غور الصافي في عيون المستشرقين
غور الصافي والمزرعة والحديثة في العام 1872: ( 1 )
في رحلاته واكتشافاته للجانب الشرقي الجنوبي من البحر الميت ونهر الأردن يصف لنا الرحالة
( هـ . ب . تريسترام ) في العام 1872م أي قبل 136سنه م حيث كان يعيش الغوارنه مع كبيرهم ( الشيخ دبور شيخ العشيبات ) -- لواء الأغوار الجنوبية والذي كان يعرف بغور الصفصاف أو غور الصافي ، ومن هنا أحببنا أن يطلع أبناء اللواء على الطبيعة الجغرافية و السكانية ( ديموغرافية المنطقة ) في تلك الحقبة التي لم يبق من معالمها إلا النزر اليسير حيث اختفت عيون الماء وأشجار الصفصاف وانحسرت مياه البحر -الذي كانت تلاطم مياهه سفوح الجبال 00نحو الشمال مخلفة وراءها قيعان وسبخة مالحة .
مع ملاحظة اختفاء بعض الأسماء في ذلك الوقت0
" كان من الأهمية بمكان أن ننطلق مبكرين ، وذلك لنصل في الوقت المناسب إلى غور الصافي . والمكان واحة تقع إلى الجنوب الشرقي من نهاية البحر الميت . وقد ترتب على ذلك أن همم مرافقونا ، الذين لاقوا تأنيبا وتقريعا منا في مرات سابقة تأخرنا فيها ، أقول صمموا على النهوض قبل الوقت ، وذلك ليعدوا لنا القهوة ، وقد أوعزنا إليهم أن يطووا الخيم في الثالثة والنصف فجرا ، لننقذ أنفسنا من مخاطرة السماح لهم بالعودة إلى النوم بعد هذه الساعة المتفق عليها ، ونظرنا إلى ساعاتنا الأربعة ، وإذا بها تشيع إضاءة ، أما المستر جونسن فقد إغتنم فرصة صفاء السماء وانجلاء الظلماء ليتعرف ويحدد خطوط الطول والعرض للمكان الذي نحن فيه .
وبعد برهة قصيرة ، كانت الساعة تشير إلى الرابعة فجرا ، حيث بزغ القمر ، وهو في أواخر الشهر ، فوق سفوح جبال مؤاب ، بينما بدأ بعد ذلك ضاء الشمس يزحف ببطء شديد نحو حشود وبدأت الأشعة تعانق ذرى الجبال الغربية ، حيث أشارت الساعة حينها على السادسة صباحا . ووصلنا في هذه الساعة إلى جبل سدوم ، ورحنا ندور حول نهايته الشمالية .
وفي السادسة والنصف ، أطلعت من وراء الأفق الشرقي ، وقد بدت تأثيرها على الجانب الغربي لجبال مؤاب ، وعلى صفحة ماء البحر ، تأثيرا بديعا ومذهلا . فقد تكللت المواقع المنخفضة بضباب إلى الخضرة ، بدأ يتحول تدريجيا في كوة من الضباب الأحمر الذي بدأ يرتفع إلى الأعلى . ثم إنقلب بعدها إلى ضباب ناعم خادع . وبعد ذلك تغير الجو من حولنا حلا ، إذ لمسنا تحذيرات عاصفة آتيه من فوق الذرى المتماوجة ، وعبر الركام السماوي الأسود الآتي من جهة الجنوب الغربي .
