القرية المصرية تبدِّل ثوبها في ظل التنمية
"الولي هو الجنيه"
القرية المصرية تبدِّل ثوبها في ظل التنمية
سيد عبدالعزيز
عاد "حمدان" إلى قريته بعد سنوات من الغربة يملؤه الشوق والحنين، ليس فقط لأهلها، ولكن لقيمها وأخلاقها، وفي شوارعها أحسَّ بشعور غريب يغلِّفه القلق بدأ يتسرب إلى نفسه، فهذا جاره وصديق صباه يمر بجواره راكبًا سيارة دون أن يرفع يده بالتحية أو يتوقف لمصافحته كما كان يفعل قبل سنوات أثناء مروره عليه ممتطيًا حماره، ويكمل تلك الصورة منازل القرية التي تحولت إلى عمارات شامخة لكنها موصودة الأبواب بعد أن كانت بيوتًا من الطوب اللبن ذات أبواب مفتحة أمام الغريب قبل القريب، وقبل أن يغرق حمدان في بحر التأمل التفت إلى عمه "محمود" الذي لمح علامات الدهشة المخلوطة بالألم في عينيه فأجابه قبل أن ينطق قائلاً: "غيَّرت القرية ثوبها بعد أن جعلت المال وليها".
هذه الصورة البسيطة تطرح سؤالاً جوهريًا يقول: ماذا يحدث لو تعرَّضت الشعوب لرياح التغيير التي تأتي مع عملية التنمية؟ وهل سيكون لذلك تأثير على القيم الاجتماعية وسلوكيات البشر داخل القرية؟.
للإجابة عن تلك التساؤلات يرصد لنا الدكتور كمال التابعي في مؤلفه "دراسات في علم الاجتماع الريفي" تجربة إحدى القرى المصرية التي تعرضت لرياح التغيير والتحول من النشاط التقليدي للقرية وهو الزراعة إلى نشاطات اقتصادية أخرى هي أقرب لحياة الحضر. وتلك القرية تدعى "مِيتْ بَرَّهْ" إحدى قرى محافظة المنوفية الواقعة في وسط دلتا مصر، وفيه يشير الكاتب إلى أن التحولات الاقتصادية التي شهدتها هذه القرية كانت مصحوبة بتغيرات وتحولات عميقة في القيم الاجتماعية والسلوكيات البشرية التي كانت سائدة فيها.
صناعة الطوب الأحمر وبداية التحول
كانت بداية التحول الذي شهدته قرية "ميت بره" راجعًا إلى ظهور نمط إنتاجي جديد وغريب على النمط الذي كان سائدًا في القرية وهو الزراعة، بل جاء هذا النمط ليحاكي المجتمع الحضري، ويلبي طلباته المتغيرة ذات العائد المرتفع بعيدًا عن أخلاقيات المجتمع الريفي التقليدي القائم على تقديس قيمة الأرض واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من كرامة القروي وعزته ووجوده حتى أصبحت كعرضه، وكانت بداية التحول مع نزع ثوب الخصوبة من أرض القرية، ونهش وجهها للذهاب به إلى محرقة الطوب الأحمر التي توافرت لها كل عوامل النجاح وتحقيق العائد المرتفع من عناصر إنتاج رخيصة كالأرض والأيدي العاملة ورأس مال، كما ساهم في انتعاش تلك الصناعة ما واكبته من حركة نشطة في العمران والبناء في المجتمع القومي، هذا فضلاً عن تزايد ظاهرة عودة العمالة المصرية من الخارج وخاصة من البلدان العربية، وما ترتب عليها من تدفق المدخرات ورؤوس الأموال التي فضلت أن يتم استثمارها في مجالات أخرى غير النشاط الزراعي، وقد أدت هذه الصناعة إلى زيادة دخول العاملين بها حتى الأطفال وهو ما أدَّى إلى زيادة النشاط الاقتصادى والتجاري في القرية، وأصبحت هناك أنشطة أخرى بجانب الزراعة مثل الصناعات الخفيفة والتي تخدم صناعة الطوب والتجارة وخدمات النقل وغيرها.
