فضاءات جنين بورزق

جنين بورزق

فضاء الثقافة والمواضيع العامة

العضو الأكثر فعالية على مستوى الـبلدية
حجيرة ابراهيم ابن الشهيد
مسجــل منــــذ: 2010-10-19
مجموع النقط: 3379.67
إعلانات


تآكل أسطورة الرَّدع الصُّهيوني / ل- ناصر حمدادوش

من المقولات المشهورة للمفكر الصِّيني الاستراتيجي القديم “سن تزو”، قوله: “إنَّ أعلى فنون الحرب هو إخضاع العدو من دون قتال”، وهو الذي يُعرف في حالات الصراع بين الدول بنظرية الرَّدع.

وقد بدأ التقعيد لنظرية الرَّدع بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، ويُنظر إليها كمكوِّن من المكوِّنات الأساسية للعقيدة الأمنية للدول، وهي تسعى في حدِّها الأدنى إلى المحافظة على الوضع القائم، وعدم تحويله إلى حالة التوتر، التي تتطلب تفعيل القوة العسكرية، بينما تصل في حدِّها الأعلى إلى فرض الإرادة السياسية على العدو من غير حربٍ خشنة.

ومن الأسئلة الجوهرية التي رافقت الكيان الصُّهيوني منذ تأسيسه غير الشَّرعي سنة 1948م هو حقيقة هذا الرَّدع، باعتباره فكرة مركزية في نظرية الأمن القومي الصُّهيوني، إذ لا يزال هذا المفهوم قائمًا في عقيدته الأمنية على 3 عناصر أساسية، وهي: الرَّدع والإنذار والحسم، ويتمثَّل هذا الرَّدع الصُّهيوني في إنهاءِ أيِّ مواجهةٍ عسكريةٍ بانتصارٍ حاسمٍ وسريع، وبأقلِّ الخسائر المادية والبشرية.

ففي سنة 1953م وضع “بن غوريون” – أول رئيس وزراء الكيان الصُّهيوني – نظرية الأمن القومي لدولته المزعومة، التي تمَّ النظر إليها- وإلى الآن- بأنها مسألةُ دفاعٍ عن الوجود، بل تعدَّتها إلى مسألة “حياةٍ أو موت”.

وقد اشتغل منذ ذلك التأسيس المشؤوم على تفعيل المجالات الحيوية لهذا الوجود، وهي عقيدة التفوُّق العسكري، بذلك الدعم الغربي المطلق، لمؤسَّسة “الجيش الإسرائيلي”، التي يُنظر إليها نظرةً عقديةً مقدَّسة، بفرض مشاركة كلِّ سكان “الكيان” فيه كجيشِ احتياط، وتأمين هذا التفوُّق التقني والعسكري والاستخباراتي في المنطقة، وإطلاق يده ليتجاوز حدوده الجغرافية السياسية المزعومة، لتمتدَّ بالوصول إلى الجغرافيا الدينية والأساطير التلمودية، من نهر الفرات بالعراق إلى نهر النيل بمصر، وهو ما يبرِّر هذه الأطماع التوسعية في الحرب.

وتُعدُّ نظرية “الرَّدع الإسرائيلي” إحدى الركائز الأساسية للسياسة الأمنية الصُّهيونية، التي تهدف إلى تحقيق مصالحها أو المحافظة على وجودها، سواء من الناحية الدفاعية أم من الناحية الهجومية، ويُطلِق الكيان الصُّهيوني على هذه النظرية “كَيَّ الوعي”، التي تهدف إلى إثارة الرُّعب من أجل الرَّدع، حتى لا تفكِّر أيُّ قوةٍ في مواجهته وتحدِّي تفوُّقه.

إلا أنَّ “معركة طوفان الأقصى” التي فجَّرت شرارتها كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس يوم 07 أكتوبر 2023م قد أحدثت على “نظرية الرَّدع الصُّهيونية” تطورًا سلبيًّا غير متوقَّع، أثبتت أنَّ القوة العسكرية التي يفتخر بها هذا الكيان قد أخفقت في ترسيخ حقيقة الرَّدع الاستراتيجي، بل عرَّت هُزَال هذا الوَهْم المتضخِّم لديه، وأنَّ الحرب المتوحِّشة التي يخوضها على قطاع غزة منذ أكثر من سنة، ومغامراته غير المحسوبة في مواجهة كلِّ محور المقاومة لم ترمِّم حالة تآكل هذا الرَّدع، ناهيك عن استعادته، بل إنه يكون قد فقَدَه، وإلى الأبد.

الأقصى شكَّل صدمةً استراتيجيةً مفاجئةً وغير مسبوقةٍ في تاريخ الصِّراع، وبالرغم من هذا التفوُّق العسكري والاستخباراتي الاستثنائي، والدعم الغربي المطلق والخيالي، ومع ذلك فقد عجز عن تحقيق أهدافه إلى الآن.