لم نستطع زيادة سرعتنا ، فنحن الآن في أكثر زاوية من زوايا الشاطئ المهجور المنعزل رعبا ووحشة ، ولا وجود لأي أثر من آثار الحياة النباتية ، حتى وأننا لم نجد ولو نبتة منعزلة ، لتريحنا رؤيتها من عناء رؤية هذه السهول المرحلية القاحلة . كانت رمال الشاطئ وطينها الطفلي عميقة وثقيلة ، حتى لقد غرزت حوافر خيلنا إلى خصلة الشعر المعلقة بمؤخر الرجل لجهة الحافر ، كما أننا لم نتمكن من العودة إلى الجبال الملحية على يميننا ، إلا وكنا مبللين من هذا الطفل وصلنا بعدها إلى كهف أشبه ما يكون بالنفق الواسع ، حيث كانت أرضية جافة ومغبرة . وهنا ترجلنا ، وتفحصنا عتمته على ضوء الشموع ، ففوجئنا حينها بصليل المياه ينصب من فوق رؤوسنا ، وما هي إلا دقائق حتى اندفع سبيل دافق من الطين على طول هذا الأخدود الكهفي ، باتجاه البحر .
1- انظر رحلات في شرق الأردن / هـ . ب . تريسترام / ترجمة د . أحمد عويدي العبادي .
ص 51 ص 86 .
لم تدم العاصفة وغيومها طويلا ، ثم أقلعت ، بشكل إجمالي باتجاه الشمال حيث البحر الميت وتركتنا تحت الشمس الساطعة ، مما أعطاني المجال للتمعن في بعض النقاط المتعلقة بالجبل ومكوناته . فقد كانت بعض القطاعات ذات الانحدار القائم عارية من قمتها إلى قاعدتها ، وهي تتكون من الملح الصافي على ارتفاع ما يقارب مائتي قدم تقريبا ، مغطى بطبقة من الصخور الطباشيرية التي تستلقي فوقه ، بسماكة 50 60 قدما . وتملكتني الدهشة من كيفية تكوين هذه التركيبة ، إلى درجة أنني تخيلت أنه تم رفع هذه الصخور الطباشيرية والمرجانية فوق أكداس الملح الجبلية هذه . ولكنني لاحظت أيضا ، من خلال الحقائق التي بدت لي أثناء هطول المطر المفاجئ ، إن هذه الكميات الهائلة القائمة إنما هي جزء من طبيعة التركيبة الأرضية ، وغن ما بقي من أملاح على القمة العليا ، إنما هي آثار المياه التي كنت ، في عصور غابرة تصطدم بهذه الحروف الصخرية في الجبال . والتي غسلت الأملاح القابلة للذوبان ، وساقتها إلى البحر ، مبقية من خلفها هذه الثفالة والحطام من الرسوبيات .
ولا تزال عملية الغسل والإذابة هذه قائمة ومستمرة ولا نزال نشاهد بقاياها في الأكداس المنعزلة التي انفصلت عن جسم الصخور الرئيسي ، حيث أصبحت ، وبوضوح ، مغطاة ببقايا الرسوبيات وفتات الحطام الصخري . أما السؤال الذي يجول في الأذهان فهو: كم من العصور والسنين يتطلب أمر غسل ومسح هذه الواجهة برذاذ المطر الخفيف ، ليترك وراءه حطاما بارتفاع خمسين قدما ؟! .
والجدير بالذكر ، أن ملاحظاتنا عن مؤاب قد أبانت لنا بأن الحجر الأحمر القاني ليس بعيدا عن السطح في الجانب الغربي ، وذلك لوجود ارتفاع بين واضح على طول الخط ، وإن الحجر الأحمر قد أخذ موقعه واتساقه في العصر الأيوسيني ( الفجري الحديث ) ، والتي تمتد على عمق مائتي قدم زيادة على بقية ارتفاع الجانب الغربي . وإذا ما افترضنا التعرية المتساوية للحجر الطباشيري على كلا الجانبين ، فإن الملح الصخري لابد وأنه قد أخذ مكانه فوق الحجر الأحمر الجديد ، على عمق يزيد على مائتي قدم عن مستوى السطح . وبذلك نجد أن التعرية التي أصابت الملح في وادي الأردن ، شبيهة بطبيعتها ووضعها الجيولوجي لصخور (( كيساير )) والصخور الحمراء الجديد الموجودة في إنجلترا .