تغير المكانة الاجتماعية من الأرض إلى النقد
لقد كان لغلبة العائد الناتج عن الأنشطة الاقتصادية غير الزراعية على ما تدرّه الأرض الزراعية أثره في تغيير نظرة أهل القرية تجاه أمور كانت تعد من الثوابت، مثل الأرض وقيمة الإنسان، فبعد أن كانت "الأرض كالعرض" وقيمة الرجل بما لديه من "طين" أي أرض زراعية لوحظ أن غالبية القرويين يوافقون على بيع الأرض الزراعية وتجريفها واستثمار ثمنها في العديد من المشروعات الإنتاجية الأخرى التى تحقق المزيد من العائد مثل إقامة مصنع للطوب أو مزرعة للدواجن أو مزرعة للأسماك أو استغلال المال في مشروع للنقل البري والتجارة، وذلك بقصد تحقيق عائد اقتصادي يفوق العائد الذي تحققه الأرض الزراعية، فلم يعد بيع الأرض والتفريط فيها يمثل عارًا أو نكبة تحل بالعائلة التي تفرط في أرضها كما كان في الماضي. بل أصبح التسابق على تجريف الأرض وتجريدها من خصوبتها من أجل الحصول على المال هو السمة السائدة في قرية "ميت بره"، فبمجرد أن يقوم القروي ببيع مقدار معين من تراب الأرض الزراعية بعمق قد يكون مترًا أو مترين يكسب من ورائه آلاف الجنيهات، وهكذا كان تجريف الأرض الزراعية ملمحًا رئيسيًّا للقرية، حيث اتضح أن الأرض الزراعية في قرية "ميت بره" قد تعرضت لأكثر من 500 حالة تجريف أو اغتصاب إن جاز التعبير.
وبالتالي اختلفت نظرة القروي لقيمة الإنسان ومكانته الاجتماعية من مقدار ما يمتلكه من الأرض إلى العائد الذى يمكن أن يُحصّل من أي مشروع اقتصادي، وقد عبرت الأمثال الشعبية في قرية "ميت بره" عن ذلك الموقف "معاك مال ابنك ينشال ما معكشي ابنك يمشي"، وبعد أن كان المال يمثل المرتبة الثانية في سلم القيم بينما تحتل الأرض الزراعية وملكيتها المرتبة الأولى فقد اختلف الوضع مع غزو المشروعات الاقتصادية، حيث أصبح المال المحدد الأول والرئيسي من محددات السلوك والمكانة الاقتصادية والاجتماعية بالقرية، كما كان لطغيان حب المال أثره في تغيير الكثير من القيم والأخلاقيات الجميلة التي كان يتمتع بها المجتمع الريفي ويتميز بها عن غيره في كثير من الأحيان ألا وهي نظرة الاحترام والتقدير التي كان يحظى بها رجال الدين وكبار السن من حيث طلب النصيحة والمشورة، والتي أصبحت تطلب بعد التغيير من ذوي الثروة والسلطة، وقد علق أحد أهالي القرية على ذلك بقوله "بعد ظهور المشروعات والخروج للدول العربية أصبح الناس لا يحترمون إلا الغنى والناس كلها تعتبر أن الولي هو الجنيه"
الثقافة الريفية تتغرب في ميت بره
لقد كان من ضريبة التغيير الذي شهدته قرية "ميت بره" هو تعرض الثقافة الريفية والتي تتمثل في أسلوب ونمط الحياة في المجتمع الريفي إلي نوع من التغريب، حيث سادت أنماط جديدة من السلوك لا تتفق مع سلوكيات أهل الريف، وربما كانت أهم سمات هذا التغيير بالقرية هو انحلال العلاقة العضوية التي كانت تربط بين الفلاح وأرضه، وسيادة القيم المادية واعتبار أن لكل شيء ثمنًا، كذلك افتقدت القرية إلى الهدوء الذي طالما تميزت به، وكان ذلك لمحاكاة القرية للنمط السائد بالمدينة، كذلك العمالة العائدة إلي القرية من البلدان العربية المحملة بأنماط استهلاكية مستوردة من البلدان الوافدين منها.
