الصمت لغة الحوار بين الآباء والأبناء
الأصدقاءأقرب في معظم الأحوال
حيرة كبيرة يقع فيها بعض الآباء حينما يلاحظون أبناءهم المراهقين دوماً أسرى الصمت والضجر والنفور داخل المنزل فيما يعيشون بالخارج حياتهم المرحة بشكل طبيعي منطلقين مع أصدقائهم دونما مشكلة تذكر. وسواء كان الابن شابا أو فتاة يتمتع بقدر ما من الثقة في أفعاله وتصرفاته أم لا، فإن هذا الصمت والغموض المطلق يثير لدى الكثير من الآباء التساؤلات والريبة ويعظم لديهم عقدة الذنب أو الشكوك تجاه هذا الكائن الصامت أو الشارد الذي لا يلجأ إليهم في استشارة أو نصح.
هل هي فجوة وصراع بين جيلين أم تحفظ من جانب الابن تجاه تصرفات أبويه وعتاب مكبوت بالأعماق ولا يجد سبيله إلى التعبير عن نفسه أم افتقاد لجسور الحوار بين الجيلين.
تعاني (أسماء، ن): من نظرة الشك الدائمة في عيون أفراد أسرتها، فهم لا يثقون بها على الإطلاق، ويعتقدون على الدوام أنها عرضة للانحراف تقول: “هل يعقل أن يفتشوا خزانتي ويطلعوا على مذكراتي الخاصة، ويقدموا على نشرها فيما بينهم ساخرين من أفكاري وآرائي؟.. أو أن تقوم والدتي بتفتيش حقيبتي، وحينما أسألها عن سبب ذلك تواجهني بأنها كانت تبحث عن مواد مخدرة أخفيها أو أتعاطاها؟”.
تضيف: مشكلتي أنه كلما رأت أمي شابة منحرفة في أحد المسلسلات اعتقدت أنني مثلها، وعلى هذا الأساس تعاملني على الدوام، حتى موعد انتهاء محاضراتي تعلم به، وتنتظرني كل يوم وإذا ما تأخرت قليلا تقلب الدنيا على رأسي، وويل لي لو اكتشفت أنني توجهت إلى مكان آخر بعد انتهاء الدوام.
في مثل هذا الجو من عدم التفاهم- تقول أسماء - يصبح من الطبيعي أن ألتزم الصمت طوال اليوم شاردة في عالمي الخاص، بسبب سخريتها الدائمة مني إذا تحدثت إليّ أو عني، مللت أسلوبها وبت أتحاشى الحديث اليها أما مشكلاتي فأحلها بمفردي.
وتهمس اسماء بأنها تعاني بالفعل مشكلات كبيرة ولكنها لم ولن تطلب مساعدة والدتها التي يفترض أن تكون أقرب الناس إليها تقول: أعترف الآن بأنني أخطأت أخطاء فادحة ليس بوسعي البوح بها ولكن رغم ذلك لا أفكر في الاستغاثة بها لحل مشاكلي الناجمة عن قلة خبرتي بالحياة وافتقادي للحنان والثقة بالنفس والتي أوقعتني في حبائل من لا يرحم، فهي بعيدة كل البعد عني ومثلها أبي، أوقاتي في المنزل أقضيها في الاستماع إلى الأغاني والموسيقا أو متابعة مواقع الانترنت واعتبر هذا الوضع أفضل من التحاور مع من لا يراعي آدميتي، ولا يعرف أبسط قواعد التعامل مع شابة تتفتح مشاعرها وشخصيتها للحياة.
ولا تختلف حال أسماء كثيرا عن حال (منال. خ) التي تشكو من كثرة انتقادات أمها وتقول: لا أعجب من أمي على أي حال من الأحوال فهي لا تتوقف عن توجيه اللوم لي بلا مناسبة، وتنتقدني أمام صديقاتها، فلا يعجبها مرحي الدائم ولا صداقاتي الكثيرة، ولا أسلوب ملابسي. إنها في واد وأنا في آخر، في الوقت الذي أتحسر فيه على حالنا حينما أجد صديقاتي أقمن علاقات ودودة وجميلة مع آبائهن، وأتساءل بيني وبين نفسي عن الفرق بيني وبين هؤلاء حتى تنتقدني أمي بهذه القسوة.
