قال الله تعالى: متوعدا اليهود بالعقاب الشديد، على أيدي رجال شداد، لا تأخذهم بهم رحمة ولا رأفة ولا شفقة، عقوبة مغلظة من جنس أفعالهم، حالما يعودون إلى الغرور والفجور والعتو والعلو والاستكبار، وارتكاب المظالم والمناكر ونشر الباطل والفساد في الأرض “عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا”، (سورة الإسراء:8).
ومعنى عسى في القرآن الكريم، ما يدل عليها معناها اللغوي في لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم، لفظا ومعنى وتصريفا وبيانا ونسقا، ويفيد معنى الطمع والرجاء، إلا أن ورودها في القرآن الكريم، تفيد معنى تحقيق ما علقت به من الطمع والإشفاق والتأميل لوقوع الشيء تحقيقا، إذ لا يليق بالله تعالى أن يتمنى أو يرجو وقوع الشيء من غير تحقيق حدوثه مثلما يقع مع البشر، ولذلك يكون المعنى المراد من عسى في الآية، يا بني إسرائيل، عسى ربكم أن يرحمكم بعد انتقامه إن تبتم وأنبتم وأصلحتم، وإن عدتم إلى البطر والاستكبار ونشر الفساد والمظالم والمناكر، عُدْنا إلى عقابكم ومذلَّتكم، وجعلنا جهنم لكم وللكافرين عامة سجنًا لا خروج منه أبدا.
والذي يمكن أن يُستنبَط من عموم هذه الآية، أن حكم العقوبة الوارد فيها، لا يجري على اليهود وحدهم، وإنما هو سنّة يجري حكمها على كل المستكبرين والجاحدين لفضل الله ونعمه، والمارقين عن دينه والمبتعدين عن الاستقامة، المنصوص عليها في وحيه وهديه ورشده، ولكل المتجبرين المستعلين على الناس، والمتسلطين الظالمين للمستضعَفين في الأرض أفرادا كانوا أو جماعات، ويشمل المسلمين -أيضا- حينما يبتعدون عن طريق الله، بالجحود والخيانة والعمالة وارتكاب المعاصي والآثام والمظالم والمناكر، فهو تحذيرٌ للجميع من الانغماس في المعاصي، والسير في طريق الضلال والبطر والطغيان، فيصيب الأمة من الذل والهوان على أيدي أعدائهم، على نحو ما أصاب بني إسرائيل من قبل، فسُنن الله واحدة لا تتبدّل ولا تتغيّر، لأن الجميع عباده فيعامَلون بالمثل إلا من اتقى وأخلص واستقام ووفَّى.
وإذلال عصابات الصهاينة المستورَدين من الغرب والشرق، للعرب والمسلمين اليوم، في أوطانهم وبلدانهم وبأموالهم ومواردهم الباطنية والجغرافية، بتعاون وتشجيع الوكلاء الخونة الموالين لهم بالحب والودّ والتقرّب منهم زلفى، داخلٌ في الحكم القطعي لهذه الآية الكريمة، لا يوجد في تاريخ الأمة حقبة من حقب وجودها هو أشنع وأبشع وأفظع وأحقر وأذلّ من هذه الحقبة التي تعيشها اليوم، إذ أصبح الوجهاء من الخونة وأذرعُهم الإعلامية والحزبية والتيارات الثقافية التي فقدت الحس بالانتماء إلى دين الأمة وتاريخها، يتفاخرون بمظاهرة عصابات الكيان وحلفائهم من دول محور الشر الغربي، وعلى رأسهم ساسة البيت الأبيض.
وهو البيت الذي حوّل حكامه بياضه الناصع الجميل، إلى وكر أسود تحاك فيه المؤامرات على الدول الضعيفة والمنظمات التحررية، المناضلة لاسترداد حقوقهم المغتصَبة، كفلسطين والصحراء الغربية وغيرهما، وهؤلاء السفاحون من المتصهينين نما في نفوسهم -مع مرور الزمن- الاستعداد لوراثة سفك الدماء البشرية والتعطّش الشديد لتشرّبها بنهم كبير، يحتسونها بشراهة ولذة وسادية وأريحية ونرجسية ودم بارد وراحة ضمير، وقد بقيت جرائم أسلافهم في الإبادة الجماعية لأجناس بشرية كثيرة في مستعمراتهم والبلدان التي اغتصبوها، وصمة خزي وعار تلاحقهم بلعناتها على مرّ التاريخ الإنساني، تقرأ الأجيال مآسيها وتعيد القراءة بألمٍ وحسرة كبيرة.