وفي الساعة التاسعة صباحا أي بعد ثلاث ساعات من المسير أصبحنا على مدى ميل واحد من النهاية الجنوبية للجبل الملحي ، حيث وجدنا أرضية صلبة تستطيع السير عليها ، فاستدرنا فوقها باتجاه الشرق ، لنخترق السبخة ، وكثبان الرمال المنعزلة وقد وجدنا ذلك يتطلب جهدا شاقا ، خاصة بعد أن أصابها المطر ، وكان علينا لنؤمن سلامة أنفسنا أن نبقى قريبين من بغالنا ، لأن هذه المنطقة : " أرض بلا بشر " . ثم تلقينا تحذيرا شديدا من قبل أحد حراسنا ، عندما اكتشف مجموعة من الرجال في السهل البعيد جنوب سدوم . وبالفعل ، فإن ملاحظته هذه بينت قوة وحدة بصره .
وقد تأكدنا من ذلك بعد استعمال المنظار فإذا سبعة رجال يحمل أحدهم بندقية ، وهم يقتادون بقرتين سوداوين . وتبين لنا فيما بعد أنهم كانوا لصوصا سرقوا بقرتين من الصافي ليلا .
واجتزنا السهول الضحلة المغطاة بأشجار القصيب في " الجيب " ، و " غرندل " ، وعددا من مجاري المياه ذات الأرضية الرخوة في مناطق العقبة ، حيث مساهماتها في رفد البحيرة بالماء مساهمة ضئيلة وقليلة .
وقبل أن تشير الساعة إلى الحادية عشرة ، كنا قد وصلنا إلى وادي الطفيلة وهو مجرد قناة ذات جوانب وحلية خالية من أي وجود للنباتات فيه . ويمتد خلفه شريط سهلي ضيق ، تغطيه رمال تبدو دهنية . ومن خلفه أجمة من القصيب ، وذلك على بعد 200- 250 ياردة ، حيث يبدأ غور الصافي ، وهو الخط الحقيقي فيما بين أدوم القديمة ، حيث كنا ، ومؤاب .
وعندما تقدمنا راكبين نحو ضفة الوادي الوحلية العميقة ، واستعدينا لاجتياز مجرى الماء ، برز لنا من وسط ممر ضيق في القصيب رجل عربي طويل القامة مسلح برمح طويل ، وفي لحظة واحدة ، برز خلفه مائة وخمسون بدويا مسلحين ، خرجوا إلينا من بين ثنايا القصيب ، وانتشروا على الشريط السهلي المقابل ، وهم يومئون ويلوحون لنا بأسلحتهم بشكل وحشي . لقد كانت مناظرهم تدل على توحشهم ، وكانوا يشبهون مسلمي اسبانيا " المورس " ، أو سكان جزيرة فيجي
أكثر من شبههم للجنس الغربي . كانوا يعنون بحركاتهم هذه النزوع إلى الأذى ، حيث خلعوا ملابسهم استعدادا للقتال والنزال ، ثم قفزوا وصرخوا ، لأن البدوي إذا لم يكن راكبا فإنه يذهب إلى المعركة عاريا . كان بعضهم يحمل البنادق ، وبعضهم يتسلح بالرماح ، أو السيوف العريضة الضخمة ، وآخرون يمسكون بالقناوي ( مفردها قنوه أو قناة ) التي تتعذر مجابهتا ، أو قناة ذات رأس مرصع بالمسامير ذات الطبع .(1)
ولفترة وجيزة ، استحوذ الرعب علينا ، وخشيت أن تكون نهاية أجلي في الصافي ، وذلك لأنها أصبحت منعطفا للمرة الثانية في حياتي . وفجأة اندفع رفيقنا العجوز ( سلامة ) ، مراهنا أنه سينازل القوم ، حيث انطلقت باتجاهه عدة طلقات دون أن يصاب منها بأذى . لقد كان سلامة خيالا وما أن قفزت فرسه إلى الجانب الآخر حتى غاصت في الوحل ، وانقلبت . وفي لحظة واحدة تم جره في الوحل على أيدي هؤلاء العصابة المتوحشة ، فانتزعوا منه بندقيته ، ثم غاب بعدها عن أنظارنا وسط هذا العراك .