كل ذلك أسهم في تعرض القرية لغزو مكثف من السلع الكمالية والترفيهية من أدوات وأجهزة كهربائية وخلافه، الأمر الذي ترتب عليه إحداث خلل في السلوك الاستهلاكي بالقرية بين الغني والفقير لدرجة أن بعض السلع كانت تباع بأكثر من المتوسط المعقول لها والذي لا يتناسب مع الفقراء من أهل القرية وذلك لأن الأغنياء لديهم القدرة على شراء احتياجاتهم بأي ثمن كان، وقد علَّق أحد أهالي القرية على ذلك بقوله: "عندك مثلاً لما الجزّار بيقول اللحمة بثلاثة جنيه اللي جاي من بره بيدفع وما بيهموش، لكن الرجل الغلبان كل اللي بيقدر عليه إنه يقلل أكله من اللحمة لغاية ما يجبوله الكفن ويبقى يأكلها في الجنة". فضلاً عن ذلك فقد لوحظ أن زيادة الدخل لدى أهالي القرية كان مصحوبًا بزيادة في الإنفاق على المكيفات والمخدرات وتعدد الزوجات بشكل ملفت للنظر، وهو ما ترتب عليه ارتفاع معدلات الجريمة وزيادة النزاعات بالقرية وانتشار عادة الأخذ بالثأر التي مارستها النساء قبل الرجال.
نظرة نقودية إلى التعليم
لم يكن كل ما نتج عن التغيير في هذه القرية سيِّئًا أو قبيحًا، بل إحقاقًا للحق كان هناك بعض الإيجابيات التي لا يمكن إغفالها، لعل أهمها فيما يتعلق بالنظرة الجديدة للتعليم والتعلم، فبعد أن كانت النظرة للتعليم خسارة ومضيعة للوقت أصبح التعليم هو السبيل للوصول إلى مكانة اجتماعية مرموقة، وعليه قام أهالي القرية بتشجيع الجهود الذاتية في إنشاء بعض المدارس.
ولكن مع ذلك فقد أحاطت النظرة المادية بالمجالات التعليمية، حيث كان التفضيل دائمًا للمجالات التعليمية التي يمكن أن تحقق لصاحبها مزيدًا من الثروة والدخل، ولكن رغمًا عن ذلك فقد ساهمت النظرة الجديدة للتعليم إلى زيادة الوعي الاجتماعي والإلمام بالأحداث لدى أهالي قرية "ميت بره"، بعد أن كان التفاعل مع القضايا القومية مفتقدًا لديهم، ولعل هذا التحول كان منبعه طبيعة الأنشطة الجديدة التي فرضت على أهالي القرية ضرورة الانفتاح على العالم الخارجي لتحقيق المزيد من المكاسب والأرباح، ويفصح هذا التغيير عن نفسه في اتساع نظرة أهالي القرية للمشاركة في القضايا المجتمعية أو القومية بعد أن كان يقتصر على نطاق مجتمعهم المحلى ومشاكله، وهو ما أسهم في اكتساب المعارف والخبرات الجديدة نظرًا لما أتاحته وسائل الاتصالات والمواصلات المختلفة من تفاعل مع غيرهم من المجتمعات.