ويروي أحمد واقعة تكشف عن مدى الفجوة الفكرية بينه وبين أشقائه وأبيه قائلاً: اعتدت على الدوام أن أخلو بنفسي في حديقة المنزل أو في إحدى الغرف أو البلكونات ابتعادا عن جو الأسرة الصاخب. ورغم انقطاع الحوار البناء بيننا على الدوام، وذات مرة فوجئت بوالدي يأتي مسرعا وينهال علي بالضرب والإهانة، دونما سبب يذكر وألجمتني الدهشة التي سرعان ما زالت حينما اكتشفت السبب وهو أن إحدى شقيقاتي (18 سنة) اعتقدت أنني أخلو بنفسي دائما لأجل التدخين ووشت بذلك لأبي، فما كان منه إلا أن تسرع بالاعتداء عليّ وإهانتي أمام الجميع باحثا عما بيدي وملابسي.
الأغرب في تصرف والدي حقا أنه حينما اكتشف براءتي من هذه التهمة توجه لشقيقتي بالضرب المبرح والإهانة، لتهرب من المنزل وتهيم في الشوارع باكية في حالة من الانهيار التام، ولولا ستر الله لفقدناها إلى الأبد، لكنها توجهت إلى خالتي التي هزها الموقف فلم تتصل بوالدي لطمأنته عليها، وهو بدوره لم يسأل مكابرة وعناداً. ويفسر أحمد كل ذلك بافتقادهم لرعاية وحنان الأم بوفاتها، “إذ خلفت برحيلها جوا محملا بالمشاحنات والمعارك الدائمة، نتيجة عصبية والدي المفرطة، وعجزه عن رعايتنا بمفرده”.
إشكالية: هناك إشكالية في العلاقة بين الأم والابنة تفسرها عبير ابراهيم (خريجة إدارة أعمال) بأنها الخوف على الحرية الممنوحة من جانب الأهل للفتاة، تقول: بصفة عامة فإن الأسرة في المجتمع الشرقي محافظة بشكل مبالغ فيه، فلا تستطيع الواحدة الحديث بصراحة والإدلاء برأيها في كافة الموضوعات خشية التأنيب أو الحرمان من الحرية الممنوحة لها من جانب الأهل، وهو ما يدفعها للتكتم على أسرارها خاصة لو كان بوحها لشقيقتها أو أمها سيجعلهما يحيطانها بسياج من الشك والريبة ومحاصرتها بالنصائح والتأنيب المتواصل، وهي إذ تحاول حل مشكلاتها بمفردها توقع نفسها في مشكلات أكبر بسبب معالجتها الخاطئة للأمور دون طلب النصح والمشورة من أقرب الناس اليها.
وتنصح عبير كل أم بأن تقترب من ابنتها بشكل أكبر وتسألها عن أحوالها وتستمع إليها دونما ضجر أو عصبية، على أن تحفظ أسرارها، ولا تذيعها على بقية أشقائها أو والدها، كي تبني بينهما بذلك أساسا للثقة والصداقة والذي يشجع الابنة على البوح بالمزيد والمزيد لاسيما في عصرنا الذي باتت فيه المخاطر قريبة من كل فتاة.
زينة وهبي كلية الأغذية والزراعة، تلقي بكامل المسؤولية على الوالدين بقولها: يتوقف الأمر بشكل كبير على الوالدين اللذين تختلف طبيعة علاقتهما بأبنائهما وفقا لخلفيتهما الثقافية ومستوى تعليمهما، فالمتعلمان يدركان أن إتاحة الفرصة للابن منذ الصغر لإبداء رأيه تدعم شخصيته وتجعله قادرا على الاندماج في الأسرة وبناء الثقة فيما بينهم ولكن هذا لا يعفي الأم مهما كان مستوى ثقافتها من مسؤوليتها في أن تكون السباقة في الاقتراب من ابنتها أو ابنها فهي عماد الأسرة الحقيقي وينبغي ألا تنتظر الأم الفتاة كي تأتي بمشكلتها، بل عليها أن تستمع لها بصدر رحب من منطلق الصداقة ثم توجهها بالنصح الهادئ والعقلاني.