وقفز بعض الأعداء باتجاهنا ،حيث كنا وقوفا على شكل صف واحد على طرف مجرى الوادي ، وقد بدا أنه ينوي نهب أحد البغال التي كانت تقف خلفنا ، إلا أن الحراس المشاة من الجهالين ، وهو بدوي شاب وسيم الطلعة ، كان مرافقي الخاص ، وكان معي في رحلتي السابقة أيضا ، حاول دفع الأعداء إلى الخلف ، لكنه سقط على الأرض مغشيا عليه ، وذلك على أثر ضربة بكعب بندقية جرحت ذقنه حتى العظم . وعندما حول أحد الأعداء ضرب الجهاليني بالدرة ، أمسك به رفاقه وحالوا دون ذلك . وجاء حمزة إلى الجبهة سيرا على قدميه ، مؤكدا لنا أن ذلك شجار قبلي ، وأننا لا نستطيع عمل أي شيء في هذا النزاع ، ثم قفز ( أي حمزة ) حافي القدمين وسط إثارة كبيرة حيث أضعناه أيضا وسط صخب المشاجرة .
أما المترجم داود . فقد تبعهم بأن قفز بفرسه لكنه سقط أيضا ، وقبل أن يقف على قدميه ، كانت ملابسه الخارجية ، وحزامه وحقيبة نقوده قد نهبت حيث جردها منه هؤلاء القوم ، ولكنه كان ممسكا بندقيته بكل حزم وعزم ، وفي لحظة أفرغت حمولة الخرج من طعامنا ، ولكنه نجح في استعادة فرسه ، وبذلك أصبح الرجل الوحيد الخيال من طرفنا , وتطوع شخص آخر من الجهالين إلا أنه كبا ووقع ، ولكن داود الذي كان تصرف طيلة العراك ببرود يبعث على الإعجاب ، أمسك
1- ومن أسماء القنوة / الدبسه والحنفه وقد يستخدم الوجهاء الباكور وهو عصا مطوية من نهايتها
خلال ذلك بالأذن الرئيسة ، حيث نشأ جدال طويل حام ، راقبناه باهتمام بالغ . فلو لجأنا إلى القتال لكان ذلك ضربا من الجنون ، وذلك لأنه لم يكن لدينا غطاء . ولا إمكانية للانسحاب ، ولكن القوم يفوقنا عددا ، من هنا احتفظنا ببغالنا ، ورحنا نرقب الأحداث بفارغ الصبر .
وعرفنا أن هؤلاء المعتدين ينتمون إلى قبيلة بني عطية التي قدمت جديدا من الجزيرة العربية ، والذين لم يقوموا بمزاولة النهب في هذه الأماكن إلا حديثا ، كما أنهم يتمتعون بسمعة سيئة للغاية . وكان يرافقهم حفنة من " معاز " من أهل العراق وهي قرية جنوب الكرك ، حيث أن معاز عشيرة ذات صفات مشابهة لبني عطية ، كما كان معهم عدد من الغوارنه وهم سكان غور الصافي من الذين لا يعتبرون بأي حال من الأحوال عشائر خطيرة هذا بالإضافة إلى أنهم أقل درجة من سكان الجبال التي تحاذيهم من الشرق ويرتبط بنو عطية مع التعامرة بعلاقات من الدم والثأر ، فيعتقدون أن معنا رجلا من التعامرة ، إلا أنه ، ولحسن الحظ ، لم يكن يوجد معنا إلا الجهاليين . كم بدا لنا الأمر رائعا الآن في قرارنا السابق ، حيث رفضنا بحزم تقدم أو مرافقة أي شخص من التعامرة لنا عندما كنا في الخليل .