وهم اليوم رغم ارتفاع درجات الوعي الإنساني، والشعور بحقوق الإنسان والحيوان والطيور والبيئة، رغم ذلك مازالوا يواصلون السير على دروب أسلافهم، في ارتكاب المظالم والإجرام في التقتيل والتدمير والتجريف والتخريب، من غير شعور بالألم والندم ووخز الضمير، مما ترتكبه أيديهم بسلب الحقوق بالتقتيل والإبادة الجماعية لجنس بشري آخر، في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وأفغانستان والصومال من قبل، سُلبت أرض الفلسطينيين –غصبا- بقرار من هيئة الأمم المتحدة، كما قال ماكرون مؤخَّرا في اجتماع وزاري مُغلق، على نحو ما فعله أسلافهم في أمريكا وأستراليا وغيرهما.
والإفراط في الظلم والقهر والسلب والقتل والتخريب، هو عين الفساد في الأرض الذي تضمَّنه محتوى الآية، وعصابات الصهاينة نشأوا في الغرب وتطبَّعوا بطبائعهم، في القسوة وتنامي الغرائز العدوانية في نفوسهم، والتفنن في ممارسة جرائم السلب والقتل والتهديم والتحريق من غير رحمة ولا رأفة، ويزيدهم الإفراط في الجرم والتقتيل، الشعور بالنشوة السادية حين يرون القتلى مضرّجين بالدماء، وارتفاع أنين الجرحى وآهات الثكالى، وتكديس حطام الأبراج والمباني والمنشآت، وهذا ما جعل الأمة تُبتلى بسرطان هذا الجنس الغريب في تفكيره وسلوكه في آخر زمانها، وهو الجنس الذي زرعه الغرب في مركز جغرافيتها المقدسة، كي يتخلّص من بوائق شروره وأذاه، إذ سارع إلى نقل جرثومته المستعصية على العلاج إلى بلادنا، فابتلينا به مثلما ابتُليت أمَمٌ أخرى بفيروس هذا الجنس المضطرب نفسيا من قبل، ولم يكادوا يجدون له حلا سحريا إلا بنقله إلى منطقتنا، لكي يحدث القلاقل والفتن وافتعال الحروب لنشر الخراب والفوضى والفساد، وهي الأعمال غير الأخلاقية، التي فُطر عليها منذ خُلق كجنس بشري غير قابل للترويض والتربية !
ومن أسباب هذا البلاء الذي حلّ بالأمة وفتنها، وأذاقها الذل والصَّغار والهوان والفرقة والتشتت، هو مساعدة الغرب الحاقد على العرب والمسلمين، الذين أذاقوه الهزائم النكراء يوم أن كانوا سادة الدنيا وقادتها، أضف إلى ذلك خيانة العرب المطبِّعين من القاسطين والناكثين، واليهود معروفون – تاريخيا-بعنادهم ومشاكستهم ومخاصمتهم ومعاداتهم للبشرية والعمران والنظام، وحبِّهم للفساد وقتل الأنبياء والصالحين.
وتبدأ قصتهم العدوانية مع أخيهم يوسف عليه السلام، حين غدروا به ورموه في الجب كي يلقى حتفه صبرا، من غير رحمة ولا رأفة وهو يتودّد إليهم ويتوسّل بالضراعة، وبلا إشفاق على أبيهم النبي الذي عاش زمنا طويلا يعاني من الحزن الشديد على فقد ابنه الذي كان يموت في حبه، ثم زادوا على ذلك بأن اتّهموا أخاه الشقيق بن يامين، بالسرقة عندما مثلوا أمام يوسف في قصة إخفاء إناء الكيل، حين قدِموا إلى مصر ليكتالوا الميرة بسبب الجفاف والقحط، فلما واجهوهم بوجود الإناء في رحل أخيهم، قالوا: “إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ”، ولم يكونوا يعلمون أن عزيز مصر الذي يخاطبونه هو أخوهم يوسف، فأسرّها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم، وقال لهم: “أَنتُمْ شَرٌّ مكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفون”.