وبحماسة تقول ولاء ابراهيم (خريجة جامعية): المشكلة أن بعض الآباء يعطون النصيحة للأبناء من منطلق ثقافتهم والبيئة التي نشأوا فيها ولا يدركون أنهم نشأوا في عصر مختلف تماما، ويتطلب بالتالي طرقا مختلفة في التعامل والتوجيه والنصح، إنهم لا يفهمونهم في معظم الاحوال ولا يكلفون انفسهم عناء الاقتراب وتفهم احتياجاتهم ومصادقتهم وفهم الظروف الجديدة التي نحياها في هذا العصر، خاصة مع انشغال الأبوين حالياً بوظائفهما وطموحاتهما الخاصة، مع تقوقع الشباب على نفسه وعالمه وصداقاته، ولعل ذلك كان وراء إحجام الكثير من الشباب عن فتح أي حوارات مع ذويهم، ذلك أن الأب والأم والأخوة جميعا مختلفون في الاتجاهات ونادرا ما يجتمعون على طاولة واحدة لتناول الطعام مثلا، كما أن أسلوب السخرية والنقد والإهانة ومحاصرة الابن بالشكوك يفقده الرغبة في التحدث إليهما أساسا كون هذا الحوار سيجلب له المشاكل والأزمات.
ويتفق معها عمرو محمد (خريج اتصال جماهيري)، مشيراً إلى أن خطورة صمت الشاب تكمن في احتمال إخفائه معتقدات وآراء سلبية أو خاطئة من الممكن أن تجره لمشاكل عديدة تضر به ويقول: “مشكلة عبدة الشيطان في بعض المجتمعات كانت نتيجة لافتقاد هؤلاء الأبناء للتواصل مع آبائهم بسبب انشغالهم الدائم بالعمل أو البحث عن المال، وهو الانشغال الذي يدفع الأبناء أيضا للمخدرات أو رفقاء السوء بحثا عن الاستمتاع والتفاهم وقضاء الأوقات السعيدة وتناسي ما يعايشونه داخل أسرهم من جفاء وتفكك، والأمر كله يتوقف على الأب والأم، فكم من شاب لديه الاستعداد للمسار الصحيح، بيد أنه لم يجد من يأخذ بيده”.
جوانب روحية: ومؤكدا أن الرفض طابع فطري لدى المراهق يشير أنس ضهير (خريج هندسة) إلى اعتقاد المراهق أن الأبوين ضده على الدوام مما يدفعه للاستعانة بالأصدقاء لحل مشكلاته، أو ربما يحلها بنفسه. يقول: من أسباب صمت المراهق تلك الفجوة التي تنشأ بينه وبين أبويه بالتدريج والتي تكرس لديه مفهوما بأن أبويه لا يفهمانه، وأنهما يوليان كل اهتمامهما للجوانب المادية فيما يهملان الجوانب الروحية والوجدانية على الرغم من أهميتها للمراهق، ولتغطية هذا الإهمال فهما أحيانا يلجآن للعصبية بمجرد احتدام النقاش، وقد يلجآن لإجراءات عقابية تضاعف من اتساع الهوة بينهم وبين الأبناء كالحرمان من المصروف أو منع النزهة ولقاء الأصدقاء أو السباب والضرب في الوقت الذي يرى المراهق فيه أن شخصيته نضجت وتستحق بعض الاحترام والاستقلالية والصداقة.
الأسباب نفسها تؤكدها آمنة البلوشي وتضيف أن هناك خوفاً دائماً لدى المراهق من ردة فعل الأب واستخدامه السريع لسلطته الأبوية بمجرد احتدام النقاش، أو خطئه في التعبير عن آرائه ومواقفه، علاوة على الإسراف من جانب الأهل في الصراخ أو الضرب أو العنف اللفظي في حين أن معاملة الصديق للصديق هي الأفضل لحل أي مشكلة كما أنها تدعم ثقة الشاب بنفسه وتجعله قادرا على حل مشكلاته بأسلوب سليم.