وفي نهاية المطاف ، ركب الخيال الذي كان يرتدي المعطف الأصفر، وهو من طرف المهاجمين ، ركب هو وداود ، وساروا باتجاهنا . وهنا صرخ الشيخ : " النصارى أصدقائي ، إن أعدائي هم التعامرة فقط " ورفع حمزة يده عاليا مقسما بالله على أنه لا يوجد برفقتنا الآن ولا تعمري ، وهنا أمر الخيال الذي كان يتمختر على فرسه الجموح على طول خط الوادي ، أمر أتباعه بالعودة . وبعد رأي وتردد مصحوب بعدد من الإشارات والإيماءات وضع القوم عارضة خشبية فوق الوادي ، ورحنا نصطف في طابور لنجتاز فوقها واحدا تلو الأخرى وأثناء ذلك احتدم نقاش وجدال بين شيخنا ( سلامة ) وشيخهم ، حول تحديد كمية البخشيش التي يجب أن يأخذها ، والتي لابد من أن ندفعها لهم لتهدئة خواطرهم . وسرنا بشكل طابور يقوده شيخ بني عطية ، وسط مخاوف من أن يسطو علينا أناس قد يخرجون إلينا من بين ثنايا الأشجار ، فيسلبوا متاعنا ، أو دوابنا حيث يمكنهم فعل ذلك خلال لحظات ، بأن يقودوا الحيوان وسط الأشجار الكثيفة ، وينهبوه ويغنموه وتجنبا للوقوع في مثل هذا التحسب ، عمل قسم منا كحرس للمؤخرة .
وأخيرا وصلنا بقعة من الأرض مفتوحة قرب أحد مضارب الغوا رنة ، حيث أمرنا أن نحط رحالنا . وبعناية مدبرة شكلنا نطاقا لنحول دون الناس الذين يتجمهرون حولنا ، والذين يبدون في حالة من الغضب . وبعد هذا التصرف ، رأينا أن نبقي حارسا مسلحا يحرسنا أثناء الليل ، وقد تناوب رجالنا على أداء هذه المهمة . ونحن مدينون للعناية الإلهية التي حفظتنا أحياء إلى الآن طيلة المدة السابقة ، أقرنه بالامتنان القلبي العميق الموجود في الترنيمة المقدسة رقم 23 ، التي رددتها ونحن نستلقي أول ليلة من رحلتنا داخل حدود مآب .
خصصنا اليوم التالي لإجراء تحريات دقيقة ، بحثا عن الآثار القليلة في غور الصافي . ولم نتمكن من انجاز هذه المهمة بسهولة ، وذلك لأن معازيبنا الأجلاف ، لم يمكنوننا من سهولة الحركة وحدنا ، وإنما طلبوا منا دفع مبلغ إضافي لقاء إرسال ثمانية من الخيالة معنا ، حيث ألحوا وأصروا على أن الضرورة تستدعي ذلك ، لضمان سلامتنا ، كان الوقت أثمن من النقود عندنا . لذا ، فقد وجدنا أنفسنا أمام خيار لا ثاني له ، وهو الاستسلام لمطالبهم . وامتطينا الخيول ويممنا شطر الجنوب الغربي من موقع مخيمنا ، قاصدين الأطلال الرئيسة لغور الصافي .
مع دبور شيخ الغوا رنه:
كنا بقيادة شيخ الغوارنه المدعو دبور(1) ، الذي أخبرنا أنه سيقوم بأداء هذه المهمة ، مثلما فعل (لدريك) , (وبالمر) من قبل ، لم تكن الأرض جرداء بشكل كامل ، وإنما رأينا بعض البقع المزروعة ، محاطة بأسيجة من أغصان الأشجار الشوكية ( أي ذات الشوك ) ، والسياج مرتبة بطريقة تشبه المنتزه المسيج . لقد رأينا عددا من الأشجار ، إلا أننا لم نشاهد شجرة نخيل واحدة .