لقد كان من أهمِّ أركان الأمن الصهيوني هو الاعتماد على الذَّات في توفير “الأمن والسِّلم” لليهود في فلسطين المحتلة، ولكن هذا الخيال التاريخي تبدَّد، بمجرد هذا الاختبار في جولة الصراع الحالية، ما استدعى استنفار كلِّ “العسكرية الغربية” اللامحدودة لإنقاذ هذا الكيان المتهالِك.

فمعركة “طوفان الأقصى” شكَّلت ضربةً قاسيةً لنظرية الرَّدع الصُّهيونية، بل وأسقطت كلَّ النظريات الأمنية التي سعى إلى صياغتها منذ 76 عامًا من هذا الوجود الشاذ.

فقد جرَف هذا الطوفان أوهام الغطرسة الصهيو- أمريكية، وأسقط هذه الأسطورة من علياء غرورها المتوهِّم، وأطاح بركائز هذا الأمن القومي الصهيوني، وجرَّ هذا الكيان إلى حرب استنزافٍ غير متوقفة، وأنَّ ما جرَى لحدِّ الآن هو صدمةٌ في الوعي الأمريكي، لا يمكن ترميمها، وأنَّ ما وَقع في ذلك العبور التاريخي من الناحية العسكرية هو أعظمُ غزوةٍ استراتيجية، وأنجحُ عمليةٍ عسكريةٍ في العصر الحديث. وأنَّ من أهمِّ الإنجازات الواقعية لمعركة الطوفان هو تفعيل عقيدة وَحدة الساحات الاستراتيجية بين جبهات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران، التي تجاوزت الخلافات المذهبية والطائفية، وارتقت إلى شكلٍ تاريخيٍّ غير مسبوقٍ من الوَحدة الإسلامية ضدَّ العدو الحقيقي، وهي المرَّة الأولى العلنية الصَّاخبة في وجه هذا الكبرياء “للصهيونية- المسيحية”، في هذا الزمن الأمريكي الظالم أهله.

فقد ضرب محور المقاومة عمليًّا كافة القواعد والأصول التي قامت عليها السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م.

فالكيان الصهيوني في حالة المردوع لا الرَّادع، وهي المرة الأولى التي يقف فيها عاجزًا عن تحقيق أهدافه العسكرية بشكلٍ خاطف، سريع وحاسم.

ولطالما هدَّد بحربٍ واسعةٍ، وكان من بين أهدافه الخفيَّة هو استعادة حالة الرَّدع المتآكل، كما أنَّ أمريكا تقيم العديد من القواعد العسكرية في العديد من دول المنطقة، وترسل حاملات الطائرات إلى البحر الأبيض المتوسط، لم تخفِ الهدف منها وهو الرَّدع، وليس الدخول في الحرب، وهو ما يعني: الإقرار الضمني بتآكل رصيد هذا الرَّدع.

لقد تخلَّت إيران عن مبدأ “الصبر الاستراتيجي”، وشرَعَت بكلِّ جرأة غير مسبوقة منذ قيام الثورة الإسلامية سنة 1979م بضرب الكيان الصهيوني بشكلٍ مباشرٍ وعنيف، وكان الهدف الحقيقي هو تثبيت قواعد جديدة للرَّدع، وأنَّ تصريحات وزير الحرب الإسرائيلي “غالانت” بأنَّ إيران لن تستطيع فرض معادلةٍ جديدةٍ للرَّدع ضدَّ إسرائيل كانت أقرب إلى الأمنية منها إلى الواقع السياسي أو العسكري في الميدان.

فقد أظهرت إيران قوةً حقيقة وشجاعةً لافتة، وذلك في الرَّد على قصف قنصليتها في دمشق بسوريا، وذلك بقصف الكيان الصُّهيوني مباشرةً من أراضيها بحوالي 350 من الصواريخ والطائرات المسيَّرة ليلة 14 أفريل 2024م، وكان الرَّد الصُّهيوني عليها محدودًا ومتواضعًا، وتمَّ احتواء هذه الجولة من حسابات الرَّدع المتبادل بجهودٍ أمريكية.

وبعد اغتيال الكيان الصُّهيوني للقائد الشهيد “إسماعيل هنية” في طهران، و”حسن نصر الله” في بيروت، تجرَّأت إيران مرة أخرى بهجومٍ أقوى، بحوالي 200 من الصواريخ الباليستية يوم 01 أكتوبر 2024م، وبالرَّغم من التهديدات الصُّهيونية بالانتقام بهجماتٍ مدمِّرة وواسعة على إيران، تصل إلى وضع البرنامج النووي والمواقع العسكرية الاستراتيجية ومنشآت الطاقة ضمن بنك أهداف هذا الوعيد، إلا أنَّ هذا الغرور تمخَّض بردٍّ باهتٍ يوم 26 أكتوبر 2024م، وأعلنت فيه الولايات المتحدة الأمريكية (خوفًا) بأنها لم تشارك فيه، وكشف موقع “واللا” العبري أنَّ إيران قد أُعلِمت مسبقًا بالضَّربات الإسرائيلية، وسط سخريةٍ واسعةٍ في الإعلام الإسرائيلي من جدوى هذه الضَّربة المحدودة، وأنها كانت مجرد ردٍّ استعراضيٍّ شكلي، هو دليلٌ على انهيار ميزان الرُّعب وتآكل قوة الرَّدع الصُّهيوني.