حوار الطرشان: أحمد البرعي الاختصاصي الاجتماعي بالمنطقة التعليمية يرى أن أسبابا عديدة تدفع بالمراهق إلى هذا السلوك ومنها ما يتعلق بثقافة الأبوين وخلفيتهما الثقافية، يقول: تختلف الخلفية الثقافية للأب والأم نتيجة اختلاف النشأة فقد يأتي الأبوان أو أحدهما من المناطق البدوية أو الريفية، ويتفقان على الخطوط العريضة لتربية الأبناء إلا أنهما يفتقدان لآلية التواصل معهم بما يتفق مع تطور العصر وقيمه الحديثة، كما أنهما لا يتوقفان عن مطالبة الأبناء بالتزام القيم التي تربيا هما عليها، وهو ما لا يلقى قبول المراهق الذي يشترك في تربيته وسائل الإعلام والفضائيات ومجتمع الأصدقاء وخلافه، كما أنه يقع تحت تأثير القيم الجديدة التي تبثها العولمة بصخبها.
وهذا التناقض في الخلفيات الثقافية يؤدي إلى خلق فجوة فكرية ربما تظهر على شكل خرس عائلي ولغة حوار مفقودة، أو بالأحرى حوار طرشان إن جاز التعبير، وهو الأمر الذي يترتب عليه مشكلات كبيرة، إذ كثيرا ما يفاجأ الأهل بأمور تهزهم من الأعماق وتدفعهم للتساؤل: أهؤلاء هم أبنائي؟
وينصح البرعي كل الآباء باختيار اللغة المناسبة للتحاور مع الأبناء، والتي لابد أن تبتعد تماما عن العنف البدني أو اللفظي، واتباع أسلوب التقارب والصداقة، ويؤكد أنه يمكن للطرفين مغادرة المنزل للتحاور في كافة الموضوعات، أما مسألة صمت الأبناء الدائم داخل المنزل فهو مؤشر حي إلى وجود مشكلة أو خطر.
تفاعل لا صراع: من خلال معايشته للشباب يرشد الدكتور هشام عبد المجيد أستاذ الخدمة الاجتماعية الآباء إلى كيفية تحقيق الوعي بمتطلبات المرحلة التي يعيشها المراهق ويقول: لأسرة المراهق دور كبير في تكوين شخصيته واتجاهاته سواء بالسلب أو بالإيجاب، وبالتالي لابد من فهم متطلبات هذه المرحلة. ومن المعتقدات الخاطئة التي يعتنقها الآباء أن صراع الأجيال بين المراهق ووالديه يعد انحرافا أخلاقيا ينبغي عدم السكوت عنه، فربما يشكو الأب من كثرة ترديد المراهق لعبارة تفيد بأنه من جيل يختلف عن جيله أو انتقاده الحاد لأسلوب الأب في الحياة، والمعيشة، في الوقت الذي لا يعد هذا الصراع بين الأجيال إلا ظاهرة صحية يتدرب من خلالها المراهق على اكتساب خبرات مفيدة وطرح ما عداها من خبرات لا تصلح له، فهو في الواقع صراع بين جيلين تختلف قيمهما ومعتقداتهما وأساليب حياتهما نتيجة التغيرات الهائلة تكنولوجياً واجتماعياً، ويجب على الآباء هنا تفهم طبيعة هذا الصراع، بدلا من اتهام الأبناء بالعقوق، أو التخلي عن الأصول للآباء والأجداد، فالعادات والقيم القديمة صالحة لكل زمان ومكان.
وللتقليل من تلك الفجوة بين الجيلين، لابد من إيجاد نوع من التفاهم بين الآباء والمراهقين في صورة تفاعل لا صراع يسمح بمناقشة نوع الاختلاف، أو الاتفاق بين قيم الماضي وقيم الحاضر، وانتقاء ما هو صالح ومناسب للجيل الحالي واستبعاد ما عداه.
كما ينبغي أن تتخذ سلطة الآباء شكلا ديمقراطيا يعتمد على التوجيه والإرشاد وليس الأمر والنهي بل الحب والتسامح وإتاحة الفرصة للابن للتعبير عن نفسه ومعتقداته دون خوف أو توتر ومناقشته فيه بموضوعية مع التوجيه والنصح إذا لزم الأمر.
يضيف: على الآباء أيضا تربية الأبناء على حرية التعبير التي تجعلهم مسؤولين عن أقوالهم وأفعالهم، أما حرية النقد فتعني النقد الموضوعي والتعبير عن الفكر دون تجريح أو تصفية حسابات، كما يجب تدريب المراهق على النقد الذاتي للتصرفات بما يتيح له إمكانية الضبط الذاتي لتصرفاته الشخصية في كل المواقف التي يواجهها.
تحقيق: عزة سند