وصلنا سيل الصافي (2)، وهو جدول مائي ذي أرضية مفروشة بالحصى ، حيث يتدفق نحو الشمال ، متلقيا بعض المدد المائي من الشرق . كانت الزراعة على الطرف الآخر من الجدول متباينة مع غيرها من حوله ، كما أن التربة هناك ليست بالخصب الذي يغطي السهل من النبع إلى البحر ، وإنما أرضية خفيفة حصوية ولم تكن أشجار الأجمة متقاربة ، أما المظهر الشجري فكان يغلب عليه شجر الصفصاف(3) .
يتفرع عن جدول الصافي شبكة من القنوات على جانبه الأيسر بحيث يمكن للغور كله أن يصبح حقولا مروية ، مثلما هو الأمر في أريحا . وكان المزارعون قد بدأوا توا إستخدام الري لمزروعاتهم من الحنطة ، والدخان والنيلة (4). وقد بدا لي وجود نظام مرتب جيدا يمارسه الزراع هنا حول حقوقهم في " استخدام المياه " بالدور وذلك بالسماح لكل واحد بتوجيه مياه السيل نحو أرضه في وقت محدد (5)، وهكذا تباعا ، وتكفي ثلاثة أيام من الري المتواصل لأن تجعل القطعة خضراء ، وتمتد القنوات البادئة من السيل باتجاه الغرب ، بحيث تمر في هذه البقع الخضراء ، وتتجاوزها وتسقيها والواحدة تلو الأخرى إلى أن تتلاشى وتنتهي . وسرنا إلى يسار المجرى المائي للسيل إلى أن وصلنا الأطلال و الآثار .
أما بقية المواقع فكانت قاحلة ومخيبة للآمال ، فمثلا كانت السفوح المنحدرة مغروسة ببعض أشلاء الجدران ، والأساسات الصلبة ، وبقايا باقية من الأعمدة الاسطوانية . أما الاسم الذي يطلق على هذه الأماكن فهو : " شيخ عيشة "(6) ، وهو يخلو من أي مفتاح يمكن الاستدلال به أو من خلاله إلى العصر الذي تم فيه إنشاؤه وبناؤه . وعلى عكس ما هو موجود في المنطقة الغربية فلسطين ، فإن مدينة الصافي كانت مبنية من الحجر الرملي الناعم(7) بشكل شامل وعام ، الذي تعرض للتعرية والذبول ، مما آل به إلى حالة من الانحلال الكامل ، ولا يوجد الحجر الرملي غربي الأردن ، كما أن الحجر الرملي الطباشيري العائد إلى العهد الأيوسيني يوجد بكثرة ، وعلى ارتفاع كبير بحيث يشكل أساسا للبناء الطبيعي لهذا الجيل . لم نعثر على أية نصوص ، والنص الوحيد الذي عثرنا علية كان حجرا قد يعود إلى أصل نصراني ، وذلك لوجود صليب يوناني عليه --------------
1-.نقف بإجلال واكبا رفي حضرة احد رجالات الأغوار قبل 136 سنه وهو دبور جد الدبابره
2- السيل الحالي الذي كانت مياهه العذبة تروي ارض الأغوار في ذلك الوقت.
