(31).
--------
المحكمة الصورية:
بينما كان عمر المختار في سرية من المجاهدين تعد خمسين مجاهداً، أثناء عملية استكشافية لموقع العدو لرصد تحركاته وإذا به يفاجأ وهو في أحد الوديان بطلائع جيش العدو المكونة من أربعة فرق تحت قيادة أمهر القادة العسكريين الإيطاليين أمثال "ابياتي" والذين تعرفوا على مكان وجود عمر المختار عن طريق الجواسيس والمتعاونين معهم ووجد عمر المختار نفسه نطوقا من جميع الجهات فأمر أصحابه بالهجوم لفتح ثغرة في صفوف العدو ولكن دون جدوى. فالكثرة تغلب الشجاعة فكلما أبادوا فرقة اعترضتهم الأخرى حتى نفدت الذخيرة من المجاهدين واستشهد أغلبهم وقتل جواد عمر المختار وأصيب هو بعدة جروح وكسور في عظام اليد، فالتفت حوله جنود العدو واصبح منذ تلك اللحظة ذلك الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية في ليبيا(32)، أسيراً في أيدي القوات الإيطالية. علم السفّاح اغراتسياني بذلك في روما فقطع اجازته وجاء إلى ليبيا ليتفق مع بادوليو على اجراء محاكمة سريعة وخاطفة للحكم عليه بالإعدام وهذا ما اشارت به البرقية الموجهة من بادوليو إلى غراتسياني في تاريخ 14/9/1931م وبها يؤكد أن محاكمة الشهيد عمر المختار لا بدّ أن تنتهي بإصدار حكم الإعدام عليه وأنه يجب أن ينفد علنياً داخل أحد معسكرات التجميع والاعتقال(33). "إذن فهم يحكمون بالموت على الناس لكل شيء.."(34).
وطلب غراتسياني إحضار عمر المختار فأحضر إليه مكبلاً بالحديد رغم الجروح والكسور ويعترف غراتسياني: "... بأن هذا الوطني الذي يمثل أمامه هو رجل لا كالرجال..".
وسأله غراتسياني: لماذا تحارب دون هوادة الحكومة الفاشستية؟
فرد عمر المختار: دون وطني وديني.
ومن ردود عمر المختار على أسئلة غراتسياني أنه قال:
"... حربنا لكم فرض علينا لأنكم مغتصبون...".
وفي مساء اليوم ذاته الثلاثاء 15/9/1931م عقدت المحاكمة التي لم تستغرق سوى أقل من 75 دقيقة(35) وهو أمر لم يجر مثله في الاعراف الدولية ووجهت إليه تهمة الاعتداء على سلامة الدولة وعلى أمن البلاد تهمة قطع الطريق:
أجل عمر المختار القائد الوطني الشجاع العظيم
ها هو في نظر المستعمرين قاطع طريق مجرد اختلال في الموازين: المدافع عن وطنه ضد الغاصبين يصبح في قفص الاتهام معتدياً على سلامة الدولة الإيطالية وكأنه ذهب لمحاربتها في عقر دارها، ثم طلب النائب العام الإيطالي الحكم على عمر المختار بالإعدام وعندما سئل المحامي الإيطالي المنتدب للدفاع عنه وما الذي ينتظر منه كضابط تربى في مدرسة الاستعلاء الفاشيستي؟ وكيف يكون خصماً وحكماً عدواً ومحامياً؟
سئل المحامي ما إذا كان لديه ما يعلق به على كلام النائب العام بغرض الامعان في المهزلة التي نسجت خيوطها في أفكار الفاشيست الطليان لإيهام الرأي العام العالمي والعربي والاسلامي بأنه تم تكليف محام للدفاع عن عمر المختار في حين أن أعواد المشنقة قد نصبت بمدينة سلوق قبل ذلك بيوم أو اثنين ليشهد أبناء ليبيا إعدام عمر المختار إمعاناً في بث الرعب والخوف في قلوبهم وكان المحامي ممثلا بارعاً ولكنه حادت به انسانيته قليلاً عن أهداف الفاشيست فدافع بنوع من المنطقية والمعقولية حيث اشار إلى كبر سن عمر المختار الذي ناهز السبعين وطلب من المحكمة احترام شيخوخته وتبديل حكم الإعدام عليه بالسجن المؤبد كما اشار المحامي بأن عمر المختار رجل يدافع عن وطنه ودينه ومن حقّه أن قاوم لأن الطبيعة الانسانية منحته حق الدفاع عن أرضه ودينه، وهنا عرف الفاشيست بأن المحامي قد حاد عن مبادئهم التي تجيز القتل والدمار دون أدنى اعتبار للإنسانية، فارتفعت صيحات الغوغائيين الفاشيست مطالبة بطرد المحامي ورفعت الجلسة للمداولة، ثم أعلن القاضي الحكم على عمر المختار بالإعدام شنقاً حتى الموت وصعدت روح البطل إلى بارئها وأصبح منذ ذلك اليوم المشهود شيخاً للشهداء بعد أن قضى مدة اثنين وعشرين سنة شيخاً للمجاهدين وقد خلد ذكراه الشعراء والأدباء
فقد قال أحمد شوقي:
يـا ويحهم نصبوا منــاراً من دم يوحي إلى جيل الغـد البغضاء
جـرح يصبح على المدى وضحية تتلمس الحريـــة الحمـراء
وخاطب شوقي عمر المختار بقوله:
خيرت فاخترت المبيت على الطوى لم تبـن جاها أو تلم ثــراء