أحداث ملهمة للأجيال أول نوفمبر 1954 والسابع أكتوبر 2023-بقلم/ أ.د. عبد المجيد بيرم رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
عيش الأمم والشعوب أحداثا ووقائع تصنع المفاجأة في حينها وتحدث دويّا، لكنّها لا تلبث أن تفقد وهجها ويطويها النسيان وتصبح حكاية تُروى وقصة تُحكى، وهناك أحداث كان وقعها مدويا، وأثرها ممتدا، فقد غيّرت مجرى التاريخ وصححت مساره، وتحولت إلى مصدر إلهام للأجيال ومحل فخر واعتزاز، وذلك لما تحقق فيها من إنجازات تركت آثارها على حياة الفرد والمجتمع والأمّة، بحيث أصبح ذلك التاريخ معلما يحدد المسار.
وتاريخنا الإسلامي حافل بمثل تلك الأيام التي كانت مصدر إلهام للأجيال تمدّهم بمعاني العزة والإقدام، وتحيي في نفوسهم الهمّة والأنفة، وتحثّهم على المحافظة على المكتسبات وإرث الآباء والأجداد سواء في تاريخنا القديم أو الحديث؛ من ذلك واقعة بدر التي حدثت في 17 من رمضان السنة الثانية من الهجرة النبوية، التي انتصر فيها المسلمون على المشركين، فكانت حدا فاصلا بين عهدين، وانطلاقة جديدة لنشر الهداية في ربوع جزيرة العرب، ومن ذلك أيضا معركة حطين التي ذاق فيها الصليبيون هزيمة نكراء، واسترجع القائد المسلم صلاح الدّين الأيوبي المقدسات، سنة 583هـ./1187م، وضرب أروع الأمثلة في أخلاق المنتصرين. ومن المعارك الفاصلة أيضا في تاريخ المسلمين، واقعة عين جالوت في فلسطين سنة 658هـ./1260م على يد سيف الدين قطز، الذي أوقف زحف المغول، بعدما عاثوا في الأرض فسادا وإفسادا وقتلا وتدميرا لم يسبق له مثيل في التاريخ. فكسر شوكة الجيش المغولي الذي لم يهزم منذ عهد جنكيز خان الذي أسقط الخلافة العباسية وحاول تدمير معالم الحضارة الإسلامية.
ما بين التاريخين
لقد كان تاريخ أول نوفمبر1954م يوما من أيام الله حيث انطلقت الشرارة الأولى للثورة المباركة، فوضعت حدا لاستعمار صليبي استيطاني احلالي همجي، جثم على صدور الجزائريين قرنا وربع قرن عمل فيه على مسخ هوية الشعب الجزائري بتجهيله وتفقيره وإذلاله، وبعد سبع سنوات ونصف من التضحيات الجسام، رسم فيها الشعب الجزائري أروع صور البطولة والثبات في مواجهة أعتى جيش في العالم آنذاك مدعوما بالحلف الأطلسي، خرج الاستعمار يجر أذيال هزيمة منكرة، فكان هذا التاريخ مصدر إلهام ودافعا لجميع شعوب العالم لتنهض وتكسر قيود الاستعمار في أوطانها، وتشتري حريتها بدماء أبنائها فإن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
ثم يأتي طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر 2023م المشهود ليذكّرنا الفلسطينيون في غزة بهذا التاريخ المجيد، فقد سطّر الشعب وقادته من المقاومة أنصع صفحات الصبر والبطولة، وذكرونا بسير القادة العظام الذين صنعوا أمجاد التاريخ، لقد أحدث الطوفان هزّة في المنطقة كلها بل في العالم، وقلب الموازين وغيّر الاستراتيجيات، وأبطل السرديات المزعومة، وأسقط الأقنعة، وأوقف هرولات التطبيع، وعرى هيئات ومنظمات تزعم أنّها تعمل لصيانة الحقوق المسلوبة والكرامة المهدورة، ولا تزال تداعياته وآثاره تفعل فعلتها رغم جسامة التضحيات إلى يوم النّاس هذا، ألم يقل أمير الشعراء:
وللحرية الحمراء باب *** بكل يد مضرجة يُدَقُ
بين غرّة نوفمبر والسابع من أكتوبر
وأوجه الشبه بين التاريخين والواقعتين أن الشعبين واجها عدوا ذا طبيعة استعمارية استيطانية إحلالية، يلقى الدعم الخارجي عسكريا وتكنولوجيا ودبلوماسيا وإعلاميا، من دول عظمى.
وقد استمرت ثورة الفاتح من نوفمبر سبع سنوات ونصفا من جهاد متواصل كُلّل بنيل الحرية واسترجاع الحقوق ورحيل المستعمر مذموما مدحورا، بينما لا تزال أحداث طوفان الأقصى مستمرة.
ويختلفان في أنّ الشعب الجزائري برمته باشر ثورته موحدا في جبهة واحدة لمواجهة الاحتلال بأدوات بسيطة رافعا شعار «بطل واحد، الشعب»، أمّا في طوفان الأقصى على الرغم من عدم استكمال شروط وحدة الشعب الفلسطيني التي ندعو الله أن تكون هذه الملحمة أحد أسبابها، فقد ظلت غزة عصيّة على الأعداء فلم يستطيعوا أن ينالوا من المقاومين البواسل، ولذلك عمدوا إلى الحاضنة الشعبية يقتلون الأطفال والنساء والأبرياء ويهدمون المدارس والمساجد والمستشفيات والمساكن ويجوعونهم ويهجروهم ويحاصروهم، علّهم ينالون من قناة المقاتلين أو يقسمون صفّ الغزّاويين، لكن هيهات.
معركة وجود لا معركة حدود
إن الشعب الفلسطيني اليوم وأهل غزة والمقاومة فيها إنّما يخوضون معركة وجود مع الكيان الغاصب وداعميه، فهو كالسرطان لا يُعرف له حدود، ورغبته في التمدد في أراضي غيره لا تتوقف، في حين بقي العرب مكبّلين، بالحدود الوهمية التي وضعتها اتفاقية سايكس-بيكو المشؤومة، والتي جعلت العالم العربي كيانات هزيلة ضعيفة، تتفرج على ذبح إخوانهم بالرغم من الروابط التي تجمعهم من دين وعقيدة وتاريخ مشترك.
لذلك لم يكن طوفان الأقصى مواجهة عسكرية بين صاحب حق ومغتصبه فحسب بل هي معركة لتحرير الإنسان العربي المسلم من الهيمنة الثقافية والسياسية، لأنّها كشفت زيف شعارات الحضارة الغربية، وعرّت حالة الضعف والتشرذم العربي والإسلامي؛ لكنّها في الوقت ذاته مثّلت حافزا لكثير من الشعوب لمقاومة اليأس والاستسلام والخضوع للوبي الصهيوني الذي يسيطر على القرار الدولي، والتطبيع بكل أشكاله.
ولله الأمر من قبل ومن بعد، «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
أحداث ملهمة للأجيال أول نوفمبر 1954 والسابع أكتوبر 2023
المطور أرسل بريدا إلكترونيا2024-10-28
أ.د. عبد المجيد بيرم
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين/
ت