3- ولذا سميت قديما بغور الصفصاف
4- الى جانب صناعة السكر قديما
5- وهو ما يسمى بالقنواتي أي المسؤول عن توزيع الماء بالدور
6- ويقصد تل الشيخ عيسى وهو حصن من العصر المملوكي
7- ويقصد الطين الذي كان يدخل في بناء بيوت الطين والمنطقة المقصودة هنا هي (الجور)
طواحين السكر:
وعلى بعد مئات من الياردات , في مكان فوق سطح البحر , شاهدنا أثارا أكثر اكتمالا من هذه تسمى ( قصر البشاريه ) والتي تعود الى تاريخ متأخر أي ليس قبل الحروب الصليبية أو الدولة الإسلامية التي سبقتها , لقد قيل لي عنها من قبل بأنها تسمى طواحين السكر ولكن دبور أكد لنا بان موقع طواحين السكر شمال اللسان, وذلك ما يتفق مع المعلومات التي دونها ( بيركهاردت ) ويبدو بوضوح وجود طواحين مائية , سابقا حيث لا تزال توجد قناتان مبنيتان من الحجارة ومغطاة بها ويبدو لنا أنها كانت تستخدم لإدارة العجلات ولا تزال هذه الحجارة حجارة الرحى المستخدمة لطحن الحبوب موجودة وبحالة حسنة وتوجد بوابة مبنية من الحجر على شكل قوسي , وقد أضيفت الى هذا البناء الأصلي إضافات مبنية من الطوب الترابي , وقد بدا لي وكأن هذه الطواحين قد هجرت وان الحيطان أنشئت بعد تحويل الطواحين الى خان , وبالقرب من هذه الطواحين مقبرة تابعة للعشيرة المجاورة ,0
المشنقة :
أما مجموعة الآثار الثالثة فتقع قريبا من القصر من الأعلى التي تبدو دونما شك أنها ذات أصل إسلامي حيث يسمونها المشنقة , رغم أننا لم نشاهد أية مشنقة وكل ما رأيناه بقايا جماجم استخرجتها الضباع من القبور.
غور فيفه:
وعلى مسافة نصف ساعة الى الجنوب من هذا الموقع يقع وادي فيفه أو فيفا وهو الحد الجنوبي لاستكشافاتنا , ومن وراء فيفا يوجد وادي الطفيلة الذي عبرناه قبل وصولنا الى غور الصافي
واخبرونا أن وادي فيفا ما هو إلا نهاية لوادي الحسا الذي توجد فيه بعض الينابيع الحارة ويعتبر وادي الحسا حدا طبيعيا بين الكرك والبتراء أي بين مؤاب القديمة وأدوم.
من غور الصافي الى الكرك(1)
لم يكن الجزء الأول من الطريق المؤدي من الصافي الى الكرك , بذي أهمية كبرى , حيث يعتمد في جماليته , بالدرجة الأولى , على مياه الأمطار , لقد كان المنظر أخاذا للغاية عندما سلكنا طريقنا الخيطي عبر الغابة , وقد انضم ألينا رفيق قوي من بني عطيه رغم احتجاج الحراس الكركين على ذلك , وكانت مرافقته لنا ليتأكد من وصولنا الى التلال سالمين , أما قافلتنا فقد قادها في المقدمة خيالة مسلحين بالرماح التي كانت تتلالا فوق الاشجار0
أما الحزام المزروع في الغور , والذي كان عند منطقة مخيمنا السابق بعرض أربعة أميال فقد ضاق حالا الى عرض لا يتجاوز الميلين وبدأت أحزمة المناطق النباتية تختفي تباعا فقد فقدنا أشجار الصفصاف لتنتهي بمستنقع ملحي مقفر بدون وجود أية مزروعات , إلا من أشجار شوكيه وطلح هنا وهناك 0
ومررنا قرب النهاية الشمالية للصافي , وذلك بساعة من انطلاقنا حيث وجدنا أطلال أم الهشيم التي تبدو صغيرة غير واضحة , ولم تكن أكثر من قرية ولا أثار لقلعة فيها 0