"التكلفة- العائد" مفهوم جديد للاختيار بين المشروعات
لقد اقتصرت النظرة التقليدية للقرويين إلى مسألة الادخار والاستثمار على شراء الأرض والماشية والذهب، ولكن في قرية "ميت بره" بعد التحولات الجذرية التي حدثت بها أصبح للادخار والاستثمار مفهوم جديد؛ حيث أصبحت هناك مجالات أخرى يمكن توجيه المدخرات والاستثمارات إليها مثل البنوك وصناديق التوفير والمكاتب البريدية، كذلك استثمار المدخرات في المشروعات الإنتاجية الحديثة كمصانع الطوب ومزارع الدواجن والتجارة في مختلف السلع ومشروعات النقل وتشغيل الجرارات وغيرها، كما أصبح هناك وعي بدراسة المشروعات من حيث العائد والتكلفة ومقارنتها بالعائد المتوقع من زراعة الأرض وهو ما يعرف في المجال الاقتصادي بدراسات الجدوى، ومن ثم أصبح الاستثمار في الأرض في أدنى مرتبة، وهو ما أفقد الأرض قيمتها وغيَّر الحياة اليومية للفلاح في هذه القرية.
المشاركة السياسية لا طائل منها
المشاركة السياسية لا طائل منها أو "لا بتودي ولا بتجيب" على حد قول أهالي القرية هكذا كانت وما زالت نظرة القرويين بالنسبة للحكومة والسياسة والأحزاب والتنظيمات السياسية المختلفة، حيث لم يفلح التحول الاقتصادى الذي شهدته القرية في تغيير تلك النظرة وتستمد تلك النظرة جذورها من اعتبار أن الحكومة التى كانت تساند الإقطاع في الماضي ما زالت على حالها وتعين القوي على الضعيف، الأمر الذي جعل نظرة القرويين إلى الحكومة بعين يملؤها الخوف والكراهية، ومما ساهم في تعميق تلك النظرة فشل أجهزة الحكم المحلي الموجودة بالقرية واعتبارها لا تعمل في صالح الفلاح، بل في صالح من يدفع أكثر.
ولا شك أن هذا قد ترتب عليه ابتعاد القروي عن ممارسة أي دور سياسي، ومن ثَم عدم مبالاته إذا كانت مصالحه الفردية تتفق أو تتعارض مع المصالح العامة، فهو يؤيد أن يجمع المال الكثير بغضِّ النظر عن أن يكون هذا المال من مصادر تلحق الضرر بالمصالح العامة والمصلحة القومية.
وقد جسدت الأمثال الشعبية علاقة الفلاح بالسياسة في "اتكلم بإحسان أحسن الحيطة لها ودان" "أنا أول المنطاعين آخر العاصين" "اللي له ظهر ما ينضربش على بطنه"، أما المشاركة السياسية مثل العضوية في الأحزاب والتنظيمات السياسية فإن المفهوم بشأنها أنها لا تعمل لصالح القرية، بل لصالح أصحابها.
المرأه القروية ترتدي ثياب الرجل
إن النظرة التقليدية لعمل المرأة في القرية والتي كانت تقتصر على العمل في المنزل ومساعدة الزوج في الحقل قد شهدت هي الأخرى تغييرًا، حيث أصبحت مجالات العمل المختلفة متاحة أمامها من أجل اكتساب الرزق والمزيد من الدخل، وبالتالي بدأت في ممارسة أعمال غير تلك التي تعوَّدت عليها حتى في الصناعات، وأصبحت المرأة تقود الجرَّار الزراعي في القرية فشاركت الرجل في مختلف المشروعات الإنتاجية وأجهزة الخدمات التي ظهرت في القرية، وهنا أصبح النظر إلى عمل المرأة كضرورة بقصد تحقيق مزيد من الدخل بعد أن كان هذا الأمر غير مرغوب فيه اجتماعيًّا، وقد ترتب على ذلك تغير نظرة أهالي القرية التي كانت تفضل الذكور عن الإناث، حيث أصبحت مساواة بلا تمييز.
إن تجربة هذه القرية تلفت أنظار المهتمين بالتنمية الاقتصادية من حكومات ومؤسسات وأفراد إلى حقيقة مهمة، وهي أن التركيز على التنمية الاقتصادية بمفهومها البحت والمجرد يؤدي إلى إهدار القيم الاجتماعية والتي تعتبر من خصوصيات المجتمعات العربية والإسلامية، وأنه من المهم أن يتم التوازن بين تحقيق التنمية الاقتصادية والحفاظ على القيم الاجتماعية
تقييم:
0
0