لا يوجد في تاريخ الأمة حقبة من حقب وجودها هو أشنع وأبشع وأفظع وأحقر وأذلّ من هذه الحقبة التي تعيشها اليوم؛ إذ أصبح الوجهاء من الخونة وأذرعُهم الإعلامية والحزبية والتيارات الثقافية التي فقدت الحس بالانتماء إلى دين الأمة وتاريخها، يتفاخرون بمظاهرة عصابات الكيان وحلفائهم من دول محور الشر الغربي، وعلى رأسهم ساسة البيت الأبيض.
ثم استمروا في عنادهم ومكابرتهم مع موسى عليه السلام، بعد أن خلّصهم من عبودية الفراعنة التي نيّفت عن أربعة قرون كاملة “وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ”، الأعراف: 38).
ولما ذهب موسى إلى ميقات ربه، أوصى هارون بأن يتّبع سننه في قيادتهم، بما كان يعمله فيهم من الصلاح، وَلا يتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ، فلما غاب عنهم عصوا أمر هارون، وصنعوا عجلا من حليهم ليعبدوه، ثم طلبوا إلى موسى أن يريهم الله جهرة، وعصوه كذلك عندما أمرهم بالذهاب إلى الأرض المباركة في فلسطين “قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”، لأن الرّعب تملّكهم من قتال الكنعانيين أسلاف الفلسطينيين، لأنهم تشرّبوا ذلّ العبودية وقهرها على أيدي الفراعنة دهورا طويلة “قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ”، فعاقبهم الله بالحرمان من دخولها فبقوا في التيه أربعين عاما، ثم شاكسوا وعاندوا وتبرَّموا لما ملّوا أكل المَنِّ والسلوى اللذين أنزلهما الله عليهم، واشتاقت نفوسهم إلى ما كانوا يأكلونه في مصر “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ”.
فلما انقرض جيلهم في التيه ودخل أحفادهم الأرض المقدسة، ومكّن الله لهم بالغلبة، أسرفوا في الفساد بقتل الأنبياء والصالحين، فسلّط الله عليهم البابليين ثم الرومان البيزنطيين، فشرَّدوهم في الأرض وهدّموا هيكلهم، ثم سلّط عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لما أفسدوا في المدينة وحاولوا اغتياله ثم غدروا به في ساعة العسرة حين جمع له المشركون بكيد وتأليب من يهود خيبر، فأجلاهم عن المدينة وعاقب بني قريظة الخونة من جنس جُرمهم، ثم حاربهم في خيبر وتيماء وأجلاهم عن بلاد العرب، جزاء غدرهم ونكثهم العهود وفسادهم في الأرض، ثم سلط عليهم الله فونس إسبانيا فطرهم بعد سقوط غرناطة، فاحتضنهم المسلمون في بلدانهم وأحسنوا إليهم.
ولما انتشر فسادهم في أوروبا الغربية، بالدسائس والمؤامرات وخطف الأطفال لممارسة الشعوذة، طردوهم إلى أوروبا الشرقية، ولما خانوا ألمانيا النازية لصالح بريطانيا نكّل بهم هتلر في قصة المحرقة الشهيرة، ولما استعمر الأوروبيون العالم العربي خانوا العرب ووقفوا مع المستعمرين، ولما ضاق بهم الأوربيون، زرعوهم في فلسطين ليكونوا شوكة عالقة في حلق الأمة.
وما يشهده العالم اليوم من جرم وفساد في غزة ولبنان، هو إحياءٌ لنزعتهم الشريرة المتأصِّلة في جيناتهم، لنشر الفساد حيثما حلّوا وقطنوا، وسيحل بهم عقابُ الله على أيدي قوم جبّارين حين يحل الأجل، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون والمفسدون في الأرض.
الوعيد بإنزال العقوبة على اليهود
خير الدين هني
2024/10/22
تقييم:
0
0
مشاركة:
التعليق على الموضوع
لم يسجل بعد أي تعليق على هذه المشاركة !...
...........................................
=== إضافة تعليق جديد ===
في موقع خبار بلادي نستخدم ملفات تعريف الارتباط لتحسين خدماتنا. وبالضغط على OK، فإنك توافق على ذلك، ولمزيد من المعلومات، يُرجى الاطلاع على سياسة الخصوصية.