بعد ذلك عبرنا سيل (القراحي )(1)وهو نقيض قورشه ويطلق على حجارة مؤاب, بعد ذلك بنصف ساعة عبرنا قناة مائية تسمى (نهر المراهشه)(2)وهو مشهور بوحله وطينه مما اضطرنا لحمل بعضنا بعضا لان البغال غرزت فيه , بعد ذلك أتينا السبخة وهي مستنقع مالح , وهي نهاية البحر من الجنوب , أما الساحل فكان مملوءا بالأشجار المغطاة بطبقة ملحية بينما تناثرت هنا وهناك البرك الضحلة وكانت رائحتها كريهة جدا0
1- القراحي : غير معروف حاليا 2- نهر المراهشه: ليس هناك اسم لهذا الموقع حاليا
النميرة :
ويقع وادي نميرة بعد سيل خنيزير , حيث تقترب الجبال من البحر بشكل اكبر ,أما الجبل الذي يواجه نميرة فيدعى جبل الأراك , وتوجد عليه بعض الإطلال القليلة والتي تدل على بقايا قلعة كانت تشرف على الطريق , وتسيطر عليها , وتدعى (خربة الشيخ)(1) ووجدنا أثار النميرة(2)التي تبدو مهلهلة وحجرية تنتشر فوق هكتارات وسط مجموعة من أسرة المجاري المائية العريضة , التي تتحول الى وديان جارية وقت المطر الغزير 0
وقد ساد الافتراض أن غور نميرة هو (نمريم مؤاب ) المذكور في التوراة (15-6)وان بيت نميرة التوراتي ما هو إلا بيت نمير الموجود في الأردن ويشير لفظ مياه نميرة الى منابع مائية توجد في مكان أعلى من هذه البقعة الموحشة , وتوجد أطلال مدينة قرب وادي نميرة وهي شبيهة بآثار المدن المؤابية القديمة وتحمل اسم عيون نميرة حبث توجد حولها البساتين المروية
وادي عسال:
وبعدان سرنا أربع ساعات من مغادرتنا للصافي , وصلنا الى وادي عسال الذي يجري فيه جدول مائي عذب يسر الناظرين , وهنا بدأنا نتسلق كثف شبه جزيرة اللسان , سرنا على مدى أكثر من ساعة عبر أخدود لمجرى مائي مقطوع وسط طبقات المارل الطيني الذي يشكل الرواسب القديمة للبحيرة , كان منظرا عظيما باهيا , رغم انه مهجور وخال من الحياة و حيث لم نر حتى بقايا شجرة هنا أو هناك 0
وادي الذراع:
وبعد أن عبرنا وادي وهيده , وصلنا الى وادي الذراع الذي يتألف من مجرى عميق وينتهي الى الخليج الشمالي من اللسان , وحططنا رحالنا بالقرب من خربة ذراع والتي سمي الوادي باسمها , جلسنا على التل الواقع خلف خيامنا مباشرة , ومنه رأينا منظرا مذهلا يطل على اللسان كله , حيث بدا منظر القفر الكامل , وحزوز المجاري المائية تنخر اللسان , دون وجود أي اثر للزراعة ,بينما ابتسمت بعض الزوايا المنعزلة في الشمال الشرقي والجنوب الشرقي بالخضرة التي تسر الناظرين وتشرح الخاطر 0اما أثارها فقد كانت وضيعة ومطموسة بالكامل تقريبا
غور المزرعة :(3)
ومن الآثار الباقية للحضارة الغابرة , وهو على بعد ساعتين باتجاه الشمال الغربي , من موقعنا , حيث شاهدنا من خلال مناظيرنا ( الدربيل ) ما يسمى المزرعة : مخيم الغوارنه الأسمر , حيث اخبرنا مرافقونا انه يوجد في المزرعة طواحين السكر , ونعتقد أن ما قالوه لنا عن طواحين السكر ما هو إلا مجرد اعاده لتلك الموجودة في غور الصافي , وربما تكون طواحين ماء عادية "
بعد ذلك يستمر تريسترام في رحلته واستكشافاته نحو الشرق حيث (قلعة القبة )ويقصد قلعة الكرك التي تعد نهاية رحلته بالنسبة لمنطقة اللواء 0
1- ربما تكون مخفر مريصد الذي يعود الى الفترة المملوكية المتاخره
2- وهي أبراج وأساسات تعود الى الفترة النبطية المتأخرة
3- ربما يكون أول قاطني المزرعة ائنذاك هم النوايشه وبعض عشائر المزرعة والذين أشار لهم بمخيم الغوا رنه الأسمر