لقد كانت نظرية الرَّدع الصُّهيوني فعَّالة مع الأنظمة، وفعليةً مع الجيوش الرَّسمية للدول، إلا أنَّ هذا الكيان فَقَد هذه الميزة التنافسية عند التعامل مع قوى المقاومة غير الحكومية، فحرب العصابات تفتقر إلى الأهداف العسكرية ذات القيمة العالية التي تتمتع بها الدول، ولأن الوَحدات القتالية لفصائل المقاومة تخوض حروبًا غير تقليدية، لها القدرة على التخفِّي والمناورة، وهو ما يصعِّب القضاء عليها، كما أنَّ قادة المقاومة يتمتعون بتسامحٍ كبيرٍ مع المخاطرة الشخصية، بل إنهم يتمنَّون الشهادة ويسعوْن إليها بشوق، مما يجعل قتلهم لا يساوي شيئًا في ميزان الرَّدع الحقيقي.

إنَّ المعجزة العسكرية التي تسطِّر المقاومةُ الفلسطينية آياتِها ضدَّ العدو الصُّهيوني في غزة، وهذه العمليات النوعية لها في الضفة الغربية، وإنَّ الندية العسكرية التي يخوض بها حزب الله في لبنان، وأنَّ المنحى المتصاعد للفعل المقاوم لدى المقاومة الإسلامية في العراق، وأنَّ التطور النوعي الذي تظهره جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن، وهذه الخسائر التاريخية المتزامنة التي يتكبَّدها العدو الصُّهيوني على كافة الجبهات، يجعل من الصَّعب التسليم بأنَّ إسرائيل قد استطاعت أنْ تستعيد قوة الرَّدع في مواجهة حركات المقاومة، لأنَّ استعادة الرَّدع “ليس هدفًا عمليًّا، لأنه غير قابل للقياس”، كما يعترف به العقل الصُّهيوني نفسُه.

فهذا زعيم المعارضة الإسرائيلية “يائير لبيد”، الذي يقف مشدوهًا أمام مفاجآت “حزب الله” في شمال هذا الكيان، مما دفعه إلى القول بأنَّ “ما يحترق ليس الشَّمال فقط، بل الرَّدع الإسرائيلي، والشَّرف الإسرائيلي”، وأنَّ نظرية الرَّدع الصُّهيوني، والذي كان يعتمد على الافتراض بأنَّ نصرًا إسرائيليًّا حاسمًا في كلِّ مواجهةٍ عسكريةٍ لا يؤدي إلى إنهاء الحرب فقط، بل يساهم أيضًا في إقناع الخصم بعُقْم الخيار العسكري، قد نجح نسبيًّا مع أنظمة التطبيع العربي، إلا أنه فشل بطريقةٍ دراماتيكية مع محور المقاومة اليوم.

لقد أطاحت معركة “طوفان الأقصى” بركائز الأمن القومي الصُّهيوني، ونظرية الرَّدع الاستراتيجي، وكشفت عن كيانٍ هشٍّ بحاجةٍ للرِّعاية الأمريكية الدائمة، وتجد أمريكا نفسها منخرطة في مهمةٍ مستحيلة، لاستعادة قوة الرَّدع الصُّهيوني، وضمان هيمنتها على المنطقة. وفي الوقت الذي ترغب فيه بالتفرُّغ إلى مواجهة الصين وروسيا، تجد نفسها غارقةً في الوَحل الصُّهيوني، دون وجود رؤيةٍ استراتيجيةٍ واضحة، وهو ما ينذر بهذا التغيُّر الحتمي في موازين القوى الإقليمية والدولية، بما يسرِّع بإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.

إنَّ المحصلة الكلية لإنجازات محور المقاومة، وبالرَّغم من حجم التضحيات الكبيرة في عالم الأرواح والمادة، قد حقَّق انتصاراتٍ استراتيجية، ستصبُّ في صالح الأمة، والتي يجب أن تجد لنفسها موقعًا تحت الشمس، ضمن عالم متعدِّد الأقطاب، أكثر عدلاً وتوازنًا وسِلمًا.

الرأي

تآكل أسطورة الرَّدع الصُّهيوني

ناصر حمدادوش

2024/10/29


تقييم:

0

0
مشاركة:


التعليق على الموضوع


لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...

...........................................

=== إضافة تعليق جديد ===
الإسم:

نص التعليق:

انقل محتوى صويرة التحقق في الخانة أسفله:
الصورة غير ظاهرة